لثلاثاء 13 صفر 1445

العمل التطوعي :مفهومه وأهميته ومجالاته

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

العمل التطوعي :مفهومه وأهميته ومجالاته
....
محاضرة ألقيت يوم 27 أوت 2023 بجيجل
ضمن نشاطات الجامعة الصيفية للمجلس الوطني المستقل للأئمة وموظفي قطاع الشؤون الدينية والأوقاف.
....
الحمد لله الذي خلقنا ولم يتركنا سدى ولا هملا والذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، والصلاة والسلام على النبي الأمين المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد فإن الله تعالى قد أسكننا في هذه الأرض وأمد في أعمارنا حسب ما قدره لنا للاجتهاد والعمل، ثم إنه جامعنا ليوم لا ريب فيه، يضع فيه الموازين فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، وهذه الموازين لا تثقلها الأعمال الواجبة المفروضة فحسب؛ بل إن أكثر ما يثقلها ما نعده من النوافل والتطوعات، وإنه لا يدري أحدنا ما هو العمل الذي سيكون سبب نجاته، والعبد الذي يؤمن بقوله تعالى في الحديث القدسي :"يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفيه"، ينبغي عليه أن يحرص على ما ينفعه في آخرته وأن لا يحقر من المعروف شيئا، نعم قد قال نبينا صلى الله عليه وسلم لمن قال إنه سيأتي بالفرائض لا يزيد عليها ولا ينقص :"أفلح إن صدق" ولكن من منا يزعم أنه يأتي بالفرائض على وجهها كاملة غير منقوصة، وكلنا يعلم من حاله أنه يأتي بأعمال أخرى قد تكون ماحية للحسنات ومذهبة لأجرها.
وإن أثقل شيء في الميزان حسن الخلق، وإن صدقة السر تطفئ غضب الرب سبحانه، وقد غفر الله لرجل لإماطته الأذى من طريق الناس، إنها أعمال يحسبها أحدنا هينة لأنها ليست واجبة متعينة، ولأنها يسيرة ليست كبيرة، ولكنها عظيمة في ميزان الله تعالى لما لها من أثر على الفرد في نفسيته وعلى المجتمع في تماسكه وتنميته.
ولما كان جنس هذه الأعمال النوافل التطوعية يكتسي أهمية كبيرة وله أثر بالغ في إصلاح المجتمع، دعانا إخواننا في المجلس الوطني المستقل للأئمة وموظفي الشؤون الدينية لإلقاء محاضرة في هذا السياق؛ يكون موضوعها أهمية العمل التطوعي وأثره، ونحن شاكرون لهم دعوتهم وتشريفهم لنا بأن نكون حاضرين معهم في هذا اليوم الأغر، مشاركين لهم في هذا النشاط المبارك، وقد رأيت أن يكون عنوان هذه المحاضرة حسب ما تضمنه من عناصر "العمل التطوعي: مفهومه وأهميته ومجالاته"، وليس مقصورا على أهميته ، فنبدأ ببيان المفهوم ونجعله مدخلا للمحاضرة ثم نتحدث عن الأهمية هو المقصود الأول، ثم نذكر مجالات هذا العمل التطوعي مما سيوضح لنا اتساع أثره في المجتمع، وسأحاول قدر الجهد ربط عناصر الموضوع بالإمام الذي يعتبر من أهم المحركين والفاعلين في مجال العمل التطوعي، نسأل الله التوفيق والسداد.
تمهيد : مفهوم العمل التطوعي
    التطوع لغة: مشتقٌّ من الطوَّع، وهو نقيض الكره، ومنه قوله تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) (آل عمران: 83). ويقال طاع له إذا انقاد له، وأطاعه إذا نفذ أمره، وطاوعه إذا وافقه، قال الأزهري (3/ 66): والتطوع: "ما تبرعت به من ذات نفسك فيما لا يلزمك فرضه". ومنه قوله تَعَالَى: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (البقرة: 184) ، وقوله: (الذين يلْمِزونَ المَطَّوِّعينَ) أي المتطوعين بالجهاد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما زاد على الفرائض (إلا أن تطوع).
وأما العمل التطوعي في الاصطلاح:
فقيل :"هو ما يتبرّع به المرء من أعمال الخير من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه".
