وقد عظمت فتنة هذا العلم في العصور المتأخرة حيث صار علما بديلا عن علم التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصبحت آراء أهله مقدمة على نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وصار مخالفها عند بعض المنتسبين إلى العلم مبتدعا ضالا ، قال ابن تيمية رحمه الله: «ولولا أن هؤلاء القوم جعلوا هذا علما مقولا ودينا مقبولا يردون به نصوص الكتاب والسنة، ويقولون إن هذا هو الحق الذي يجب قبوله دون ما عارضه من النصوص الإلهية ، ويتبعهم على ذلك من طوائف أهل العلم ما لا يحصيه إلا الله، لاعتقادهم أن هؤلاء أحذق منهم وأعظم تحقيقا، لم يكن بنا حاجة إلى كشف هذه المقالات»([2]).
علم الكلام علم يبحث في العقائد الدينية وقد سلك فيه أهله مسلكا مخالفا لمنهج كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم سواء في المضمون أي العقائد المقررة فيه أو في الشكل المتضمن لطريقة العرض والأدلة وغير ذلك، وقد سمي هذا العلم بهذه التسمية لما يكثر فيه من الكلام والجدال في مسائل العقيدة بعيدا عن النصوص الشرعية، وقد عرفه عضد الدين الإيجي في المواقف بأنه :« علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه »([3])، وهذا الإيراد والدفع ليس على طريقة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل على طريقة أهل اليونان، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :« إنما هو حقيقة عرفية فيمن يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين»([4]).
المطلب الأول : موقف الأئمة المتقدمين من علم الكلام
إن موقف الأئمة المتقدمين من علم الكلام واضح مشهور، فقد صح إجماعهم على ذمه والتنفير من أهله، لكن ظهر في المتأخرين من شكك في هذا الموقف وألقى شبهات تَأَوَّل بها كلام هؤلاء الأئمة، لذلك كان لزاما علينا بعد إثبات الإجماع المنقول أن نرد تلك الشبهات .
الفرع الأول : ذكر إجماع الأئمة على ذم علم الكلام
إن ذم علم الكلام وأهله أمر قد تواتر نقله عن السلف ، وعن الأئمة المتبعين الذين ظهر في زمانهم ومن جاء بعدهم ، فقد قال القاضي أبو يوسف:« المعرفة بالكلام هو الجهل»، وقال أيضا : «من طلب الدين بالكلام تزندق »، وثبت عن الإمام مالك قوله :« إياكم والبدع وأهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان »([5]). والنقل عن الشافعي وحده بلغ حد التواتر المعنوي، والنصوص عنه في ذلك مشهورة، ومن أبلغها قوله:« حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى بهم، هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام »([6]). وكذلك موقف الإمام أحمد مشهور قولا وعملا، ومما قاله:« لا يفلح صاحب الكلام أبدا، لا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل»([7])، وقال في كتابه إلى المتوكل:« لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن رسول الله e أو عن الصحابة أو عن التابعين، فأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود»([8]).
لأجل هذه النصوص الكثيرة عن هؤلاء الأئمة وعن غيرهم من أئمة السلف فقد نُقل إجماع العلماء على ذم هذا العلم وأهله، وممن نقل هذا الإجماع الحافظ ابن عبد البر الذي قال:« أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، إنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم»([9]). وكذلك نقله أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصفهاني في كتابه الحجة([10]).
الفرع الثاني : دفع شبهات المتأخرين حول كلام الأئمة
للمتأخرين من أتباع الأئمة ممن ذهب مذهب الأشعري في الاعتقاد عدة تأويلات ردوا بها تلك النصوص الورادة عن الأئمة والإجماع المنقول عن السلف، نبينها فيما يأتي مع الجواب عنها.
الفقرة الأولى : إنما ذموه لأنهم لم يفهموه
أول شبهة أوردوها زعمهم بأن أئمة السلف إنما ردوا علم الكلام لأنهم لم يفهموه، وهذا قول باطل فيه نسبة السلف إلى القول على الله تعالى بلا علم ، لأن حقيقة التحليل والتحريم إخبار عن حكم الله تعالى على الأشياء، قال الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله:« اعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام عجزا عنه ولا انقطاعا دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة، وكان في زمانهم هذه الشبه والآراء وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوا من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم وبصيرة من دينهم»([11]). ومما يدل على ذلك ما نقل من مناظرة بعض السلف لهؤلاء المتكلمين([12])، فالسلف ذموه بعد فهمه وعلمهم بأنه يؤدي إلى الضلال والكفر.
