ولما اطلعت على ما فيه عزمت على كتابة هذا الرد وتركت ما أمكن تركه من بحوث وأشغال، وطلبت من بعض الطلبة أن يوافيني بما نشر حول هذه القضية في موقع أهل الحديث، لأني علمت أن ردي هذا سيأتي متأخرا فأحببت أن أطلع على ما كتب في الموضوع عسى أن أستفيد منه، ولعلي أجد من يكون قد كفاني مؤنة كتابة هذا الرد.
وإن أول ما يؤاخذ عليه الشيخ تلك المقدمة ذات الأسلوب العنيف الذي ينفر ولا يبشر ويجرح شعور القراء ويؤذيهم، هذا الأسلوب الذي لا نرتضيه في مسائل الاعتقاد، فكيف في مسألة حديثية جزئية ليس فيها نصوص شرعية.
تأمل قوله (6):« فإني لا أحل لمن لم يتشرب قلبه ودمه وعظامه الدعوة السلفية ، القائمة على نبذ التقليد واعتماد الدليل : أن يقرأ هذا البحث » ، ما معنى هذا ؟ هل يحرم الشيخ على الأشاعرة أن يقرأوا بحثه! بل على المقلدين من أتباع المذاهب بل وغيرهم ممن هم مقلدة في نظره، هذا لا يليق!! إنما النصيحة ينبغي أن تكون لعامة المسلمين ، ولقد تجرأت وقرأت الكتاب مع أني لا أستطيع أن أزكي نفسي مثل هذه التزكية، ذلك أني علمت أنه كتب الكتاب ليقرأ، فأخذت بمقصده وتركت لفظه.
تأمل قوله (6):« فأوصلني هذا النظر السلفي إلى نسف تلك المسلمة ، وبيان أنها خطأ محض ، ليس لها من الحق نصيب»، أما أنا فقد استفدت من منهج اتباع الدليل وترك التقليد أن لا ألزم أحدا بشيء لم يرد به دليل قاطع، وأن لا أعنف أحدا اتبع قول إمام مع معرفة حجته، وكيف ألزم غيري بشيء قد أرجع عنه، كيف يكون لي التعنيف ولا يكون له هو هذا الحق ، وتعلمت أيضا أن لا أدعي امتلاك الحقائق المطلقة التي لا تقبل النقاش .
تأمل قوله (7):« وإن كنت أعلم ولم أزل أعلم من ضعف الإنسان وجهله ما يمكن معه أن يحيف الحيف العظيم ، وهو يحسب أنه على الصراط المستقيم » …؟؟ ألا يمكن معالجة القضية بأسلوب أرفق من هذا.
تأمل قوله (8):« ما أتوقعه من تشنيع بعض المقلدين علي فيه »، ولو شنع عليه مشنع لكانت له حجة، لأن الله تعالى يقول :] وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا[ (الشورى:40).
تأمل قوله (11) ناصحا من يقرأ كتابه :« وأن يقبل على القراءة وهو مستعد لتغيير أي اعتقاد سابق دله الدليل على بطلانه ، لا أن يقبل جازما بخطأ الكاتب ، باحثا عن العثرات ، راغبا في اكتشاف الزلات ، وأن يحرص على مخالفة سنن الذين في قلوبهم زيغ ، فلا يتبع المتشابه ، بل يرد المتشابه إلى المحكم » ، لماذا يجزم هو بصواب رأيه وكأنه ظفر بنص منزل، ويمنع غيره من مثل جزمه؟ ألا يحتمل أنه يوجد في العالم الإسلامي كله من بحث هذه المسألة وهو يعتقد جزما صواب ما نسب إلى البخاري عن علم واجتهاد لا عن تقليد ؟ لا شك أنهم موجودون، ومنهم الشيخ إبراهيم اللاحم والشيخ خالد الدريس الذي ذكره الشيخ في المقدمة واستفاد منه في كتابه كثيرا. وما فائدة الوصية بمخالفة سنن الذين في قلوبهم زيغ ، الذين يتتبعون العثرات ويقتفون المتشابه ؟ هل الشيخ يخاف من النقد ؟ إن من فائدته –وإن لم يقصده الشيخ حفظه الله – أن يُرمى كل من انتقده بالتقليد واتباع المتشابه وسلوك سبيل الزائغين، أن يرميه بذلك الطلاب المبتدئون من محبي الشيخ ومقلديه، ولقد عزمت على إخراج هذا الرد مع ما أتوقعه من تشنيع المشنعين إلا أني حريص على إسداء النصح لمن يستحقه، وعلى المشاركة في النقاش الذي يساعد في تجلية الحقائق.
تأمل قوله (11-12):« فإن خالف أحد هذه الأخلاق، فليعلم أنه أول مخذول، فالحق أبلج والدين محفوظ، فلن ينفعه أن يشنع على الحق، ولا أن يسعى في تخريب علوم الدين » ما هذا ؟ "مخذول"!! "تخريب علوم الدين"!!، لماذا كل هذه الثقة والاعتداد بالنفس وكل هذه الأحكام الخطيرة؟ لقد ذكرتني العبارة الأخيرة بحكم بعضهم بالزندقة على من يرى أن مسلما رتب أسانيد الأحاديث في كتابه بحسب القوة، وأنه ربما أبدى بعض العلل في صحيحه، بمثل هذه الأحكام تتنافر القلوب بعد ائتلافها، ويتربى الشباب على التعصب ويتمرنون على التبديع وإقصاء المخالف، حتى أصبحنا نسمع بمن يبدع غيره لأنه خالف ابن حجر في تعريف الحديث الشاذ.
وفي ختام هذه المقدمة أقول ماذا على الشيخ لو حذف هذه العبارات -أو المقدمة كلها -، وقال عوضا عنها : إني أعرض هذا البحث الذي بذلت فيه كل وسعي للوصول إلى الحق بدلائله، ليطلع عليه أهل الاختصاص وينظروا ما فيه ، وإني أعلم أن بعضهم سيتعجب من هذا الرأي الذي يحسبه جديدا ، وربما أنكره ، لكني أود من كل قارئ أن لا يتسرع في حكمه على البحث أو كاتبه ، وأن ينظر فيه نظر منصف متجرد، فإن اقتنع بما فيه فبها ونعمت، وإن لم يقتنع فإن المسألة علمية وقد سبقه إلى رأيه علماء كبار، ومن تعقب بحثي هذا أو بعض ما فيه فإني سوف أكون سعيدا بذلك، وإني حريص كل الحرص على الاقتداء بالسلف الصالح في اتباع الدليل حيثما كان وفي قبول النصح ممن كان، وليحرص إخواني الذين قد يخالفونني ولا يعجبهم ردي أن يكونوا كما كان السلف في مناظراتهم "كان كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه ، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة من غير أن يضمر بعضهم لبعضهم ضغنا ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم، بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له ويشهد له بأنه خير منه وأعلم"(مختصر الصواعق2/518)، وإني أذكر نفسي وإخواني بكلمات الشافعي الثلاث التي رواها ابن حبان وقال:" إنه ما تكلم بها أحد في الإسلام قبله ولا تفوه بها أحد بعده" اهـ، الأولى رواها عن ابن خزيمة عن المزني قال سمعت الشافعي يقول :«إذا صح لكم الحديث فخذوه ودعوا قولي، والثانية رواها عن ابن المنذر عن الزعفراني قال سمعت الشافعي يقول ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ، والثالثة رواها عن موسى بن محمد الديلمي عن الربيع قال سمعت الشافعي يقول :« وددت أن الناس تعلموا هذه الكتب ولم ينسبوها إلي » .
المسألة الأولى: تحرير المذاهب
أين تحرير محل النزاع؟
إن مما فات الشيخ في بحثه أن يحرر محل النزاع بين الفريقين، ولا أقول بين البخاري ومسلم لأن الشيخ لا يوافق على أن البخاري يخالف مسلما في مذهبه.
وتحرير محل النزاع من أهم سمات البحث العلمي الموضوعي، لأنه يساعد في التركيز على معاني عبارات المصنفين والتبين من مقاصد أصحابها ويحول دون الوقوف عند ظاهرها ، وذلك بتقسيم الموضوع وتحليله إلى مفرداته وجزئياته ، ومن شأن ذلك أن يبعد الباحث عن التعميم في الأحكام وأن يعينه على الوصول إلى الحقيقة والاقتراب من الصواب.
فأقول مستعينا بالله تعالى :
إذا روى الراوي عمن عاصره فله ثلاثة أحوال:
الأولى: أن يكون قد سمع منه وعلمنا ذلك بالدلائل والقرائن كثبوت اللقي.
الثانية: أن نعلم أنه لم يسمع منه ، بأن نقف على دليل أو قرينة تنفي سماعه منه ولقيه له.
الثالثة: أن لا يثبت لدينا شيء من دلائل السماع ولا نفيه .
فأما الصورة الأولى : فإن العنعنة فيها مقبولة إلا من المدلس المشهور بالتدليس –على خلاف-.
وأما الصورة الثانية: فينبغي أن لا يختلف فيها –أو هي محل إجماع-، وذلك كأن يقول هو نفسه لم أسمع منه، أو لم أسمع منه إلا حديثا واحدا، أو أن ينص على ذلك بعض تلاميذه المقربين منه وهذا لا شك من المراسيل ويسمى المرسل الخفي. ولا يشترط في ذلك الدلائل القطعية بل يحكم أيضا بالقرائن المغلبة لظن الانقطاع كاختلاف البلدان والرواية عنه بالواسطة، وقد بين مسلم ذلك فقال «إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه أو لم يسمع منه شيئا».
وأمـا الصورة الثالثة : فهي موضع الإشكال، هل الأصل فيها الحكم بالاتصال فلا يتوقف إلا في رواية المدلس ، أم أن الأصل فيها التوقف فلا يحتج بها حتى يتبين الاتصال بالتصريح بالسماع أو ثبوت اللقي على الأقل.
ذهب إلى القول الأول مسلم ونسبه ابن رجب إلى ظاهر قول ابن حبان.
واختار القول الثاني أكثر المصنفين في علوم الحديث ونسبه القاضي عياض إلى البخاري وعلي بن المديني ، وابن رجب إلى جمهور الأئمة المتقدمين (على خلاف بينهم في اعتبار قرينة ثبوت اللقاء).
إذن محل النزاع في الإسناد المعنعن ينبغي أن ينحصر في الصور التي تتردد بين الاتصال وبين الإرسال الخفي، أي لم يأت ما يرجح أحد الطرفين فلا يمكن الجزم بالإرسال ولا جاء ما يرجح عكسه.
من ثمرات عدم تحرير محل النزاع
قال الشيخ حاتم (15):« لم يتنبه ابن رشيد والعلائي والدريس إلى أنهم بميلهم إلى الاكتفاء بالقرائن القوية قد نسفوا ما ذهبوا إليه من تقوية اشتراط اللقاء أو السماع ، إذ من أين لهم أن مسلما لم يكن مراعيا لمثل تلك القرائن ؟! حتى يجعلونه مخالفا للبخاري ».
أقول: ولم يتنبه الشيخ حاتم إلى أن اللقاء ما هو إلا قرينة تقوي احتمال السماع وإلا فإن الأصل هو ثبوت السماع، قال ابن رجب في شرح العلل (2/592)ط همام:« فدل كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكي عنهما أنه يعتبر أحد أمرين : إما السماع وإما اللقاء وأحمد ومن تبعه عندهم لا بد من ثبوت السماع».
ومن يكتفي بالمعاصرة لا يحتاج إلى القرائن ، فمن أين للشيخ حاتم أن مسلما اشترط قيام القرائن للحكم بالاتصال؟ وهو قد نص على الاكتفاء بالمعاصرة وإمكان اللقاء فقال:» وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة، إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه أو لم يسمع منه شيئا، فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا فالرواية على السماع أبدا حتى تكون الدلالة التي بينا «. ولو ثبت ما ادعاه الشيخ حاتم من اشتراط مسلم للقرائن-وأنى له ذلك- لضاق الخلاف نوعا ما، ولأصبح الخلاف في اعتبار القرائن بين البخاري ومسلم من جهة وبين الإمام أحمد ومن معه من جهة أخرى.
في شرح مذهب مسلم (دعوى أعم من الدليل)
لقد أجاد الشيخ حاتم إلى حد ما في شرح مذهب مسلم وتفصيله ، إلا في نقطتين اثنتين:
الأولى : زعمه أن مسلما يعتبر القرائن لإثبات الاتصال حين قال (20):« ثم يؤكد مسلم أنه كان يراعي القرائن التي تحتف برواية المتعاصرين ، فإما أن تؤيد احتمال السماع أو أن تضعف احتماله » فقوله :"تؤيد احتمال السماع " زيادة مدرجة ليس في كلام مسلم ما يدل عليها –بل فيه ما يدل على ضدها-، ومعلوم أن اشتراط انتفاء القرائن المانعة من اللقاء للحكم بالاتصال يختلف عن اشتراط وجود القرائن، إضافة إلى المعاصرة للحكم بالاتصال، وتطويل الشيخ في التدليل على اعتبار مسلم للقرائن لا يفيده في دعواه شيئا، لأنها دلائل اعتبار القرائن في نفي السماع وهو خارج عن محل النزاع كما سبق.
فإن قيل: هل هناك مَن نصَّ على خروجه عن محل النزاع؟ قيل: نص على ذلك ابن القطان كما نقله عنه الشيخ حاتم (صفحة 22).
الثانية : إهماله لشرح معنى التدليس المحترز عنه في كلام مسلم ، وهذا من القضايا المهمة في نظري، ولقد بقيت متوقفا فيه مدة من الزمن ، هل هو على اصطلاح كثير من المتقدمين الذين يدخلون الإرسال الخفي في معنى التدليس وهو الاصطلاح الذي اختاره الخطيب والحاكم ، أم هو على اصطلاح الشافعي ومن تبعه من المتأخرين من تخصيصه التدليس بمن ثبت عنه لقيه والسماع منه.
وبعد تأمل ونظر ظهر لي أن مسلما على طريقة الشافعي وغيره ، حيث قال في مقدمته: ((وإنما كان تَفَقُّدُ من تَفَقَّدَ منهم سماعَ رواةِ الحديث ممن روى عنهم إذا كان الراوي ممن عُرف بالتدليس في الحديث وشُهِر به، فحينئذٍ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقّدون ذلك منه، كي تنزاح عنهم عِلّةُ التدليس. فمن ابتغى ذلك من غير مُدَلِّس، على الوجه الذي زعم من حكينا قولَه، فما سمعنا ذلك عن أحدٍ ممن سمّينا ولم نُسَمِّ من الأئمة)). فهذا هو التدليس وحكمه ، وأما الإرسال الخفي فقد احترز عنه بقوله : ((إلا أن يكون هناك دلالةٌ بيّنةٌ أن هذا الراوي لم يَلْقَ من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئًا. فأمّا والأمرُ مُبْهَمٌ، على الإمكان الذي فسّرنا فالرواية على السماع أبدًا، حتى تكونَ الدلالةُ التي بيّنّا ))
ما معنى الإلزام في المناظرة؟
قال الشيخ حاتم (25):« وانظر كيف قاد اعتقاد عدم مراعاة مسلم للقرائن إلى ظلم مسلم عليه رحمة الله، وذلك في قول ابن رجب :« ويرد على ما ذكره مسلم أنه يلزمه أن يحكم باتصال كل حديث رواه من ثبت له رؤية من النبي e أن يحكم له باتصال كل حديث رواه من ثبت له رؤية من النبي e ، بل هؤلاء أولى ، لأن هؤلاء ثبت لهم اللقي ، وهو يكتفي بمجرد إمكان السماع ، ويلزمه أيضا الحكم باتصال حديث كل من عاصر النبي e ، وأمكن لقيه له، إذا روى عنه شيئا ، وإن لم يثبت سماعه منه ، ولا يكون حديثه عن النبي e مرسلا ، وهذا خلاف إجماع أئمة الحديث ». لقد ظن ابن رجب أن مسلما لا يراعي قرائن عدم السماع ، ولذلك ألزمه بهذين الإلزامين » .
الجواب: إن ابن رجب ألزم مسلما بشيء لا يقول به مسلم ولا أحد من أهل الحديث ، وإذا بطل اللازم (وهو قبول تلك الروايات) بطل الملزوم (وهو اكتفاء مسلم بالمعاصرة). فالمناظر يقول لمناظره إما أن تلزم لوازم قولك وإلا كنت متناقضا إذ فرقت بين المتلازمين، وليس معنى الإلزام تقويل مسلم ما لم يقله حتى يقال إن ابن رجب ظلمه ولم يفهم كلامه.
والانفكاك عن الإلزام والجواب عنه يكون بإيراد الفارق بين الصورتين -اللازم والملزوم-، وفي هذه المسألة يعسر إيراد الفارق ، خاصة مع المعنى الأولوي الذي نبه إليه ابن رجب.
أو بالتزام اللازم ومناقشة من قال ببطلانه وفي هذه المسألة لا نقاش لأن الأمر متفق عليه ولا يخالف فيه مسلم، ولا من ينصره.
ولا ينفع الجواب ببيان أن مسلما يحكم على روايات أطفال الصحابة والمخضرمين بالإرسال كما في (25-26)، فإن ذلك تحصيل حاصل وابن رجب عليه رحمة الله !! لو لم يعلم ذلك لما ألزمه بذلك .
ما هو رأي ابن السمعاني؟
قال ابن السمعاني:"وأما قولهم: إنه تقبل الرواية بالعنعنة. قلنا نحن لا نقبل، إلا أن نعلم أو يغلب على الظن أنه غير مرسل، وهو أن يقول: (حدثنا فلان) أو (سمعت فلانا)، أو يقول (عن فلان) ويكون قد أطال صحبته؛ لأن ذلك أمارة تدل على أنه سمعه. منه فأما بغير هذا، فلا يقبل حديثه". وهذا الكلام صريح في بيان مذهب ابن السمعاني في المسألة.
فهو يشترط طول الصحبة لقبول العنعنة إذا لم يثبت التصريح بالسماع، واعتبر طول الصحبة قرينة دالة على السماع، فمذهبه ولا شك مفارق لمذهب مسلم، ولا ندري هل عبارة أطال صحبته مقصودة أم لا لأن ثبوت صحبته وحده أمارة تدل على السماع ، وإذا اعتبرت ذلك في طبقة الصحابة علمت أن هذا الميزان متفق عليه في هذه الطبقة من غير اشتراط طول الصحبة، وإن حمل الكلام على ظاهره فمذهب ابن السمعاني وسط بين البخاري المعتبر لمجرد اللقاء وبين مذهب أحمد وغيره الذين لا يعتبرون إلا التصريح بالسماع والله أعلم.
لكن الشيخ حاتم يقول (28):" إلا أن لأبي المظفّر السمعاني كلامًا أَحْكَمَ من كلامه السابق، واحد أهمّ وجوه إحكامه أنه ذكره في سياق كلامه عن حكم الحديث المعنعن وحكم التدليس، فهو واردٌ في موطنه اللائق به، والذي هو أَوْلَى المواطن بأن يُوفَّى فيه حقّه من البيان".
والجواب : لا نسلم أن كلام ابن السمعاني المذكور أحكم من كلامه السابق ، ومما يدل على عدم إحكامه أنه ذكره عند الحديث عن التدليس، والتدليس له حكم يختلف عن الإسناد المعنعن، فقول الشيخ حاتم :" في سياق كلامه عن حكم الحديث المعنعن " وهم منه.
القول الثاني الذي نقل هو :" فأما من لم يشتهر بالتدليس ولم يعرف به، قبل منه إذا قال (عن فلان) وحمل في ذلك على السماع؛ لأن الناس قد يفعلون ذلك طلبا للخفة إذ هو أسهل عليهم من أن يقول في كل حديث (حدثنا). والعرف الجاري في ذلك يقام مقام التصريح".
الجواب : مما يعلمه الشيخ حاتم أن الكلام كي يفهم على وجهه لابد أن لا يبتر عن سياقه ، لذلك ننقل كلام ابن السمعاني من أوله :" وبيان مذهب الشافعي في هذا الباب أن من اشتهر بالتدليس لا تقبل روايته إذا لم يخبره بالسماع فيقول سمعت أو حدثني أو أخبرني وما أشبهه فأما من لم يشتهر بالتدليس ولم يعرف به...الخ وهذا السياق يبين أن الكلام المنقول هو شرح لقول الشافعي ، وأما رأي ابن السمعاني في التدليس فقد ذكره قبل أن ينقل هذا النقل وفيه تفصيل لم يقل به الشافعي ولا غير الشافعي من أهل الحديث.
وإذا تعارض الكلام المتبنى المنصور والمذكور في موضعه، مع الكلام المنقول عن غيره -والمذكور في غير موضعه- فإنه يقدم الأول لا الثاني.
ما هو رأي الصيرفي؟
قال الشيخ حاتم (33):« فهذا أبو بكر الصيرفي (ت330)شارح الرسالة للشافعي ، بينما ينقل عنه ابن رجب الحنبلي أنه يشترط العلم بالسماع، ينقل عنه غيره خلاف ذلك ، فنقل العلائي وابن رشيد كلاهما عن الصيرفي أنه على مذهب مسلم، وقد وجدت عبارة طويلة للصيرفي تؤيد مذهب مسلم، نقلها عنه الزركشي في البحر المحيط. وبذلك تعلم مقدار ما استولت نسبة ذلك الشرط إلى البخاري على أذهان بعض أهل العلم، حتى ربما فهمت العبارة الواحدة أكثر من فهم».
الجواب : عبارة الصيرفي التي في البحر المحيط (4/311) يجوز أن يفهم منها اختياره مذهب مسلم وهي قوله في الدلائل والأعلام :« كل من ظهر تدليسه عن غير الثقات لم يقبل خبره حتى يقول حدثني أو سمعت، ومن قال في الحديث حدثنا فلان عن فلان قبل خبره لأن الظاهر أنه إنما حكى عنه ، وإنما توقفنا في المدلس لعيب ظهر لنا فيه »، لكن عند تأملها نجدها لا تدل على ذلك، فإنها سيقت في بيان حكم المدلس الذي لقي شيخه وسمع منه ، ومسألة المعنعن مفروضة في غير هذا المحل .
