بَابُ الحَيضِ
1- وَالْأَصْلُ فِي اَلدَّمِ اَلَّذِي يُصِيبُ اَلْمَرْأَةَ: أَنَّهُ حَيْضٌ، بِلَا حدٍ لسنِّه، وَلَا قدره، ولا تكرره
2- إِلَّا إِنْ أَطْبَقَ اَلدَّمُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ، أَوْ صَارَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا إِلَّا يَسِيرًا فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَحَاضَةً، فَقَدْ أَمَرَهَا اَلنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَجْلِسَ عَادَتَهَا.
3- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ، فَإِلَى تَمْيِيزِهَا.
4- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ، فَإِلَى عَادَةِ اَلنِّسَاءِ اَلْغَالِبَةِ: ستة أيام أو سبعة. والله أعلم.
باب الحيض
آخر باب يطرق في كتاب الطهارة هو كتاب الحيض، ويبحث فيه عن أحكام الدماء التي تصيب المرأة ما الذي يعد طبيعيا يعتبر حيضا تترتب عليه أحكامه وما ليس طبيعيا فيعتبر داء علة ومرض خارجا عن مسمى الحيض، والنفاس هو نفسه الحيض إلا أنه يكون إثر الولادة ومدته أطول من الحيض الذي يصيب المرأة مرة في الشهر.
1- وَالْأَصْلُ فِي اَلدَّمِ اَلَّذِي يُصِيبُ اَلْمَرْأَةَ: أَنَّهُ حَيْضٌ، بِلَا حدٍ لسنِّه، وَلَا قدره، ولا تكرره.
من أجل الوصول إلى التمييز بين دم الحيض وغيره تطرق الفقهاء إلى عدة مسائل لعلهم يضبطونه بها ، ومن ذلك ضبطه بالسن التي يمكن أن يكون فيها والتي ينقطع فيها، وكذا محاولة ضبطه بالمدة فتكلموا عن أقله وأكثره، ثم عن التكرر الذي يثبت به الحيض أو العادة أو تغيرها.
والمصنف رحم الله أعرض عن كل تلك الضوابط التي وقع فيها اختلاف كبير ووضع ضابطا واحدا، وهو أن الأصل في الدم الذي يصيب المرأة أنه حيض ولا تعدل عنه إلا إذا تيقنت أنه استحاضة بأمور سيذكرها.
قوله :"بلا حد لسنه" سن الحيض من البلوغ إلى اليأس، ولم يأت في الشرع تحديد لسن البلوغ ولا سن اليأس ، وهو أمر مختلف لا شيء يضبطه، والموجود مختلف اختلافا كبيرا.
قوله :"ولا قدره" أي أن أكثره وأقله لا يتحدد، فأما أكثره فأكثر ما قيل هو سبعة عشر يوما وهو مذهب الأوزاعي وداود ورواية عن مالك وعن أحمد واختيار ابن حزم ، وما ذكره المصنف هو اختيار ابن تيمية. فمن حد أكثره بعشرة أيام أو خمسة عشر يوما أو سبعة عشر يحكم على ما زاد في كل حال بأنه استحاضة مباشرة والمصنف يختار أنه حيض ولو تجاوزها.
وأما أقله فممن قال لا حد له مالك وداود والأوزاعي وابن حزم وابن تيمية ، ومعنى عدم التحديد أن الأقل يمكن أن يكون قطرة توجب افساد الصوم وتوجب الاغتسال، ومن حده بيوم أو ثلاثة أيام لم يوجب اغتسالا وأوجب عليها قضاء ما تركت من الصلاة.
وأما أكثر الطهر لا يتحدد بالإجماع وأقله بين حيضتين فيه أقوال فقيل ثلاثة عشر يوما وقيل خمسة عشر والمصنف يختار أن لا حد له أيضا.
وكذلك عند المصنف لا حد لأقل النفاس كما هو قول الجماهير، ولا لأكثره وهو رواية مالك واختيار ابن تيمية(1) ، وقيل أكثره ستون يوما وقيل أربعون وهو قول أبي حنيفة معنى الآثار المروية عن الصحابة أن غالبه أربعون فإن أطبق عليها الدم رجعنا إلى هذا الحد من أجل قضاء الصلاة ، وليس معناه أن ما تجاوزه اعتبر استحاضة قطعا والله أعلم.
2- إِلَّا إِنْ أَطْبَقَ اَلدَّمُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ، أَوْ صَارَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا إِلَّا يَسِيرًا فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَحَاضَةً، فَقَدْ أَمَرَهَا اَلنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَجْلِسَ عَادَتَهَا.
بعد أو وضع المصف الأصل الذي يتحاكم إليه في نوازل الحيض رجع إلى بيان حالة الخروج عن هذا الأصل، وهو إطباق الدم واتصاله أو اتصال سيلانه إلا يسيرا ، فهنا فقط تخرج المرأة من حكم الحيض وتنتقل لحكم المستحاضة ، وجمهور الفقهاء يحكمون هنا أكثر الحيض بجعله حدا فاصلا وحاكما مميزا كما سبق .