الفقرة الثانية : إنما ذموه لأجل المصطلحات الحادثة
ومن الشبهات قولهم: إنما ذموه لأجل المصطلحات الحادثة المستعملة فيه، وهذا أيضا زعم فاسد، لأن السلف لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات، فيها من الباطل المخالف لعقائد الكتاب والسنة، ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد ذكر توحيد المسلمين ثم قال :« أما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجوهر والأعراض، وإنما بعث الله النبي e بإنكار ذلك»، ولم يرد أن النبي أنكر هذين اللفظين، وإنما أراد إنكار ما يُعنى بهما من المعاني الباطلة كإنكار صفات الله عز وجل([13]).
الفقرة الثالثة: إنما ذموا من عارض الكتاب والسنة بالكلام لا من نصرهما
ومنهم من زعم أنهم إنما ذموا من عارض الكتاب والسنة بالكلام لا من نصرهما، يعنون أنهم إنما ذموا الجهمية والقدرية وغيرهم ممن كانوا في الزمن الأول، وأن هذا الذم لا يتعدى إلى الأشعرية، وجواب هذا الزعم من وجوه: أحدها أننا لا نسلم أن في المتكلمين من نصر الكتاب والسنة نصرا محضا، فإنهم جميعا مخالفون لعقائد الكتاب والسنة في قليل أو كثير، والثاني: أن الدين في غنية عن الكلام وأهله، فإن الله تعالى بين لنا الدين وكيف ننصر الدين، فدين الله تعالى كامل وغير محتاج إلى تكميل، والثالث: أن نصر المتكلمين لما هو حق في ذاته كثيرا ما يقترن بتقرير الباطل، حيث يردون الباطل بالباطل ويقابلون البدعة بالبدعة([14]).
المطلب الثاني : أسباب ذم علم الكلام
بعد أن ذكرنا اتفاق السلف على ذم علم الكلام، وأن تأويلات وتعليلات المتأخرين ليست بشيء، نأتي إلى الأسباب الداعية فعلا إلى ذمه وتحريم الخوض فيه، ويمكن أن نجملها في سببين رئيسين الأول : معارضة قضاياه لما هو معلوم من دين الله بدلالة الكتاب والسنة واتفاق أصحاب نبي الله e، والثاني : آثاره السلبية على أفراده المشتغلين به وعلى جماعتهم.
الفرع الأول : معارضة علم الكلام للشرع
يذم علم الكلام لمضمونه الذي نهى عنه الشرع، ومما نهى عنه الشرع القول على الله تعالى بلا علم، والله تعالى يقول: ] قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[ (الأعراف:33)، ومنه الجدال بغير علم قال تعالى : ]هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[ (آل عمران:66)، ومنه الجدال بالباطل في آيات الله الواضحات، قال تعالى:] وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ[ (غافر:5) وكل ذلك موجود في علم الكلام. والله تعالى ذكر أصنافا من أهل الكتاب منهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وفي الكلام تحريف لمعاني كتاب الله تعالى ولسنة رسوله e، وحمل لهما على معان أصلها المتكلمون، ومن أهل الكتاب من لا يعلمون الكتاب إلا أماني وفي المتكلمين من هم كذلك يعتقد البدعة ثم يفوض علم ما عارضها من نصوص الكتاب، وفي أهل الكتاب من كتب كتبا من عنده وقال هذا من عند الله، وكذلك المتكلمون وضعوا أوضاعا وأدلة سموها معقولا وقالوا هذا دين الله، ومن أهل الكتاب من كتم بعض ما أنزل إليهم وآمن ببعض وأظهره وهذه حال أكثر المتكلمين([15]).