وأما ما جاء في شرح العلل لابن رجب فإنه أصرح وأوضح وهو في الأصل شرح لكلام الشافعي، فقد قال الشافعي: «لا يحدث واحد منهم إلا عمن لقي إلا ما سمع منه فمن عرفناه بهذا الطريق قبلنا منه حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلسا » قال ابن رجب (2/586):« وقد فسره أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة باشتراط السماع لقبول العنعنة ، وأنه إذا علم السماع فهو على السماع حتى يعلم التدليس، وإذا لم يعلم سمع أو لم يسمع وقف فإذا صح السماع فهو على السماع حتى يعلم غيره، قال وهذا الذي قاله صحيح». أي أن الصيرفي بعد شرح كلام الشافعي أيده .
ومنه فكلام الشيخ واستنتاجه تهويل لا معنى له ، فابن رجب رحمه الله اعتمد على كلام أصرح من الكلام الذي رجح به الشيخ حاتم ما نقله ابن رشيد والعلائي وأطول منه!! وإن سلكنا مسلك الترجيح رجحنا النص على الظاهر، وما سيق الكلام لأجله على ما سيق الكلام لغيره، فإن الكلام الأول سيق لبيان حكم التدليس كما سبق.
المسألة الثانية : نسبة القول للبخاري
قواعد واهية
الأولى : قال (34):« الذي لا يختلف فيه اثنان أن البخاري لم يصرح بالشرط المنسوب إليه … وهذه قاعدة نبني عليها لأنها محل اتفاق ».
الجواب : الشيخ من أعلم الناس أن أكثر ما ينسبه المتأخرون والمعاصرون للأئمة المتقدمين غير منصوص ، وإنما ثبت عنهم بالاستقراء لمناهجهم في كتبهم وفي التصحيح والتعليل والجرح والتعديل .
الثانية : لا يعتمد على صحيح البخاري
قال (34):« والقاعدة الثانية أن كتاب (صحيح البخاري) لا ينفع في أن يكون دليلا على صحة نسبة ذلك الشرط إلى البخاري ».
الجواب : أما هذه القاعدة فهي من أعجب الأمور ، ندعو الناس إلى الرجوع إلى الأئمة المتقدمين ، فإذا رجعوا إليهم قلنا لهم كتبهم لا تصلح للدلالة على مذاهبهم ، كان الواجب عليه أن يقول: من المراجع التي نعتمد عليها "الصحيح"؛ فإن وجدنا أحاديث صححها ولم يتوفر فيها الشرط المذكور علمنا أنه على مذهب مسلم ، وإن وجدنا فيه دلائل تؤكد اشتراط السماع واللقاء قلنا به .
ثم إنه إن لم يجد هو هذه الدلائل فغيره قد وجدها، قال ابن حجر في هدي الساري (14):« والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة ، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه ، وأكثر منه حتى إنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئًا معنعنا ، وسترى ذلك واضحًا في أماكنه ـ إن شاء الله تعالى ـ »اهـ وانظر مثالا عن ذلك في كتاب التفسير باب ] وإذ يبايعونك تحت الشجرة [ نقله الدريس في دراسته (93) وقال ابن حجر في شرحه (3/452):«وأما الحديث الثاني فأورده لبيان التصريح بسماع عقبة بن صهبان من عبد الله بن مغفل». الطريقة نفسها استعملها في كتاب القراءة خلف الإمام.
ومنه يعلم خطأ ما قرره الشيخ حاتم (37-38) من أن ابن حجر ترك الاستدلال بما في صحيح البخاري .
ويزداد التعجب عندما يحجر على نفسه وعلى غيره الاحتجاج بصحيح البخاري على مذهب البخاري ، ثم هو يحتج على مذهب البخاري بأقوال الترمذي والطحاوي والدارقطني !!
الثالثة : تضعيف الأقوال بالأولية
ذكر في القاعدة الثالثة أن أول من نسب للبخاري هذا القول القاضي عياض، والشيخ كثيرا ما يضعف الأقوال التي لا يراها بقوله"أول من قال كذا فلان"، فالقول بتساهل العجلي ضعيف لأن أول من قال ذلك المعلمي، وتقسيم الأئمة إلى متساهل ومتشدد ومعتدل ضعيف لأن أول من قسمه الذهبي، وإذا صح هذا فنحن نقول الزعم بأن البخاري على قول مسلم ضعيف لأن أول من زعم ذلك الشيخ حاتم، وانظر في الجواب عنه وفي الاعتذار للقاضي عياض كتاب إجماع المحدثين (ص:166)
لا تقليد مع ثبوت الاستدلال
وبعد أن أكد على أولية القاضي عياض وانتقده بأنه (36):« لم يذكر دليلا على ذلك ولا شبه دليل »، نسب كل من جاء بعده إلى تقليده حتى العلماء الذين أوردوا الأدلة ، لأنهم أوردوها من أجل الترجيح لا من أجل تحقيق مذهب البخاري، فسود قرابة صفحتين لبيان هذه الفكرة ثم هدمها بنفسه في (38) حيث قال: «فالسؤال يجب أن يكون: ألم يذكر العلماء ما ينفع أن يكون دليلا على صحة تلك النسبة في وجهة نظرهم ؟ وإن لم يقصدوا هم الاستدلال لذلك ؟»، الخلاصة أنهم ذكروا أدلة أما القصد فهو أمر باطن قد يعبر عنه وقد لا يعبر ، وعلى كل فنقض الكليات يكفي فيه المثال الواحد ، فهذا الزركشي يعرب عن نيته في الاستدلال في كتابه النكت (2/39-40)قال:« وهل البخاري يشترط ثبوت السماع في كل حديث أو إذا ثبت السماع في حديث واحد حمل الباقي عليه حتى يدل الدليل على خلافه ؟ فيه نظر، والأقرب الثاني … ويشهد له أن علي بن المديني والبخاري أثبتا سماع الحسن من سمرة مطلقا ، لأنه صح عنه سماعه لحديث العقيقة ».
وإذا أفلح الشيخ في وصف العلماء بالتقليد للقاضي عياض في نسبة القول إلى البخاري ، فماذا يصنع بنسبة الحافظ ابن رجب هذا القول إلى أحمد وأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم واستدلاله على ذلك؟ وماذا يصنع بنسبة الصيرفي قبله هذا القول إلى الشافعي (وتنبه إلى أنه توفي سنة 330) ؟ وقد نسبه إلى الشافعي أيضا الزركشي في النكت وابن رجب وابن حجر.
هل يجب التحقيق في نسبة الأقوال؟
الذي لا شك فيه أن التأكد من صحة نسبة الآراء إلى أصحابها في المسائل العلمية الخلافية، والتثبت منها من المصادر المعتمدة والمراجع الصحيحة أمر منهجي مطلوب في البحوث الجادة التي يجتهد أصحابها في التوقي والتثبت والأمانة العلمية، لكن هل معنى ذلك التدقيق في كل مسألة ولو كانت مشهورة، هذا أمر لم يقل به أحد ولم يجري عليه عمل ، فإننا ننقل في مسائل الفقه المنقول عن أحمد ومالك وغيرهما من غير تحقيق في الروايات، بل ننقلها من كتب الفقه المعتمدة على مذاهبهم وذلك يكفي إلا في مسائل يقع فيها الريب فتحتاج إلى مزيد تثبت، أما والريب منتف فالتثبت لغو ومضيعة للعمر، وكذلك الأمر في قضيتنا هذه، لم يوجد أحد من العلماء شكك في نسبة القول إلى البخاري والأمر عند العلماء واضح، فلم يلزم العلماء بالتدليل في تحقيق مذهبه؟ ومن هذا يعلم تهافت قول الشيخ حاتم (38):« يكفيك من قول ضعفا أنه لم يستدل عليه » .
اختزال الشيخ حاتم لأدلة خصومه
بين الشيخ أن خلاصة دليل خصومه (39)" إعلال بعض الأحاديث بنفي العلم بالسماع أو اللقاء " ثم أجاب عن ذلك بوجهين الأول منها (41):« أنه إعلام بأن الراوي لم يذكر نصا دالا على السماع ، وغالبا لا يكون لهذا الإعلام أي فائدة إلا إن كانت هناك قرائن تشهد لعدم السماع » ، وهكذا فليكن تقدير الأئمة النقاد!! وليكن التعامل مع نصوصهم!! آلاف النصوص لا فائدة منها إلا بقرينة!! لو كان هذا صحيحا لماذا لم يذكروا القرائن ويريحوا الأمة بدل تسويد الصفحات بما لا يفيد، ولا ننسى أن كثيرا من هذه النصوص –بل أكثرها- واردة في جواب عن سؤال ، فلا أدري ماذا يصنع السائل بجواب لا يفيد.
وخلاصة الثاني أنه (42):« قصد بها إعلان الشك في السماع وترجيح عدمه … والمقصود من نحو هذه العبارات بيان أن هناك قرائن تشهد لعدم حصول السماع » إذن الوجه الثاني هو الوجه الأول إذ مرجعهما إلى اعتماد القرائن.
إن أدلة إثبات آراء العلماء في هذه المسألة لا تنحصر في قولهم :" لا يعرف له سماع أو لا يعلم سماعه "، بل منها :
-قول البخاري وغيره : فلان روى عن فلان ، وفلان سمع من فلان.
-استدلال البخاري وابن المديني بروايات فيها ثبوت اللقاء .
-إيراد البخاري لأسانيد في الصحيح لا تناسب الأبواب من أجل تثبيت السماع.
-ومنها قولهم فلان أدرك فلانا أو رآه ولا يذكر سماعا.
-إثباتهم المعاصرة مع نفي السماع أو الشك فيه.
-استعمالهم عبارة : لا يصح سماعه .
-تخطئة السماعات وتضعيفهم لأسانيدها.
-عدم استعمالهم عبارة فلان عاصر (أدرك) فلان لإثبات الاتصال .
ومنه فإن من مساوئ هذا البحث إيهام القراء محاولة إنصاف المخالف بأن يتكلف الاستدلال له، وهو في الحقيقة يهدر أدلته الكثيرة والمتنوعة، ويتجاهل الحجج التي استعملها العلماء لإثبات رأي الأئمة في هذه المسألة، ولقد كان بإمكان الشيخ حاتم أن يستفيدها أو أكثرها من كلام ابن رجب في تحقيقه لمذهب أحمد في شرح العلل ( 2 / 590-599) ط همام.
إشارة قف في غير موضعها
قال (42):«فإذا كانت " لا أعرف لفلان سماعا من فلان " تساوي لم يسمع فلان من فلان " وأنها تعني ترجيح عدم السماع لقيام القرائن الدالة على عدمه ، فبينوا لي وجه الاستدلال بنفي العلم بالسماع على أنه دليل اشتراط العلم به ؟ بينوا لي ذلك ، فإني لا أرى له وجها !! وأرجو أن لا يتجاوز القارئ المدقق هذه المسألة حتى يجيب وإلا فلا داعي لأن يتم ، لأنه حينها لا يريد أن يتم القراءة بفهم !!!».
والجواب : هذا الكلام فيه مصادرة من وجهين الأول : إثبات التسوية بين العبارة الجازمة وغير الجازمة ، والثاني : إثبات استناد العبارتين جميعا إلى القرائن دائما. فنحن لا نسلم للمقدمتين؟ حتى يدلل عليهما لأنها خلاف الأصل ، والشيخ لا يقبل ما ينسب إلى البخاري إلا بدليل مع قصد الاستدلال، وهو يوقفنا هنا عن إكمال القراءة مع أنه لم يقدم دليلا إلا كلاما خطابيا وتعميما لا يفيد علما ولا ظنا.
وإذا رجعت إلى نصوص الأئمة لوجدتهم يقولون:" صح سماع فلان من فلان" فيقبلون حديثه ، ويقولون :"لا نعلم له سماعا" فيتوقفون في حديثه ، علمت أن علة القبول والرد هي العلم بالسماع وهذا الاستدلال يسمى الطرد والعكس أو الدوران ، وهو استدلال معروف عند العقلاء فضلا عن العلماء، واستغرابه واستبعاده (كما في 43) لا يقدح في الدليل وإنما يقدح فيمن لم يفهمه، وإذا رأيتهم ينتقدون التصريح بالسماع تزداد يقينا بصحة ما ينسب إليهم، لأن من يكتفي بالمعاصرة ليس له حاجة أن ينظر في السماع حتى يحكم له بالخطأ أو الصواب، ولا يصح أن يقال إن التخطئة مبنية على القرائن لأن هذا لا يطرد ولا ينعكس.
حجج التسوية بين عبارات الجزم وغيرها
احتج للتسوية بين العبارات الجازمة وغيرها أعني عبارة:" لم يسمع" و"لا نعلم له سماعا" ، ببعض الأمثلة التي زعم بها (46):" أنهم قد ينفون العلم بالسماع للشك في المعاصرة أصلاً، بل ربّما مع العلم بعدم حصول المعاصرة!" وأمثلة زعم فيها أن العبارة الثانية أطلقت على المراسيل. وذكر أمثلة زعم أنها لمجرد الإخبار لا للإعلال .
أولا: حجج نفي العلم بالسماع للشك في المعاصرة
1-قال (46):« قول البخاري :" إبراهيم [بن محمد بن طلحة] قديم، ولا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا» ، الجواب : هذا سهو من الشيخ حاتم فإبراهيم تابعي وابن عقيل تابعي فأين الشك في المعاصرة .
2-قال (46):« وقوله :" لا نعرف لمحمد بن أبان سماعا من عائشة" مع كون محمد بن أبان من أتباع التابعين أي مع عدم المعاصرة ».
الجواب : ولا أدري كيف علم أن محمد بن أبان الأنصاري من أتباع التابعين ، والراوي عنه في التاريخ الكبير (1/32)منصور بن زاذان روى عن أنس وأبي العالية وعطاء والحسن وابن سيرين ، أليس الاحتمال الأقوى أن يكون محمد بن أبان من التابعين ، وفي المرجع المحال إليه -لسان الميزان (5/32)- أن الراوي عنه يحيى بن أبي كثير فكيف يجزم بكونه من أتباع التابعين والراوي عنه يحيى، وعلى فرض صحة كونه من أتباع التابعين فهل علم ذلك البخاري؟
3-قال (46-47):« وذكر البخاري حديثا لعبد الله بن نافع بن العمياء عن ربيعة بن الحارث عن الفضل بن العباس ، ثم قال : "لا يعرف سماع هؤلاء بعضهم من بعض" » ، فبين الطحاوي في (مشكل الآثار) عدم معاصرة عبد الله بن نافع لربيعة بن الحارث».
الجواب: البخاري غير ملزم برأي الطحاوي، ولا يستقيم الاحتجاج بنحو هذا ، إلا إذا بين علم البخاري بعدم المعاصرة.
4-قال (47):« وقال البخاري :" شعيب بن محمد الغفاري سمع محمد بن قنفذ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :مرسل ، ولا يعلم سماع لمحمد من أبي هريرة ».
وجواب هذا أن البخاري يقصد أن رواية شعيب عن محمد بن قنفذ مرسلة ، ولا يستغرب هذا، قال المعلمي في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/128):» قول البخاري في التراجم سمع فلانا ليس حكما منه بالسماع ، وإنما هو إخبار بأن الراوي ذكر أنه سمع «. وقد لاحظ ذلك الشيخ خالد الدريس في كتابه (102-103) وأورد أمثلة تؤكد هذا، ففي ترجمة زياد بن ميمون قال:" سمع أنسا " ثم نقل عنه أنه قال :«لم أسمع من أنس شيئا » ، وفي ترجمة جميل بن زيد الطائي قال سمع ابن عمر ثم نقل عنه قوله: ما سمعت من ابن عمر شيئا ».
ومحمد بن قنفذ هو محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ روى عن ابن عمر وأبيه وروى عنه مالك بن أنس كما في التاريخ (1/84) ولم يذكر روايته عن أبي هريرة ربما لأنها عنه بسند مرسل.
5-قال (47):« وقال البخاري: محمد بن أبي سارة عن الحسن بن علي ، روى عنه محمد بن عبيد الطنافسي ، ولا يعرف له سماع من الحسن » وقال في موطن آخر :« محمد بن عبد الله بن أبي سارة المكي القرشي سمع سالما روى عنه ابن المبارك وزيد بن الحباب ، ويقال محمد بن أبي سارة منقطع » . أي حديثه الذي نسب فيه إلى جده منقطع وهو حديثه عن الحسن بن علي الذي نفى علمه بسماعه منه ، هذا مع كون محمد بن أبي سارة مجزوم بعدم سماعه من الصحابة ، ولذلك جزم بها البخاري في الموطن الآخر ، فقال :" منقطع " أضف إلى ذلك أنه من طبقة أتباع التابعين ، بدليل طبقة شيوخه ، وتلميذه محمد بن عبيد الطنافسي الذي هو من أتباع أتباع التابعين».
والجواب عن كل هذا أن البخاري فرق بين محمد بن أبي سارة الذي توقف في سماعه من الحسن، وبين محمد بن عبد الله بن أبي سارة، فذكر الأول في (1/110) من التاريخ، وذكر الثاني في (1/131) فهما عنده رجلان وقد حكم عليهما بحكمين مختلفين، والشيخ حاتم يعلم ذلك فقد عزى الكلام إلى الصفحات المشار إليها.
ومع كل هذا فزعمه أن كلمة منقطع ترجع إلى روايته عن الحسن فمن أغرب الأمور !!! والأظهر رجوعها إلى سماعه من سالم .
6-وقال (47-48):« وقال البزار:" لا نعلم لعطاء بن يسار من معاذ سماعا" » . مع تعبير الترمذي عن ذلك بقوله: «"لم يدرك معاذ بن جبل" » .
الجواب : لا بد أن يصرح بذلك البزار لا الترمذي لأن ما ثبت عند الترمذي لا نعلم هل ثبت عند البزار وما لم يحط به البزار لا نعلم هل غاب عن الترمذي أيضا .
7-قال (48) :"وقال الدارقطني عن عمارة بن غزية :"لا نعلم له سماعا من أنس" ، مع أن الدارقطني نفسه يقول في (سؤالات البرقاني) له:" مرسل عمارة لم يلحق أنسا" .
الجواب: أن هذا محمول على تغير الاجتهاد . ومثله ما نقل عن ابن حبان ص 48 فإنه صريح في تغير الاجتهاد أو التردد قال الشيخ :« وأكد ابن حبان هذا المعنى عندما ذكر عمارة بن غزية في أتباع التابعين مع أنه ذكره أيضا في التابعين، لكنه قال:" يروي عن أنس إن كان سمع منه" .
ثانيا : نفي العلم بالسماع مع إثبات الإرسال
قال (48):" وربما نفى أحد الأئمة العلم بالسماع ، ثم هو نفسه نفى السماع ... مما يدل على تساوي معنى العبارتين"
والجواب من حيث الإجمال أن الأئمة ما حكموا بالإرسال إلا لتوفر بعض القرائن المرجحة للإرسال ، ولو لم تكن ثمة قرائن لما وصف بالإرسال –وفي كثير منها جاء التنصيص على القرينة فخرجت الأمثلة عن محل النزاع-.
ونفي العلم بالسماع قد لا يراد به التوقف، وإنما يراد به التورع في التعبير ، كمن يقول في الراوي لا أعرفه ويتجنب عبارة غير معروف أو مجهول.
1-قال (48-49) "يقول ابن أبي حاتم في (المراسيل): ((سألت أبي عن عبد الله بن عُكيم. قلت: إنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من علَّق شيئًا وُكِل إليه؟ فقال: ليس له سماع من النبي r، إنما كُتب إليه. . . (ثم قال:) لا يُعرف له سماع صحيح، أدرك زمانَ النبي صلى الله عليه وسلم))."
الجواب: هنا العباراتان مدلولهما واحد ليس فيهما نفي السماع ، إذ ثمة فرق بين لم يسمع وليس له سماع. ثم إن هذا من أدلة عدم الاكتفاء بالمعاصرة والإدراك فليتأمل .
2-وقال (49) :"ويقول أبو حاتم الرازي أيضًا: ((لا أدري سمع الشعبي من سمرة أم لا، لأنه أدخل بينه وبينه رجل)) فهنا يشك في السماع لوجود واسطة بين الراويين. لكنه عاد في موطن آخر فجزم، حيث قال عن الشعبي: ((لم يسمع من سمرة، روى عن سمعان بن مُشَنَّج عن سمرة))."
الجواب : هذا محمول على تغير الاجتهاد ، كما لو ضعف راو في موضع ووثقه في موضع آخر .
3-قال (44): "قول الترمذي: ((لا نعرف للأسود سماعًا من أبي السنابل، وسمعت محمدًا يقول: لا أعرف أن أبا السنابل عاش بعد النبي r)). فهذا نفي للعلم بالسماع، مع عدم المعاصرة أصلاً بين الراويين!! فهل هو إعلالٌ بعدم العلم بالسماع بناءً على اشتراط العلم به؟!"
الجواب : والصواب أن يقول :« مع عدم العلم بالمعاصرة بين الراويين » . حيث قال لا أعرف ولم يقل لم يعش .
4- قال (44-45): "ويقول الترمذي: ((لا نعرف لأبي قلابة سماعًا من عائشة، وقد روى أبو قلابة عن عبدالله بن يزيد رضيع عائشة عن عائشة غير هذا الحديث)) فهذا نفي للعلم بالسماع، مُعلّلاً بقرينة ذكر الواسطة.
هذا مع قول الدارقطني: ((أبو قلابة عن عائشة: مرسل)). كذا على الجزم."
الجواب : ذكر الواسطة قرينة لنفي السماع قد تقوى وقد تضعف في نفس العالم، وتعبيره يختلف جزما وترددا بحسب القوة والضعف ، ولا ينفع في مثل هذا الموضع أن ينقل عن إمام قوله: لا نعرف سماعا ، وعن آخر قوله: هو مرسل ، لأن الظن يقوى ويضعف باختلاف الأشخاص أيضا.
5-قال (45):"ويقول الترمذي: ((هذا حديث ليس إسناده بمتّصل، ربيعةُ بن سيف إنما يروي عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِّي عن عبدالله بن عَمرو، ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعًا من عبد الله بن عَمرو)).