واستدل المصنف للخروج على هذا الأصل بخبر ذكره بمعناه وهو أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن اتصل بها الدم ولم ينقطع أن رجع إلى العادة المعهودة لديها ، وقد ورد هذا المعنى في أحاديث منها حديث عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي متفق عليه. ومثله في الدلالة حديث عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ أَمَّ حَبِيبَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الدَّمِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي رواه مسلم.
فقوله صلى الله عليه وسلم:"قدرها" أو "قدر ما كانت تحبسك" يدل على تحكيم العادة السابقة لحالة اتصال الدم وعدم انقطاعه.
3- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ، فَإِلَى تَمْيِيزِهَا.
الغالب على النساء أن تكون لهن أيام معلومة يحضن فيها، لكن في النساء من لا عادة لها ثابتة ، وهذه قبل أن يحدث لها إطباق الدم كانت تتبع وجود الدم وانقطاعه فإذا حدث هذا الاطباق رجعت إلى تمييزها بصفات الدم الذي كانت تعرفه من قبل من لونه ورائحته وغلظه فمتى تحول الدم عن لونه وزالت رائحته ورق فقد زال الحيض وما السائل بعدها دم استحاضة ، ومما يحصل به التمييز نزول القصة البيضاء بفتح القاف وهو ماء أبيض ينزل من الرحم آخر الحيض ، فما نزل بعدها مهما كان لونه اعتبر استحاضة ، وقد روى مَالِك عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدِّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ يَسْأَلْنَهَا عَنْ الصَّلَاةِ فَتَقُولُ لَهُنَّ لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضَةِ. فهؤلاء النسوة ما كن يسألن إلا لأن الحيض قد استمر لديهن، وكانت أيامه مضطربة عندهن، ولو كانت معلومة لردتهن إليها عائشة رضي الله عنها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
4- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ، فَإِلَى عَادَةِ اَلنِّسَاءِ اَلْغَالِبَةِ: ستة أيام أو سبعة، والله أعلم.
افترض الفقهاء حالة نادرة وهو وجود امرأة لا عادة لها ولا تمييز، وقد تتصور فيمن جاءها الحيض حديثا وهي التي تسمى المبتدأة بمعنى حاضت أول مرة، وقد اختلف فيها العلماء على أقوال عدة ، فمنهم من قال تتحيض ستة أيام أو سبعة وهي عادة غالب النساء بإطلاق –وهذا اختيار المصنف-، وأيدوا ذلك بحديث حمنة بنت جحش مرفوعا:« إِنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ اغْتَسِلِي » رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث ضعيف مداره على عبد الله بن محمد بن عقيل وقد ضعفه قال ابن هانئ:« قيل لأحمد: حديث حمنة عندك قوي؟ قال: ليس هو عندي بذلك، حديث فاطمة أقوى عندي وأصح إسناداً منه»(2). وضعفه أيضا أبو حاتم والدارقطني (3).
ومنهم من قال إنها تتبع عادة نسائها أي قريباتها لأن هذا أقرب إليها –ورجحه العثيمين –(4)
هذا عند المصنف إنما يحتاج إليه فقط إذا أطبق عليها الدم كما سبق.
وهل هذا الاطباق خاص بمن علم حيضها من قبل أم يعم المبتدأة التي جاءها الدم أول مرة ، الله أعلم .
والفرق بينهما أن من حاضت من قبل قد تيقنا بلوغها ومن جاءها الدم أول مرة فلسنا نعلم أصلا هل هو حيض ، فيحتمل الرجوع إلى الأصل وهو عدم بلوغها أو أن الأصل في الدماء التي تصيب النساء أنها حيض والله أعلم.
وهذه الاختيارات التي اختارها السعدي في هذا الباب وقبله ابن تيمية أكثر انضباطا مما رامه أكثر فقهاء المذاهب فتضاربت أقوالهم واضطربت عند التنزيل .
ومما ينبه إليه أنه وجد في عصرنا من تحبس حيضها بأدوية مددا متفاوتة، ثم تضطرب عادتها وتتقطع فهذه لا شك أنها تعتبر كل قطرة حيضا ، وتتحمل تبعات تناول هذه الأدوية ، بل من النساء من تمنع الحيض بحقن مدة عام بأكمله ثم تحيض بعد ذلك شهرا أو شهرين فهذه أيضا لا يشك في اعتبار دمها حيضا وأنها كالنفساء التي اجتمع حيضها تسعة أشهر ثم اندفع مع الولادة ، وجواب هذه النوازل منسجم مع تأصيل السعدي، ومن اختار غيره مضطر إلى مخالفة تأصيلاته إن اتبع المعنى إذ اعتبار أكثر الحيض في النازلة الأخيرة يعتبر ظاهرية لا يلتفت إليها.
الهوامش
1/ انظر إرشاد أولي البصائر (49) مجموع الفتاوى (19/ 239-240) الاشراف للقاضي عبد الوهاب (1/189).
2/ مسائل الإمام أحمد لابن هانئ (رقم 164).
3/ علل ابن أبي حاتم (رفم 123).
4/ الشرح الممتع (1/489).