الفرع الثاني : آثار علم الكلام
ويذم علم الكلام أيضا بالنظر إلى الآثار التي أدى إليها ومنها ما يأتي شرحه في الفقرات الآتية:
الفقرة الأولى : قلة ورع بعض الخائضين فيه وجرأتهم على الله تعالى
فقد نقل عن كثير منهم التهاون بالفرائض كترك الصلاة وقربان الفواحش والمحرمات كشرب الخمور والكذب وغير ذلك، والقول على الله تعالى بلا علم والجرأة عليه في شرعه وقدره وسوء الأدب معه في العبارة، ومنهم من يرد السنة بلا حجة ومنهم من يكذب الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم من ألف في السحر والشعوذة ، وألف آخر في حيل السرقة إلى غير ذلك من الطوام والفضائح، قال ابن السمعاني :« ودخلت عليهم الشبهات العظيمة وصاروا متحيرين عمين، ولهذا لا يوجد فيهم متورع متعفف إلا القليل، لأنهم أعرضوا عن ورع اللسان وأرسلوه في صفات الله تعالى بجرأة عظيمة وعدم مهابة وحرمة، ففاتهم ورع سائر الجوارح»([16]). وقال الشوكاني :« ولقد تعجرف بعض علماء الكلام بما ينكره عليه جميع الأعلام، فأقسم بالله أن الله لا يعلم من نفسه غير ما يعلمه هذا المتعجرف، فيا لله من هذا الإقدام الفظيع والتجاري الشنيع»([17]).
الفقرة الثانية : إلقاء الشكوك والشبهات
إن المتكلمين أعظم الناس شكا واضطرابا، وأضعفهم يقينا، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ويعترفون به، ويشهده الناس منهم، وممن شهد بذلك الغزالي الذي قال: « أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام»([18]). وابن عقيل الحنبلي وهو ممن خبر هذا العلم وأهله حيث قال : «ثم هذا العلم قد أفضى بأربابه إلى الشكوك وأخرج كثيرا منهم إلى الإلحاد تشم روائح الإلحاد من فلتات كلامهم»([19]). ومن أريد به خير منهم فإنه يرجع في آخر عمره إلى منهج القرآن وحجج القرآن، قال ابن باديس:« ولقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة ومماحكات المتكلمين ومناقضاتهم؛ فما ازدادت قلوبهم إلا مرضا، حتى رجع كثير منهم في أواخر أيامهم إلى عقائد القرآن»([20]).
الفقرة الثالثة : تفريق الأمة الإسلامية
ومن آثار علم الكلام السيئة تفريق الأمة الإسلامية، وهذا أمر غير خاف على مطلع على كتب المقالات وعارف بتاريخ الإسلام وحالهم عبر العصور ، قال ابن تيمية :« فليتدبر المؤمن العالم كيف فرق هذا الكلام المحدث المبتدع بين الأمة وألقى بينهم العداوة والبغضاء مع أن كل طائفة تحتاج أن تضاهي من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، إذ مع كل طائفة من الحق ما تنكره الأخرى»([21]).
الفقرة الرابعة : تضييع المعنى الصحيح للتوحيد
وأعظم مفسدة جناها المسلمون من هذا العلم هي تضييع معنى التوحيد الذي أرسل به الرسول e ، فأصبح مسمى التوحيد عند من ينتسب إلى العلم لا يخرج عن معاني الربوبية وإثبات بعض الصفات، ولا ذكر للألوهية عندهم بتاتا، يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن المتكلمين: « بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء، ... وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا شيء لا يعرفونه»([22]). وقال ابن باديس:« أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارات الاصطلاحية، فإنه من الهجر لكتاب الله تعالى وتصعيب طريق العلم على عباده، وهم في أشد الحاجة إليه، وقد كان من نتيجته ما تراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه»([23]).
الفقرة الخامسة : إفساد كثير من العلوم الشرعية
قد دخل الكلام في كثير من الفنون وعلى رأسها علم أصول الفقه الذي انحرف عن مقصوده فلم يعد منتجا ولا مثمرا لثماره فتعطل الاجتهاد وانتشر الجمود والتقليد ، ودخل الكلام كتب التفسير والزهد والأخلاق وكتب اللغة والبلاغة وغيرها، فعظمت المحنة واشتدت الفتنة حيث أصبح الناس يتلقون العقائد الفاسدة من مواضع كثيرة ومتفرقة يعسر التنبيه عليها والتحذير منها. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما سبق نقله :« لكن بقاء كلامهم وكتبهم محنة عظيمة في الأمة وفتنة عظيمة لمن نظر فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله » ([24]).