وهو تعريف مأخوذ من المعنى اللغوي ويلاحظ عليه أمور هي:
1-أن العمل التطوعي قد يكون فرديا وقد يكون جماعيا .
2-أنه أبهم الأعمال الخيرية، والأفضل تفصيلها حتى لا يتوهم انحصارها في الجوانب المادية والبدنية؛ إذ هي تشمل جوانب فكرية ودينية وأخرى اجتماعية .
3-أن الحديث عن عدم الفرضية يختص بالفرد لا بالجماعة لأن كثيرا من الأعمال التطوعية قد تعتبر فروضا كفائية على الجماعة، فالأفضل أن نربط ذلك باحتساب الأجر من الله تعالى .
    ولذلك نقول في تعريف العمل التطوعي هو :"ما يقوم به فرد أو جماعة من أعمال بدنية أو فكرية أو مادية أو اجتماعية أو دينية احتسابا للأجر".
ولا بأس أن نشير أن علماء الاجتماع الوضعي يستعملون عبارات أخرى تلتقي مع ما ذكرناه، وقد تختلف عنه بعض الشيء، فيذكر بعضهم أنه (الجهد أو العمل الذي يقدمه أفراد أو مؤسسات)، وهذا متفق في المعنى مع العنصرين الأولين المتضمنان في التعريف المختار،  وأما العنصر الأخير فيعبر عنه بقوله (إيمانًا منهم بمبدأ معين أو تجسيدًا للانتماء للمجتمع، دون تلقي أي ربح أو حافز مادي) فالدافع عندهم هو المبادئ مهما كانت وتجسيد الانتماء، والدافع عندنا دافع ديني هو الإيمان بالله تعالى الذي جعل هذه الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، فهذا الايمان هو الذي يحركنا، وهو من غير شك يجسد أيضا حقيقة الانتماء للأمة وقد النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه، وعبارة (دون تلقي ربح أو حافز مادي) قد لا يتنافى عندهم مع طلب الشهرة المحضة وقولنا احتسابا للأجر عبارة كافية شافية يحترز بها عما ذكروا وعما لم يذكروا من قوادح الإخلاص .
مصطلحات ذات صلة
ولابأس أن نشير إلى مصطلحات قريبة من المصطلح المختار (العمل التطوعي) حتى لا يذهل الباحث في هذا المجال عن بحوث ومقالات وعن نصوص وأدلة قد تكون مفيدة له فيما يطلبه ، ومن هذه المصطلحات:
1-العمل الخيري ، ومنه قوله تعالى : ( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 110).
2-العمل التعاوني، ومنه قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ) (المائدة: )
3-العمل الإغاثي، ومنه حديث حق الطريق عن عمر رضي الله عنه (وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال) رواه أبو داود.
4-العمل الدعوي، ومنه قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (فصلت: 33) وإن من وسائل الدعوة إلى الله تعالى الإحسان والصدقة والإغاثة .

المطلب الأول : أهمية العمل التطوعي أو فضائله الفردية والاجتماعية
     أما أهمية العمل التطوعي التي ألمحنا إليها في صدر هذه المحاضرة فنبرزها من خلال الحديث عن فضائله التي ترجع إلى الفرد والفضائل التي ترجع إلى الجماعة .
الفرع الأول : الفضائل الفردية
أما الفضائل التي ترجع إلى الفرد فمنها الآجل ومنها العاجل وهي كالآتي:
1-تحصيل الأجر والثواب
    وقد ذكرنا أنها أكثر ما يثقل الموازين وقد قال رسول الله ﷺ: (في كل ِّكبدٍ رَطبة أجر) متفق عليه فمن غرس شجرا أو حفر بئرا فكل من أكل منه أو شرب من إنس وبهيمة للمرء فيه أجر وثواب، وقال صلى الله عليه وسلم:"الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار" متفق عليه. وقال:" إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أو علم ينْتَفع بِهِ أوولد صَالح يَدْعُو لَهُ) رَوَاهُ مُسلم
2-مغفرة الذنوب
    وقد جاء في الحديث: (إنَّ صدقةَ السر تُطفئُ غضب الرَّب) وفي الصحيحين أن الله غفر لبغي زانية في سقيها لكلب كاد يهلك عطشا.
