الخميس 26 جمادة الأول 1443

خواطر في ليلة الحمى ...ليحيا الموت... مميز

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

خواطر في ليلة الحمى ...ليحيا الموت...
صحافة اليرموك العدد 282 السبت 12 جمادة الآخرة 1414ه الموافق ل27 نوفمبر -تشرين الثاني 1993
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد:
فقد جلست إلى مكتبي لأكتب مقالا عن التقليد الأعمى عند المسلمين، الذي أصاب أمة من أصولها الإيمانية مخالفة غيرها من الأمم، لكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد أحاط بي المرض وزارتني الحمى فملأت رأسي صداعا وجسمي سخونة ورعشة، فأطفأت المصباح الكهربائي وانسحبت إلى فراشي لعلي أجد دفئا تحت اللحاف... اشتد وجعي واقشعر بدني، وفي تلك اللحظة شعرت أن الموت أقرب إلي من كل الأيام الأخرى... إن المرض إنذار للغافلين، ودوام الحال من المحال، وأن الدنيا دار نفاد لا دار إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور... في تلك اللحظات جرت ذاكرتي إلى الوراء بعيدا دون إرادتي لتكشف لي عن وعود أخلفتها مع الله أنستنيها الشهوات و الشبهات وزخرف الحياة، فطافت ذاكرتي على أحداث جسام ومواقف عظام كنت عاهدت الله فيها على الرجوع والإنابة إليه وعقدت العزم على التوبة إليه. وإذا بها تقف على تفاصيل كل موقف جعلني آنذاك أبكي من عجزي وخوفي ورجائي وتقصيري... قمت مسرعا من الفراش أجر أذيال حمتي، لأكتب خواطرا عن مواقف أبكتني طويلا نُقشت عبر السنين في سويداء قلبي ولا أزال أسترجعها كأنها أحداث جرت بالأمس...
فبعد صلاة الجمعة افترشت الأرض في غرفتي أتصفح بعض الوريقات.. فإذا بدوي هائل كغليان القدر أشد من الرعد يصعد من باطن الأرض يريد ظاهرها، وإذا بالبيت يقفز إلى الأعلى والجدران تتمايل تمايل الأغصان في يوم عاصف.. إنه زلزال ضرب مدينتنا.. لم يدم إلا أربع ثوان لكنها كانت كأربع ساعات، قامت أمي من سريرها وهرعت إلى الباب الخارجي وهي تصيح بلغتها البربرية لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله... لكن الزلزال توقف قبل أن تدرك الباب.
نزلنا إلى الشارع... وهناك عاينت بعيني ما فعل الخوف وطول الأمل من أفاعيل، فهذا ألقى بنفسه من شرفة البيت من الطابق العاشر فقضى نحبه وذاك أغمي عليه وثالث كسرت ساقه في زحام السلالم، ونساء تركن الأحجبة والجلابيب وأخريات تركن الأسباغ والفساتين.. وخرجن جميعا يصرخن ويندبن... وسيارات الإسعاف تصم الآذان طيطا... طيطا.. لم يدم الزلزال إلا أربع ثوان لكن خلّف أربعة آلاف قتيل، ألف قتيل لكل ثانية... جاء الليل ولم تنم مدينتنا كعادتها وَنام الناس في الحدائق وبعضهم على شاطىء المتوسط.. حاولت أن أشجع نفسي بقولي لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، صعدت بعد منتصف الليل إلى شقتي في الدور الخامس واستلقيت على فراشي... بت أرتعش فوق الفراش وباتت الأرض ترتجف أسفله.. وعيناي ترمقان المصباح المعلق يتراقص يمينا وشمالا ويجوب أطراف السقف.. لم تهدأ الأرض طوال الليل، كنت أنتظر سقوط أطنان الإسمنت والحديد والأثاث على صدري.. كانت تلك الليلة من ليالي الموت والبكاء، بكيت كما لم أبك في حياتي.. آه.. آه.. آه.. رفعت يدي إلى السماء والدموع تجري على وجنتي.. ربنا ظلمنا أنفسنا فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.. ربنا ارحمنا فإنك بنا راحم... ربنا لا تعذبنا فإنك علينا قادر.. ربنا إن تخليت عنا فمن لنا غيرك.. ومع كل كلمة كان قلبي يغوص.. يغوص وجسمي يتضاءل، كم أنا صغير أمام قدرة الله، كم أنا حقير بجانب جلالة الله، كم أنا لئيم بباب كرم الله... في تلك اللحظات سقطت تحت قدماي كل الشهوات... النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وو..
تلاشت كل أحلامي وأمنياتي، نسيت الماضي والمستقبل ولم أعد أفكر إلا بالنجاة وعفو الله...
ذابت مخططاتي، بعت بيتي وسيارتي قبل أن أشتريهما، تخليت عن شهاداتي قبل الحصول عليها، طلقت زوجة قبل أن أتزوجها...
تهاوت الشعارات الزائفة، البيت الأبيض والبيت الأحمر.. كلها تحت نعالي، وهكذا لا يفيق الغافلون إلا على زفزفات الموت.. كم كنت أنانيا تلك الليلة ففي الرخاء خرقت كل الأضواء الخضراء والحمراء، وفي الشدة انقلبت عابدا زاهدا متضرعا إلى الرحمان الرحيم... كنت أحب وأعشق هدوء الليل وتلألؤ البدر ونجوم السماء، لكن عفت تلك الليلة الطويلة.. وانتظرت نور الصباح بفارغ الصبر...
يا أيها المعدود أنفاسه
لا بد يوما أن يتم العدد
لا بد من يوم بلا ليله
وليلة تأتي بلا يوم غد
رُفع آذان الفجر.. عج المسجد على غير عادته بالمصلين ودوى صوت الإمام الحزين بآيات هزت القلوب وفجرت قنبلة من البكاء... { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْم َتَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }...
{ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ۝ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ۝ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا۝}... وأنين الباكين كأنه خيل يتسابق إلى السماء... رفع الإمام يديه قانتا "ربنا لا تعذبنا بالزلزال فإنا مؤمنون... يا مغيث المستغيثين.. يامجيب دعوة المضطرين.. اللهم وقفنا ببابك فلا تردنا خائبين ... آمين... آمين".
ليلة زارتني الحمى لم تتوقف خواطري عن تأنيبي بإخلاف وعودي مع الله، فيا ليتها تعود كلما نسي الإنسان أن له ربا يعبد.
زارت مكفرة الذنوب لصبها
أهلا بها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها
ماذا تريد؟ فقلت أن لا تقلعي
فما أروع الحمى التي ذكرتني بالموت الذي أوقفني عند حدي ليقرر في أعماقي أن بدايتي نطفة ونهايتي جيفة... رحمكم الله يا ضحايا الزلزال، ورحمنا الله نحن ضحايا النفس والدنيا والشيطان.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

تم قراءة المقال 229 مرة