قيم الموضوع
(0 أصوات)

متى تسكت!؟
  د: يزيد حمزاوي - رحمه الله وغفر له -
   ينبري كثير من صغار طلبة العلم وبعض الأساتذة بل عوام المسلمين للكتابة والكلام في زمن الفتن والهرج والمرج، كأنه مجبر على أن يكون له رأي في موضوع الفتنة أو أطرافها أو القضايا العظمى المحيرة لعقول أولي الألباب من الفطاحلة والجهابذة، وإذا ما سألت هذا الذي يُقحم نفسه في معمعة الفتنة المتلاطمة الأمواج: بأي حق شرعي تتدخل وتكتب وتحلل وتسخر وتهزأ بأطراف متخاصمة ومختلفة، وتعد نفسك مُنَظرا ومفكرا إسلاميا ببعض قصاصات الجرائد التي قرأتها، أو صفحات الانترنت التي تابعتها، أو بنزر من الفيديوهات التي شاهدتها، ثم تهدر النصوص الشرعية بالمفاهيم العقلية والمصطلحات الأكاديمية الفخمة؟... فلن يجيبك إجابة ترضي ربه.
وإذا استفسرت منه: هل أنت عالم مشهود لك بالدراية، أو شيخ علم مبرز مُتقن؟
يجيبك: لا!
إذا، كيف ستقابل ربك لما يسألك عن كل حرف أو كلمة تلفّظ بها لسانُك أو خطّتها يدُك!؟
ألهذا الحد هان الدين وهانت الفتن!؟
ألهذه الدرجة نُقحم أنفسنا في كلام، سواء كان حقا أم باطلا، جليلا أم حقيرا، خيرا أم شرا بلا رادع ولا زِمام!؟
ألهذه الغاية يتمندل بنا الشيطان ونحن غافلون!؟
وننسى أن غير أهل العلم لا يحق لهم الخوض في دين الله، والتورط في ما لم يكلفهم به ربُّ العالمين، ونحن العوام، أمرنا أن نسأل أهل الذكر في الدين، وليس الرويبضات الذين ينبتون كالفطر والبقدونس هنا وهناك وفي كل مكان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"سيأتِي على الناسِ سنواتٌ خدّاعاتٌ؛ يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِنُ، ويخَوَّنُ فيها الأمينُ، وينطِقُ فيها الرُّويْبِضَةُ . قِيلَ : وما الرُّويْبِضةُ ؟ قال : الرجُلُ التّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامةِ".
   وأكثر هذا النوع يفتون بالهوى والظن والتخمين والرجم بالغيب، وكلامهم لا ينفع ولا يفيد، بل يشوش الناس، ويبلبل عليهم شرع ربهم، وأغلبهم يتدخل في المسائل المستعصية على كبار العلماء، الذين سكتوا خوفا من الله، بينما هو كالبطل من ورق يتقحم الهيجاء تقحما، بلا علم ولا معرفة ولا دراسة ولا بحث، ولأنه أشبه بالذباب فهو يتخير القضايا التي اشتد فيها الخلاف ليزيدها خلافا، والتي كثر فيها الخصام ليؤجج نارها وسعارها، ويتقصد تهويل سقطات الغافلين، وكشف وفضح العيوب المستورة، والخوض في الأعراض، والاتهام في النوايا، وضرب هذا بذاك، وإذا ظفَر بزلة أولياء الله وخاصته، فكأنما وقع على كنز من ذهب، فيطير بها في النوادي والمحافل والأزقة والمجالس كمذياع أو وكالة أخبار...
وهو مسكين فارغ من نور الكتاب والسنة وحكمة الأولين والآخرين، كثيرا ما تجده يقول: "المسألة لم أدرسها لكن عندي فيها رأي"، وإذا سُئل عن حكم كذا يرد: "الله أعلم، ولكن يمكن أن تكون الإجابة أنه حرام"، وإذا استفهم عن أمر يقول: "لا أدري، لكن أظن أنه يجوز ومباح"، وإذا استُفسر عن موقفه في موضوع أجاب: "ليس عندي معلومات محددة ودقيقة، لكن المعطيات الأولية تدل على أنه بدعة"، وهكذا في سلسلة من التخرُّصَات والشكوك والأوهام، والعنتريات..
وليته يفتي ويُنَظِر وينسحب من المعمعة، لكنه يستمر في غيه، فيَخَطِئُ علماء السنة، ويُسفه فقهاء السلف، ويَسخر من أهل الذكر، ويتطاول على الأفاضل، وما انتبه أن الله به محيط، وبما يقوله وينشره خبير، فالله يغار على دينه وأوليائه، قال تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا" الإسراء، وفي آية أخرى "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" سورة قاف.