3-النجاة والفلاح
   ويتبع الثواب ومغفرة الذنوب ويجمعها الفلاح والنجاة يوم القيامة، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج:77).
4-زيادة الإيمان بلوغ مراتب الإحسان
    وذلك أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والطاعة الواجبة محصورة وأما الطاعات التطوعية فغير محصورة ، ولا يزال العبد يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يحبه فإذا أحبه كان معه بتوفيقه وتسديده في كل حركاته وسكناته، ولا يزال كذلك حتى يرتقي إلى مراتب الإحسان.
5-تحصيل السعادة النفسية
    من الجزاء المعجل للعباد على أعمالهم أن تنزل عليهم السكينة وتغمرهم السعادة ، وهذا شيء وجداني يحسن به كثير ممن يقوم بالأعمال التطوعية، ومصداقه في قوله تعالى:  (مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل:97)، فالحياة الطيبة الموعود بها تكون في الدنيا، والجزاء يكون في الآخرة ، ويعلل ابن تيمية رحمة الله هذه السعادة التي يشعر بها المرء بأن الله تعالى شكور ، وأول شكره للعمل المقبول أن يحس بالمرء بهذه السعادة التي تثبته وتدفعه إلى المزيد ، ويقول إن من لم يجد تلك السعادة إثر عمل الخير فليتهم عمله وليعلم أنه مدخول.
6-نيل المعونة من الله تعالى
    من الفضائل المتعلقة بالأعمال التطوعية المتعدية إلى الغير أن الله تعالى يعين العبد على مصالحه ، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: « وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ». مُتَّفق عَلَيْهِ، وقال: « وَمِنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ » رواه مسلم. وهذا مما تحبه نفوسنا المجبولة على حب العاجلة، ولا يقدح ذلك في عمل العامل ما دام الرجاء في الله تعالى، وما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلا ليشجعنا على التضحية والإيثار والبذل والعطاء فلا نبخل لأن المعطي حقيقة هو الله تعالى .
الفرع الثاني: الفضائل الاجتماعية
   وأما الفضائل الجماعية أو الاجتماعية فهي فضائل تحصيلها في العاجل، وتفصيلها فيما يأتي:
1-تحقيق الأخوّة الإيمانية والتكافل الاجتماعي
   يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10)، وهذه الأخوة تظهر في عدة مجالات عملية تؤدي إلى تماسك المجتمع، وسياق الآية الكريمة جاء في الاصلاح بين المختلفين، وأكثر ما تظهر فيه هذه الأخوة فيما يبذل دون مقابل ودون أن يكون واجبا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشُدُّ بعضُه بعضًا، ثمّ شبّك بين أصابعه) متفق عليه، وقال ﷺ: (تَرى المؤمنينَ في تراحُمهم، وتوادّهم، وتعاطُفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوًا تَداعَى له سائر جسده بالسَّهرِ والحُمَّى) متفق عليه.
2-تربية النفس على الروح الجماعية
   أكثر ما يهلك الناس داء الأنانية وحب الذات، والإسلام دين يحث على الجماعة وخدمة الجماعة، ويظهر ذلك في عباداته التي هي أركانه التي تمني الشعور الجماعي للأمة، والانخراط في العمل التطوعي يعلمنا البذل لصالح الغير بل يعلمنا الإيثار في هذا علاج لهذا الداء داء الأنانية وتربية على ما يسمى بالروح الجماعية وقد قال تعالى في صفة الصحابة الكرام: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر:9)، أي: يقدمون خدمة الآخرين على النفس، والمصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه.
3-ملء فراغ الشباب
   ومن مصالح الأعمال التطوعية الجماعية أنها تملء أوقات فراغ الشباب بالعمل النافع وتصرفهم عن كثير من المساوئ التي تدفع إليها البطالة ، وقد قيل :
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للدين أي مفسده
   فالفراغ بالنسبة للشباب إذا اجتمعت معه عوامل أخرى يعتبر مفسدة ، والكيس من الدعاة العاملين من يسعى لتوظيف طاقات الشباب في أوقات فراغهم فيما فيه نفع عام، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه:» إني لأبغض الرجل أراه فارغا لا في أمر دنياه ولا أمر آمر آخرته».