فانظر كيف جزمَ أوّلاً بعدم الاتصال، وبيّن قرينة ذلك، ثم عاد لنفي العلم بالسماع! هذا من أوضح ما يكون."
الجواب : هذا يدخل في المرسل الخفي لوجود القرينة المشار إليها، وعدم جزمه بعدم السماع من الورع في التعبير.
6-قال (45): "ويقول الترمذي: ((لا نعرف لزيد بن أسلم سماعًا من أبي هريرة، وهو عندي حديث مرسل))
فينفي العلم بالسماع، ثم يجزم بالإرسال.
ويؤكد نفي السماع أن يحيى بن معين وعلي بن الحسين بن الجنيد نفيا السماع."
الجواب : كسابقه إلا أنه لم يذكر القرينة، وهذا الكلام الأخير لا يصلح لأن علوم الترمذي ليست هي علوم ابن معين وابن الجنيد.
7-قال (45): "ومثلهُ في الوضوح قول النسائي في ((المجتبى)): ((هذا الحديث عندي مرسل، وطلحة بن يزيد لا أعلمه سمع من حذيفة شيئًا، وغير العلاء بن المسيب قال في هذا الحديث: عن طلحة عن رجل عن حذيفة))."
الجواب : هذا إعلال للرواية بالإرسال بمعنى أن الصواب في هذه الرواية طلحة عن رجل عن حذيفة، وهم قد يقولون هذا في حق من ثبت سماعه ولقيه.
8-وقال (46) :"وقال عبد العزيز النخشبي: ((لا نعرف سماع سلامة من علي، والحديث مرسل))."
9- وقال (46) :"ويقول البزار: ((محمد بن المنكدر لا نعلمه سمع من أبي هريرة)) ثم قال في آخر الباب: ((وقد ذكرنا أن محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة. . .)) إلى آخر كلامه.
ألا تراه ينفي العلم بالسماع، ثم يُبَيِّنُ أنه استفاد من ذلك الحكمَ بالإرسالِ وعدمِ الاتصال."
الجواب : هنا في هذه المواضع تحمل العبارة على غلبة الظن بالإرسال دون التوقف في الرواية للعبارات المقترنة بها.
وقال (49): "وقد ينفي أحدُ الأئمة العلمَ بالسماع في رواية، وغيره من أهل العلم ينفون السماع فيها، ممّا يدل أيضًا على اتّحاد معنى التعبيرين.."
الجواب : هذه مغالطة ، العبارات الصادرة من إمام واحد في موضعين مختلفين تحتمل تغير الاجتهاد إذا تناقض القولان فكيف مع اختلاف المجتهد، اللهم إلا أن يدعي أن أحدهما يشرح كلام الآخر!! ومنه فإني لا أجيب عن الأمثلة المذكورة تفصيلا لأن جوابها واحد –إلا ما سبق-.
ثالثا : الخبر المجرد
قال (65): "وآخر ما أريد ذكره من معاني نفي العلم بالسماع: هو الخبر المُجرّد عن أن الراوي لم يذكر ما يدل على السماع ممّن روى عنه، دون إعلالٍ للحديث بذلك، بل مع الحكم بالاتّصال والقبول!
وبعد طول كلام قال (67) المثال الأول: سليمان بن بريدة، قال عنه البخاري في (التاريخ الكبير): ((لم يذكر سليمان سماعًا من أبيه)). فهل يتجرّأ أحدٌ، بعد أدلّة السماع التي ذكرناها آنفًا من كلام البخاري نفسه، الذي أثبت تلك المعاصرة الطويلة بين سليمان وأبيه أن يزعمَ أن البخاري يردّ حديث سليمان عن أبيه لعدم علمه بالسماع؟!!"
الجواب : الصواب أن يقول: فهل يتجرأ أحد بعد أدلة المعاصرة؟ التي ذكرناها آنفا لا أدلة السماع. ونحن لا نزعم أن البخاري يرد حديث سليمان عن أبيه ، لأننا نعتقد أن البخاري قد يصحح الحديث لثبوت اللقاء وإن لم يأت تصريح بالسماع ، وهذا الوهم ناتج عن عدم تحرير محل النزاع وهضمه جيدا. وما أشبه هذا المثال بقضية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الذي اختلف في سماعه من أبيه فأثبت البخاري الاتصال بثبوت اللقاء (بين الابن وأبيه) فقد أخرج البخاري من طريق عبد الله بن خثيم المكي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه : أخر الوليد بن عقبة الصلاة بالكوفة فانكفأ ابن مسعود إلى مجلسه وأنا مع أبي . ثم قال: قال شعبة: لم يسمع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه وحديث ابن خثيم أولى عندي التاريخ الصغير (1/99) ونقله خالد الدريس في موقف الإمامين (115-116).
قال (69):" المثال الثاني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال البخاري في ترجمته: ((عبدالله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي: قاضي مرو، عن أبيه، سمع سمرة، ومن عمران بن الحصين)).
وهُنَا أنقل ما ذكره خالد الدريس في كتابه الذي ينصر فيه الشرط المنسوب إلى البخاري (موقف الإمامين. .)، حيث قال: 134((ذكرتُ فيما سبق: أن قول البخاري (عن) بدل (سمع) فيما يرويه صاحب الترجمة عن شيوخه تدل على أن البخاري لم يثبت عنده سماع صاحب الترجمة ممن روى عنه، وإلا لقال: (سمع) بدل (عن).
وهنا أشار الإمام البخاري أن عبدالله بن بريدة روى عن أبيه بالعنعنة، مما يدل على أن البخاري لم يقف على ما يُثبت سماع عبدالله من أبيه. ورُغم ذلك فقد أخرج البخاري في صحيحه لعبدالله بن بريدة حديثين، ليس فيهما ما يثبت السماع أو اللقاء بينهما))! ثم عاد خالد الدريس ليقول 134-135: ((فعلى أي شيءٍ اعتمد البخاري في تصحيحه لهذين الحديثين؟ يبدو أن البخاري أخرج هذين الحديثين لعبد الله بن بريدة عن أبيه مع عدم ثبوت سماع من أبيه لأمرين. .))، ثم ذكرهما، وهما حسب رأيه: أن احتمال سماع عبدالله من أبيه أقوى بكثير من احتمال عدم السماع، وأن البخاري لم يعتمد على الحديث الأول أو الثاني في بابهما. .!!"
الجواب : عن قول الدريس وحاتم وابن حجر أن عدم وجود التصريح بالسماع لا ينفي ثبوت اللقاء ، وعدم ذكر البخاري لدليل ثبوت اللقاء في التاريخ أو الصحيح لا يعني عدم وجوده، وكلام الدريس يوهم أنه لابد أن يذكر دليل الاتصال في الصحيح وليس بلازم.
بل الذي أسير عليه ولا ألزم به غيري أن أعتبر إخراج البخاري لرواية الشيخ عن شيخه بمثابة التصريح بسماعه منه ، كما أنه يعتبر توثيقا له ولشيخه .
ومن الجواب أن يقال إن التصريح بالسماع موجود –ولا يبعد وقوف البخاري عليه -وممن أخرجه أبو داود في سننه (2572، 2843، 5242) والترمذي (2773،3689،3690، 3774) والنسائي في الكبرى (8402،8481، 8498) وابن خزيمة (1226) وابن حبان (6509، 6038، 6039) وأحمد في مسنده (5/350-351)، وقد جاء في آخر الرواية قول عبد الله بن بريدة :" فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النبي e في هذا الحديث غير أبي بريدة ".
رابعا :
قال الشيخ حاتم (63):" فمن معاني نفي العلم بالسماع: نفي أن يكون الراوي قد تلقي روايته عن شيخه بطريقة السماع، وإن كان قد تلقّاها إجازةً أو مكاتبةً أو وجادة، بل ربّما تلقّاها عَرْضًا".
الجواب : هذا نفي للسماع وليس نفيا للعلم بالسماع والأمثلة الذي ذكر واضحة فلتراجع .
ثلاثة أمثلة عن مسلم
قال (71):" فأقول لهم: إذا كنتم أخذتم اشتراطَ البخاري للعلم باللقاء واستفدتموه من إعلاله لأحاديث بعدم العلم باللقاء، فيلزمكم أن تقولوا بأن مسلمًا يشترط العلم باللقاء أيضًا، لأنه قد أعلّ أحاديث بعدم العلم باللقاء كذلك!!!
وذلك في ثلاثة أمثلة:"
الجواب : إذا كانت له ثلاثة أمثلة من المتشابه فله أن يردها إلى المحكم وهو مقدمة الصحيح ، أما بالنسبة لغير مسلم كأحمد وأبي حاتم وغيرهما فالأمثلة عنهما بالمئات ولا يمكن تأويلها.
قال (ص 71و72): " الأول: ذكر الإمام مسلم حديثًا في كتابه (التمييز) من رواية محمد بن علي بن عبد الله بن العباس عن جدّه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، ثم تعقّبه بقوله: ((لا يُعلم له سماعٌ من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه)).
ومع أن هذه العبارة كافية في إلزام الخصم، لكني أعود إليها بالتأكيد على قوّتها في الإلزام!"
الجواب: لا حجة في هذا القول لأنه يتضمن نفي المعاصرة ، بقوله :"أو رآه"، والمعاصرة الموجودة غير كافية للتلقي فابن عباس توفي سنة 68 ومحمد بن علي توفي سنة 124 أو 125 عن نيف وستين سنة ، بمعنى أن ميلاده كان سنة 64 أو قبلها بقليل .
وقول حاتم (72):" ويشهد لوقوع المعاصرة فعلاً بين محمد بن علي وجدِّه: أن ابن حبان ذكر محمد بن علي في طبقة التابعين، ولم يذكر له رواية عن صحابي غير جدّه ابن عباس." ليس بشيء لأن ابن حبان اعتمد على روايته عن جده، وهو يتردد في بعض الرواة فيذكرهم في طبقة التابعين وفي طبقة أتباع التابعين بسبب الاختلاف في سماعهم من الصحابة .
وما ذكره الشيخ حاتم بعد هذا يسقط تبعا لأصله فليس ثمة داع لتسويد الصفحات في رده .
قال (73-74) :"والمثال الثاني: ذكر ابن رجب في (فتح الباري) حديثًا لأبي صالح مولى أمّ هانىء عن ابن عباس، ثم قال: ((وقال مسلم في كتابه (التفصيل): هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتّقى الناسُ حديثَه، ولا يثبت له سماعٌ من ابن عباس)). مع أنّ أبا صالح هذا قديمٌ، وقد أدرك من هو أقدم من ابن عباس، فقد ذكروا له روايةً عن علي بن أبي طالب، وهو مولى أخته أم هانىء فاخِته بنت أبي طالب، وروى عنها أيضًا، وروى عن أبي هريرة. وقد ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، وقال في بيانها: ((ممن روى عن أسامة بن زيد وعبد الله بن عامر وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وعبد الله بن عَمرو وأبي هريرة وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن عباس وعائشة وأم سلمة وميمونة وغيرهم)). وروى عنه من الكبار: الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وغيرهما. وتذكّر -بعد ثبوت المعاصرة- أن مسلمًا لم يحكم بالاتّصال، ليتأكد لديك أن مسلمًا كان يراعي القرائن، وأنه لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة."
الجواب : هذا النص عن مسلم وقفت عليه قديما في تحذير الساجد للألباني (52) وهو مما جعلني أراجع مذهب مسلم وأحاول تفهمه عسى أن لا يكون ثمة اختلاف بينه وبين البخاري، لكني لم أجد شيئا يساعد على ذلك، ولقد كان من السهل علي أن أرد هذا المثال المتشابه إلى المحكم وأن أشك في صيغة النقل، لأنه منقول بالواسطة عن كتاب التفصيل لمسلم، بل أخشى أن تكون الجملة الأخيرة من كلام ابن رجب.
وقضية مراعاة مسلم للقرائن في النفي لا إشكال فيه ولا خلاف لأنه قد نص عليه في مقدمة الصحيح وهو خارج عن محل النزاع .
قال (74-75):"المثال الثالث: تذكر قصّةٌ صحيحةٌ أن مسلمًا دخل على البخاري، فقال له مسلم: ((دعني أُقَبِّل رجليك! يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدّثين، وطبيب الحديث في علله!!!)). ثم ذُكر بمحضرهما حديث كفّارة المجلس، من رواية موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. فقال مسلم للبخاري: ((في الدنيا أحسن من هذا؟! تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثًا غير هذا؟! فقال البخاري: لا، إلا أنه معلول. فقال مسلم: لا إله إلا الله!! (وارْتَعَدَ)، أخبرني به؟ فقال: استر ما ستر الله، فألحَّ عليه، وقبّل رأسه، وكاد أن يبكي. فقال: اكتب إن كان ولا بُدّ. وأملى عليه رواية وهيب عن سهيل بن أبي صالح عن عون بن عبد الله بن عتبة موقوفاً عليه، وقال له: ((لم يذكر موسى بن عقبة سماعًا من سهيل، وحديث وُهيب أولى. فقال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك!!)).
فهذا إعلالٌ من البخاري بعدم العلم بالسماع، ويرضى به مسلم، بل يكاد يطير فرحاً به."
الجواب : إن البخاري لم يتكلم في سماع موسى بن عقبة من سهيل مطلقا، لذلك لم يذكر كلامه في كتب المراسيل ، وإنما تكلم في سماعه لهذا الحديث بعينه، كما أعل حديث القضاء بالشاهد واليمين وقال :« عمرو بن دينار لم يسمعه من ابن عباس».
ومن هنا يتضح أنه ليس ثمة مثال سالم يمكن أن يستدل به على أن مسلما كان يتفقد السماع في الأسانيد ولو صح عندنا ذلك لكنا نسعد به لثبوت الإجماع حينئذ على اشتراط ثبوت السماع أو اللقي. (وهو ما أراد فعله خالد الدريس بإيراد هذا المثال الأخير في صفحة 433، فنقله الشيخ حاتم من غير تدقيق).
المسألة الثالثة : الأدلة على بطلان نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري
قال (77):" الدليل الأول : سقوط الحُجّة التي اعتمد عليها الناسبون لذلك الشرط إلى البخاري وغيره من الأئمة، لتبقى تلك النِّسبة قولاً عاريًا من الدليل، ولا يسندها برهان. وكل قولٍ خلا من دليل يسنده فهو ادّعاء باطل، ووَهْمٌ لا حقيقة.
الجواب : سبق تفتيت الشبهات التي أورد في المسألة الثانية شبهة شبهة ومثالا مثالا، فيبقى زعمه سقوط الحجة مجرد دعوى، ومما أوردناه أن الشيخ حاتما قد انتخب حجة واحدة من عند نفسه وأوهم القارئ أنه لا حجة لخصومه إلا تلك، ولابد للشيخ أن يجيب في طبعته القادمة عن كل الحجج التي ذكرها العلماء في هذا الباب.
قال (77):" الدليل الثاني: الإجماعُ الذي نقله مسلم في مقدّمة صحيحه، ... وهذا الإجماع الذي نقله مسلم فيه من القوّة ما لا يثبت أمامها شيءٌ من الشُّبَهِ إلا هتكته، وله من الجلالة ما تتضاءل أمامها كل الأقوال المخالفة!!! كيف وهو مدعوم بأنْ لا دليلَ للمخالفين، وبأدلّة أخرى متواردةٍ على نَصْرِه وتأييده؟!!"
الجواب : بل للمخالفين أدلة وقد اطلع على كثير منها في كتاب خالد الدريس ، ومن أدلتهم على أصل المسألة الإجماع ، الذي يتضمن تأكيد نسبة القول إلى البخاري.
قال(78):" أمّا أسبابُ قوّةِ هذا النقل للإجماع، وملامحُ جلالته، فالآتية:
الأول: إمامة ناقل هذا الإجماع في علم الحديث الإمامةَ المسلَّم بها عند كُلِّ الأُمّة"..الخ
الجواب : لا خلاف في جلالة ناقل الإجماع ولكن جلالته لا تجعلنا نسلم له دعواه دون نظر وتمحيص، إن الخطبة التي ألقى الشيخ هنا تذكرنا بخطب المقلدين للأئمة الذين عندما تناقشهم في مسألة فقهية بالأدلة ينقلونك مباشرة إلى كتب المناقب والفضائل، ويحاول أحدهم أن يلزمك إما أن تتبع الإمام وإما أنك لا تحترمه ولا تسلم له بتلك الفضائل ومنها شهادة العلماء له بالفقه والعلم بالسنة الخ ..
قال (79-80):" الثاني: أنه من الثابت أن مسلمًا عرض صحيحه على حافظين من كبار حفاظ الإسلام، هما أبو زرعة الرازي، ومحمد بن مسلم بن وارة، وعُرض عليهما. فانتقدا عليه أشياء يسيرة، والتزم بآراء أبي زرعة خاصة، واعتذر إلى ابن وارة بما أرضاه. فهل ينضافُ أبو زرعة وابن وارة إلى مسلم: على نقل الإجماع المنخرم بقول المحققين أو الجماهير، بل الجميع. . سواهم؟!! فيكون خفي عليهما من هذا الأصل العظيم ما كان خفي على مسلم من قبل!!! وخفي عليهما أنهما مخالفان لإجماع العلماء أيضًا!!!"
الجواب : لو توقف الشيخ عند قوله:" هل ينضافُ أبو زرعة وابن وارة إلى مسلم؟" لكان تساؤلا جيدا وموضوعا يصلح للبحث ، أما أن يفرض أنهما اطلعا على مقدمته ووافقاه، ويرد عليهما ما ورد على مسلم فهذه هي المصادرة في الدليل.
قال(80):" الثالث: أن مسلمًا انتهى من تصنيف كتابه سنة (250هـ) تقريبًا، كما يميل إليه بعض الباحثين. ويعني ذلك أن مسلمًا عاش بعد انتهائه منه أحدَ عشر عامًا، كان خلالها يروي كتابَه، ويسمعه منه الجَمُّ الغفير، إلى أن سمعه منه تلميذه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان (ت 308هـ)، منتهيًا من قراءته عليه سنة (257هـ). وهو خلال هذه السنوات يقرأ الصحيح بنقل ذلك الإجماع الذي فيه، مجابهًا بذلك أهلَ عصره، دون نكير من أحد، ولا يُنبَّه مسلمٌ إلى خطئه الكبير بمخالفة المحققين والجماهير فيما ادّعى عليه الإجماع؟!!"
الجواب: لا نسلم أن مسلما حدث بكتابه منذ سنة خمسين ولا أنه انتهى منه في هذه السنة، فإن معتمد هؤلاء الباحثين قول أحمد بن سلمة النيسابوري:" كنت مع مسلم بن الحجاج في تأليف هذا الكتاب سنة خمسين ومائتين"فأين الدلالة على انتهائه منه هذا العام؟ وعدم العلم بمن انتقده في حياته ليس علما بالعدم، وهذا الوجه كله لا فائدة منه لأن انتقاد الرأي في حياة قائله وبعدها سواء.
قال (81)" الرابع: قوّة عبارات مسلم في نقل الإجماع، وثقته بذلك كل الثقة، واعتداده به غايةَ الاعتداد. مما لا يُمكن معه أن يكون نقلُه لهذا الإجماع فلتةً من غير رويّة، وزلّةً لم تسبقها أناة."
الجواب : قوة عبارات الإمام مسلم دون قوة عبارات الشيخ حاتم ومع ذلك فلا وزن لكثير مما ذكر في بحثه!! متى كانت قوة العبارات دليلا على صحة دعوى الإجماع ؟ أو دليلا على صحة القول ، نحن نرى قوة عبارات ابن حزم في مسائل الفقه لكن هذه القوة مما تشين بحوثه وهي لا ترهب إلا ضعاف الطلبة والمبتدئين، وكم من عبارة قوية لابن حبان في تجريح الرواة لم يأخذ بها العلماء، بل منهم من ردها بعبارات أقوى منها.
وتخطئة مسلم لا تعني أنه متسرع وغير متأن، وإن العالم قد يجتهد ويبحث وينظر ويعيد النظر ومع ذلك يخطئ كما أخطأ الشيخ حاتم حفظه الله .
قال (82): "الخامس: لقد سَمَّى مسلمٌ كما سبق جمعًا من أهل العلم بأسمائهم ممن رأى أنهم يوافقونه في رأيه، وأبهم بقيّة العلماء، الذين لا يعرف فيهم إلا الموافق، حتى نقل الإجماع على رأيه كما سبق. لكن في هؤلاء العلماء الذين سمّاهم مسلم بعضٌ من العلماء الذين لهم عبارات بنفي العلم بالسماع، وهي أقوال مشهورة عنهم متداولة، لا أشك أن مسلمًا اطلع عليها وعلى أكثر منها، واحتجَّ بها المخالفون لمسلم كابن رجب في الرد على مسلم. فهل خفيت على الإمام مسلم؟! أم علمها، لكن لم تدل عنده على اشتراط العلم باللقاء؟! الجوابُ القريبُ أتركه لكَ."
الجواب : من تعود على مناقشة مقلدة المذاهب يعلم جيدا كيف الجواب عن قوله :" فهل خفيت على الإمام مسلم؟! أم علمها، لكن لم تدل عنده على اشتراط العلم باللقاء؟!" ومما يجاب به أن مسلما كتب المقدمة –كما يراه الشيخ حاتم وغيره - سنة 235 أي لما كان عمره تسعا وعشرين سنة ، أي قبل أن يصبح مسلم الإمام مسلما الذي نعرفه. ومع ذلك قد تعودنا في مسائل الفقه على مسائل يدعي فيها أئمة كبار الإجماع ثم يأتي من بعدهم فيوضح أن المسألة مختلف فيها . ومن الإجماعات المنقولة على مذهب مرجوح في علوم الحديث الإجماع المنقول على رد رواية المبتدع الداعية نقله ابن حبان والحاكم وابن القطان .
ثم كيف يكون ما ذكر من أسباب قوة الإجماع، فلو عكس أحد القضية فقال : هذا من أسباب ضعفه لما أبعد لأن من ترك أكثر ممن سمى.