المطلب الثالث : حيرة وندم المتكلمين
ومن الأمور المهمة في بيان ذم الكلام وأهله وتحذير الناس منه ، أن ينقل كلام من تاب منه بعد أن خاض فيه وخبره وعاين ما فيه من ضلال وإضلال .
أولا : أبو المعالي الجويني
قال:" خليت أهل الإسلام وعلومهم وركبت البحر الخضم ، وغصت في الذي نهوا عنه ، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز ، فإن لم يدركني الحق ببره فأموت على دين العجائز فالويل لابن الجويني " ([25]).
ثانيا : أبو حامد الغزالي
قال شيخ الإسلام وهو يتحدث عنه :» ولهذا فإن أبا حامد مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والتصوف ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف ، ويحيل آخر عمره على طريقة أهل الكشف ، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث ومات وهو مشتغل في صحيح البخاري « ([26]).
ثالثا : ابن عقيل الحنبلي
قال :" إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره ، ومن صحبة أربابه وتعظيم أصحابه والترحم على أسلافهم والتكثر بأخلاقهم ، وما كنت علقته ووجد بخطي من مذهبهم وضلالاتهم ، فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته ، ولا تحل كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده " ([27]).
رابعا : الشهرستاني صاحب الملل والنحل
قال : لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضـعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم ([28])
خامسا : الفخر الرازي
قال : نهايــة إقدام العقول عقـال وأكثر سعي العالمين ضـلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات (الرحمن على العرش استوى ) واقرأ في النفي (ليس كمثله شيء ) …ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي»([29]).
سادسا : سيف الدين الآمدي
قال الآمدي :" أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام" ([30]). وقال ابن تيمية :"وأبو الحسن الآمدي في عامة كتبه هو واقف في المسائل الكبار يزيف حجج الطوائف ويبقى حائرا واقفا " ([31]).
سابعا : الشوكاني
قال الشوكاني :" فإني في أيام الطلب وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي يسمى تارة علم الكلام وتارة علم التوحيد وتارة علم أصول الدين ، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم ، ورمت الرجوع بفائدة ، فلم أظفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة ، وكان ذلك من الأسباب التي حببت إلي مذهب السلف ، على أني كنت قبل ذلك عليه" ([32]).
ويقول شيخ الإسلام وهو يتحدث عن حال المتكلمين بأنهم لا يجدون أبدا برد اليقين وأن الحيرة هي محطهم جميعا ابتداء من شيخهم أبي الحسن الأشعري :" وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي وإنما العلم في جواب السؤال ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر، وقد قيل إن الأشعري مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الأدلة يعني أدلة علم الكلام " ([33]).
المطلب الرابع : حكم النظر في علم الكلام
الفرع الأول : النظر فيه ابتغاء للهدى وطلبا للحق وتحصيلا للتوحيد
أما النظر فيه ابتغاء للهدى وطلبا للحق وتحصيلا للتوحيد فهو الذي ينطبق عليه كل الكلام الذي ذكرنا والنقول التي نقلنا ، وعليه يحمل إجماع العلماء المتقدمين على ذمه وتحريمه وتبديع الخائض فيه وتضليله، ومنه يقال إنه من كانت تلك غايته فلا يجوز له النظر فيه لفساد مضمونه ومخالفته لما جاء به الرسول e من المسائل والدلائل، وكذلك للآثار والنتائج التي تترتب عليه على الأفراد وجماعة المسلمين([34]).
الفرع الثاني : النظر فيه للوقوف على ضلال المتكلمين وللرد عليهم والتحذير من زلاتهم.
وأما النظر فيه للوقوف على ضلال المتكلمين وللرد عليهم والتحذير من زلاتهم، فهذا من أعظم الواجبات والفروض الكفائية المتفق عليها بين العلماء ، قال ابن تيمية :» فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل الرجل يصوم ويصلى ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع، فقال إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل، فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغى هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء«([35]).