    وإذا كانت تلك الدعوة صادرة من إمام وخارجة من بيت الله تعالى فهي تحمل صبغة دينية دعوية ، إذ هي زيادة على ملء الفراغ تشعر الشاب بعزة الانتماء إلى زمرة المؤمنين، وتربطه ببيت الله تعالى، وتجعله يشعر بسعة هذا الدين وارتباطه بحياة الناس.
4-اكتساب الخبرة في الإدارة والتسيير
   إن العمل التطوعي الجماعي في إطار الجمعيات والمنظمات نحو منظمتكم هذا لا شك أنه يكسب كل واحد منكم خبرات لم يكن ليكتسبها خارج هذه الأطر، خبرات إدارية واطلاع على القوانين وتعلُّم مهارات في التسيير والتخطيط، ويستفاد ذلك من خلال الممارسة وتبادل الأفكار مع الزملاء من المتطوّعين ، هذا فضلا عن ملامسة الواقع الاجتماعي والاقتصادي لمختلف طبقات الناس.
5-مكافحة مظاهر الظلم والاستغلال
    من الآثار الإيجابية للعمل التطوعي رفع الظلم ومكافحة كثير من مظاهر استغلال حاجة الناس؛ فالقرض الحسن مثلا عمل تطوعي فيه محاربة للمرابين المستغلين لحاجة الناس، والتوزيع الخيري للمؤونات والمساعدات وقت الأزمات فيه محاربة للمحتكرين المستغلين لمثل هذه الأوقات، ودروس الدعم التطوعية فيها مكافحة ومحاربة لدروس الدعم التجارية التي يقوم بها من لا يجوز له ذلك، وبأسعار خيالية.
6-الدعوة إلى الله تعالى وتثبيت الناس
    أما الدعوة إلى الله تعالى فتظهر في الدروس والمواعظ وتظهر في التعليم القرآني ، وكذلك في التوزيع الخيري إذا كان متعلقا بتوزيع الكتب والمطويات والأقراص ونحوها، وتظهر أيضا في المهام التي ينبغي أن يضطلع بها المسجد نحو التعليم التحضيري ومحو الأمية ودروس الدعم في اللغات ومختلف المواد التعليمية، فاحتضان هؤلاء المتعلمين في بيت الله تعالى هو نوع دعوة لهم إذ قد يكون فيهم تارك الصلاة والمتهاون بها ، ودخول بيت الله بمجرده فيه تذكير بالله تعالى وربط للعبد به، بل إننا بهذه الأعمال التطوعية قد نصرف فئات من أولادنا عن الدراسة في الأماكن المختلطة والتي يدرس فيها تغربيون علمانيون كما أننا نوفر على أهليهم أموالا قد يتكلفون دفعها وهم كارهون لشدة حاجتهم.
   إن خروج قفة رمضان من المسجد فيه دعوة لله تعالى وكذا خروج قافلة إغاثة منه، وخروج الشباب لزيارة المرضى في المشافي ، ومما يدل على هذا المعاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أن الصدقة من وائل الدعوة إلى الله كما في حديث الذي وقعت صدقته في يد سارق وزانية وغني فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ ".
   ولا يخفى عليهم أن المنصرين والماسونيين والقاديانيين غيرهم إنما ينشرون دعوتهم في البلاد الإسلامية عن طريق المال وعن طريق الجمعيات الخيرية والتعليمية والثقافية ، ويعطون عطاء من لا يخش الفقر ويستغلون حاجة الناس والضغوط الاجتماعية التي يعيشها الناس في بعض المناطق من أجل استمالتهم إلى نحلهم الضالة .
7-تحقيق فرطت فيه الدولة أو عجزت عنه من الفروض الكفائية
   وذلك عن طريق تسخير المسجد ومرافقه وإنشاء الجمعيات المختصة ، وخير ما نمثل له في ظل هذا العنوان في عصرنا وبلدنا التعليم القرآني، فإن المدرسة لا تعلم القرآن والمسجد لابد أن يقوم بهذا الواجب، وهو غير قادر بمن يؤطره تأطيرا رسميا فلابد من الاستعانة بالمتطوعين، بل إن هياكله لا تكفي لاستيعاب كل من يريد حفظ القرآن فلابد من إنشاء جمعيات تسد هذه الحاجة بهياكلها ومؤطريها، هذا مثال عن الفروض الكفائية التي فرطت فيها الدولة.