قال (83):" السادس: أن مسلمًا أفرد مسألة العنعنة بالحديث في مقدّمته غير المُطوَّلة، وأخذت من مقدّمته مساحةً كبيرة، وأطال فيها. ممّا يدل على أنه أولاها عنايته الخاصّة، ومحَّصَ فيها علمه، وأخلص فيها جهده.
فهل يصح تصوّر الخطأ من مثله، والحالة كما وصفنا؟!"
الجواب : أولا هذه من حجج المقلدين ، ثانيا : هل كل من أفرد مسألة ببحث كان ذلك دليلا على صحة قوله، هل يكون الحق مع خالد الدريس في هذه المسألة لأن حجم كتابه أكبر من حجم كتاب الشيخ حاتم.
قال (84):" السابع: أن البخاري شيخُ مسلم الأجلُّ لديه، الأكبر في عينيه. ولم يزل مسلم معظّمًا للبخاري، منابذًا لأعدائه. وهو القائل له لما ورد البخاري نيسابور سنة (250هـ)، أي سنة انتهاء مسلم من تصنيف صحيحه (كما سبق): ((دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدّثين وطبيب الحديث في علله))....فهل بعد هذه المحبّة وذلك التعظيم والتقديم يمكن أن يكون مسلم يقصد البخاريَّ بتلك العبارات البالغة الشدّة، التي سيأتي ذكرها، والتي يصف فيها مخالفَه بالجهل وخمول الذكر وأنه لا وزن له ولا اعتبار؟!! "
الجواب : هذا إشكال وجيه يحتاج إلى شرح وتوجيه، ولا دلالة فيه على قوة الإجماع، وللعلماء عدة توجيهات ننقلها هنا للفائدة:
التوجيه الأول : قول الذهبي في السير (12/573):" ثم إن مسلما لحدة في خلقه انحرف أيضا عن البخاري ولم يذكر له حديثا ، ولا سماه في صحيحه ، بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لمن روى عنه بصيغة عن وادعى الإجماع في أن المعاصرة كافية ، ولا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما ، ووبخ من شرط ذلك ، وإنما يقول ذلك أبو عبد الله البخاري وشيخه علي بن المديني ، وهو الأصوب والأقوى."
التوجيه الثاني : قول المعلمي ، في كتاب العبادة –مخطوط-(لوحه 97) :« وأهل العلم إذا بلغهم خطأ العالم أو الصالح وخافوا أن يغتر الناس بجلالته ربَّمـا وضعوا من فضله وغبروا في وجه شهرته مع محبتهم له ومعرفتهم بمنزلته ، ولكن يظهرون تحقيره لئلا يغتر به الناس، ومن ذلك ما ترى في مقدمة صحيح مسلم من الحط الشديد على البخاري في صدد الرد عليه في اشتراط ثبوت لقاء الراوي لمن فوقه حتى لقد يخيل إلى القاري ما يخيل إليه مع أن منزلة البخاري في صدر مسلم رفيعة ومحبته له وإجلاله أمر معلوم في التاريخ وأسماء الرجال ، وقد يكون من هذا كثير من طعن المحدثين في أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، ولعل مما حملهم على هذا علمهم بأن العامة وأشباه العامة يغترون بفضل القائل في نفسه فإذا قال لهم العلماء أنه أخطأ مع جلالته وفضله قالوا قد خالفتموه وشهدتم له بالجلالة والفضل فقوله عندنا أرجح من قولكم بشهادتكم، وهكذا قال بعض الناس لعمار رضي الله عنه ..... :« فنحن مع الذي شهدت له بالجنة يا عمار » يعنون أم المؤمنين . وبالجملة فمن علم القاعدة الشرعية في تعارض المفاسد لم يعذل العلماء في انتقاصهم من يخافون ضلال الناس بسببه ولو علم محبو المطعون فيه هذا المعنى لما وقعوا فيما وقعوا فيه من ثلب أولئك الأكابر حمية وعصبية والله المستعان ».
التوجيه الثالث: -على مذهب الشيخ حاتم فإن مسلما كتب هذه المقدمة قبل أن يعرف البخاري بخمسة عشرة سنة. ويكون المقصود بالرد هو علي بن المديني وهو ما اختاره أبو غدة في تتمات الموقظة(138).
التوجيه الرابع: قول ابن رشيد(133) :" ولعله لم يعلم أنه قول علي بن المديني والبخاري ، وكأنه إنما تكلم مع بعض أقرانه أو من دونه ممن قال بذلك المذهب والله أعلم ، فإنه لو علمه لكف غربه ، وخفض لهما الجناح ولم يسمهما الكفاح ". ويؤيد هذا الأخير أن بعض الأحاديث التي انتقد المردود عليه كما في مقدمة مسلم قد صححها البخاري .
قال (86-87):" الدليل الثالث:
وَصْفُ مسلم لصاحب ذلك الشرط بأنه جاهلٌ خامل الذكر لا وزن له ولا اعتبار في العلم.
...فالذي أريد أن أستفهم عنه: هل البخاري وعلي بن المديني أو أحدهما جاهلٌ خاملُ الذكر لا وزن له في العلم وأحقر من أن يُردّ عليه؟!!!"
الجواب عن هذا : أولا : لا نسلم أنه وصف المردود عليه بالجهل وأنه خامل الذكر ...أين العبارات التي ورد فيها ذلك ؟ فهل عبارة :" إخمال ذكر قائله" تفيد أنه خامل الذكر ، أظن أنها تدل على عكس ذلك ، وأظن أيضا أن خامل الذكر لا يخشى من اغترار الناس به. وهل عبارة :" اغترار الجهلة بمحدثات الأمور " تفيد أن صاحب القول جاهل، أظن أنها تدل أنه ليس بجاهل بل له نصيب من العلم والبيان بحيث يمكن أن يغتر به طلبة الحديث ، لأني لا أظن أن مسلما خاف على العوام من الاغترار بقول جاهل. ثم إنه لو كان المردود عليه جاهلا خامل الذكر فعلا لما رد عليه الإمام مسلم أصلا. وهل ينزل الإمام مسلم بمستواه إلى هذا الحد .
ثانيا : مع زعمنا بأن الأظهر أنه لم يرد شيخه البخاري نقول: أين وجه الدلالة على المستدل عليه (نفي القول عن البخاري)؟ وعلى القول بأنه قصد البخاري انظر التوجيه العلمي للعلامة المعلمي المنقول آنفا.
ثم تأمل هذه العبارات الواردة في مقدمة كتاب الشيخ حاتم:«وإن كنت أعلم ولم أزل أعلم من ضعف الإنسان وجهله ما يمكن معه أن يحيف الحيف العظيم ، وهو يحسب أنه على الصراط المستقيم » …؟؟ « فإن خالف أحد هذه الأخلاق ، فليعلم أنه مخذول ، فالحق أبلج والدين محفوظ، فلن ينفعه أن يشنع على الحق ، ولا أن يسعى في تخريب علوم الدين »، قد قرأ كتابَه علماءُ أجلاء وباحثون فضلاء كاللاحم والدريس وشاغف الباكستاني وغيرهم، فلم يقتنعوا برأيه ومنهم من رد عليه ، فهل الشيخ حاتم ما زال مصرا على وصفهم بالجهل والزيغ والخذلان وتخريب علوم الدين ؟ وهل تلزمه كل تلك اللوازم التي شغب بها ، فكل ما يعتذر به الشيخ حاتم عن نفسه ينقل هنا في الاعتذار عن الإمام مسلم .
قال (88-89):" الدليل الرابع:
الصمتُ التامّ والسكوت المُطْبِقُ عن الخلاف المزعوم بين البخاري ومسلم في الحديث المعنعن، ويستمرّ هذا الصمت الأصم نحو ثلاثة قرون، إلى أن ينسب القاضي عياض (ت 544هـ) ذلك الشرط إلى البخاري وعلي بن المديني وغيرهما (كما قال)....ثم -بعد ذلك كله- لا تنتطح فيها عنزان، ولا يعرض لها أحدٌ ممن جاء بعد مسلم، لا ممن ألف في دواوين السنة، ولا في العلل، ولا في التواريخ، ولا في علوم الحديث، كالحاكم والخطيب والبيهقي وغيرهم.
.....لقد تعرّضوا مثلاً في كتب المصطلح (مثل كتاب الحاكم والخطيب) لدقائق الأمور ولطائف المسائل (كرواية الأقران والمدبّج والعالي والنازل ورواية الأكابر عن الأصاغر)، فلمَ تركوا هذه الحرب المشتعلة في مقدّمة صحيح مسلم، فلم يشاركوا فيها ولا بحذف حصاة (أي: ولا بحرفٍ واحد)؟!!
ألا يدل ذلك على أنّ الأمر محطّ إجماع فعلاً، وأنّه لا خلاف بين أهل العلم فيه حقًّا، وأن مسلمًا لا معارضَ له فيما قال، وأنه لم يَجُرْ ولم يظلم صاحبَ تلك المقالة في وصفه له بأنه جاهل خامل لا قيمة له ولا لرأيه."
الجواب : تأخر تدوين المسائل النظرية لعلوم الحديث معلوم لدى الشيخ ، فلا عجب أن لا يتعرض للخلاف في هذه المسألة، وهذه الكتب التي يتشبث الشيخ بعدم ذكرها لخلاف البخاري ومسلم فيها ، لم تذكر مسائل كثيرة ذات وزن في علوم الحديث وإذا ذكرها أحدهم لم يذكرها الآخر ومن ذكرها يذكرها مختصرة من غير شرح ولا نقل للخلاف فلم يتعرض الخطيب للإعلال بالتفرد، وتعرض له الحاكم من غير إشارة إلى الخلاف، وهذا الحاكم يتعرض لرواية المبتدع تعرضا سريعا ويدعي فيه إجماعا :" فإن الداعي إلى البدعة لا يكتب عنه ولا كرامة ، لإجماع جماعة من أئمة المسلمين على تركه ".
وفي خصوص مسألتنا فالذي لا شك فيه أنهم تعرضوا لها، وممن تعرض لها الصيرفي المتوفى سنة 330 في شرح الرسالة كما سبق، بل نقل ذلك الشيخ حاتم نفسه، لكنهم لم يتوسعوا فيها وهذا لا يفيد في دعواه شيئا، بل ينقضها لأن الأمر خرج عن كونه صمتا مطبقا، وخاصة أن الخطيب البغدادي قد رجح مذهب البخاري وادعى الإجماع عليه.
ومما نقله الشيخ حاتم (128) انتقاد الإسماعيلي والدارقطني وغيرهم لأسانيد في صحيح البخاري ، ولو لم يكن متقررا عندهم أن البخاري يشترط العلم بالسماع لما ألزموه بذلك، ولو لم يكن عندهم هذا المذهب صحيحا لما انتقدوه .
ومما نقله الشيخ حاتم أيضا تعقب البيهقي للطحاوي (المتوفى سنة 321) (105-106) حيث أعل حديثا على طريقة البخاري أو على طريقة من انتقده مسلم –حسب فهم الشيخ حاتم-.
ونزيده قول ابن عبد البر في التمهيد وهو يتحدث عن حديث توريث الجدة (11/91) :"وهو حديث مرسل عند بعض أهل العلم بالحديث لأنه لم يذكر فيه سماع لقبيصة من أبي بكر ولا شهود لتلك القصة وقال آخرون هو متصل لأن قبيصة بن ذؤيب أدرك أبا بكر الصديق وله سن لا ينكر معها سماعه ".
قال (92)" الدليل الخامس:
أن مسلمًا لما أراد أن يبيّنَ لخصمه أنه مخالفٌ للإجماع، استدلّ (فيما استدلّ) بأسانيد لم يذكر فيها بعضُ رواتها ما يدلّ على سماعهم ممّن رووا عنهم، ولا في شيءٍ من مروياتهم عنهم، مع ذلك لم يتردّد أحدٌ في أن يحكم على تلك الأسانيد بالاتّصال والصحّة، كما يقول مسلم. إلا ذلك الخصمُ المخالِفُ لمسلم، فإنه طعن في تلك الأسانيد بعدم الاتصال، بناءً على شرطه في قبول الحديث المعنعن....
وموطن الشاهد هو أن البخاري أحدُ من صحّح بعض الأسانيد التي ذكرها مسلم."
الجواب : غاية ما يدل عليه هذا الدليل أن المردود عليه ليس هو البخاري ، ولا تلازم بين ذلك وبين كون البخاري على مذهب مسلم كما يزعمه الشيخ حاتم .
وفي ثنايا تقريره لهذا الدليل قال (91):"
فأخرج البخاري حديث عبدالله بن يزيد عن أبي مسعود (رقم 55)."
لأنه قد صح سماعه كما في رقم (4006) من البخاري.
"وأخرج البخاري حديث قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود (رقم 3302) (رقم 90) (رقم 1041) (رقم 702)."
لأنه قد صح سماعه في(رقم 1041) (رقم 702) من البخاري.
"وأخرج البخاري حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس (رقم 5381)."
البخاري أخرج المتن من غير طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس فلا أدري كيف وهم العوني في ذلك .
"وأخرج البخاري حديث نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي (رقم 6019)."
البخاري أخرج المتن من غير طريق نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي فلا أدري كيف وهم العوني في ذلك .
"وأخرج البخاري حديث النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري (رقم 2840، 6553)."
لأنه ثبت تصريحه بالسماع كما في (6553) وفي (6584).
(ص 92) "وأخرج البخاري حديث سليمان بن يسار عن رافع بن خديج (رقم 2346)."
البخاري أخرج المتن من غير طريق سليمان بن يسار عن رافع بن خديج فلا أدري كيف وهم العوني في ذلك .
قال(93) :"الدليل السادس:
أنّ مسلمًا لم ينفرد بنقل الإجماع على قبول عنعنة المتعاصرين مع السلامة من التدليس، بل يوافقه على نقل الإجماع جَمْعٌ من أهل العلم، كلُّهم قبل القاضي عياض!!
فهل هؤلاء العلماء جميعهم (الآتي ذكرهم) غفلوا عن الخلاف في هذه المسألة الكبرى كما غفل مسلم؟!!"
الجواب : قبل النقد المفصل نقول إن منهم من نقل الإجماع على خلاف قول مسلم كما سيأتي ذكره .
قال (93-94):" فأولهم: أبو الوليد الطيالسي (ت 227هـ):قال ابن رجب(2/ 588): ((قال الحاكم: قرأت بخط محمد بن يحيى: سألت أبا الوليد (هشام بن عبدالملك الطيالسي): أكان شعبة يفرّق بين (أخبرني) و(عن)؟ فقال: أدركت العلماء وهم لا يفرّقون بينهما. وحمله البيهقي على من لا يُعرف بالتدليس. (قال ابن رجب:) ((ويمكن حَمْلُه على من ثبت لُقيّهُ أيضًا))."
الجواب: قبل مناقشة تعليقات الشيخ حاتم نناقش القصة فنقول هل فيها حكاية خلاف أم إجماع ، لا شك أن السؤال لم يصدر من فراغ بل مما هو مشهور عن شعبة أنه قال : « كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقل ». وممن روى هذا عن شعبة أبو داود الطياليسي ، ومنه فمقصوده بأدركت العلماء أي سوى شعبة المسؤول عنه. أو الذين لا يفرقون تفريق شعبة.
وبعد هذا نقول : لو قال قائل إن العلماء متفقون على التفريق بينهما لما كان مخطئا في مذهبه ودعواه فلا شك أن الإخبار أرفع بكثير من العنعنة، فلا أحد يزعم أنهما سواء لذلك احتاج في استدلاله إلى ترجيح ما ذكره البيهقي، والاجتهاد في تضعيف ما ذكره ابن رجب . وقول الشيخ حاتم في الترجيح :"حمل البيهقي موطن إجماع، أما حمل ابن رجب فهو محل النزاع" فجوابه في قوله :"وهو مصادرة على المطلوب".
والواجب في ترجيح المعنى المراد البحث عن مذهب شعبة : هل كان يرد عنعنة المدلس؟ أم عنعنة من لم يثبت له لقي عمن روى عنه؟ أم كل عنعنة ؟ الذي أعلمه وهو ظاهر قوله:" كل حديث "، أنه كان يرد كل عنعنة، فيكون المعنى أنهم كانوا يخالفونه في هذا ، ولا يكون في كلام الطيالسي حجة في مسألتنا هذه .
قال (95):" وثاني من نقل الإجماع: أبو عبدالله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ):
قال الحاكم في (معرفة علوم الحديث): ((معرفة الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس: وهي متّصلةٌ بإجماع أئمة أهل النقل، على تورُّع رواتها عن أنواع التدليس))."
الجواب : لا أناقش الشيخ حاتما في أصل نقل الإجماع، ولا في تحقيق مذهب الحاكم فقد أجاد في ذلك وأفاد ، ولقد بقيت دهرا متوقفا في كلام الحاكم لأجل الاختلاف الوارد في نسخ كتابه في نوع المسند كما ذكره ابن رشيد وأثبته محقق كتاب المعرفة، فلما قرأت الأوجه الستة التي ذكر الشيخ، تبين لي أن الحاكم النيسابوري على مذهب مسلم لكن من المهم التذكير في هذا الموضع بمعنى التدليس عند الحاكم الذي يشمل الإرسال الخفي قال الحاكم: " والجنس السادس من التدليس قوم رووا، عن شيوخ لم يروهم قط ، ولم يسمعوا منهم، إنما قالوا : قال فلان : فحمل ذلك عنهم على السماع، وليس عندهم عنهم سماع عال، ولا نازل".
ثم إن احتجاج الشيخ حاتم بكلام الحاكم بما في المستدرك غير مقبول، لما علم قصد الحاكم للتساهل في هذا الكتاب، وهو يخالف كثيرا مذهبه في معرفة علوم الحديث مثلا قال الشيخ حاتم (101):"وقال مصحِّحًا (أي الحاكم) حديثًا لقتادة عن عبد الله بن سَرْجِس: ((ولعل متوهِّمًا يتوهّمُ أن قتادةَ لم يذكر سماعًا من عبد الله بن سَرْجِس، وليس هذا بمستبدع، فقد سمع قتادة من جماعةٍ من الصحابة لم يسمع منهم عاصم بن سليمان الأحول، وقد احتجّ مسلمٌ بحديث عاصم عن عبد الله ابن سَرْجِس، وهو من ساكني البصرة))."
وقد قال في معرفة علوم الحديث في بحث التدليس :"وأن قتادة لم يسمع من صحابي غير أنس "، وقتادة عند الحاكم والشيخ حاتم وغيرهما مدلس لا ينبغي التمثيل به (إلا إذا كان الشيخ حاتم لا يقول بقول مسلم).
قال (102):" وثالثُ من نقل الإجماع: الحافظ المقرىء أبو عَمرو الدَّاني (ت 444هـ):
فقد نقل ابنُ رُشيد عن جزء لأبي عَمرو الداني باسم: (بيان المتّصل والمرسل والموقوف والمنقطع) أنه قال: ((وما كان من الأحاديث المعنعنة التي يقول فيها ناقلوها: عن، عن= فهي متّصلةٌ، بإجماع أهل النقل، إذا عُرف أن الناقلَ أدرك المنقولَ عنه إدراكًا بَيِّنًا، ولم يكن ممن عُرف بالتدليس، وإن لم يذكر سماعًا))."
الجواب : قال الشيخ حاتم (99):" وهو كثير النقل عن الحاكم والاعتماد على كلامه" ، فهو متبع له لا متابع له.
قال (105):" ورابعُ من نقل الإجماع أيضًا أبو بكر البيهقي (ت 458هـ):
فبعد أن ذكر البيهقي في (معرفة السنن والآثار) كلامًا للطحاوي أعل به حديثًا بعدم العلم بالسماع، أجابه البيهقي بقوله: ((والذي يقتضيه مذهب أهل الحفظ والفقه في قبول الأخبار: أنه متى ما كان قيس بن سعد ثقةً والراوي عنه ثقةً، ثم يروي عن شيخ يحتمله سنُّهُ ولُقِيُّهُ، وكان غير معروف بالتدليس كان ذلك مقبولاً. وقيس بن سعد مكي وعَمرو بن دينار مكي.
وقد روى قيس عمّن هو أكبر سنًّا وأقدم موتًا من عَمرو: ابنِ أبي رباح، ومجاهد بن جبر. . . (إلى أن قال:) فمن أين جاء إنكار رواية قيس عن عَمرو. "
الجواب : اتباع البيهقي للحاكم أمر معلوم أيضا وربما كان هذا وجها آخر يرجح به الرسم الصحيح لكلام الحاكم في المعرفة، لكن مع ذلك فلم ينقل عبارة تفيد الإجماع أو الاتفاق، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن البيهقي على مذهب البخاري ومنهم الشيخ خالد الدريس (288-289) لكن الأمثلة المنقولة فيها نظر ، فهي من المرسل الذي دلت القرائن فيه على نفي السماع. إلا أن نقل البيهقي لإعلال البخاري للروايات بعدم العلم بالسماع مقرا له معتمدا عليه جدير بالبحث والنظر .
على أن إعلال الطحاوي للحديث ليس بعدم السماع، بل أنكر الحديث لتفرد قيس بن سعد عن عمرو بن دينار، وقرينة الإنكار عنده أن قيس بن سعد غير معروف بالرواية عن عمرو بن دينار ، فهذا من باب شذوذ الإسناد وقولهم فلان عن فلان لا يجيء . لذلك فإن جواب البيهقي في غير محله . وقول الشيخ حاتم عن الطحاوي أعله بعدم العلم السماع غير صحيح ، وإن كان فيه حجة عليه في زعمه أنه لم ينطق أحد بمذهب البخاري قبل القاضي عياض .
قال (106-107):"وخامس من نقل الإجماع ابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ):
قال ابن عبدالبر: ((اعلم (وفقك الله) أني تأمّلت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيحَ في النقل منهم ومن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطًا ثلاثة، وهي:- عدالة المحدّثين في أحوالهم.
- لقاء بعضهم بعضًا مجالسةً ومشاهدَة.
- وأن يكونوا برآءَ من التدليس."
الجواب : مما يعارض به الإجماع الذي ادعاه مسلم والحاكم هذا الإجماع ، وإذا تعارضا تساقطا فالخلاف ثابت ولا إجماع في مسألة السماع ، قال الشيخ حاتم (108): "فهل بلغ بابن عبد البر أن اعتبر قول مسلم قولاً شاذًّا، لا يؤثر في حصول الإجماع؟!!" وجوابه إن من مذهب ابن عبد البر عدم الاعتداد بالشذوذ أعني خلاف الواحد والاثنين .