وللتمكن من الرد عليهم وبيان باطلهم لابد من أن يكون المتصدر لذلك عالما بالحق من مصادره ، متيقنا منه وعالما بباطلهم وصحة نسبته إليهم ، قال ابن تيمية :» فأما إذا عرفت المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، وعبر عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء وما خالفه، فهذا عظيم المنفعة وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالى:] كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ[ (البقرة:213)، وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم، وذلك يحتاج إلى معرفة معاني الكتاب والسنة ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم ثم اعتبار هذه المعاني بهذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف « ([36]). وقال :" فمن كان عارفا بحل شبهاتهم بينها ، ومن لم يكن عارفا بذلك فليعرض عن كلامهم ولا يقبل إلا ما جاء في الكتاب والسنة" ([37]).
وكلام العلماء لا ينصب على من كانت هذه حاله وكان هذا قصده وهدفه، قال ابن تيمية :» فإن العلم النافع مستحب ، وإنما يكره إذا كان كلاما بغير علم أو حديثا يضر ، فإذا كان كلاما بعلم ولا مضرة فيه فلا بأس به ، وإذا كان نافعا فهو مستحب «([38]).
ويقول ابن تيمية أيضا :" وكل من كان بالباطل أعلم ، كان للحق أشد تعظيما ولقدره أعرف إذا هدي إليه" ([39])، والوقوف على باطل المتكلمين أضحى ضرورة ، لأنه تسلل إلى غالب علوم الشرع كما سبق ، وكثير من الناس يخوض في المسائل بسلامة نية وحسن ظن بالمصنفين في العلوم وهو غير سابر لغور كلامهم فيقع في الزلات والهفوات ، ولا يبين الحق لهؤلاء إلا بكشف باطل أولئك .
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك .
[1]/ الاستقامة (1/79-80).
[2]/ درء تعارض العقل والنقل (2/207).
[3]/ نقلا عن موقف المتكلمين من الاستدلال بالنصوص الشرعية (1/19).
[4]/ مجموع الفتاوى (12/461).
[5]/ انظر هذه الآثار في الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم الأصفهاني (1/104-106).
[6]/ مناقب الشافعي للبيهقي (1/462) الانتقاء لابن عبد البر (134) حلية الأولياء لأبي نعيم (9/116).
[7]/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (7/147).
[8]/ الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم الأصفهاني (1/108).
[9]/ جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/942).
[10]/ الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم الأصفهاني (1/242).
[11]/ نقلا عن بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (1/253).
[12]/ آداب الشافعي لابن أبي حاتم (189) شرح أصول الاعتقاد للالكائي (1/165) .
[13]/ انظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (1/44، 232) ومجموع الفتاوى لابن تيمية (3/307) و(17/305).
[14]/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/157) الاستقامة لابن تيمية (1/3-4) درء تعارض العقل والنقل (7/165).
[15]/ المرجع السابق (1/46-47، 77).
[16]/ القواطع لابن السمعاني (2/347).
[17]/ كشف الشبهات للشوكاني (119).
[18]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/27-28).
[19]/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/48).
[20]/ مجالس التذكير لابن باديس (257).
[21]/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (9/35) وانظر النبوات له (84) ومجموع الفتاوى له (4/51-52).
[22]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (18/57).
[23]/ مجالس التذكير لابن باديس (142).
[24]/ الاستقامة لابن تيمية (1/79-80).
[25]/ تلبس إبليس لابن الجوزي (104) مجموع الفتاوى (5/11) ومعلوم أن الجويني رجع في آخر عمره إلى عقيدة التفويض في باب الصفات كما دونه في الرسالة النظامية .
[26]/ درء التعارض (1/162).
[27]/ ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (1/144).
[28]/ درء تعارض العقل والنقل (1/159).
[29]/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/72) ودرء تعارض العقل والنقل (1/160).
[30]/ درء تعارض العقل والنقل (3/262).
[31]/ درء تعارض العقل والنقل (1/162).
[32]/ التحف في مذاهب السلف (138-139).
[33]/ مجموع الفتاوى (4/28) وانظر اعترافات أخرى لابن أبي حديد المعتزلي في الدرء (1/161) والخونجي وابن واصل الحموي في الدرء (3/262).
[34]/ وانظر كشف الشبهات للشوكاني (120).
[35]/ مجموع الفتاوى (28/231-232).
[36]/ درء تعارض العقل والنقل (1/45-46).
[37]/ مجموع الفتاوى (5/260).
[38]/ مجموع الفتاوى (20/203).
[39]/ مجموع الفتاوى (5/118).