   وفي الختام نذكر إخواننا الأئمة أن من أهم التحديات التي يواجهونها في عصرنا هي علمنة الحياة وحصر الدين في العبادة المحضة وفي بيوت الله تعالى، ولذلك إنه من الواجب عليهم أن يخرجوا بهذه الدعوة إلى الناس وأن يبينوا لهم أن دين الله تعالى مرتبط بكل جزئية من حياة الناس، فالإمام لا ينتظر فقط من يأتيه إلى المسجد بل عليه أن يخرج إلى الشارع وأن يتعاون مع الجمعيات التي تعالج القضايا الثقافية والاجتماعية والنفسية والصحية والاقتصادية، طبعا وهذا الاسهام لا يشك أنه عمل تطوعي منه وهو جهاد عملي يصب في معناه الكلي في إظهار التصاق الشريعة بحياة الناس.
   ونؤكد أيضا أن الارتقاء بحياة الإنسان في مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، فيه معنى دعوي من ناحية أخرى، وذلك أن الحاجة والحرمان والهم قد يكون مانعا للناس من التوجه إلى العلم الشرعي ومن الاهتمام بوعظ الواعظين ونصائح المرشدين.
المطلب الثاني : مجالات العمل التطوعي
   إن مجالات العمل التطوعي في حق الامام تتجاوز التدريس والخطابة وتعليم القرآن، لأن هذه من واجبات الإمام، وسنحاول الكشف عن أهم المجالات- في عجالة – لأن ذلك مما يبين اتساع أثره كما أشرنا سابقا.
1-التعليم القرآني وما تعلق به.
 وقد النبي صلى الله عليه وسلم : «خَيْرُكُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه» . رَوَاهُ البُخَارِيّ وقال:" إن الدال على الخير كفاعله: رواه الترمذي.
2-الدعوة إلى الله تعالى
وقد قال صلى الله عليه وسلم: « فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
3-التطوع ببناء المساجد وعمارتها:
   وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» متفق عليه ، والذي نؤكد عليه في هذا المقام ضرورة توجيه الناس إلى معنى العمارة الإيجابي والأكثر إفادة لأن كثيرا من المتبرعين يحبون رؤية أثرهم فيتبرع بأموال ضخمة لما يزخرف به المساجد ولإطالة الصومعة ولا يتبرع للأمور الباطنة المتعلقة بتجهيز المدارس القرآنية ونحو ذلك ، ومثل هذا التوجيه ضروري مقدمته التذكير بالإخلاص في العمل وموضوعه بيان الأجر المرتب على الشيء المتبرع به والذي له ارتباط بالأثر الناتج عنه.
4-الصدقة والسعي على الأرامل والأيتام
   وقد قالَ النبي صلى الله عليه وسلم : عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ. قَالُوا: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ. قَالُوا: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ بِالْخَيْر. قَالُوا: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ. رواه مسلم.
5-التطوع بإطعام الطعام،
  وقد قال تعالى:  (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان:8-9)، قال ابن العربي فيها ست مسائل : «-تنبيه على المواساة؛ ومن أفضل المواساة وضعها في هذه الأصناف الثلاثة ...- دون توقع مكافأة، أو شكر من المعطي»
وهذا أمر موجود في عصرنا خاصة في شهر رمضان.
6-إصلاح ذات البين
   أما هذا فمما نؤكد عليه لغياب الاهتمام به رغم عظم أثره الاجتماعي ، فالإصلاح بين الأزواج وبين الجيران وبين الأقارب من المهام الاجتماعية التطوعية المنوطة بالإمام في مسجده وفي محيطه، وإذا فرط فيه ربما لم تجد من ينوب عنه فيه ؛ فلابد أن يسجل فيه حضوره وأن يلفت الناس إلى هذا الدور الذي يقوم به، وذلك من خلال وعظه ومن خلال من يحيط به من الناس ومن خلال تخصيص أوقات لذلك أو القيام بحملات إصلاح من حين لآخر ، وقد قال الله تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)(سورة النساء:114). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة » رواه الترمذي
7-البيئة ونظافتها
  ومن المهام التطوعية الاهتمام بالبيئة بالدعوة إلى حملات التشجير وحملات النظافة وما يصب في معنى الحفاظ على البيئة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما من مُسلم يَغْرِسُ غَرْسًا، أو يَزْرَعُ زَرْعًا، فيأكلَ منه طَير، أو إنسان، أو بَهِيمة، إلا كان له به صدقة». متفق عليه. وقال «لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين» رواه مسلم.