ولا أخفي أن كلام ابن عبد البر يحتمل أن يكون مراده المعنعن الذي لا خلاف فيه وهو ما توفرت فيه هذه الشروط وما اختلت فيه أحدها يثبت فيه الخلاف، لكن عبارته الأخرى تنفي ذلك عندما قال :" وقد أعلمتك أن المتأخرين من أئمة الحديث والمشترطين في تصنيفهم الصحيح قد أجمعوا على ما ذكرت لك، وهو قول مالك وعامة أهل العلم" فعلم أنه يحكى مذهبا متفقا عليه وليس يحرر محل الاتفاق والنزاع.
أما تأويل الشيخ حاتم (109) للشرط الثاني "- لقاء بعضهم بعضًا مجالسةً ومشاهدَة."
ففيه سفسطة وتحكم ومصادرة قال ابن عبد البر (1/23-24):" وأما المتصل جملة فمثل مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا أو موقوفا… وما كان مثل هذا وإنما سمي متصلا لأن بعضهم صحت مجالسته ولقاؤه لمن بعده في الإسناد وصح سماعه منه". وما أعجب قوله بعد ذلك :" إن مقصوده به: المعاصرة مع وجودِ دلائلِ اللقاء وعدمِ وجودِ قرائنَ على عدمه، لأن هذا هو شرطُ مسلم كما تقدّم، فلا تكفي المعاصرةُ إلا مع عدم وجود ما يشهد لعدم اللقاء".
وقوله مع وجود دلائل اللقاء يعني أنه على مذهب البخاري ودلائل اللقاء ثبوته في الرواية والتصريح بالسماع ولو مرة واحدة .
أما قول الشيخ حاتم (109-110) :"ويؤكّد هذا المعنى قوله في كلامه السابق: ((ومن الدليل على أن (عن) محمولةٌ عند أهل العلم بالحديث على الاتّصال حتى يتبيّن الانقطاع فيها. . . (وذكر قصة الوليد بن مسلم، ثم قال): فهذا بيان أن (عن) ظاهرها الاتصال، حتى يثبت فيها غير هذا)).
فهذا النصّ بيّنَ ابن عبد البر فيه متى يتوقّف عن قبول (العنعنة)، بأنّه إذا تبيّن الانقطاع وثبت".
جوابه : هذا بعد ثبوت اللقاء مجالسة ومشاهدة هي محمولة على الاتصال إلا أن يكون الراوي مدلسا.
قال الشيخ حاتم : ( 110-111): "وأخيرًا نستمرّ في استجلاب ما يبلغ بنا بَرْدَ اليقين، بالنظر في تطبيقات ابن عبد البر، الدالة على اكتفائه بالمعاصرة، وهي بالغة الكثرة."
الأمثلة كثيرة لكن في دلالتها على زعم الشيخ نظر إذ منها قوله(20/205):"اسم أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي لم يسمع من عائشة وحديثه عنها مرسل". مع أن حديثه عنها في صحيح مسلم (498). ومن الأمثلة ما فيه دلالة على تطلب السماع لإثبات الاتصال،كقوله:(3/263-264) هذا الحديث عندنا على الاتصال لأن أسلم رواه عن عمر وسماع أسلم من مولاه عمر رضي الله عنه صحيح لا ريب فيه وقد رواه محمد بن حرب عن مالك كما ذكرنا". وقوله (3/246-247):" وقد زعم أبو جعفر الطحاوي أن زيد بن أسلم لم يسمع من ابن عمر وهذا غلط وقد بان لك في حديث ابن عيينة هذا سماعه ومما يدل على ذلك أيضا ما ذكره ابن وهب في كتاب المجالس قال أخبرنا ابن زيد عن أبيه أن أباه أسلم أرسله إلى عبد الله بن عمر يكتب له إلى قيمه بخيبر..."
قال الشيخ حاتم "-قال في التمهيد (11/ 219): ((طاوس سماعه من صفوان بن أمية ممكن، لأنه أدرك زمن عثمان))."
تمام كلام ابن عبد البر :"وذكر يحيى القطان عن زهير عن ليث عن طاوس قال أدركت سبعين شيخا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قيل إن طاوس توفي وهو ابن بضع وسبعين سنة في سنة ست ومائة قال فإذا كان سنه هذا فغير ممكن سماعه من صفوان بن أمية لأن صفوان توفي سنة ست وثلاثين وقيل كانت وفاته بمكة عند خروج الناس إلى الجمل ". فهل أثبت ابن عبد البر السماع ؟ لا يظهر لي ذلك. (والفرق واضح بين سماعه ممكن وسماعه صحيح ثابت)
-"وذكر ابن عبدالبر في التمهيد (16/ 328) حديثًا من رواية عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد عن قراءة النبي r في العيدين، ثم قال: ((قد زعم بعض أهل العلم بالحديث أن هذا الحديث منقطع، لأن عبيد الله لم يلق عمر. وقال غيره: هو متصل مسند، ولقاء عبيد الله لأبي واقد الليثي غير مدفوع، وقد سمع عبيدالله من جماعة من الصحابة))."
الجواب : إثباته للاتصال هنا ليس معارضة لمن نفى سماعه من عمر فإن ذلك لا نقاش فيه، بل أثبت الاتصال من جهة لقائه لأبي واقد ، لأن العلماء عنده لم يتكلموا في روايته عنه . وتمام كلام ابن عبد البر :" ولم يذكر أبو داود في باب ما يقرأ به في العيدين إلا هذا الحديث وهذا يدل على أنه عنده متصل صحيح". وقال النووي في شرح مسلم (6/181):" إنه أدرك أبا واقد بلا شك وسمعه بلا خلاف ".
"-وقال (3/ 251): ((قال قوم لم يسمع زيد بن أسلم من جابر بن عبد الله، وقال آخرون سمع منه، وسماعه من جابر غير مدفوع عندي، وقد سمع من ابن عمر، وتوفي ابن عمر قبل جابر بنحو أربعة أعوام))."
الجواب : بعد ثبوت الاختلاف وإثبات السماع ممن أثبته ، لا حجة للشيخ حاتم في هذا لأن كلام ابن عبد البر وارد في ترجيح ثبوت السماع وتأييده لا في إنشائه وادعائه .
"قال (111)وسادسُ من نقل الإجماع أبو محمد ابن حزم (ت 456هـ): قال ابن حزم (في الإحكام في أصول الأحكام)(2/21): ((وإذا علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول، فهو على اللقاء والسماع، لأن شرط العدل القبول، والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه، إلا أن يقوم دليل على ذلك من فعله. وسواء قال (حدثنا) أو (أنبأنا)، أو قال (عن فلان)، أو قال (قال فلان) كل ذلك محمول على السماع منه. ولو علمنا أن أحدًا منهم يستجيز التلبيس بذلك كان ساقط العدالة، في حكم المدلس. وحكم العدل الذي قد ثبتت عدالته فهو على الورع والصدق، لا على الفسقِ والتهمةِ وسوءِ الظن المحرَّم بالنص، حتى يصحَّ خلافُ ذلك. ولا خلاف في هذه الجملة بين أحدٍ من المسلمين، وإنما تناقض من تناقض في تفريع المسائل))."
الجواب : من يأخذ بنقله الإجماع على قبول العنعنة فليأخذ بنقله الإجماع على رد حديث المدلس وعلى إسقاطه عدالته بالتدليس، فإن قيل في كلامه إجمال يحتاج إلى تفصيل قلنا في كلامه إجمال يحتاج على تفصيل .
قال(112):" الدليل السابع:
أنّ أصحاب الكتب المتخصّصة في بيان شروط الأئمة الستة أو الخمسة لم يذكروا شرطَ العلم باللقاء عن البخاري أو غيره. فقد أُلِّفَتْ في شروط الأئمة كتبٌ أقدمُها وأهمّها ثلاثة كتب، نحمد الله تعالى أنها أُلّفت قبل القاضي عياض ودعواه نسبة ذلك الشرط إلى البخاري وابن المديني.
فأول من ألف في شروط الأئمة: أبو عبد الله ابن منده (ت 395هـ). وتلاه محمد بن طاهر المقدسي (ت 507هـ).
وجاء آخرهم أبوبكر محمد بن موسى الحازمي (ت 584هـ)."
الجواب : هذا الدليل السابع على بطلان نسبة القول المشهور إلى البخاري ولا دلالة في ذلك فإنهم لم ينقلوا عنه ضد ذلك أيضا .
أما قول الشيخ حاتم :" نحمد الله تعالى أنها أُلّفت قبل القاضي عياض ودعواه نسبة ذلك الشرط إلى البخاري وابن المديني"، فمن الاستخفاف بأهل العلم والاستهانة بهم، لأنه يقصد أنهم لو كانوا بعد القاضي عياض واطلعوا على كلامه لسحرهم ووقعوا في شراك تقليده كما وقع في ذلك غيرهم ، ننصح الشيخ حاتما أن يتقي الله تعالى ويحذف هذه الجملة من كتابه وخاصة أنه وقع في زلة طريفة وهي غفلته عن أن وفاة القاضي عياض كانت عام 544 مما يعني أن الحازمي جاء بعده جزما إذا علمنا أن الحازمي ولد عام 548أو549 (البداية والنهاية12/332).
قال (113):" الدليل الثامن: نسبةُ محمد بن طاهر المقدسي شرطَ الاكتفاء بالمعاصرة إلى البخاري ومسلم كليهما.
....يقول ابن طاهر في مقدّمة كتابه (الجمع بين رجال الصحيحين): ((إن كُلَّ من أخرجا حديثه في هذين الكتابين -وإن تكلم فيه بعضُ الناس- يكون حديثُه حجةً، لروايتهما عنه في الصحيح. إذ كانا (رحمةُ الله عليهما) لم يُخرجا إلا عن ثقة عدل حافظ، يحتمل سِنُّهُ ومولدُه السماعَ مِمّن تقدّمه، على هذه الوتيرة، إلى أن يصل الإسنادُ إلى الصحابي المشهور))."
الجواب : آثار مذهب الحاكم بادية في هذا التعبير ، وخاصة قوله :"إلى الصحابي المشهور " ، فكما أن من جاء بعد القاضي عياض تبعه في نسبة القول المشهور إلى البخاري ، فكذلك كثير ممن جاء بعد الحاكم اتبعوه في تعريفاته واصطلاحاته .
وعلى كل فهذا النقل مما استفدناه من كتاب الشيخ حاتم .
قال :"(114-115)الدليل التاسع:
نصوصٌ للعلماء تدل على أنهم لا يشترطون في الحديث المعنعن العلمَ باللقاء."
لا دلالة في هذه النصوص على نفي القول باشتراط اللقاء عن البخاري ، وغاية ما تدل عليه، إن صح توجيهها على ما أراده الشيخ حاتم، أن تدل على مخالفة أصحابها لجمهور المتقدمين من النقاد .
"أولاً: الإمام الشافعي (ت 204هـ). فمع أن الحافظ قد نقل كلام الشافعي مستدلاًّ به على أنه يشترط العلم باللقاء، إلا أنّنا سنقف عند كلامه، لنرى هل فيه دلالةٌ على ذلك، أم أنّه على نقيض ما ذكر؟!"
الجواب : سبق ابن حجر إلى هذه النسبة الصيرفي في شرح الرسالة، وابن رجب في جامع العلوم والحكم وفي شرح العلل، والزركشي في النكت (2/41) إذ قال: « واعلم أن المذهب الذي ردَّه مسلم هو مقتضى كلام الشافعي في الرسالة ».
"قال الشافعي في الرسالة على لسان سائل: ((فقال: فما بالك قبلت ممن لم تعرفه بالتدليس أن يقول (عن)، وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه؟ قلت له: المسلمون العدولُ عدولٌ أصحّاءُ الأمر في أنفسهم. . . (إلى أن قال:) وقولُهم (عن) خبرُ أنفسِهم، وتسميتُهم على الصحّة. حتى نستدلّ من فعلهم بما يخالف ذلك، فنحترسَ منهم في الموضع الذي خالف فعلُهم فيه ما يجب عليهم. ولم نعرف بالتدليس ببلدنا، فيمن من مضى ولا من أدركنا من أصحابنا، إلا حديثًا، فإن منهم من قبله عمن لو تركه عليه كان خيرًا له. وكان قولُ الرجل (سمعت فلانًا يقول سمعت فلانًا) وقوله (حدثني فلان عن فلان) سواء عندهم،لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه، ممن عناه بهذه الطريق، قبلنا منه (حدثني فلان عن فلان)))."
الصواب في الفقرة الأخيرة :« لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه ، فمن عرفناه بهذا الطريق قبلنا منه حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلسا ». وهو ما جاء في سائر النسخ وشرح العلل والنكت للزركشي سوى ما حسبه أحمد شاكر نسخة الربيع.
وهذه العبارة ظاهرة في أن العنعنة إنما تقبل إذا كان الرجل معروفا بالرواية عمن لقي ما سمع منه أي إذا تحقق اللقي والسلامة من التدليس.
وللشافعي تطبيقات عملية غير هذا الكلام تؤكد ما ذكره الصيرفي ومن بعده ، فقد قال :« ولا نعلم عبد الرحمن رأى بلالا قط، عبد الرحمن بالكوفة و بلال بالشام ». وقال في موضع آخر:« سليمان بن يسار عن المقداد مرسل ، لا نعلم سمع منه شيئا » وقال أيضا :" هذا ثابت إن كان عبيد الله لقي أبا واقد الليثي "، وقال في موضع رابع :« إنه ليس بثابت إنما يرويه عبد العزيز بن عمر عن ابن موهب عن تميم الداري ، وابن موهب ليس معروفا ، ولا نعلمه لقي تميما الداري» انظر معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/162) (1/204) (7/510).
قال الشيخ حاتم (115): "فالسائل إذن يقول للشافعي: ما بالك قبلت من المتعاصرين العنعنة إذا سلموا من التدليس؟ إذن فالسؤال عن مذهب مسلم عينِه.. حرفًا بحرف، ينسبه السائلُ إلى الشافعي."
الصواب أن يقال: إذن فالسؤال عن محل النزاع بعينه حرفا بحرف ، وما ذكره الشيخ حاتم من نسبة السائل مثل مذهب مسلم إلى الشافعي فأوهام، فالسائل قال: إذا سلموا من التدليس، ولم يقل:" ما بالك قبلت من المتعاصرين "، فهذه العبارة مدرجة إدراجا متعمدا فهي في حكم الموضوع .
قال (116-117):"ثانيًا: الإمام أبوبكر عبد الله بن الزبير الحميدي (ت 219هـ).
أسند الخطيب إليه في (الكفاية) أنه قال بعد بيان شروط قبول الحديث: ((وإن لم يقل كل واحد ممن حدثه سمعت أو حدثنا حتى ينتهي ذلك إلى النبي r، وإن أمكن أن يكون بين المحدِّث والمحدَّثِ عنه واحدٌ فأكثر، لأن ذلك عندي على السماع، لإدراك المحدِّث مَن حَدّث عنه، حتى ينتهي ذلك إلى النبي r. ولازمٌ صحيحٌ يلزمنا قبوله ممن حمله إلينا، إذا كان صادقًا مدركًا لمن روى ذلك عنه)).
وقال الحميدي في موطن آخر: ((قلت : لأن الموصول وإن لم يقل فيه: (سمعت)، حتى ينتهي إلى النبي r، فإن ظاهره كظاهر السامع المُدْرِك، حتى يتبيّنَ فيه غير ذلك)). فهنا يصرّح الحميدي أن الحديث الذي لم يُصرِّح رواته بالسماع، أي الحديث المعنعن، ظاهره يدل على الاتصال، وأن العمل على دلالة هذا الظاهر، حتى يأتي ما ينقض هذا الظاهر.
وبذلك نضيف الحُميديَّ شيخَ البخاري إلى مصافّ من كان على مذهب مسلم!!"
الجواب : معنى كلام الحميدى:" الموصول" المتصل الذي علم اتصاله ، وذلك بالمعاصرة واللقي ، فهو يبين أن العنعنة في السند المتصل على ظاهرها حتى تبين ضد ذلك خلافا للمذهب الذي كان عليه شعبة. ولا علاقة لكلامه بمسألة حكم الإسناد المعنعن التي هي محل البحث، ولا برواية المدلس والله أعلم.
قال (117):"ثالثًا: أبو بكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ):
للخطيب عبارةٌ استدلّ بها من نسب ذلك الشرط إلى البخاري على أن الخطيب موافقٌ للبخاري فيه!!"
وهذه العبارة هي قول الخطيب:" وأهل العلم بالحديث مُجْمِعون على أن قول المحدّث: (حدثنا فلان عن فلان) صحيحٌ معمولٌ به، إذا كان شيخه الذي ذكره يُعرف أنه قد أدرك الذي حدّث عنه ولقيه وسمع منه، ولم يكن هذا المحدِّثُ ممن يُدَلِّس. . .".
وقد اجتهد الشيخ حاتم في صرفها عن ظاهرها بأمور منها: أن الخطيب أورد بعدها كلام الشافعي غير متعقب له ، وهذا دليل على أن كلام الخطيب على ظاهره لا يحتاج إلى تأويل، لأن كلام الشافعي نص في اشتراط اللقي.
ومنها قوله (119) :" هو أن أقول تَنزُّلاً: إن كُلَّ الذي يدلّ عليه كلام الخطيب: أن الحديث المعنعن بين راويين عُرف لقاؤهما وسماعهما وسَلِمَ الراوي من التدليس أنه يكون صحيحًا معمولاً به، وهذا لا شك أنّه موطنُ إجماعٍ كما قال الخطيب، لا يُخالف فيه الإمامُ مسلمٌ ولا غيره ممن هو على رأي مسلم."
الجواب : إذن ثمة محل إجماع ومحل نزاع ، ومحل الإجماع الذي لا يخالف فيه مسلم ولا غيره ممن هو على غير مذهب مسلم هو ما ثبت فيه اللقي والسماع ، ومحل الخلاف هو ما لم يثبت فيه ذلك. ومن أعجب الأمور قول الشيخ حاتم (120) في تعليل هذا الصنيع الذي يهدم مذهبه الذي ألف الكتاب من أجله.
قال الشيخ حاتم :"الأول: أن الخطيب لاحظَ في نَقْلِهِ الإجماعَ مَنْ ردّ عليه مسلمٌ، ذلك الجاهلَ الخاملَ الذكر، الذي انتحل الآثار والحديث، ولا يُعَدُّ من أهل الحديث، ولا تؤثِّرُ مخالفتُه في الإجماع الذي عليه أهل الحديث. ... فأراد الخطيبُ أن يقول لهذا الفقيه المتأخِّر: إن قولك بردّ العنعنة مطلقًا قولٌ لم يَسبِقْكَ إليه أحدٌ (لا عالمٌ ولا جاهلٌ خاملُ الذِّكر)."
الجواب : إن هذا محض تخرص وتخيل لا أدري كيف أورث الشيخ حاتما علم اليقين، ثم إن هذا الفقيه المتأخر قد سبقه إلى قوله أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج والآثار عنه مروية في الكفاية .
وقارن بين هذا الافتراض العجيب وبين قوله في (88):" ثم -بعد ذلك كله- لا تنتطح فيها عنزان، ولا يعرض لها أحدٌ ممن جاء بعد مسلم، لا ممن ألف في دواوين السنة، ولا في العلل، ولا في التواريخ، ولا في علوم الحديث، كالحاكم والخطيب والبيهقي وغيرهم. لا يعرض لها أحدٌ بشيء، ولا يشير إلى الخلاف"!!
الثاني (121)"(وهو عندي الأوجهُ والأقوى): أن الخطيبَ في الحقيقة ينقل الإجماعَ على ما نقل مسلمٌ عليه الإجماع سواء، وأنه لم يَقُم بذهن الخطيب اعتبارُ وُجُودِ خلافٍ في المسألةِ أصلاً. فجاء قولُه بعد ذلك ((إذا كان شيخه الذي ذكره يُعرف أنه قد أدرك الذي حدّث عنه ولقيه وسمع منه)) وصفًا كاشفًا لا قيدًا، وإنما جاء بيانًا لحال الغالب على عنعنات الرواة غير المدلِّسين."
الجواب : ما الذي يدفعنا إلى هذا الزعم الذي يأباه اللفظ والسياق ، فهو يقول إن هذا الحديث مقبول : إذا توفر فيه شرطان أحدهما إيجابي والآخر سلبي : ثبوت اللقي والسماع وانتفاء التدليس ، فإن كان الوصف (بل الشرط ) الأول كاشفا فليكن الثاني مثله.
وتنبه إلى أنه شرط لا مجرد وصف عرضي طردي لا يفيد ، ذكره وحذفه سواء .
ثم نقول إن العنعنة من غير المدلس تكون عن المعاصر كما تكون عن غيره، أليس غالب المراسيل تروى بالعنعنة ، فإذا كان الخطيب قد احترز عن عنعنة المدلس فإن ذلك لا يكفي للقبول ، بل لابد من اشتراط المعاصرة وانتفاء الإرسال (الذي لا إيهام فيه). فأين هذا الشرط ؟؟
ومنه يعلم فساد قول الشيخ حاتم (121):" وبذلك نُضيفُ الخطيب إلى الناقلين الإجماعَ على ما نقل مسلمٌ عليه الإجماع، وإنما أخّرته هنا تلطُّفًا وتنزُّلاً، واكتفاءً ببعض الحجة عن جميعها."
بل هو ناقل لإجماع على قول لم يقل به لا البخاري ولا مسلم على حد زعمك (قبول عنعنة غير المدلس مطلقا)، وإنما تأخر ذكره لأن الذي ساق إليه هو طبيعة المجادلة والمحاورة.
قال:" (119-120) وأمّا أن الخطيب لا يمكن أن يكون كلامه السابق فيه مخالفةٌ لمذهب مسلم، فلأنّ الخطيب نقل الإجماعَ على الرأي الذي ذكره، ولا أحسب أحدًا سيقول: إن الخطيب نقل الإجماع على خلاف ما نقل مسلمٌ عليه الإجماع، إذن أين مذهب مسلمٌ (في أقل تقدير)؟! بل أين مسلمٌ ومَنْ وافقه؟!! بل أين مسلم وكل العلماء معه؟!!!"