   بعضهم، لمجرد أن صلّى أو أطال لحية أو قصَّر ثوبا أو ارتدى عمامة أو حاز شهادة جامعية أو حضَرَ ندوة أو شارك في ملتقى، يشعر أنه امتلك حق الكلام في دين الله والدفاع عنه حمية، لكنه يتكلم ليتفكه ولتمضية الوقت وقتله، لا يصبر على الثرثرة في أمور الدين وشؤون العامة، لسانُه منفلت من عقاله، يشحذه في كل مناسبة وغير مناسبة ليمزق به عباد الله، عوّدَ جهازه الصوتي على اللمز والغمز والغيبة والنميمة والوقيعة والبهتان...، هذا النوع من الناس عندما يسكت فكأنما يتعذب من الداخل، يحترق من جوفه، يعاني صراعا مريرا ويكاد ينفجر.. كيف أسكت؟ كيف أبقى صامتا؟ يجب أن أتكلم، أن أقول شيئا، كيف لمثلي أن يخرس؟ كيف لي ألا أقدم رأيي ولا أعرض موقفي؟ يجب أن يعلم الناس ويعرفوا جميعا أنني أدري وأعلم وأعرف.
بدون كلام سأكون صفرا على الهامش، المثل يقول (تكلم حتى أراك) لذا يجب أن أتحدث حتى يروني ويَشعروا بوجودي، فأنا بلا حركة لساني كالمشلول، يجب أن أثبت أنني لست عدما، وشعاري المتبع في ذلك: أنا أتكلم إذا أنا موجود!!
   وأفضل ما تواجه به هذا الصنف أن تخبره بالحقيقة: أنت ليس عندك شيئ تقوله، لأنك تعترف للناس بأنك لست عالما، فلما كان شيوخ العلم يواصلون الليل بالنهار لتلقي ميراث النبوة، كنت أنت على مدرجات ملاعب الكرة تصيح كالمجنون، أو قابعا أمام التلفاز تتابع المسلسلات والأفلام الهابطة شغوفا بفنانيك ونجومك الصاعدة إلى أسفل!... أو متكئا على الجدار المقابل لثانوية البنات تملأ عينيك بالغاديات والرائحات و"تبسبس" لبعضهن كما يُبَسْبَسُ للقطط تلطفا...، إنها صورة كاريكاتيرية لكنها صادقة في كثير ممن ورِث الجهل بعدها وعشعش في رأسه إلى أن أدركه الهرم وسن اليأس الدماغي.
ومع ذلك مازال يجادل ويقول: "كلامك صحيح، أنا لست عالما، لكن الخصومة التي بين أيدينا اليوم ظاهرة والقضية واضحة ولا لبس فيها، فيجب أن أدلي بدلوي".
عن أي دلو تتكلم!؟
اشتغل بالتعلم وقراءة القرآن وذكر الله والصلاة والصوم والصدقة وخدمة الأيتام والمحتاجين وتوزيع المصاحف وتنظيف المساجد... هو أطهر لقلبك وأفيد لدينك ولأمتك...لا تتدخل فيما لا يعنيك..واحذر أن تقول عن مسألة من مسائل الدين أنها هينة أو فتنة من الفتن العامة أنها سهلة، فقديما اجتهد الصحابة في بعضها فاقتتلوا ـ رحمهم الله جميعا ورضي عنهم ـ وتلك فتن عصم الله منها سيوفنا فنسأل الله أن يعصم منها ألسنتنا.
   وخذها من مجرب، كل من ينشغل بالرد والكلام في الآخرين لن يهتم بعيوب نفسه ويغفل عن ذنوبه وتقصيره في حق ربه، وحتى الانشغال المفرط والدءوب بالرد على المبطلين وصنوف المنحرفين، قد يكون مدخلا للشيطان وسبيلا للتلبيس عليك، فينسيك وقاية نفسك والاعتناء بذاتك مراقبة ومراجعة وإعدادا وإصلاحا... لقد انشغلت شخصيا في "الإعلام الإسلامي" لسنوات بالرد على النصارى وبعض المذاهب الهدامة الأخرى... فوجدت نفسي غارقا في الذنوب دون أن أشعر. وصدَق أحمد ابن حنبل شيخ الدنيا فكان يقول: "نحن قوم مساكين لولا ستر الله علينا لافتُضحنا"... ومن أنا إزاء مثله!؟
  لقد سُئل الإمام مالك في مسألة فسكت، فقال له السائل إنها مسألة سهلة، فغضب وقال ليس في الدين مسألة سهلة، وهو مالك إمام دار الهجرة، وكان الصحابة يتدافعون الفتوى، ويتمنى كل واحد منهم أن غيره كفاه، لأن الكلام في الدين توقيع عن رب العالمين...فمن تكون أنت لتوقع عن الله بجهلك وطيشك وغرورك، بدل العلماء الأجلاء الذين سكتوا وأمسكوا...ولا تحسبَنَّ نفْسَكَ أحَرَصَ على الدين منهم، واعلم أن سكوتك خدمة جليلة تسديها للأمة، وهدية ثمينة تقدمها للدين..، فرَحِمكَ اللهُ وهَدَاكَ اُسْكُتْ..نعم اُسْكُتْ..اُسْكُتْ.
توقيع: د يزيد حمزاوي

تم قراءة المقال 49 مرة