8- مكافحة الفساد بكل أنواعه
  ومن الأعمال التطوعية مكافحة الفساد وأهله بالنهي عنه ممارسة والتبليغ عن المفسدين لقطعه ومنع انتشاره، وقد قال الله تعالى: (قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) (الكهف: 94، 95) فقد طلبوا من ذي القرنين أن يحميهم من هؤلاء المفدسين بمقابل ؛ لكنه آثر أن يفعل ذلك تطوعا في سبيل الله من دون مقابل، ويأجوج ومأجوج في عصرنا ألوان وأشكال.
9-الشفاعة الحسنة وقضاء حوائج الناس
   ومن الأعمال التطوعية الشفاعة الحسنة والسعي في قضاء حوائج الناس وقد قال تعالى:  (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ) (النساء:85) وقال الحسن البصري رحمه الله:(لأن أقضي حاجة لأخ أحب إلى من أن أصلي ألف ركعة ولأن أقضي حاجة لأخ أحب إلي من أن أعتكف شهرين) والإمام بفضل الله تعالى يملك من الجاه ما يجعل احترام لدى فئات من المجتمع إذ الكل يصلي خلفه ويسمع وعظه ، فعليه أن يستثمره هذا الجاه في رد المظالم ورفع الغبن وإيصال الحقوق إلى أهلها والتنبيه على أصحاب الحوائج بأنواعها .
   ومن خلال هذا الاستعراض السريع لمجالات العمل التطوعي يظهر أن أثره قد شمل المجالات التعلمية والثقافية والتربوية والدعوية والبيئية والصحية ، والاقتصادية من صدقة وإطعام الطعام ونحوه، والاجتماعية المحضة كإصلاح ذات البين ومكافحة الفساد وقضاء حوائج الناس.
خاتمة : شروط العمل التطوعي أي شروط قبوله ونجاحه
 ونحتم هذه المحاضرة بالتنبيه على شروط قبول العمل التطوعي عند الله ونجاحه في الواقع وهي شرطان أو ثلاثة
الأول : الإخلاص
   وقد قال تعالى:  (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر:11)، قال ابن القيم رحمه الله: «فأمّا النيّة فهي رأس الأمر وعموده، وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى، فإنّها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، ويصحّ بصحّتها، ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة" أعلام الموقعين(4/199).
    وفقدان الاخلاص في العمل التطوعي كما يبطل أجره فإنه يفسده في الواقع حيث تدخله جملة من الآفات القاتلة كحب الظهور والشهرة والترأس والاستبداد بالرأي وجعل العمل مطية للمصالح الشخصية ونحو ذلك .
الثاني : الالتزام والإتقان
    وقد قال رسول الله ﷺ: (إن الله تعالى يحبُّ إذا عَمِلَ أحدكم عملاً أن يُتقِنَهُ)، والواجب الكفائي على الأمة ونفل في حق الأفراد لكنه يتعين عليهم بالشروع فيه، فمن التزم بعمل فعليه أن يتمه كما عليه أن يتقنه كما يتقن الأعمال الواجبة والتي يتلقى عليها أجرا أو أكثر.
ومما يلحق الاتقان الشرط الثالث وهو الانفاق من الطيب الكسب: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا" رواه مسلم، وهذا الوصف عام سواء كان الشيء المتبرع به مالاً أو عينًا أو وقتا أو جهدًا. فلا يقبل عمل من يتغيب عن عمله الواجب ليتفرغ للعمل التطوعي كما لا يقبل ممن يسرق ويختلس ليتصدق.
 ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن يسددنا ويلهمنا إلى مراشد أمورنا وسبحانك الله وبحمدك أشهدك أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

تم قراءة المقال 51 مرة