الجواب : لقد نقل مسلم الإجماع وخالف جمهور النقاد من المتقدمين، فلم لا نتأول صريح كلامه بقولنا أين مذهب البخاري في أقل تقدير ؟ أين البخاري ومن وافقه ؟؟؟
لقد سهل على الشيخ حاتم أن يخطئ الخطيب في قضايا كثيرة نقلها عن أهل الحديث ، بحكم تأثره بالمتكلمين من الأصوليين، فلم لا يخطئه هنا .
قال الشيخ حاتم (118):" قال الخطيب في (الكفاية): ((وأمّا قول المحدّث: (قال فلان)، فإن كان المعروف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه جُعل ذلك بمنزلة ما يقول فيه غيره (حدّثنا). وإن كان قد يروي سماعًا وغير سماع لم يُحْتَجَّ من رواياته إلا ما بيَّنَ الخبر فيه)).
فظاهرٌ من هذه العبارة أن الخطيب لا يشترط لقبول (قال) إلا انتفاء التدليس، وهذا هو مذهب مسلم."
الجواب : نحن لا نترك كلام الخطيب المحكم المذكور في بابه لأجل كلام متشابه محتمل سيق لبيان حكم مسألة غير المسألة المتنازع فيها ، وإذا صح استدلاله هذا على أن الخطيب على مذهب مسلم فليستدل به على أن ابن رجب أيضا على مذهب مسلم ، فقد قال (2/599-600):" وتارة يقول قال فلان كذا ، فهذا له ثلاثة أحوال : أحدها : أن يكون القائل ممن يعلم عنه عدم التدليس فتكون روايته مقبولة محتجا بها ...والحال الثاني : أن يكون القائل لذلك معروفا بالتدليس فحكم قوله قال فلان حكم قوله عن فلان كما سبق ... الحال الثالث : أن يكون حاله مجهولا ..."
فيصير كلام الشيخ حاتم بهذا الإلزام:" فإذا كان هذا هو حكم (قال) عند ابن رجب، وهي في دلالتها العرفيّة على الاتّصال أضعف (أو قُل: أخفى) من دلالة (عن) عليه، فماذا سيكون حكم ابن رجب في (عن)؟
قال (122) رابعًا: أبو الحسن القابسي (ت 403هـ):
وقد سبق نَقْلُ عبارته، وما تضمّنتْهُ من الاكتفاء بما اكتفى به الإمامُ مسلمُ، باعتراف ابن رُشَيْد على ذلك!"
وهذا نص عبارته قال أبو الحسن القابسي (ت 403هـ) في مقدّمة كتابه (الملخِّص): ((البَيِّنُ الاتصال: ما قال فيه ناقلوه: حدثنا، أو أخبرنا، أو أنبأنا، أو سمعنا منه قراءةً عليه، فهذا اتّصالٌ لا إشكال فيه. وكذلك ما قالوا فيه: عن، عن، فهو متصل، إذا عُرف أن ناقله أدرك المنقول عنه إدراكًا بيّنًا، ولم يكن ممن عُرف بالتدليس)).
ويبقى البحث في معنى الإدراك البين هل يقصد بالإدراك المعاصرة أو اللقاء أو السماع؟ وغاية ما يفيد ظاهر قوله أنه على مذهب مسلم ولا تأثير لذلك على نسبة القول إلى البخاري أو أئمة النقد من المتقدمين.
قال (122-) :"الدليل العاشر: صحيح البخاري نَفْسُه.
....(نعم. . حديثٌ واحدٌ فقط) لم يتحقّق فيه ذلك الشرط، لأنّ هذا الحديث الواحد دلَّنا على أن البخاري مع شدّة احتياطه وتَوَقِّيه لكتابه لم يَرَ في انتفاء ذلك الشرط ما يُخالفُ الصحّةَ والشروطَ التي أقام عليها كتابَه.
وقد قرّر صحّة هذا الدليل الحافظُ ابن حجر (قبل غيره)، وهو المنافح عن صحيح البخاري، والذي لم يكن يُساوره أدنى شك في أن البخاري يشترط العلم باللقاء. فإنه قال مُجيبًا على الإمام مسلم: ((وإنما كان يتمُّ له النّقْضُ والإلزامُ لو رأى في صحيح البخاري حديثًا معنعنًا لم يثبت لُقِيّ راويه لشيخه فيه، فكان ذلك واردًا عليه))."
الجواب : نعم دليل واحد يكفي لإلزام البخاري والرد عليه لا لبيان أن البخاري على مذهب مسلم ، فكلام ابن حجر في واد والشيخ حاتم في آخر ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنه لا يتم النقض على البخاري إلا إذا سلم البخاري عدم توفر الشرط أما إذا كان مثبتا للاتصال وغيره ناف له فهذا لا يلزمه ولا ينقض عليه مذهبه فضلا عن أن يشكك في نسبة هذا القول إليه .
قال (123):"يقول الحافظ: ((ومسألة التعليل بالانقطاع وعدم اللِّحاق: قلَّ أن تقع في البخاري بخصوصه، لأنه معلوم أن مذهبَهُ عدمُ الاكتفاءِ في الإسنادِ المعنعن بمجرّد إمكانِ اللقاء)).
فانتبهْ لقوله: ((قلَّ))!!!"
الجواب : تنبه إلى أن ذلك على رأي ابن حجر أو من انتقد البخاري.
قال (123):" وسنترك الإجمال إلى البيان، بضرب أمثلةٍ تدل على اكتفاء البخاري في صحيحه بالمعاصرة:"
الجواب : هي لا تدل على ذلك ، إذ لو صح الاستدلال بهذه الأمثلة على اكتفائه بالمعاصرة ، لصح أن يستدل بإخراجه لبعض الضعفاء على أنه لا يشترط الضبط ، بإخراجه لحديث المدلسين معنعنا على أنه يقبل روايتهم مطلقا ، وبإخراجه لبعض المراسيل أنه لا يشترط الاتصال أصلا ، ومع ذلك سنناقشها واحدا واحدا .
"المثال الأول: حديثا أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، الأول حديث: ((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)). والثاني: حديث حصار عثمان، وما فيه من قصّة حفر بئر رومة وتجهيز جيش العُسْرة.
أخرجهما البخاري في صحيحه: مع نفي كُلٍّ من شعبةَ وابنِ معين سماعَ أبي عبد الرحمن السُّلمي من عثمان رضي الله عنه، ومع قول أبي حاتم الرازي: ((روى عنه ولم يذكر سماعًا))، ورضي الإمام أحمد عن نفي شعبة لسماعه من عثمان."
الجواب : إن من أبجديات البحث العلمي التي تجلت في العصر الحاضر ، والشيخ حاتم لا تخفى عليه، أنه لا يشرح كلام عالم وتصرفه بقواعد غيره واصطلاح غيره وآراء غيره، نعم كل هؤلاء نفوا السماع لكن البخاري أثبته ، هؤلاء نفوا السماع لأنهم لا يكتفون بقرائن السماع كاللقاء والبخاري يكتفي به ، هؤلاء نفوا السماع لأنهم ضعفوا الرواية التي ورد فيها التصريح به والبخاري صححها كل هذه الاحتمالات واردة وتمنع من شرح تصرف البخاري برأي غيره.
ثم نقل الشيخ حاتم دفاع ابن حجر ثم قال (124):" فهُنا يعترف الحافظ أن البخاري إنما كان اعتمادُهُ في تصحيح حديثين لأبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه على المعاصرة وحدها!!"
الجواب : ثمة دفاع أحسن من ذلك يجعله يحذف هذا المثال من طبعته القادمة، قال البخاري في التاريخ (5/73):"سمع عليا وعثمان وابن مسعود "، ثم إني رأيت في هذه الأثناء رده على اللاحم فعلمت أنه لن يتراجع عن رأيه إلا أن يشاء الله ، محزن حقا ومؤسف أن نقرأ هذا الكلام الذي ذكره في (139) من الانتفاع :"تالله لو أن البخاري نص على ذلك الشرط في كتابه لصح أن يقال إن ذلك الشرط الذي نص عليه ليس شرطا إلزاميا بدليل عدم التزامه له ، ولصح أن يقال إنه شرط كمال لا شرط صحة "، هذا يعني أنها عنزة ولو طارت ، ولعله دفعه إلى ذلك غضبه الشديد في مجادلة الشيخ اللاحم سدده الله ، ولولا حب الإفادة والاستفادة لما أكملت هذا الرد ، ثم وقفت على ما دلني أنه لن يحذف المثال في طبعته القادمة أيضا قال (184-183)من الانتفاع :"فما الذي يمنع البخاري بعد أن حكم على رواية السلمي عن عثمان بالسماع بينهما أن يقول سمع ؟ ولو لم يقف على السماع ، ما دام حكم بالصحة فالاتصال فالسماع بناء على الشروط التي نقل مسلم وغيره الإجماع عليها. إذن فقول البخاري سمع عثمان لا يلزم منه الوقوف على السماع " وإني لا أجد جوابا عن هذا إلا الأسف والأسف الشديد.
قال (125):" المثال الثاني: حديث عروة بن الزبير، عن أمّ سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((إذا أقيمت صلاة الصبح فطُوفي على بعيرك، والناسُ يُصلّون).
ذكره الدارقطني في (التتبُّع)، وقال: ((هذا مرسل))، وبيّن أنه رُوي من طريق عُروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة.. وقال الطحاوي في (بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ): ((عروة لا نعلم له سماعًا من أم سلمة))."
الجواب : أن الدارقطني رحمه الله تعالى أعل الإسناد الموجود في الصحيح بالإرسال ثم بين من وصله ، فالحديث عنده ثابت فيما يظهر، قال الدارقطني :" وهذا مرسل ووصله حفص بن غياث عن هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة ...ووصله مالك عن أبي الأسود عن عروة عن زينب عن أم سلمة في الموطأ "، وهذا السند الأخير لم يفت البخاري فهو في صحيحه ، وقد قدمه على الرواية المنتقدة وبينهما حرف العطف "وحدثني" مما يدل على أن البخاري إنما خرج الرواية المرسلة متابعة لغيرها ، وليس اكتفاء بالمعاصرة ، وهي عنده من الحسن لغيره، وإنما خرجها لاحتياجه للفظ ورد فيها، وهذه عادة البخاري في صحيحه.
وقول الحافظ بأنهما حديثان فهذه طريقة المتأخرين وابن حبان، وقد رضيها الشيخ حاتم لأن انتقاده لا يستقيم من دونها.
ومن الجواب أن يقال: لا يلزم البخاري رأي الطحاوي والدارقطني إذا ثبت عنده السماع ، والذي ينفع المخالف أن يثبت أن في الصحيح روايات لم يثبت فيها اللقي والسماع عند البخاري لا عند غيره .
قال (127) :"المثال الثالث: حديث قيس بن أبي حازم عن بلال بن رباح رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر: ((إن كنتَ إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنتَ إنما اشتريتني لله فدعني وعملَ الله)).
وقد قال علي بن المديني في (العلل): ((روى عن بلال ولم يلقه))."
الجواب : قد نص ابن المديني عن عدم لقيه فأين نص البخاري ، والرواية في البخاري بالأنأنة لا بالعنعنة:" عن قيس أن بلالا قال " فيحتمل أن يكون هذا الخبر عن أبي بكر، وأجاب خالد الدريس بأن الخبر موقوف بمعنى أنه ليس من شرط الصحيح.
قال (127) :"المثال الرابع: حديثا عبدالله بن بريدة عن أبيه، وسبق ذكرهما، وبيان أن البخاري مع عدم وقوفه على تصريح عبدالله بالسماع من أبيه، إلا أنه أخرج له عنه حديثين في صحيحه."
الجواب : هذا سبق الجواب عنه.
قال (128) :"وهناك مجموعةٌ من الأسانيد نُفي سماعُ رواتها من بعضهم وهي في صحيح البخاري، والنفاة للسماع بعض كبار الأئمة: منهم: أبو داود، وأبو حاتم الرازي، والإسماعيلي، والدارقطني، والعقيلي، وابن مردويه، وأبو مسعود الدمشقي، وابن عبدالبر، والخطيب، والحازمي."
الجواب : نفيهم للسماع إنما هو على مذهب من يشترط العلم به، وكثير من المواضع المنتقدة عليه والمشار إليها في الهامش قد ثبت فيها التصريح بالسماع في الصحيح .
" فهؤلاء العلماء، وفيهم بعض أعرف الناس بصحيح البخاري: كالإسماعيلي، والدارقطني، وأبي مسعود الدمشقي لو كان متقرّرًا عندهم أن البخاري يشترط العلم بالسماع، لَمَا تجرّؤا على انتقاد بعض أحاديث صحيحه بعدم السماع، لمجرّد أنّهم لم يقفوا على ما يدل على السماع مع قرائن عدم السماع التي لاحت لهم."
الجواب : لو لم يكن متقرّرًا عندهم أن البخاري يشترط العلم بالسماع، لَمَا صح عندهم انتقاده في آحاد الأحاديث لأنه جوابه حينئذ: اعتراضكم لا يلزمني ، وقول الشيخ حاتم:" مع قرائن لاحت لهم" تبرع منه كعادته ، لأن نفيهم في أكثر الأحيان ليس لوجود القرائن بل لعدم العلم بالسماع .
قال (128):" لأنّهم (أولاً): أعرف الناس بمكانة الإمام البخاري وعظيمِ اطّلاعه على السنة وأسانيدها وأحوال رواتها وأخبارهم."
الجواب : الظاهر أن التقليد فيه تفصيل فقد يكون محمودا في بعض الأحيان!! وقال الشيخ حاتم في معرض مدح ابن عدي وأبي القاسم البغوي (129) فكم لابن عدي من موقفٍ يعلن فيه أنه مقلِّدٌ فيه البخاري وكم لأبي القاسم البغوي من ترجمةٍ اتّبع فيها البخاري، دون أن يقف على الدليل فيما ادّعاه البخاري من صحبةٍ لإحدى التراجم.
قال (129):" ولذلك تجدُهم دائبين على الإجابة عن كل اعتراضٍ بنفي السماع صادرٍ من أحد أولئك المتقدّمين، بنحو قولهم: البخاري مُثْبِت، وهم نافون، والمثبت مقدَّم على النافي، لأنه معه زيادة علم، ومن علم حجة على من لم يعلم."
الجواب : أما هذا فمن التقليد المذموم عنده، والذي أعتقده أن هذا الجواب من المتأخرين صحيح خاصة عندما يكون المخالف للبخاري متوقفا في الاتصال، وذلك نحو الرواة الذين جهلهم بعض النقاد وأخرج لهم البخاري، فإن إخراج البخاري لهم أقوى من توثيق كثير ممن يعتمد قوله في الجرح والتعديل والله أعلم .
قال (130):" الدليل الحادي عشر: احتجاجُ البخاري في صحيحه بالمكاتبة، والمناولة المقترنة بالإجازة، بل واحتجاجُه بالوجادة. وَوَجْهُ الدلالة في ذلك ما يلي:
أوّلاً: أنه على من نسب شَرْطَ العلم باللقاء إلى البخاري، أن يضيف إليه القيود السابقة، فيقول: إن البخاري يشترط العلم باللقاء، أو بالمكاتبة، أو بالإجازة، أو بالوجادة!!...
ثانيًا: قبولُ البخاري للمكاتبة والإجازة والوجادة، وهي طُرُقُ تَحَمُّلٍ للسنّة لا تكون مع السماع والمشافهة يشهد لعدم اشتراط البخاري العلمَ بالسماع، إذ ما هو معنى اشتراط العلم بالسماع، مع قَبول ما لم يتحقّق فيه السماع؟!!"
الجواب : أما المكاتبة والمناولة المقترنة بالإجازة فنسلم نسبتها للبخاري ، وثبوتها هو إثبات للاتصال يجعلنا نستغني عن البحث عن التصريح بالسماع واللقي. وبعبارة أخرى إذا كان الإسناد المعنعن متوقفا فيه فهل ثبوت المكاتبة والمناولة يجعله مرسلا أم متصلا ؟ الجواب واضح، وفي المسائل العلمية لابد من مناقشة المعاني قبل أن نتشبث بالعبارات والألفاظ.
قال (131):" وأمّا الوجادة: فقد قال الدارقطني في (التتبع): ((وأخرجا جميعًا حديثَ موسى بن عقبة، عن أبي النضر مولى عمر بن عُبيدالله، قال: كتب إليه ابن أبي أوفى: أن النبي r قال: لا تَمَنَّوْا لقاء العدوّ. . (الحديث، ثم قال الدارقطني:) وهو صحيحٌ، حُجّةٌ في جواز الإجازة والمكاتبة، لأن أبا النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى، وإنما رآه في كتابه)). والصحيح أن هذه الرواية وجادة، لأنها من رواية سالم أبي النضر عن كتاب ابن أبي أوفى إلى عمر بن عُبيد الله. كما بيّنه الشيخ مقبل الوادعي في تعليقه على (التتبع) للدارقطني، خلافًا لما توصّل إليه الحافظ."
والجواب: مَن مِن أهل العلم زعم أن البخاري يقول بها قبل الشيخ مقبل رحمه الله، وهل يصلح مثال واحد مبني على اجتهاد ونظر لم يخطر ببال البخاري لأن ينسب إليه مذهب لم ينقل عن أحد من نقاد أهل الحديث ، ثم لا أدري ما هو قول الشيخ حاتم فيها؟ لا أدري هل هو يعدها صحيحة على قول مسلم؟ أم يريد أن يفهمنا بأن البخاري يحتج بالمراسيل؟ والدارقطني فهم من هذه الرواية أنها مكاتبة لا وجادة وبينهما بون شاسع في الحقيقة والحكم.
قال (132):" الدليل الثاني عشر: اكتفاء البخاري بالمعاصرة، في نصوص صريحةٍ عنه. وهذا الدليل، مع الإجماع الذي نقله مسلم، كافيان مستغنيان عن بقيّة الأدلّة. . لو أنصف المنصفون!!"
الجواب : المنصفون يقولون: لا يجوز لنا أن نترك مئات النصوص ونتأولها من أجل نصوص مدخولة في دلالتها، والقاعدة عندهم أن المشكل المستبهم يرد إلى الواضح المحكم وليس العكس.
قال (132) :"سأل الترمذيُّ البخاريَّ في (العلل الكبير) عن حديثٍ لعطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي، قائلاً: ((أَترى هذا الحديثَ محفوظًا؟ قال: نعم. قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: ينبغي أن يكون أدركه، عطاء بن يسار قديم))فهنا يكتفي البخاري بالمعاصرة!!!"
الجواب : هذا الحديث هو حديث ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت وقد اختلف فيه فروي مرسلا وأسند عن صحابة آخرين غير أبي واقد ، والترمذي يسأل عن هذه الرواية المسندة عنه فأجابه البخاري هي محفوظة ولا يعني ذلك أنها راجحة فضلا أن يعني أنها صحيحة ، لأن مدار الحديث على عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وهو ضعيف. فلما سأل الترمذي مرة أخرى عن إدراك عطاء لأبي واقد كان الجواب على قدر السؤال، لا يعني ذلك إثبات السماع ولا تصحيح الرواية ، وأنا لا أدري هل يصحح الشيخ حاتم هذا الحديث أم لا ؟
قال (132):" ولا يُعترض على الاستدلال بهذا النقل على اكتفاء البخاري بالمعاصرة: أن عطاء بن يسار قد وجدتُه (أنا) صَرّح بالسماع من أبي واقد لأنّ البخاري لم يحتجّ بذلك، إما لعدم استحضاره لذلك حينها، وإمّا أنه لا يصحّح هذا التصريح."
الجواب: التصريح الذي ظفر به الشيخ حاتم في سنن الدارمي (6) لا يفرح به فإنه من رواية عبد الله بن صالح كاتب الليث وحاله مشهور عند المشتغلين بالحديث.
قال (133):"وقال البخاري في (الأوسط): ((حدثني عبدة، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني، قال: سمعت يوسف بن عبد الله بن الحارث: كنت عند الأحنف بن قيس. .(ثم قال البخاري:) وعبد الله أبو الوليد روى عن عائشة وأبي هريرة، ولا ننكر أن يكون سمع منهما، لأن بين موت عائشة والأحنف قريبٌ من اثنتي عشرة سنة))."
الجواب : أن مذهب البخاري في الإسناد المعنعن بين المتعاصرين هو التوقف حتى يثبت اللقي أو التصريح بالسماع ولو مرة واحدة ، قوله لا ننكر أن يكون سمع منهما عبارة صريحة في التوقف . وقد ترجم البخاري في التاريخ الكبير (5/64) لعبد الله بن الحارث وقال :"عن عائشة وابن عباس " ولم يقل سمع ، وذكر ثمة قصة فيها دخوله على زيد بن ثابت ، ولم يخرج له في الصحيح شيئا عنهما .
قال (134-135) :"الدليل الثالث عشر: اكتفاءُ جمعٍ من الأئمة بالمعاصرة: وأنا إذْ أحتجّ بهذا الدليل، لا أحتجّ به ابتداءً على نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري، ولكني أحتج به للتأكيد على أن الاكتفاء بالمعاصرة إجماعٌ كما نقله مسلم وغيره. ثم إنه إذا كان إجماعًا، صحّ الاستدلال به على نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري!!!"
الجواب : كيف يكون إثبات مذهب عن إمام أو أئمة دليلا على أن غيرهم موافق لهم ، هذا من أعجب الاستدلالات، هذا من جهة ومن جهة أخرى ، إن ما سيأتي ذكره من نصوص منتخبة لا يصلح لبيان مناهج الأئمة وصاحب المنهج المقترح من أعلم الناس بأن من أسباب انحراف المتأخرين عن مناهج المتقدمين سلوك مثل هذا المنهج الانتقائي .
قال (135):"أولاً: علي بن المديني:
.... قال علي بن المديني في (العلل): ((زياد بن عِلاقة لقي سعد بن أبي وقاص عندي، كان كبيرًا، قد لقي عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقي المغيرة بن شعبة وجرير بن عبد الله. . .).مع أن أبا زرعة والإمام أحمد نفيا سماعه من سعد."
الجواب : أثبت علي بن المديني اللقي ولم يثبت مجرد المعاصرة ، ونفي أبي زرعة وأحمد للسماع إن صلح لشيء فإنما يصلح لتأكيد تساهل ابن المديني بالنسبة إليهما إذ هو يكتفي باللقاء وهما يتطلبان السماع.
قال (135):" وقال في (العلل): ((قد لقي عطاء بن يزيد أصحاب النبي r: لقي أبا أيوب وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وتميمًا الداري وأبا شريح الخزاعي، ولا ننكر أن يكون سمع من أبي أَسِيْد))."
الجواب : في هذا دليل على ما سبق أن ذكرنا من أن عبارة "لا ننكر أن يكون سمع" تدل على التوقف ، تأمل كيف أثبت اللقاء لجمع من الصحابة فلما وصل إلى أبي أسيد قال لا ننكر ، وقال هذه العبارة لتوفر المعاصرة وإمكان اللقاء.
قال (15) :"ونقل ابن عساكر في ترجمة صفوان بن مُعَطِّل من (تاريخ دمشق): عن علي بن المديني أنه قال: ((أبو بكر بن عبدالرحمن أحد العشرة الفقهاء، وهو قديم، لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أنكر أن يكون سمع من صفوان بن معطل))."
الجواب : يعلم مما سبق .
قال (136):" ثانيًا: الإمام أحمد:"
وفي خصوص أحمد بن حنبل أقدم نصين أحب أن أسمع تأويلهما على رأي المخالف، قال أحمد: أبان بن عثمان لم يسمع من أبيه من أين سمع منه؟ قال ابن رجب:» ومراده من أين صحت الرواية بسماعه منه، وإلا فإمكان ذلك واحتماله غير مستبعد«. وقال أحمد بن حنبل :ابن سيرين لم يجئ عنه سماع من ابن عباس.
"قال عبد الله بن الإمام أحمد في (العلل): ((قتادة سمع من عبد الله بن سَرْجِس؟ قال: ما أَشْبَهَهُ، قد روى عنه عاصم الأحول)). فهنا يحتج الإمام أحمد بسماع قرينٍ لقتادة من ابن سَرْجس، للدلالة على أن قتادة قد أدركه. ثم يثبت الإمام أحمد سماعه منه، كما يؤيده قوله في (العلل) وسئل: ((سمع قتادة بن عبد الله بن سَرْجِس؟ قال: نعم))"
الجواب : رويت رواية أخرى عن أحمد قال فيها : ما أعلم قتادة سمع من أصحاب النبي e إلا من أنس بن مالك قيل له : فعبد الله بن سرجس فكأنه لم يره سماعا. انظرها في جامع التحصيل (255)، فالذي كان عليه في أول الأمر هو نفيه للسماع ثم إنه بعد ذلك أثبته، فما الذي جد عنده المعاصرة أم ثبوت السماع؟ لا أشك أن الذي جد هو ثبوت السماع، فلما صح عنده السماع أثبته، لكن ربما استغرب ذلك من كان على الرأي الأول وربما شك في الرواية التي ورد فيها التصريح بالسماع، فيحتاج بأن يذكر بأن السماع ممكن . ويجوز أن يقال إن رأي الإمام أحمد مر بثلاث مراحل النفي ثم التوقف ثم الإثبات ولا يمكن أن يقال عكس هذا، والذي يؤثر في هذا التغير هو ثبوت السماع لا شيء آخر.
قال أبو حاتم كما في الجرح والتعديل (7/133):"لم يلق من أصحاب النبي e إلا أنسا وعبد الله بن سرجس ".
وبعد هذا نذكر الشيخ حاتم بأن قتادة مدلس على اصطلاحنا وعلى اصطلاحه فلا يحسن التمثيل به في موضع النزاع ، وليتأمل الشيخ حاتم أن استدلاله بالمدلسين يصير الشرط الذي اشترطه مسلم لاغيا.
قال (136):"* وقال الإمام أحمد وسئل: ((هل سمع عَمرو بن دينار من سليمان اليشكري؟ قال: قُتل سليمان في فتنة ابن الزبير، وعَمرو رجل قديم، قد حدث شعبة عن عَمرو عن سليمان، وأراه قد سمع منه)). "
الجواب : الإمام أحمد أثبت السماع ظنا لا يقينا ولم يعتمد على المعاصرة فقط بل اعتمد رواية شعبة عنه كما هو واضح ومعروف عن شعبة تفتيشه للسماع وتحريه.
قال الشيخ حاتم :"* وفي (مسائل أبي داود للإمام أحمد): ((قيل لأحمد: سمع الحسن من عمران؟ قال: ما أُنكره، ابن سيرين أصغر منه بعشر سنين سمع منه))."
الجواب : المعنى لا أنكره ولا أثبته ، وهذا المعنى هو الذي يلتقي مع رواية صالح بن أحمد عن أبيه قال : قال بعضهم حدثني عمران بن حصين يعني إنكارا عليه أنه لم يسمع من عمران بن حصين.
زد على هذا فالحسن البصري مدلس على اصطلاح مسلم –في زعم الشيخ حاتم– وعليه فإن مذهب مسلم في أمثاله البحث والتفتيش عن السماع، فلا أدرى كيف استقام عنده أن الإمام أحمد يكتفي بالمعاصرة في حق مدلس ؟؟!!
قال الشيخ حاتم "* وفي (الإعلام بسنته عليه السلام) لمغلطاي: ((سئل الإمام أحمد عن أبي ريحانة سمع من سفينة؟ فقال: ينبغي، هو قديم، سمع من ابن عمر))."
الجواب : قال ينبغي ولم يقل سمع كما قاله في سماعه من ابن عمر وهذا يعني توقفه ، وهو يرمي بهذه العبارة بيان الإمكان وعدم استبعاده ، قال ابن رجب في شرح العلل(2/599):" لم يقل إن حديث سفينة صحيح متصل ، وإنما قال : هو قديم ، ينبغي أن يكون سمع منه ، وهذا تقريب لإمكان سماعه ، وليس في كلامه أكثر من هذا ".
قال الشيخ حاتم (137)" ثالثًا: يحيى بن معين:
* سأل الدوريُّ ابنَ معين في (التاريخ): ((ابن شبرمة يروي عن ابن سيرين؟ قال: دخل ابن سيرين الكوفة في وقت لم يكن ابن شبرمة، ولكن لعله سمع منه في الموسم)).يقول ابن معين ذلك، لأن ابن سيرين لم يكن مكثرًا من الرواية عمن عاصره ولم يلقه."
الجواب : أولا : الحديث عن سماع عبد الله بن شبرمة من ابن سيرين وليس العكس كما فهمه الشيخ حاتم، ثم نقول إن سماع ابن شبرمة من ابن سيرين ثابت قد أثبته البخاري في التاريخ (5/117) وأثبته سفيان بن عيينة وقال لقيه بواسط ، لكن لما كان هذا في البصرة وهذا في الكوفة بقي التساؤل أين اجتمعا ؟ فقال ابن معين : لعله سمع منه في الموسم يعني لعله لقيه في الحج في مكة أو المدينة ، ومنه فجواب ابن معين متعلق بتأكيد الرواية التي ورد فيها السماع ، ورد قول من يخطئها بدعوى عدم إمكان اللقاء .
قال الشيخ حاتم : "* وسأله ابن الجنيد: ((حماد بن سلمة دخل الكوفة؟ قال: لا أعلمه دخل الكوفة. قلت: فمن أين لقي هؤلاء؟ قال: قدم عليهم عاصم، وحماد بن أبي سليمان، والحجاجُ بن أرطاة. قلت: فأين لقي سماك بن حرب؟ قال: عسى لقيه في بعض المواضع، ولو كان دخل الكوفة لأجادَ عنهم))."
الجواب : ليس في هذا النص اعتماد المعاصرة، لكن بعد ثبوت اللقاء ورد التساؤل أين تم ذلك ؟
قال الشيخ حاتم (137) رابعًا: أبو حاتم الرازي:"
أقول : ما أسهل الاستقراء في حق أبي حاتم وما أكثر نصوصه في مراسيل ابنه وفي الجرح والتعديل ، ومذهبه في غاية الوضوح والجلاء بحيث أستطيع أن أقسم بالله تعالى أنه لا يكتفي بمجرد المعاصرة.
"* قال أبو حاتم الرازي -كما في (العلل) لابنه-: ((يحتمل أن يكون أبو إدريس قد سمع عوف بن مالك الأشجعي والمغيرة بن شعبة، فإنه من قدماء تابعي الشام، وله إدراك حسن))."
الجواب : نعم يحتمل هذا لإمكان اللقاء مع ثبوت المعاصرة فأين إثبات السماع لمجرد المعاصرة .
قال الشيخ حاتم (137-138) * وقال -كما في (المراسيل) لابنه-: ((كنت أرى أن أبا حمزة السُّكري أدرك بكير بن الأخنس، حتى قيل لي: إن المراوزة يُدخلون بينهما: أيوبَ بنَ عائذ)).فأبو حاتم كان يحكم بالاتصال، حتى علم بقرينةٍ تشهد لعدم السماع، وهي الواسطة. وهذا فِعْلُ من كان مكتفيًا بالمعاصرة، حتى جاءت قرينة تُشكِّكُ في اللقاء."
الجواب : الإدراك لا يدل على السماع بل على المعاصرة التي تقتضي التوقف في الرواية فلما علم القرينة المذكورة ترجح لديه أنه مرسل خفي .
"قال (138) * وقال أبو حاتم: ((يُشبه أن يكون زيد بن أبي أُنيسة قد سمع من عبيد بن فيروز، لأنه من أهل بلده))."
الجواب : هل هذا فيه إثبات للسماع ؟ أنا لا أفهم ذلك. نظرت هنا في إحالة الهامش فوجدته يشير إلى كتاب خالد الدريس فلما رجعت إلى ذلك الموضع وجدته قد أخذ أكثر الأمثلة المذكورة سابقا عنه لكن من غير توجيه وشرح خالد الدريس!!
"قال الشيخ حاتم (138)خامسًا: أبو زرعة الرازي:
* سئل أبو زرعة -كما في (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم-: ((هل سمع المطلب بن عبد الله بن حنطب من عائشة؟ فقال: نرجو أن يكون سمع منها)).فلو كان أبو زرعة يُقوِّي احتمالَ السماع بناءً على نصّ يدل عليه لما أجاب بهذا الجواب، ولقال: نعم قد سمع منها!"
الجواب : نعم لو كان عنده نص لقال سمع منها وإنما قال ذلك لعدمه ولو كان يكتفي بالمعاصرة لما تردد.
"قال الشيخ حاتم (138-139)سادسًا: أبوبكر البزار:
قال البزار: ((روى الحسن عن محمد بن مسلمة، ولا أُبعد سماعَه منه)) فبيّنَ أبو حاتم الرازي سببَ تقريب البزار لسماع الحسن من محمد بن مسلمة، وقد سئل عن سماع الحسن من محمد بن مسلمة فقال: ((قد أدركه)). هذا مع أن إبراهيم الحربي قد نفى سماعه منه."
الجواب : هو تقريب وليس إثباتا له وسببه المعاصرة مع إمكان اللقاء . والحسن البصري على اصطلاح الشيخ حاتم مدلس فلا يصلح التمثيل به .
"قال (139)سابعًا: ابن خزيمة: أخرج ابنُ خزيمة في (التوحيد) حديثًا، مُصَحِّحًا له بذلك، من طريق مسلم بن جندب عن حكيم بن حزام بالعنعنة، ثم قال: ((مسلم بن جندب قد سمع من ابن عمر، وقال: أمرني ابن عمر أن أشتري له بَدَنَة، فلستُ أنكر أن يكون قد سمع من حكيم بن حزام))."
الجواب : في تصحيح ابن خزيمة لكل ما ورد في كتاب التوحيد نظر يراجع لذلك مقدمة عبد العزيز الشهوان (1/65-68)، قوله لست أنكره لا يعني أنه يثبته كما سبق أن بينا . ثم هل يمكن أن يثبت منهج إمام من خلال مثال واحد يتيم؟
"قال (139) ثامنًا: ابن حبان: لقد صَرّح ابنُ رجب بأن ابن حبان على مذهب مسلم، فليس في إيراد الأمثلة التالية إلا التأكيد على صحّة هذه النسبة."
الجواب : أما ابن حبان فمذهبه واضح لا نقاش فيه. ثم رأيت الشيخ إبراهيم اللاحم يقول في الاتصال والانقطاع (161):" وما ذكره ابن رجب يحتمل أن يكون أخذه استقراء من صنيع ابن حبان في صحيحه ، لكن لابن حبان كلام قوي جدا في اشتراط العلم بالسماع كرره في كتابه الثقات، وأحال على الصفحات (1/11) (6/2)(9/209) فليراجعها من شاء .
"تاسعًا: الدارقطني:"
الجواب : قال الدارقطني في العلل (6/204):" ولا يثبت سماع سعيد من أبي الدرداء لأنهما لم يلتقيا" وقال (5/346):" أبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود " وانظر شرح هذه الأمثلة وأخرى معها في كتاب خالد الدريس حفظه الله (286-287)، وقد ورد في بحث الشيخ حاتم أمثلة كثيرة يستفاد منها أنه على طريقة البخاري من اشتراط العلم بالسماع. ومنها حكمه على رواية عروة عن أم سلمة بالإرسال مع أنه أدرك من حياة أم سلمة أكثر من ثلاثين سنة ، وقوله عن عمارة بن غزية :"لا نعلم له سماعا من أنس" (ص48)..
"قال الدارقطني في (العلل)، وسئل عن سماع ابن لهيعة من الأعرج، فقال: ((صحيح، قدم الأعرجُ مصر وابنُ لهيعة كبير))."
الجواب : السؤال هنا عن سماع ورد في الرواية هل هو ثابت أم لا ، فأجاب بأن هذا السماع ثابت ولا يستغرب لأن الأعرج قدم مصر وابن لهيعة كبير . (زيادة على ذلك المسألة مفروضة في غير مدلس وابن لهيعة مدلس )
"* ولمّا نفى ابنُ معين سماع عطاء بن السائب من أنس، تعقبه الدارقطني بقوله: ((هو كبير، أدركه))."
الجواب : تعقَّبه في النفي وبيَّن إمكان اللقي ولم يُثبِت السماع . ولما نفى الدارقطني لقاء زر بن حبيش لأنس تعقبه العلائي في جامع التحصيل (177) بقوله : هذا عجيب فإنه تابعي كبير أدرك الجاهلية " فإذا كان النص الذي نقله حاتم يدل على أن الدارقطني على مذهب مسلم ، فليكن نص العلائي دالا على أنه على مذهب مسلم !!
"قال (144) الدليل الرابع عشر:
وهو مبنيٌّ على ما كنتُ قد أَفَضْتُ في بيانه، واستدلَلْتُ له كُلّ استدلال، في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس)، من أن رواية الراوي عمّن عاصره ولم يلقه تدليسٌ، وفاعل ذلك مُدلِّس. هذا ما كان عليه جميع أهل العلم، متقدّمهم ومتأخرهم، كما ستراه في كتابي المذكور. إلى أن خالفهم في ذلك كله الحافظ ابن حجر، وعامّةُ من جاء بعده!!!"
الجواب : هذا اصطلاح كثير من المتقدمين والمتأخرين لا جميعهم ، سبق ابن حجر إلى اصطلاحه الشافعي ومسلم والبزار وابن البر وابن القطان والعلائي وابن رشيد والزركشي، ويدل عليه تصنيف النسائي المختصر، والذهبي في نظمه وتصرفات بعض المحدثين، مثل قول ابن أبي حاتم في المراسيل (88) قلت لأبي أبو وائل سمع من أبي الدرداء شيئا؟ قال أدركه ولا يحكي سماع شيء، أبو الدرداء كان بالشام وأبو وائل كان بالكوفة قلت كان يدلس؟ قال لا.
"قال (145)- فإنه إذا كانت رواية الراوي عمن عاصره تدل على اللقاء في ظاهرها، وهذا هو الأصل فيها."
الجواب : هذا محل النزاع فكيف يجعل مقدمة في دليل.
"- إذا كان هذا هو قول جميع أهل العلم، بدليل وصفهم -جميعًا- رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بأنها تدليس."
الجواب : دعوى الإجماع وهم وخيال .
"-دلَّ ذلك على أن الأصلَ عند جميع أهل العلم في رواية الراوي عمن عاصره الاتّصال. ممّا يعني أنّهم يحكمون باتّصالها دون أي شرط آخر، إلا إذا لاحت قرينةٌ تحملهم على مخالفة الأصل، أو إذا كان الراوي مُدلّسًا (أي أنّنا علمنا من حالته الخاصّة أن روايته عمن عاصره لا تدل على الاتصال)."
بالتصريح والقرائن يحكمون بالإرسال الخفي الذي يصر حاتم على تسميته تدليسا، لكن جزما هم لا يحكمون له بحكم التدليس، لذلك فإنه لا معنى للإصرار على نفي التفريق بين الصورتين. وأما جواب الدليل فلا فرق بين المقدمة والنتيجة سوى تركيب الإجماع فيها.
"قال (146) الدليل الخامس عشر: بطلانُ المذهبِ المنسوب إلى البخاري، ووضوحُ سقوطه وسقوطِ حُجّته، وسُوءُ أثره على السنة النبويّة.
وَوَجْهُ الدلالةِ في ذلك على عدم صحّةِ نسبةِ ذلك الشرط إلى البخاري وغيره من الأئمة: هو استحالةُ أن يقع أئمةُ السنة، الذين كانوا هم أركانَ علومها وأُسُسَ فنونها، والذين كان علمهم بها كالكهانة عند الجُهّال أمثالنا في ذلك الخطأ الفاحش، الذي ينمُّ عن جهل شديد وبُعْدٍ عن السنة وعلومها...."
تلخيص الدليل أن بطلان القول -عند من أبطله- يدل على بطلان نسبته إلى البخاري ، وجواب هذا أن لا تلازم فكم من قول باطل فاسد قد تبناه علماء أجلاء، ومن نظر في كتب الفقه وقف على عشرات الأمثلة، ثم أين أدلة بطلان هذا القول؟ منذ بداية الكتاب ومؤلفه يناقش نسبة القول إلى البخاري ، ومنه فالقول بأن هذا قول باطل يحتاج إلى إثبات وسيحاول إقناعنا بذلك في المسألة الرابعة.
المسألة الرابعة: بيَانُ صَوَابِ مَذْهَبِ مُسْلِمٍ وقُوّةِ حُجّتِهِ فيه
قال (148) :"أمّا الدليل النقلي: فهو الإجماعُ المتضمّنُ إطباقَ أئمة الحديث على عدم اشتراط الوقوف على نصٍّ صريح على السماع بين كل متعاصِرَين.وهو إجماعٌ وافقه على نقله جَمْعٌ من الأئمة، كما تقدّم."
وخالفه فيه آخرون ونقلوا الإجماع على خلافه ومنهم ابن عبد البر والخطيب . وقال ابن رجب: « فإذا كان هذا هو قول هؤلاء الأئمة الأعلام ، وهم أعلم أهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه ومع موافقة البخاري وغيره، فكيف يصح لمسلم دعوى الإجماع على خلاف قولهم ، بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع الحفاظ المعتد بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يعرف عن أحد من نظرائهم ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم»، وقال أبو حاتم كما في المراسيل (رقم 701- 703):» لم أختلف أنا وأبو زرعة وجماعة من أصحابنا: أن الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئًا. وكيف سمع من أبان، وهو يقول: بلغني عن أبان؟! قيل له: فإن محمد بن يحيى النيسابوري كان يقول: قد سمع، قال: محمد بن يحيى بابه السلامة. .. الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئًا، لا لأنه لم يدركه، قد أدركه، وأدرك من هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع منه، كما لا يثبت لحبيب بن أبي ثابت سماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هو أكبر منه. غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حُجّة«. في هذا نقل للإجماع على عدم الاكتفاء بالمعاصرة ، فإن قيل يحتمل أن يكون إجماعا خاصا بسماع الزهري من أبان ، قيل سماعه مختلف فيه قد خالفهم محمد بن يحيى ولا إجماع مع وجود الاختلاف.
وفيه بيان لسلف مسلم في مذهبه وهو شيخه محمد بن يحيى النيسابوري الذي كان بابه السلامة تماما كمسلم .
قال (148):" وأمّا الدليل التأصيليّ، فينبني على أصلين:
الأصل الأول: أن (عن) في عُرْف المحدّثين دالّةٌ على الاتّصال، ومن نازع في ذلك، فلم يكن للعنعنة عنده دلالةٌ على الاتّصال يلزمه أن لا يقبل العنعنة مطلقًا، سواءً ثبت السماع المطلق بين الراويين أو لم يثبت."
الجواب: الزعم بأن "عن" دالة بمجردها على الاتصال في عرف المحدثين دعوى عرية عن الدليل، ويلزم مدعيها أن يقبل العنعنة –بين المتعاصرين -مطلقا سواء كان اللقاء ممكنا أم لا ، وأن لا ينظر في قرائن نفي السماع فيقبل المرسل الخفي، والشيخ حاتم كثيرا ما يستدل باحتراز العلماء عن التدليس لبيان أن مذهبهم قبول المعنعن .
فإن قال هذا لا يلزمني ، لأن "عن" تدل على الاتصال بالشروط الثلاثة المذكورة، قلنا هذا نقض لأصل الدعوى، ونحن نقول هي تدل على الاتصال بالشروط الأربعة المذكورة .
"وأمّا الأدلّة على أن (عن) تدل على الاتّصال عُرْفًا، فأكثر من أن تُجْمَعَ في مختصرنا هذا، لكني أقول: لو لم تكن (عن) تدل على الاتّصال: لمَ إذن استثنى العلماءُ قِلّةً من الرواة وعددًا يسيرًا من ألوف النَّقلة (وهم من غلب عليهم التدليس) من أن تكون (عن) منهم دالّةً على الاتّصال؟ بل ولمَ عابوا على المدلسين فعلَهم هذا؟ أو ليس سبب ذلك أنهم أوهموا السماع؟ وهل يحصل الإيهام إلا باستخدام ما كان يدل على السماع غالبًا؟!!"
الجواب : قوله : أكثر من أن تجمع " مبالغة وهي لو كانت عنده مجموعة لما بخل علينا بها في المختصر الذي أودع فيه جميع ما سبق ، ولو سلمنا له هذه الحجة وهي أن ما عدا ما استثناه العلماء يكون محمولا على الاتصال، لدخل في الاستثناء من ثبت عنه التدليس بحجة بينة، ومن عرف بالإرسال الخفي، وكذلك من لم يعلم لقاؤه للشيخ المروي عنه.
"ويكفي أن نقول لمن نازع في الدلالة العرفيّة لـ (عن) على الاتصال، نصْرةً للمذهب المنسوب إلى البخاري: على ماذا اعتمدت إذن في حَمْل (عن) على الاتصال بالشرط الذي ادّعيته؟ على الدلالة اللغويّة؟ أم العرفيّة؟....الخ "
الجواب : يلزمه ما يلزمنا لأن مسلما لم يقبل العنعنة مطلقا ، ونحن لا نردها مطلقا .
"قال (149-150): وعليه: فإما أن يعترف الخصم بهذه الدلالة العرفيّة لـ (عن)، وحينها يلزمه أن يقول بقول مسلم، وإمّا أن ينفي دلالة (عن) على الاتصال، وحينها يلزمه عدمُ قبولِ العنعنةِ مطلقًا...."
الجواب : إن مسلما مقر بأن العنعنة لا تدل على الاتصال لأنه لم يناقش خصمه في احتمالها للإرسال ولكن بين له أن احتمال الإرسال وارد حتى في حق من ثبت سماعه ولقيه .
قال (150-151) :"وقد وَقَعَ ابنُ رُشيد في هذا التناقض!!
فانظر إليه وهو يستدلّ لمذهب من ردَّ العنعنة مطلقًا، فيقول: ((وحُجّتُه أن (عن) لا تقتضي اتّصالاً، لا لغةً ولا عُرفًا، (ثم بيَّنَ عدم اقتضائها الاتصال لغةً، وقال عن العُرْف:) وليس فيها دليلٌ على اتّصال الراوي بالمرويّ عنه، وما عُلم أنّهم يأتون بـ (عن) في موضع الإرسال والانقطاع يَخْرُمُ ادّعاءَ العُرْف))" السنن الأبين (44- 45).
"...ثم انظر كيف اختلف موقفه كل الاختلاف، عندما جاء لتقرير صحّة المذهب الذي تبنّاه، والذي كان يعتقد أنه مذهب البخاري وعلي بن المديني حيث قال في تقريره: ((.... إلا أن علماءَ الحديث رَأَوْا أن تَتَبُّعَ طلبِ لفظٍ صريح في الاتّصال يعزُّ وجودُه، وأنه إذا ثبت اللقاء ظُنَّ معه السماع غالبًا، وأن الأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم فمن بعدهم استغنوا كثيرًا بلفظ (عن) في موضع (سمعت) و(حدثنا) وغيرهما من الألفاظ الصريحة في الاتّصال اختصارًا، ولما عُرِفَ من عُرْفِهم الغالب في ذلك، وأنه لا يضعُها في محلّ الانقطاع عَمَّن عُلِمَ سماعُهُ منه لغير ذلك الحديث بقَصْد الإيهام إلا مُدَلِّسٌ يُوهم أنه سمع ما لم يسمع. .)) السنن الأبين (62).
فانظر كيف اضطُّرَّ أن يرجع فيقول: ((ولما عُرِفَ من عُرفهم الغالب في ذلك))!!!"
الجواب : التناقض واقع فقط في ذهن الشيخ حاتم وإلا فكلام ابن رشيد واضح بأن عرفهم الغالب حملها على الاتصال إذا ثبت اللقاء، وأن عرفهم الغالب أنه لا يضعها في محل الانقطاع عمن علم سماعهمنه.
قال (151-153) :"فإن قيل: ألا يخرم هذا العُرْفَ روايةُ الراوي عَمّن عاصره ولم يلقه؟ فالجواب هو الأصل الثاني.
والأصل الثاني هو: أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بالصيغة الموهمة تدليسٌ، وفاعلُ ذلك مكثرًا من فعله مدلِّسٌ.
....فما دامت (رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه): تدليسًا، وما دامَ أن مذهب مسلم قد تضمَّن صراحةً اشتراطَ أن لا يكون الراوي المعنعِنُ مدلِّسًا، فلا يصحُّ إيراد احتمال أن يكون هذا الراوي غير المدلِّس عندما عنعن عمّن عاصره قد روى عنه مع عدم اللقاء، لأن روايته كذلك تدليسٌ، والأصلُ فيه عدمُ فعل ذلك، لكونه ليس مدلِّسًا."
الجواب : المعترض المفترض اعترض على عرف الرواية ولم يسأل عن مذهب مسلم، والذي ظهر لي كما سبق في مناقشة المسألة الأولى أن مسلما استعمل التدليس في المعنى الخاص الذي يخرج منه الرواية عمن عاصره ولم يلقه.
قال (153) :"فمشكلة بعض العلماء الذين نصروا المذهب المنسوب إلى البخاري، كالحافظ ابن حجر ومن تبعه، أنهم أخرجوا رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه من مُسَمَّى التدليس."
الجواب : ليست المشكلة في التفريق بين التدليس والإرسال الخفي من عدمه، لكن المشكلة عندما يكون محل النزاع غير محرر في ذهن الباحث.
قال (153) :"فانظر إلى الحافظ ماذا يقول في (النزهة) عن الإمام مسلم: ((وما ألزمه به ليس بلازم، لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مَرّة، لا يجري في روايته احتمال أن لا يكون سمع منه، لأنه يلزم من جَرَيَانه أن يكون مدلّسًا، والمسألةُ مفروضةٌ في غير المدلِّس)). فنقول للحافظ: إنما لا يلزم إلزامُ مسلم على تفريقك أنت بين الإرسال الخفي والتدليس..."
الجواب: سواء فرقنا أم لم نفرق فجواب الحافظ صحيح ، معنى جواب الحافظ أننا نكتفي بالتصريح مرة واحدة ولا نتهمه بعد ذلك في كل حديث، لأننا إذا اتهمناه صيرناه في حكم المدلس والمسألة مفروضة في غير المدلس ، وهذه الصورة التي ذكر ابن حجر اتفق العلماء مسلم والبخاري وابن حجر على أنها تدليس (إما أنها التدليس كله على رأي أو جزء منه على رأي آخر) فلا أثر للتفريق هنا، لذلك كان جواب ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم (128) بعينه جواب ابن حجر مع أن ابن الصلاح على الاصطلاح الذي اختاره الشيخ حاتم في التدليس وادعى الإجماع عليه.
قال الشيخ حاتم (153-154) :"إذ للإمام مسلم أن يردَّ على الحافظ قولَه بقوله: كما أنه لا يجري في رواية من يثبت له اللقاء احتمالُ أن لا يكون سمع منه، لأنه غير مدلِّس. فكذلك لا يجري في رواية الراوي عمن عاصره احتمالُ أن لا يكون سمع منه، لأنه غير مدلِّس أيضًا، لشُمول اسم التدليس (رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه) و(رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه). فباشتراط انتفاء التدليس، انتفى الاحتمالان كلاهما.="
الجواب : وتمام الكلام =وبطل إلزام مسلم لخصمه بأن يرد كل عنعنة والحمد لله رب العالمين!!
قال (154) :"بل لقد أبلغ مسلم في الحُجّة وأَعْذَرَ في البيان عندما ضربَ لخصمه مثالاً من رواية هشام بن عروة عن أبيه، وهشام بن عروة مشهور السماع من أبيه، بل هو أشهر من روى عن أبيه. فذكر مسلمٌ حديثًا من رواية هشام بن عروة عن أبيه، دلّسه هشامٌ، .....الخ"
الجواب : لا أدري هل رجع الشيخ حاتم إلى مقدمة الصحيح عندما نقل هذه الحجة أم لا ، لأن مسلما أورد هذا الحديث وغيره (وليس مثالا واحدا) ضمن إلزامه للخصم أن يفتش عن السماع في طبقات السند في كل الأحاديث ، كما هو واضح في كلامه (1/30-32) أما قول الشيخ حاتم (155) :"وَوَجْهُ ردّ مسلم على خصمه بهذا المثال: هو أن خَصْم مسلم رأى أن شرط انتفاءِ كون الراوي مدلّسًا شرطٌ لا يكفي للقول بالاتّصال، [لأن راوية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليس]، وقد وَجَدَ خَصْمُ مسلم أن هذا النوع من الرواية قد وقع من جماعةٍ من الرواة، [ولم تُردَّ عنعنةُ بعضهم بالتدليس]، فيبقى في رواية هؤلاء احتمال أن يكون الراوي قد روى عمن عاصره ولم يلقه." فلا أدري من أين استقاه.
لأن الذي في صحيح مسلم أن الخصم اشترط اللقاء لأنه وجد الرواة يروي أحدهم عن الآخر ولم يعاينه ولا سمع منه شيئا قط فاحتاج إلى البحث عن السماع ولو مرة واحدة . فألزمه بقوله :" فإن كانت العلة في تضعيفك الخبر وتركك الاحتجاج به إمكان الإرسال فيه ، لزمك أن لا تثبت إسنادا معنعنا حتى ترى فيه السماع من أوله إلى آخره" ثم ذكر أمثلة منها المثال المشار إليه لبيان وجود احتمال الإرسال في عنعنة الشيخ عمن لقيه وسمع منه. فلا حجة ولا إعذار ولا علاقة لكلام مسلم ولا خصمه بالتدليس. وليس في كلام مسلم رمي هشام بالتدليس كما أوهمه الشيخ حاتم. وإنما رماه به المتأخرون. وكلامه المتعلق بهذه القضية كله خارج الموضوع(لأن الخصم لم يستدل ومسلم لم يجب ) .
المسألة الخامسة: أثر تحرير شرط الحديث المعنعن على السنة النبوية
قال (158) :"فمن آثار تحريرنا السابق في شرط الحديث المعنعن:
أولاً: بيان حكم الحديث المعنعن الذي مَلأَ خزائن السنّة وغطَّى صحائفَ الرواية. فإن من نسب إلى البخاري شرطَ العلمِ باللقاء من أهل العلم المتأخّرين، رجّحوا (في الغالب) مذهب البخاري على مذهب مسلم. وبناءً على ذلك يلزمهم أن يبحثوا في رواية كل متعاصرَين، فإن ثبت السماع مَرّة قُبل حديثه عنه، وإلا رُدّ حديثه."
الجواب : ويلزم من رجح مذهب مسلم أن يرد أقوال أهل العلم في إعلال الروايات بعدم العلم بالسماع ، وأن يكتفي بالمعاصرة ، وأن يصنفوا مهذبا لكتب المراسيل ، فيحذفوا منه الأقوال المبنية على اشتراط العلم بالسماع أو اللقاء ، ولا ينفعه أن يقول لعلهم توقفوا (أو لم يثبتوا السماع) بناء على القرائن ، لأن العلم لا يثبت بـلعل وعسى، ولأن ما ثبتت فيه القرائن جزموا بانقطاعه ولم يترددوا فيه.
"قال : أمّا بعد ردِّنا لتلك النّسبة، وبعد بيان أن كل أهل العلم (قبل القاضي عياض) على مذهب واحد، هو مذهب مسلم. فلن أتوقّف عن قبول حديث المتعاصرين حتى يثبت السماع، بل سأحكم بالاتّصال بالشروط التي وضعها مسلم فأيُّ أثرٍ أعظم من أثرٍ يُحَكَّم في جُلّ السنة وغالب الروايات؟!!"
الجواب بطرح هذا السؤال : ما هو رأي الشيخ في حديث ميمون بن أبي شبيب عن معاذ مرفوعا :" اتق الله حيثما كنت "؟ وكلام أهل النقد في روايته لا يخفى على الشيخ حاتم .
قال (159-160) :"فانظر مثلاً إلى إمامٍ كالعلائي، كيف قاده اعتقادُ صحّة نسبة شرط العلم إلى البخاري، واستحضارُ جلالةِ البخاري وأنه لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء إلى أن لا يقسم بالسويّة، ولا يعدل في المسألة العلميّة!! فإذا جاء حديثٌ في صحيح مسلم نُفي أو شُكِّكَ في سماع راويه ممن روى عنه، قال: ((هذا على قاعدة مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة)). وإذا جاء حديثٌ مثله في صحيح البخاري أجاب: بأن مجرّد إخراج البخاري يُثبت الاتصال، لما عُلِم من شرطه في ذلك."
الجواب : لا ندري ما هو التصرف الصحيح العادل على مذهب الشيخ ؟ هل هو الرد مطلقا أم القبول مطلقا؟
قال (161):"ولن أُطيل في بيان الظلم الذي نال صحيح مسلم، ولن أُفَصِّل وُجُوهَ هذا الظلم، فيكفيك منها الوجه المؤلم التالي ذكره: فبعد أن رجّح ابنُ رجب الشرط المنسوب إلى البخاري، قال: ((فإن قال قائل: هذا يلزمُ منه طَرْحُ أكثر الأحاديث وتركُ الاحتجاج بها؟! قيل: من هاهُنا عَظُمَ ذلك على مسلم (رحمه الله). والصواب: أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يُحكم باتّصاله، ويُحتجُّ به مع إمكان اللُّقِيّ، كما يُحتجّ بمرسل أكابر التابعين، كما نصَّ عليه الإمامُ أحمد، وقد سبق ذكر ذلك في المرسل)). فاللهمّ أسألك عفوَك!! خرجنا بأن صحيح مسلم (ثاني أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى) حكمُه حكم المراسيل!!!"
الجواب : انتبه إلى أن ما ذكره ابن رجب (على مذهبه) لازم لصحيح البخاري أيضا، وأفهم أن ذلك مختص بما لم يرد فيه السماع من الأسانيد، فدع التهويل وأجب الجواب العلمي المعزز بالدليل ! نذكر الشيخ بزعمه أن البخاري يحتج بالوجادة وما يلزم منه ، لينقل هو بنفسه الكلام المذكور أعلاه في رده على نفسه .
نقض جواب الشبهة الأولى :
قال (162) :"الشُّبْهَةُ الأُولى: أن العلماء الذين نسبوا شَرْطَ العلم بالسماع إلى البخاري إنما نسبوه إليه بناءً على استقراء تصرُّفاته في (الصحيح) وخارجه، فكيف تخالفُهم بغير استقراء؟!"
هذا سؤال وجيه لأن ما ثبت بالاستقراء لا يجوز نقضه بأمثلة منتخبة مدخولة. والاستقراء المقبول بأن يستخرج لنا من صحيح البخاري أحاديث كثيرة خرجها في الأصول معتمدا على المعاصرة مع إمكان اللقي، ونعلم اعتماده على المعاصرة بأن ينفي هو ثبوت السماع .
وبأن يتتبع الأحاديث التي نفى البخاري فيها العلم بالسماع ويربطها بالقرائن ، لأنه يزعم أن كل توقف في السماع سببه القرائن . هذا لبيان مذهب البخاري وحده .
ثم يفعل هذا مع أشهر العلماء الذين لهم كلام كثير في الجرح والتعديل كابن معين وأحمد وابن المديني وأبي زرعة ...وذلك لتتم دعوى الإجماع لأن دعوى الإجماع لا تتم ببيان أن البخاري كان على مذهب مسلم .
ثم عليه أن يعلل ويوجه الحجج التي اعتمد العلماء في تخريج أقوال الأئمة كالإمام أحمد وغيره كما حاول في كتابه توجيه عبارة :"لا أعلم له سماعا".
قال (162):" أعود فأقول: ما دليلُك أنهم قاموا باستقراءٍ أَوْصَلَهُم إلى تلك النتيجة؟ اللهمّ إلا إن كان دليلك: أنهم لا يقولون قولاً إلا بناءً على استقراء!!!"
الجواب : حسن الظن بأهل العلم يفرض علينا أن نزعم أنهم لا يقولون قولا إلا بعلم ، والعلم في هذا الباب يثبت بالنص والاستقراء . ومن العلماء الذين لهم استقراء لا نقاش فيه ابن حجر الذي قال في هدي الساري (14):« والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة ، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه ، وأكثر منه حتى إنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئًا معنعنا ، وسترى ذلك واضحًا في أماكنه ـ إن شاء الله تعالى ـ » . عند الشيخ مخالفة مسلم طعن في علمه وورعه ، ومخالفته هو لأهل الحديث على مدى قرون ليست طعنا فيهم .
ونسأل الشيخ كيف خرج ابن رجب مذهب الإمام أحمد أبالاستقراء أم بالظن والتخمين ؟ وممن يعتمد على استقرائه في خصوص البخاري الشيخ خالد الدريس، الذي قال في مقدمة دراسته (ص19):" سأقوم إن شاء الله باستقراء وتتبع لنصوص البخاري التطبيقية المتعلقة بالمسألة ". ولقد أفاد جدا في حشد الأمثلة والنصوص ، حتى أن الشيخ حاتم لا ينكر استفادته منه.
وكم أعجبني تورع الشيخ اللاحم عن الجزم بما ظهر له من مذهب ابن حبان لأنه وجده معارضا بقول الحافظ ابن رجب فقال (161):" وما ذكره ابن رجب يحتمل أن يكون أخذه استقراء من صنيع ابن حبان في صحيحه، لكن لابن حبان كلام قوي جدا في اشتراط العلم بالسماع كرره في كتابه الثقات".
قال (163):" ثانيًا: بيّنّا آنفًا -في هذا البحث- أن (صحيح البخاري) لا ينفع أن يكون دليلاً على اشتراطه العلم بالسماع، فلا حاجةَ لإعادة ما ذكرناه. وبيّنّا أيضًا أن أقوال البخاري خارج صحيحه بنفي العلم بالسماع لا تدلّ -ولا من وجه- على اشتراط العلم به.
فأيُّ استقراءٍ -بعد هذا- قام به العلماء فأوصلهم إلى تلك النتيجة؟!"
الجواب: هذه القاعدة لا يسلم بها عاقل فضلا عن عالم ولا أظن أنها خطرت ببال العلماء المتقدمين ، الشيخ حاتم يرفض الرجوع إلى كلام البخاري لتحقيق مذهبه ، ويرجع إلى كلام غيره لتحقيق مذهبه ، إلى كلام من نقل الإجماع كالحاكم كيف نقل الحاكم الإجماع كيف يستطيع أن يزعم أن البخاري وأحمد وابن المديني وابن معين كانوا يكتفون بالمعاصرة ، إذا كنت تحجر عليه أن يرجع إلى كلامهم .
قال (163):"ثالثًا: صورة الاستقراء التي يظن صاحبُ هذه الشبهة أن العلماء قد قاموا بها، والتي يطالبني بالقيام بها حتّى يصحّ لي الردّ عليهم (في رَأْيِه) هي الصورة التالية:
أن آتي إلى كل إسنادٍ في صحيح البخاري، وإلى كل راويين في كل إسنادٍ فيه، روى أحدهما عن الآخر بالعنعنة، لأبحثَ حينها في جميع روايات ذلك الراوي عمّن روى عنه، لا في صحيح البخاري وحده، ولا في الكتب الستة، ولا الستين. ."
الجواب : أما الاستقراء الذي وصفه فهو الاستقراء التام الذي لا يكاد يقع ولا يشترطه إلا المناطقة و المتأثرون بمنهجهم وابن حزم وأمثاله من الظاهرية الذي لا يقبلون إلا الاستدلال بالقطعيات . أما جماهير العلماء فيحتجون بالاستقراء ويرون إمكانه ولا يشترطون فيه أن يكون تاما ويزعمون أنه ظني قابل للتعديل وللتخطئة ، لكن لا يعدل ولا يخطأ إلا باستقراء مقابل ، وإذا أطلق الاستقراء في لسان علماء الشريعة فهذا هو المعنى المقصود ، ومنه يعلم فساد قول الشيخ حاتم (164):"أمّا الاستقراء الذي يُطالبني به صاحبُ هذه الشبهة، فهو نفس الاستقراء السابق...الخ.
لكني أعود فأختم الردّ على هذه الشبهة بأن أقول: مَنْ قال إنّ الحجّة في الاستقراء وحده، ولا حجّة في غير الاستقراء؟! حتى تُلزمني به!!
الجواب : إذا لم تكن الحجة في الاستقراء فأين الحجة إذن ؟ حتى نلتزمها في البحث ، إن الاستقراء منهج إسلامي في الكشف عن الحقائق معتمد في علم الفقه والأصول واللغة والحديث، فلماذا لا يكون حجة في مسألة الإسناد المعنعن.
"قال (164-165) أين ذهب الإجماع الذي توارد على نقله جمعٌ من أهل العلم؟!
أين ذهبت أقوال البخاري وتصرّفاته الدالة على نقض تلك الدعوى؟!
أين ذهبت أقوال وتصرّفات بقيّة العلماء الدالة على نَقْضِها أيضًا؟!"
الجواب : هذا الكلام يجعلني أقول عن الشيخ حاتم لم يتصور جيدا معنى الاستقراء ، فنقل مذهب إمام واحد لا يكون إلا باستقراء فكيف بنقل الإجماع، وتتبع أقوال البخاري وتصرفاته هو الاستقراء الذي يطالبك به خصمك لا شيء غير هذا.
الخلاصة أن أكثر ما جاء في هذا الكتاب فيه أغلاط ومغالطات، وما كثر فيه الغلط وغلب عليه وجب اطراحه، ولقد اجتهدت حسب ما سنح به الوقت تجلية ذلك وشرحه لئلا يغتر بتهويل الشيخ حاتم وجلبته، وجاهدت نفسي قدر المستطاع وألزمتها أن لا تسلك مسلكه في المناقشة والرد، حتى ننقص من الكلام فيما لا ينفع ونحافظ على سلامة القلوب، نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
كان الفراغ منه مساء الخميس 12 جمادى الآخرة 1428هـ الموافق لـ28جوان 2007م
أبو عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري