مختارات

ما هو الواجب تجاه أهل البدع الهجر أم المناقشة؟

من المسائل المنهجية المهمة والجديرة بالدراسة والتوضيح في زماننا؛ مسألة الموقف المطلوب من المسلم السني تجاه اقرأ المزيد

مقدمة كتاب شبهات الغلاة في التكفير حول العدر بالجهل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اقرأ المزيد

من أسباب انتشار التنصير : جهود المنفرين

   هذه المقالة جزء من محاضرة بعنوان أسباب انتشار التنصير، نعيد نشرها في قسم المقالات نظرا اقرأ المزيد

تعقبات على تحقيق كتاب المغني لابن قدامة (الحلقة الثانية)

   الحمد لله والصلاة على رسول الله أما بعد: فهذه الحلقة الثانية من التعليقات على تحقيق اقرأ المزيد
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
  • 6
  • 7

الجمعة, 22 تموز/يوليو 2022 14:13
مدخل في بيان معنى الإيمان
الإيمان في اللغة هو التصديق والاقرار، وأما في الشرع فله إطلاقان: أحدهما إطلاق خاص، والثاني إطلاق عام.
1-الإطلاق الخاص: وهو أصل الإيمان المتمثل في اعتقاد القلب، ولا تدخل فيه أعمال الجوارح، وهو المقصود في الآيات التي يعطف فيها على الأعمال، كقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين:6)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره»، فجعل مسمى الإيمان محصورا في أمور قلبية؛ وذلك لما قابله بالإسلام والذي حصره أيضا في العمل الظاهر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (7/186) :« فإنّ الإيمان أصله الإيمانُ الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق القلب وإقراره ومعرفته، ولابد فيه من عمل القلب مثل حبّ الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكّل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب؛ التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من أعمال الإيمان ».
2-الإطلاق العام: وهو الإيمان الكامل الذي يشمُل اعتقاد القلب وقول اللسان وأعمال الجوارح، ومنه قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:2-4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ بضعٌ وسبعون شعبةً، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان » متفق عليه، وهذا الإيمان هو الدين الواجب علينا الالتزام به، والذي يَدخلُ الجنةَ من حقّقه ويسلم من النار، أما الأول -أي الإيمان الخاص- فهو لا ينفي حصول الوعيد، إلا أنه يعصم من الخلود في النار.
ويقال في تعريف الإيمان العام، هو اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، أو هو قول وعمل أي قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح.
حكم من انقص شيئا من الإيمان
من أنقص شيئا من الإيمان الكامل لا يكفرُ ما دام الأصل موجودا، وإنّما يُعتبر ذلك نقصانا من إيمانه، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ  (الفتح:4)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:« وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» متفق عليه، أي وهو كامل الإيمان، وقال صلى الله عليه وسلم:« لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» (رواه ابن حبان)، أي لا إيمان كامل له.
ومن الأدلة على أن المقصود نقصان إيمانه لا كفره قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات:9)، فسماهم مؤمنين مع اقتتالهم لعدم فقدانهم أصل الإيمان بعصيانهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة:« ثم يقول أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيخرجون وقد اسودوا» (متفق عليه)، وهذا في حق العصاة بلا شك؛ وليسوا كفارا لأن الكافر يخلد في جهنم، قال الله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة 72).
أما من نقضَ أصل الإيمان الذي في القلب فيكفرُ، ويُعلم كفر العبد بالنظر إلى أقواله وأعماله، ومن ذلك: التكذيب العام للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لبعض ما جاء به، أو الشك في صدقه، وإهانة المصحف، والسجود والركوع للأصنام، ودعاء الجن والأموات، والاستهزاء بالله أو برسوله أو دينه، وقد قال تعالى : (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة:65-66)، فهذه الأعمال والأقوال تدلّ على خلو القلب من الإيمان أو على إشراكه بالله تعالى.
الخميس, 21 تموز/يوليو 2022 20:21
مقدمات لدراسـة العقيـدة
 
أولا-مـا هـو علم العقيـدة؟
علم العقيدة هو العلم الذي تُدرس فيه أركان الإيمان وأصوله؛ التي يجب على كلّ مسلم أن يؤمن بها، ويعقد عليها بقلبه عقدا جازما. وأركان الإيمان قد ذكرها النبي  في حديث جبريل حيث قال:« الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره». وإن كان الإيمان يطلق في الشرع أيضا على ما هو أوسع من مجرّد الاعتقاد كما سيأتي.
ثانيا : لمـاذا نـدرس العقيـدة؟
1-لأنّ موضوع هذا العلم هو الفارق بين الإسلام والكفر، والمولى عز وجل يقول: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران 85).
2-ولأنّ موضوع هذا العلم يُبيّن للمسلم حقوق رب العالمين، وقد جاء في الحديث: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟… حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» متفق عليه ( ).
3-ولأنّ موضوع هذا العلم يوضّح لنا ما هو الشرك، وما هي مظاهره وذرائعه لنجتنبها. وربنا سبحانه يقول : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء:48).
4-ولأنّ من صحّ اعتقاده في الله تعالى؛ سلمتْ أعمالُه من الشرك والبدعة والمعصية، إذ الشرك سببه سوء الظن بالله كما قال تعالى: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (فصلت:23)، ومن هذا الظن الفاسد ظنُّ غفلته عن الأعمال، وعدم قدرته على البعث، وعجزه عن الإجابة، أو عدم سماعه الدعاء، أو أنه لا يستجيب إلا بواسطة.
وكذلك البدعةُ سببها سوء الظن بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الله تعالى أكمل الدين وأتمّ النعمة والرسول أدّى الأمانة وبلّغ الرسالة، والمبتدع يزعم أنه يأتي بأشياء فيها خير وزيادة عمّا جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا اتهام للدين بالنقص أو للرسول بالخيانة.
والمعاصي سببها ضعف العقيدة أيضا، إذ الناسُ متفاوتون في الطاعة والعصيان؛ بحسب تمكن العقيدة من قلوبهم، فكلما قوي الإيمان نقصت المعاصي، وكلما ضعف الإيمان ازدادت المعاصي. فالعاصي حين يعصي يغفل أن الله سميع بصير، وينسى اليوم الآخر، فمن يطلب الرزق بالحرام؛ واقع في ذلك فضلا عن جهله بأن الله هو الرزاق وغفلته عن تقديره .
ثالثا : هـل تعلـم العقيـدة واجـب؟
الجواب يُعرف مما سبق، ونزيدُ بيان وجوب تعلمها من جهة عاقبة الإعراض عنها.
1-فالمعرض عن تعلم عقيدته في الدنيا ميت، قال الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122)، وفي الحديث :«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا ». والحياة نوعان حياة أبدان وحياة قلوب وإنما تحيا القلوب بالإيمان بالله وبذكره وطاعته، حيث تنال لذة وفرحا وسعادة وتلك هي الحياة الحقيقية.
2-وكذلك المعرض في الآخرة هالك، يقول الله سبحانه: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك 8-10).
ولابد أن نعي أننا جميعا معنيون بعلم العقيدة؛ لتعلم الاعتقاد وتصحيحه وتأكيده حتى تظهر ثماره في أقوالنا وأعمالنا، وكذا لمعرفة دليله وتبليغه.

 

الخميس, 21 تموز/يوليو 2022 17:34

بطلان الزواج بالردة وبعض ما يترتب عنه


السؤال :
شاب جزائري من العاصمة متزوج منذ 13 سنة، اعترفت له زوجته أنها تنصرت لمدة أكثر من 3 سنوات وكانت تجتمع في الكنيسة يوم السبت من كل أسبوع مرتين إلى ثلاث مرات في الشهر تقوم بالطقوس النصرانية معهم، دون علم زوجها، وقد رجعت للإسلام منذ سنة فقط، وقد طرح الزوج بعض الأسئلة والاشكالات، ونرجو من المشايخ الأفاضل أن يجبوه عنها :
1-هل المدة التي عاشرها وهي مرتدة غير شرعية فيؤثم على ذلك؟
2-وهل زواجه باطل بردتها ووجب إعادة عقد الزواج؟
3- ثم إنها أنها حملت منه وهي في فترة الردة !فهل يعتبر الولد شرعيا في هذه الحالة أم لا؟
4-وأخيرا ، هل إذا طلقها بعد رجوعها كما تدعي، يكون ظالما وآثم عليه؟


الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين أما بعد : فإن الردة من أسباب قطع العصمة اتفاقا لقوله تعالى (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) (الممتحنة:10) (فتبين المرأة من زوجها فور الردة في قول أو ما لم ترجع في العدة في قول آخر)...وفي هذه المسألة عقد النكاح قد انفسخ منذ أمد ولم تعد المرأة زوجة له، لذلك يتوجب على السائل اعتزالها فور علمه بردتها.    
    ثم إن أراد إمساكها بعد عودتها للإسلام أن يعقد عليها عقدا جديدا .
    وأما معاشرته لها طول تلك المدة فلا إثم عليه فيه لأن التكليف يثبت بعد العلم وكذلك نسب الولد ثابت لا إشكال فيه ..لحديث الولد للفراش ، قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (3/ 326) "فإن " ثبوت النسب " لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر؛ بل الولد للفراش، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فمن طلق امرأته ثلاثا ووطئها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق: إما لجهله. وإما لفتوى مفت مخطئ قلده الزوج. وإما لغير ذلك، فإنه يلحقه النسب، ويتوارثان بالاتفاق"...
   وأما التطليق للخيانة ولا أعظم من خيانة الدين فلا إثم فيه ...والأمر يرجع إلى الزوج فينظر في مدى قدرته نفسيا على مسامحتها وحسن معاشرتها، ثم في مدى صدق توبتها بالنظر في سلوكها وتدينها، وكذا مصلحة الولد بعد فراقها ....
       وإن قرر عدم أمسكاها وقدر المصلحة في ذلك؛ فعليه أن يتبع اجراءات الطلاق في القضاء مع التأكيد على سببه حتى يحصل على حضانة الطفل دونها ، خاصة إذا كان سبب عدم الامساك هو رقة دينها وخوفه من عودتها إلى الردة ... والعلم عند الله تعالى

الثلاثاء, 05 نيسان/أبريل 2022 12:22

[تابع لصفة الصلاة]


10- ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَجْعَلُ رَأْسَهُ حِيَالَ ظهره.
11- ويقول: سبحان ربي العظيم، ويكرِّرُه، وَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ حَالَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي، فحسن.
12- ثم يرفع رأسه، قائلًا: سمع الله لمن حمده، إن كان إمامًا أو منفردًا، وَيَقُولُ اَلْكُلُّ: رَبَّنَا وَلَكَ اَلْحَمْدُ، [حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ] مِلْءَ اَلسَّمَاءِ، وَمِلْءَ اَلْأَرْضِ، وملء ما شئت من شيء بعد.
13- ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى أَعْضَائِهِ اَلسَّبْعَةِ، كَمَا قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُم: عَلَى الْجَبْهَةِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلى أَنْفِهِ- وَالكَفَّينِ والرُّكْبَتَينِ وَأَطْرَافِ القَدَمَينِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
14- وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ اَلْأَعْلَى.
15- ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيَجْلِسُ عَلَى رِجْلِهِ اَلْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ اَلْيُمْنَى وَهُوَ اَلِافْتِرَاشُ.
16- وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ جِلْسَاتِ اَلصَّلَاةِ، إِلَّا فِي اَلتَّشَهُّدِ اَلْأَخِيرِ، فَإِنَّهُ يَتَوَرَّك، بِأَنْ يَجْلِسَ عَلَى اَلْأَرْضِ، وَيُخْرِجُ رِجْلَهُ اَلْيُسْرَى مِنْ اَلْخَلْفِ اَلْأَيْمَنِ.
17- وَيَقُولُ: رَبِّ اِغْفِرْ لِي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني وعافني.
18- ثُمَّ يَسْجُدُ اَلثَّانِيَةَ كَالْأُولَى، ثُمَّ يَنْهَضُ مُكَبِّرًا، عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ،
19- وَيُصَلِّي اَلرَّكْعَةَ اَلثَّانِيَةَ كَالْأُولَى، ثم يجلس للتشهد الأوّل.
20- وَصِفَتُهُ: "اَلتَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، اَلسَّلَام عَلَيْك أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اَللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اَللَّهِ اَلصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
21- ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيُصَلِّي بَاقِي صَلَاتِهِ بِالْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
22- ثُمَّ يَتَشَهَّدُ اَلتَّشَهُّدَ اَلْأَخِيرَ، وَهُوَ اَلْمَذْكُورُ، وَيَزِيدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ :
أ- اَللَّهُمَّ صلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتُ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
ب- أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ اَلْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ اَلْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ اَلْمَسِيحِ اَلدَّجَّالِ2.
ج- وَيَدْعُو اَللَّهُ بِمَا أَحَبَّ.
23- ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ ورحمة الله، (لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).


[تابع لصفة الصلاة]


10- ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَجْعَلُ رَأْسَهُ حِيَالَ ظهره.
   مما هو معلوم وقد واضب عليه النبي صلى الله عليه وسلم التكبير للركوع، قال أبو حميد الساعدي :"رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ " رواه البخاري وفي رواية لأبي داود:"كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا، قال الخطابي:" هصر ظهره، يريد أنه ثناه ثنيا شديدا في استواء من رقبته ومتن ظهره لا يقوِّسه، ولا يتحادب في ركوعه".
11- ويقول: سبحان ربي العظيم، ويكرِّرُه، وَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ حَالَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي، فحسن.
  عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» وَفِي سُجُودِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» رواه الأربعة
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي "متفق عليه
وعن عَائِشَةَ نَبَّأَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ» رواه مسلم.
12- ثم يرفع رأسه، قائلًا: سمع الله لمن حمده، إن كان إمامًا أو منفردًا، وَيَقُولُ اَلْكُلُّ: رَبَّنَا وَلَكَ اَلْحَمْدُ، [حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ] مِلْءَ اَلسَّمَاءِ، وَمِلْءَ اَلْأَرْضِ، وملء ما شئت من شيء بعد.
مفهوم قوله (إن كان إماما أو منفردا) أن المأموم لا يقولها ، وذلك لظاهر حديث أَنَسِ قَالَ النبي  إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ وفيه وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ.. متفق عليه. وهذا مذهب الجمهور.
وقال الشافعي : بل يسن للمأموم أخذا بعموم صلوا كما رأيتموني أصلي، قال الماوردي مجيبا عن حجج الجمهور:"أنه ليس نهي للمأموم عن قول: سمع الله لمن حمده، وإنما فيه أمر له بقول ربنا لك الحمد، وإنما أمره بهذا أو لم يأمره بقول سمع الله لمن حمده، لأنه يسمع هذا من الإمام فيتبعه فيه، ولا يسمع قوله: ربنا لك الحمد فأمره به، وأما قولهم أنهما ذكران فلم يجتمعا في الانتقال، فالجواب أن قوله سمع الله لمن حمده موضوع للانتقال وربنا لك الحمد مسنون في الاعتدال فصارا ذكرين في محلين، وأما قولهم أن أحدهما إخبار والآخر جواب فلم يجز أن يجمع الواحد بينهما فهو فاسد بقوله آمين هو في مقابلة قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] ثم قد يجمع بينهما في الصلاة". وقال النووي رحمه الله :"ولأن الصلاة مبنية على أن لا يفتر عن الذكر في شيء منها فإن لم يقل بالذكرين في الرفع والاعتدال بقي أحد الحالين خاليا عن الذكر".
وبالنسبة للذكر الذي يقوله الجميع فالزيادة الأولى [حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ] وردت في رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، قَالَ: " كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: «مَنِ المُتَكَلِّمُ» قَالَ: أَنَا، قَالَ: «رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ» رواه البخاري.
 والزيادة الأخرى وردت في أحاديث منها حديث عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا رَفَعَ ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءُ الْأَرْضِ وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» رواه مسلم.
 ووردت زيادة أخرى في حديث أبي سعيد ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: " رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ: اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ "رواه مسلم. ونحوه عن ابن عباس.
13- ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى أَعْضَائِهِ اَلسَّبْعَةِ، كَمَا قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُم: عَلَى الْجَبْهَةِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلى أَنْفِهِ- وَالكَفَّينِ والرُّكْبَتَينِ وَأَطْرَافِ القَدَمَينِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
   صفة السجود معلومة وقد اختلف في وجوب وضع الأعضاء السبعة جميعا على الأرض سوى الجبهة والظاهر من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وجوب ذلك إلا من عذر مانع، والأنف تابع للجبهة يوضع على الأرض ولا يرفع لظاهر الحديث أيضا .   
   ولم يتحدث المصنف هنا عن صفة الهوي للسجود وأيهما يقدم اليدان أو الركبتان ولعله يذهب إلى التخيير، وقد نقل ذلك عن قتادة وروي عن مالك، ولا يتعلق بذلك وجوب ولكن استحباب فقط، قال ابن تيمية (22/449) :« أما الصلاة بكليهما فجائزة باتفاق العلماء. إن شاء المصلي يضع ركبتيه قبل يديه، وإن شاء وضع يديه ثم ركبتيه وصلاته صحيحة في الحالتين باتفاق العلماء ولكن تنازعوا في الأفضل ».
   ولعل الأرجح هو تقديم اليدين على الركبتين كما هو قول مالك وأحمد في رواية وابن حزم، لحديث نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه وقال كان رسول الله   يفعل ذلك رواه ابن خزيمة والحاكم وصححه على شرطه على مسلم ووافقه الألباني في تمام المنة (194).
   وأما الأحاديث الأخرى المتعارضة فلا تصح سواء حديث :«إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه» أو حديث وائل: رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةُ.
   ومما ينهى عنه في السجود بسط الذراعين على الأرض لقوله :«اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» متفق عليه .
14- وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ اَلْأَعْلَى.
    وهذا مشهور معلوم ويجوز أن يضيف (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، أو (سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) وقد سبق ذكر الأحاديث التي وردت فيها .
   ويدعو المصلى في سجوده بما شاء لقوله صلى الله عليه وسلم :"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء فيه" رواه مسلم .
ولا يقرأ القرآن في السجود لقول النبي صلى الله عليه وسلم  «أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ « رواه مسلم.
15- ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيَجْلِسُ عَلَى رِجْلِهِ اَلْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ اَلْيُمْنَى وَهُوَ اَلِافْتِرَاشُ.
   أي يرفع رأسه مكبرا كما كان يفعل الرسول  (متفق عليه).
   وحديث الافتراش رواه مسلم من فعل الرسول ، وعند البخاري أنه كان ينصب رجله اليمنى مع الافتراش .
   ويسن الإقعاء هنا أحيانا، فعن طَاوُس قُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ هِيَ السُّنَّةُ فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ .
   والإقعاء نوعان أحدهما أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهي، والنوع الثاني أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين وهذا هو مراد بن عباس بقوله سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد نص الشافعي رضي الله عنه في البويطي والإملاء على استحبابه في الجلوس بين السجدتين.
16- وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ جِلْسَاتِ اَلصَّلَاةِ، إِلَّا فِي اَلتَّشَهُّدِ اَلْأَخِيرِ، فَإِنَّهُ يَتَوَرَّك، بِأَنْ يَجْلِسَ عَلَى اَلْأَرْضِ، وَيُخْرِجُ رِجْلَهُ اَلْيُسْرَى مِنْ اَلْخَلْفِ اَلْأَيْمَنِ.
قوله (يفعل ذلك) يعني به صفة الجلوس وقد جاء ذلك في أحاديث كلها في الصحيح.
إلا جلسة التشهد الأخير فيسن فيها التورك وصفة التورك كما ذكر المصنف، وفي البخاري:«وينصب رجله اليمنى». وفي صحيح مسلم «كان يلقم كفه اليسرى ركبته يتحامل عليها».
17- وَيَقُولُ: رَبِّ اِغْفِرْ لِي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني وعافني.
هذا الذكر روي عن ابن عباس عند الترمذي وأبي داود وابن ماجة وأحمد وغيرهم  
وأصح منه حديث حذيفة ولفظه اللهم اغفر لي اللهم اغفر لي رواه الأربعة.
وقد قال الإمام أحمد: حديث حذيفة  أصح من حديث ابن عباس.
18- ثُمَّ يَسْجُدُ اَلثَّانِيَةَ كَالْأُولَى، ثُمَّ يَنْهَضُ مُكَبِّرًا، عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ،
   صفة النهوض المذكورة مروية عن ابن مسعود وهي مشهور مذهب أحمد.
    وذهب الجمهور إلى الاعتماد على اليدين لظاهر حديث مالك بن الحويرث:«وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قَامَ» رواه البخاري.
  واختلفوا هنا في جلسة الاستراحة وحديث مالك بن الحويرث حجة على من أنكرها مطلقا وعلى من خصها بحال الكبر، وقد قال بها الشافعي وأحمد في رواية وداود، وذهب ابن تيمية والمصنف أنها تفعل عند الحاجة .
  ويؤكد القول بسنيتها حديث أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَهُوَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ  أَحَدُهُمْ أَبُو قَتَادَةَ بْنُ رِبْعِيٍّ قال أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ  قَالُوا مَا كُنْتَ أَقْدَمَنَا لَهُ صُحْبَةً وَلَا أَكْثَرَنَا لَهُ إِتْيَانًا قَالَ بَلَى قَالُوا فَاعْرِضْ فَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ اعْتَدَلَ قَائِمًا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَرَكَعَ ... ثُمَّ أَهْوَى سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ وَقَعَدَ وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ نَهَضَ ثُمَّ صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ ...(رواه الترمذي وأبو داود)»
19- وَيُصَلِّي اَلرَّكْعَةَ اَلثَّانِيَةَ كَالْأُولَى، ثم يجلس للتشهد الأوّل.
وهذا الجلوس من الواجبات وليس من الأركان لما ثبت من استدراكه بسجود السهو وكذا التشهد الذي فيه.
20- وَصِفَتُهُ: «اَلتَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، اَلسَّلَام عَلَيْك أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اَللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اَللَّهِ اَلصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
  للتشهد عدة صيغ منها هذه الصيغة المروية عن ابن مسعود وهي ثابتة في الصحيحين.
  ومن الصيغ الثابتة ما رواه مالك في الموطأ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ يَقُولُ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
   ومن السنن في هذا التشهد والتشهد الأخير الإشارة بالإصبع لحديث ابن عُمَرَ كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى رواه مسلم.
21- ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيُصَلِّي بَاقِي صَلَاتِهِ بِالْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
هذا الغالب وإلا فقد جاء في بعض الروايات ما يفيد جواز الزيادة على الفاتحة في الركعتين الأخيرتين أيضا ومن ذلك ما روى مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً أَوْ قَالَ نِصْفَ ذَلِكَ وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ.
22- ثُمَّ يَتَشَهَّدُ اَلتَّشَهُّدَ اَلْأَخِيرَ، وَهُوَ اَلْمَذْكُورُ، وَيَزِيدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ :
أ- اَللَّهُمَّ صلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتُ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
ب- أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ اَلْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ اَلْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ اَلْمَسِيحِ اَلدَّجَّالِ.
ج- وَيَدْعُو اَللَّهُ بِمَا أَحَبَّ.
    هذه الصيغة للصلاة الإبراهيمية مروية في الصحيحين عن كعب بن عجرة، وفي لفظ للبخاري:«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
وأما حديث الاستعاذة فرواه مسلم ، وذهب الظاهرية إلى وجوبه ووافقهم الألباني.
واما الدعاء فهو مشروع بالمأثور وغير المأثور وقد قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ  أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ قَالَ جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ رواه الترمذي، ومعنى دبر الصلاة آخرها
 ومما هو مأثور قوله « اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » متفق عليه.
23- ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ ورحمة الله، لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
في صفة التسليم أحاديث صحيحة منها حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَعَنْ يَسَارِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَلَمْ يَذْكُرِ التِّرْمِذِيُّ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ
وأما حديث وائل عند أبي داود فلفظه : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ»، وَعَنْ شِمَالِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ».
  ووردت صيفة ثالثة في سنن النسائي عن وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَتْ؟ قَالَ: " فَذَكَرَ التَّكْبِيرَ، قَالَ: يَعْنِي وَذَكَرَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَنْ يَمِينِهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ عَنْ يَسَارِهِ ".

الثلاثاء, 05 نيسان/أبريل 2022 12:11

كلمات في فقيد الدعوة إلى الله تعالى يزيد حمزاوي رحمه الله
   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد : فإننا نتوجه بالشكر الجزيل لإمام مسجد الطيب العقبي بباش جراح وللقائمين على مدرسة تاج الوقار القرآنية على تنظيم هذا اللقاء المبارك ؛ لذكر شيء من خصال الشيخ الفقيد أبي عبد الرحمن يزيد حمزاوي ومآثره رحمه الله تعالى، وإن هذا العمل لمن دلائل الوفاء وخصال الرجولة التي عزت في هذا الوقت، ولسنا ممن يذكر الرجال لمجرد الذكر ؛ ولكننا نذكرهم من أجل إبراز القدوات التي ينبغي أن يقتدى بها في الجوانب التي برزت فيها وعرفت بها، وإن المرء قد يخشى من الحديث عن حي لا تؤمن عليه الفتنة ، والمدح قد يكون ذبحا؛ ولكن إذا تعلق بمن فارقنا أمنَّا ذلك؛ والمادح لا يدعي عصمة أو تقديسا لأحد، ولكنه يبتغي تتبع المحاسن التي يرجو لها أن تذاع وتنتشر بين الناس، ولعل نشر تلك المحاسن يكون صدقة جارية للممدوح إذا اقتُدي به فيها، فيكون مثل نشر كتبه التي ترك وعلمه الذي ورث، هذا وقد وفقنا المولى عز وجل من قبل لإبراز ترجمة موجزة للشيخ الدكتور يزيد حمزاوي رحمه الله تعالى وضع أساسها ورثته الكرام وتداول على تهذيبها والزيادة عليها الشيخ يوسف بن عاطي حفظه الله تعالى ثم العبد الضعيف، وهي منشورة والحمد لله، وهذه المناسبة نعتبرها حافزا آخر لنرفع القلم مجددا للكتابة عن صديقنا فقيد الدعوة رحمه الله تعالى ، وقد رأيت أن تكون كلمتي اليوم موزعة على محورين، المحور الأول خصال الفقيد الخلقية التي يشهد له بها، والمحور الثاني علمه بالنصرانية وتمكنه منها ، وخاتمة فيها بشارات له رحمه الله.
المحور الأول: خصال الفقيد الخلقية
   أما الخصال الخلقية فسنجملها في ثلاث نقاط : التواضع ونكرات الذات، والزهد في حطام الدنيا والرحمة بالإنسان والحيوان .
1- التواضع ونكران الذات
    لقد كان الشيخ الدكتور يزيد رحمه الله متواضعا لا يختلف في ذلك اثنان ولا ينتطح فيه عنزان؛ يظهر ذلك من مظهره في لباسه وغيره وفي كلامه مع إخوانه وفي تصرفاته؛ فلا تراه ابدا مستعليا بعلمه ولا مفتخرا بشهاداته ولا بتجاربه ولا بمن لقي من المشايخ الكبار في مصر والشام ، وعندما كنا نلتقي قلما تراه يحكي عن نفسه أو عن أسرته ولا مشاكله الخاصة يحكي فقط عن الدعوة وأخبارها ومشاريعها ، وإذا ذكر شيئا من ذلك فبالعرض لا بالقصد ، والأئمة والناشطون في الدعوة يشهدون أنه كان يلبي كل الدعوات التي توجه له، ولا يعتذر إلا نادرا ، وكأن هذا الرجل لا شيء وراءه ولا شيء يشغله، ومن خصاله أنه كان يسعد لرؤية إخوانه ينشطون في ميادين الدعوة وبمشاركته لهم ومشاركتهم له، وكان يقول لهم إذا دعوه بالشيخ أنتم المشايخ أما أنا فصحفي مهتم بقضايا الدعوة، وقد كان يعظم جدا كلمة شيخ ويعتبرها ثقيلة جدا وأنه لا يستحقها رغم تحصيله للعلم الشرعي وجهوده الواضحة  في الدعوة إلى الله تعالى، وله مع هذه النسبة "صحفي" حكاية طريفة كان يرددها كثيرا، حيث أنه كان في بداية التسعينات ممن رفض منهج الغلو في التجريح الذي برز فجأة، فقال له أحد المشايخ وهو يحاجه تقول:" مثل هذا الكلام وأنت تزعم أنك سلفي"، فأجابه يزيد: "أنا صحفي لا سلفي"، والمعنى أنه لا يدعي أنه سلفي حقا لأن ادعاء ذلك ضرب من تزكية النفس، ومن جهة أخرى كأنه قال له : حاول أن تقنعني لا أن تحتويني بمثل هذه الكلمة، ولا يخفى أن هذه الكلمة التي كانت عزيزة في بداية القرن الماضي صارت ممتهنة في بداية هذا القرن يدعيها كل من هب ودب، فبعدما كان الانتساب إليها لا يتم إلا بالدراسة والارتياض كما قال الإبراهيمي رحمه الله، صارت تكتسب بين عشية وضحاها بمجرد المظهر والثناء على فرد القدح في أفراد من غير حاجة إلى صبر على دراسة القرآن والسنة وسيرة السلف، ولا تربية وترويض للنفس على مقتضيات تلك الدراسة ..
2-الزهد في حطام الدنيا
    ومن الخصال البارزة في حياة الشيخ الدكتور زهده في حطام الدنيا في أموالها ورتبها، ومما أذكره أني لما كنت أتأهب للسفر في أول تربص علمي في الخارج، ولم يكن لدي تصور كامل لواقع هذه التربصات، وعظني موعظة شديدة في الهاتف مبينا لي حقيقتها وأنها مجرد نهب للمال العام تحت ستار العلم، وقال لي بالحرف الواحد أتأكل الحرام، وقد جربتها فتيقنت صدق ما قاله، وأن المرء لا يقدر على تحقيق أهداف هذه التربصات ولو حرص، لأن تحقيقها لا يقف فقط على إرادة الأستاذ المتربص ولكن على عوامل أخرى في الداخل والخارج وهي منعدمة في الغالب الأعم، ولمن يتساءل عن موضع الزهد هنا يقال له: إن هذه التربصات عبارة عن سياحة يصحبها صرف أموال بالعملة الصعبة من خزينة الدولة، ومما حكي لي عن بعض عباد الأورو أنه ذهب إلى دولة أوربية في رحلة جوية في الصباح ووقع الوثائق في جامعة تلك الدولة منتصف النهار، وعاد إلى الجزائر في رحلة جوية في المساء، وذلك ليوفر تلك المبالغ، ثم إن الجامعة الجزائرية لا تحاسبه إلا بما يدل على خروجه ودخوله وبكلام إنشائي يتحدث فيه عن رحلته تلك في ورقة أو نصف ورقة، وكانت قبل تحاسبه بتوقيع الجهة المستقبلة المحددة سلفا لكنه ألغي بعد ذلك حيث اعتبر إجراء مهينا !!!.
   ومن مظاهر زهد الشيخ زهده في الرتب العلمية الجامعية التي يترتب عليها أمور مادية، فهو قد توظف قبلي بأربع سنوات وناقش الدكتوراه قبلي بسنة، ورغم تأخري أيضا في بعض الترقيات فقد سبقته إلى الأستاذية، وكنت كلما أسأله عنها سواء التأهيل أو الأستاذية أجده غير مهتم ولا مبال، ولم يكن ذلك لافتقاده أسباب الترقيات، ولكن لأن قلبه كان مشغولا عنها وعن أسبابها، وهو يعلل ذلك بقوله: تهاونت ونسيت الأمر.
3-الرحمة بالإنسان والحيوان ...
    ومن الصفات التي يجب ذكرها في هذا المقام صفة الرحمة، أعنى الرحمة بالخلق ، ولذلك تجليات ومواقف نذكر منها بعض ما يستحق أن يذكر ولعل من كان دائم الملازمة له قد رأى أكثر مما رأيناه أو بلغنا ، ومن أظهر الأشياء دلالة على رحمته بالناس في نظري حرصه على إنقاذ الناس من الهلاك في الآخرة، ومما أذكره أنه رحمه الله لم يقدر على ختم محاضرة له حيث إنه بعد أن صال وجال في حديث علمي عن التحريف عاد ليتحدث عن ردة أبناء الإسلام إلى النصرانية المحرفة، فغلبته الدمعة وتوقف عند كلمة : "أتباع سفيان الثوري" ومقصوده الأسف لحال الخلف الذين كان سلفهم هؤلاء الرجال أمثال سفيان الثوري وابن المبارك كيف انقلب حالهم وصاروا يتركون هذا الدين إلى دين محرف مليء بالتناقضات... ومن مظاهر رحمته رحمته بالحيوان وقد سبق أن كتبت في حياته رحمه الله عن ذلك ، وكان مما ذكرته في ذلك المقال أنه تورط مع كلب صدمته سيارة في الطريق السيار؛ فلما رآه عطف عليه وآواه في صندوق سيارته مدة ستة أسابيع من أجل إسعافه، فلما شفي نقله إلى بيته -الذي كان في طور البناء- لأنه لم يقدر على التخلص منه رحمة به وشفقة عليه.
المحور الثاني : علمه بالنصرانية وتمكنه منها
   وأما المحور الثاني فنجيب فيه عن ثلاثة أسئلة : لماذا كان يشارك في ملتقيات حوار الأديان ؟ولماذا دعاه الأمريكان ليعلمهم الإنجيل ؟ ولماذا لقب بديدات الجزائر؟ وبعدها ننقل شيئا تطبيقيا وعمليا يؤكد تمكنه من العلم بالنصرانية ونصوصها تحت عنوان الحدس وصدق الفراسة .
1-لماذا المشاركة في ملتقيات حوار الأديان؟
   مما هو معلوم أن الشيخ كان يشارك في الملتقيات المسماة ملتقيات حوار الأديان فهل تعلمون دوافع هذه المشاركة أو بعضا منها ؟ أقول لقد كان رحمه الله هو من شجعني وألح علي أن أحضرها، وأذكر إني قلت له أتؤمن بشيء اسمه حوار الأديان فقال إنه حوار لكن بمفهومنا لا بمفهوم الغرب هم يريدون لقاء مجاملات ونحن ندخله في مفهوم الجدال بالتي أحسن، وخاصة أن المنظمين لا يقيدونك إلا بالمحور أما المحتوى فللمشارك حرية كاملة فيما يطرح وطريقة الطرح، وقد قال لي نحن نقيم الحجة على القساوسة القاسية قلوبهم ولعلنا نؤثر في غيرهم، ونبهني إلى حضور طلبة متدربين على التنصير وأساليبه، وأنه كان يستهدفهم أكثر من غيرهم وكان ربما تواصل مع بعضهم بالبريد الإلكتروني بعد انقضاء الملتقى، فلما سألته: هل فيهم من أقنعته بالإسلام أو ترك النصرانية،  فقال ليس ذلك سهلا ولكن يوجد من انسحب من الانتساب الى البعثات التنصيرية- وقد أقنعني فكان أول حضور لي سنة 2010، وكان من الثمار التي وجدناها جميعا الارتباط الوثيق بين التنصير والاستعمار فالأمر لا يختلف عما كان عليه قديما، وكذا ارتباط حركة التنصير الإنجيلية بالحركة الصهيونية العالمية، وأن ملتقيات حوار الأديان ما هي إلا مجرد فخاخ لاصطياد الضعفاء ولإيجاد طريق آمن ومعبد للتوغل إلى المجتمعات الإسلامية التي يعتبرونها منعزلة ومنغلقة على نفسها..
2-لماذا قيل له: ندعوك إلى أمريكا لتعلمنا الإنجيل ؟
   كما أشرت من قبل إن مشاركة يزيد رحمه الله في هذه الملتقيات لم تكن للمجاملة ولكن للدعوة وإقامة الحجة، قد بين للحاضرين جهل رؤوسهم بالكتاب المقدس وأحرجهم حرجا كبيرا ، فكم من مناسبة تراه أمامهم تاليا نصوصا من الكتاب المقدس، وهم يسارعون إلى نسخهم للتأكد من وجود النص ومن عباراته، وقد أذاع بعض إخواننا أن أحد كبرائهم قام بدعوته علنا ليذهب إلى أمريكا ليعلمهم الكتاب المقدس، ولقد كنت حاضرا في تلك الجلسة والداعي له لم يكن مسرورا ولكن محرجا، ولقد كانت عيناه تقطر حقدا، ولم يخف علينا حنقه رغم الابتسامة الصفراء التي كانت تعتلي وجهه الأصفر، لا أشك في قصده إيقاف زحف يزيد في تلك المناظرة، ولعله أراد أيضا إظهار تواضعه أمام المتدربين، وأما صدقه في دعوته فمما أشك فيه –هذا رأيي- وقد همست يومها في أذن الشيخ مازحا: لعلهم يريدون استدراجك إلى أمريكا من أجل تسميمك، فأجابني: بأنه يعلم عدم صدقه ومع ذلك قال:" ولو أتيحت لي الفرصة فلن أضيعها".
    وإني أؤكد أن الشيخ زلزل قواعد تلك الكنيسة المعمدانية المتطرفة، أخبرنا بذلك المنظمون الذين تلقوا شكاوي تتعلق بالموضوعات التي يطرقها يزيد رحمه الله تعالى وطريقة نقاشه، وتيقنت تأثيره في طلبتهم يوم أن التقينا في الورشات التي كانت بعيدا عن مكان الملتقى الرسمي؛ فلاحظ يزيد أن الحضور اقتصر على الرؤوس فقط وأنهم تعمدوا ترك المتدربين خلفهم..
   وفي أحد الملتقيات-والغالب أنه ملتقى سنة 2013- لم يحضر معه محاضرة مكتوبة، ولكن أحضر سجلا مليئا بالجداول فيه ألوان من تناقضات الكتاب المقدس وأخطائه وغيرها، وقال لي هذا العام سأقنبلهم وأخرجهم عن عقولهم، فشوقني إلى تلك المحاضرة التي رأيته خرج فيها عن محور الملقى رأسا، فقدم بمقدمة جلب بها اهتمامهم وخطف أنظارهم وقلوبهم واستخرج ابتساماتهم؛ حيث أخذ يعيد عليهم صور برنامج دعائي نصراني في قناة أمريكية معروفة، وكانت فيه عبارة معناها أن الكتاب المقدس هو الهادي إلى الطريق، وبعد فراغه من تصوير ذلك العرض، قال الآن تعالوا لنرى هذا الكتاب هل يصلح فعلا لهداية الناس إلى الطريق، وذكر أنه أحصى مواضع في نسخة الملك جميس تعد بالمئات –لا أذكر الرقم – يقول صاحب الحاشية التي في أسفل الطبعة إنها غير واضحة وغير مفهومة، وتساءل هل يمكن لكتاب مثل هذا أن يكون هاديا للناس؟ وشرع يسرد عليهم مواضع منتخبة -وكانت المحاضرة بالإنجليزية -، وقد لمحت الوجوه المستبشرة قد تجهمت واكفهرت، بل إنه مع تماديه في سرد النماذج أخل هؤلاء القساوسة باللياقة؛ حيث قاموا من مقاعدهم مطالبين إياه بالتوقف؟؟؟ لقد أوجعهم فعلا، لأن ذلك الكلام سيحطم معنويات طلبتهم المتدربين ويسقط من قيمة نسختهم المقدسة للكتاب المقدس.
   تلك السنة كانت آخر سنة ندعى فيها للمشاركة، وأما يزيد رحمه الله فاتصل به بعض الصحراويين سنة 2014 ، وقال له : لقد ضغط الأمريكان من أجل إقصائك، ولكن لا معنى لهذا الملتقى من دونك فترجاه للحضور ووجه دعوة خاصة، فلبى دعوته رحمه الله تعالى لسنتين متواليتين؛ وسافر على حسابه الخاص برا من الجزائر العاصمة إلى تندوف.
3-لماذا لقب بديدات الجزائر ؟
   لقد تعمق أخونا الدكتور يزيد في دراسة النصرانية ونصوصها تعمقا جعلها اهتمامه الأول؛ الذي تغلب حتى على تخصصه الجامعي وهو أصول التربية، وتظهر هذه الغلبة في إنتاجه العلمي وكتاباته الصحفية أيضا ، وكان من أثر هذا التعمق أن صار يحفظ نصوصا كثيرة من الكتاب المقدس باللغتين العربية والإنجليزية، -مع مواضعها -، ومن النكت التي حدثت لنا أننا خرجنا في رحلة دعوية إلى تيزي وزو، وكان معنا الشيخ أبو سعيد حفظه الله ، فعرض عليه أن يتقدم للصلاة فقال له يزيد مازحا:" أخشى أن أقرأ لكم نصوصا من التوراة والإنجيل بدلا من القرآن"، وهي مزحة لها ما يسندها؛ إذ كم حضرنا محاوراته فرأينا سرعة استحضاره لنصوص التوراة والإنجيل مع مواضعها، وإذا كان المحاور أمريكيا كان ذكره لها باللغة الإنجليزية، وذلك أنه اكتشف خيانة المترجم الترجمة الفورية إذا كان أمريكيا أو عجزه أحيانا إن كان صحراويا، ومما أذكره أن المرة الثانية التي حضرت فيها للملتقى وكانت سنة 2011 ، أعلِمنا بموعد السفر في وقت متأخر حيث قدم الملتقى عن موعده شهرا، فلم أتمكن من تحرير موضوع مداخلتي كتابيا إلا بعد وصولنا إلى تندوف، وكنت ملتزما بكتابة مداخلتي كاملة مع تضمينها ترجمة نصوص القرآن والكتاب المقدس إلى الإنجليزية، تسهيلا لعمل القائم على الترجمة الفورية، وأذكر إني لما وصلت إلى كتابة الخاتمة سألت يزيد رحمه الله أين أجد الآية التي يقول فيها عيسى عليه السلام لم آت لأبدل الشريعة؟ فأجابني قبل أن أتم سؤالي:" آه موعظة الجبل تجدها في إنجيل متى الاصحاح 5 ".
    وكان القساوسة الذي يحضرون منهم من هو دائم الحضور وهم من الكنيسة المعمدانية الأمريكية، وكان يحضر آخرون جدد من متدربين، ومن دول أخرى ومن كنائس أخرى، وفي مرة لما كان الشيخ يزيد يتكلم بالإنجليزية ويستدل بالنصوص الإنجيلية إلتفت إلي أحدهم متعجبا –وغالب ظني أنه ألماني من أصول فرنسية – وقال لي من يكون هذا؟ فقلت له مازحا قبل أن أجيبه:" إنه قس أسلم" رحمه الله تعالى.
    وهذا التمكن الذي وصل إليه يزيد رحمه الله لم يأت صدفة ولا من فراغ، بل هو ثمرة سنوات من الجد والصبر على القراءة والمقارنة مع توفيق رباني ولا شك ، وقد صرح في محاضرة ألقيت سنة 2008 أنه أن مقدار ما جمعه من الأخطاء والتناقضات يعد بالآلاف ، ولتعلموا مقدار الصبر الذي يحتاج إليه في هذا التخصص والطريق الموصل إلى حفظ النصوص التوراتية والإنجيلية، أبشركم بأن للشيخ كتاب رابع نسأل الله تعالى أن يجد طريقه للنشر ، عنوانه :"أبشروا لم يعد المسيح ابنا لله " عدد ما اعتمده طبعات الكتاب المقدس بلغ 25 طبعة، 14 طبعة إنجليزية، و7 طبعات فرنسية و4 طبعات عربية، مما يعني أن كل نص كتبه في هذا الكتاب قرأه على الأقل 25 مرة مدققا في عباراته ومدلولاته -أقول على الأقل لأنه ربما قرأ طبعات أخرى لم يجد فيها مبتغاه- أفلا يمكن المرء أن يحفظ النص بتكرار قراءته 25 مرة و30 مرة مع الكتابة والمقارنة؟ نعم هو ممكن لكن الأمر يحتاج إلى صبر كما ذكرنا، ولعلنا نجد في أمتنا من ينسج على منوال يزيد رحمه الله تعالى.
4-الحدس وصدق الفراسة
  ومما ينبغي ذكره في هذا المضمار أن الشيخ رحمه الله قد اكتسب حدسا خاصا في كشف التحريفات، وامتلك ملكة عالية في نقد الكتاب المقدس، وأسوق لكم هذا المثال من كتابه المبشر به والذي لم يتمه، تحت عنوان تلاعب النصارى بالحروف والضمائر كتب هذه العبارة (الرؤيا 1: أبيه .....الأب، تأكد من الموضوع) وهو يقصد أن في رسالة رؤيا يوحنا الإصحاح 1 العدد 6 وردت عبارة (أبيه) التي تخصص المسيح بكونه ابنا لله من دون بقية الصالحين، والشيخ توقع أن في النص تلاعبا وأن الصواب هو عبارة (الأب)، التي لا تدل على الخصوصية، وقال (تأكد من الموضوع) ، مما يعني أن هذا الأمر كان مجرد خاطرة خطرت له، وأنها تحتاج إلى تثبت، فلما رأيت هذا النص سلكت مسلكه ورجعت إلى الترجمات التي صرح بالرجوع إليها والتي لم يصرح؛ عسى أن أجد من صححها أو أشار إلى اختلاف النسخ الخطية في الهامش فلم أظفر بشيء، ورجعت إلى الترجمة المباشرة بين السطور من النص اليوناني، فلم أجد شيئا، رجعت الى المخطوطتين السينائية والسكندرية فلم أجد شيئا سوى اختلافا يسيرا، توهمت أنه اختصار لكلمة (الأب)، فلما أيست قمت بترجمة الكلمات اليونانية كلمة كلمة، وهنا ظهرت لي خيانة صاحب الترجمة التي بين السطور وتلاعبه بالضمائر، وظهر أيضا غلط جميع الترجمات الموجودة في النت على كثرتها ، وتجلى أن ما توقعه الشيخ يزيد رحمه الله كان في محله، وليفهم المهتم الفرق بين النص الموجود في جميع الطبعات، والترجمة المباشرة للنص اليوناني أنقلهما هنا معا، فأما الموجود حسب ترجمة فاندايك العربية:"وجعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه، له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين ". وأما الترجمة المباشرة للكلمات اليونانية فتعطينا هذا النص:"وجعلنا مملكة كنهة لله، والأب له هذا المجد والسلطان إلى أبد الدهر " والبون بين النصين شاسع حيث تم التلاعب بالضمائر ومكان وضع الفاصلة أيضا.
خاتمة
ونختم هذه المداخلة : بذكر بشارات تخص الشيخ يزيد رحمه الله ، وأولها تلك الضجة التي هزة الأنترنت من الفضاء الأزرق واليوتيوب يوم وفاته بالحديث عنه تعريفا به وبمؤلفاته وبرثائه سواء من أهل الجزائر أو غيرها من البلدان، ولعل ذلك كان دليلا على إخلاصه وهو الذي كان بعيدا طول حياته عن الأضواء رحمه الله، ولم أزد يومها على كتابة نعيه ووصفه بالمجاهد رحمه الله، لأن الصدمة كانت قد ألجمت اللسان وعقلت البنان، ونحن اليوم نقول ونكتب بعض ما يجب قوله في حقه رحمه الله، ومن تلك البشارات رؤيا رئيت له رحمه الله بعد أشهر من وفاته، يقول الرائي إنه رآه متكئا في غرفة يرتدي قشابية بنية وله جثة عظيمة طولة نحو 4 أو 5 متر ويحمل في يده عصا، وهو ينظر إلى قدميه ويقول للرائي انظر ألا ترى القط، والرائي لم يكن يرى شيئا، ولست خبيرا بالتعبير ولكن كل ما ذكر يدل على الخير إن شاء الله تعالى وقد عبرها لي بعض الأفاضل، ومنهم من التمست منه ذلك كتابيا قصد إدراج تعبيره في هذه المدخلة وقد أجابني وشرط عدم ذكر اسمه جزاه الله خيرا فقال : .. إذا رئي الميت في المنام وكان طويل القامة وضخم الجثة وحاملا للعصا، فيعبر على جميل مقامه وحسن أفعاله .. أما وجوده في غرفة وهو متكئ، فمعناه أنه في أمن إن شاء الله لقَوْله تَعَالَى "وهم فِي الغرفات آمنون" .. وأما رؤية القط أسفل القدمين والميت يشير إليه وهو مبتسم، فهو كتابه وصفيحته، وقد يدل القط على شخص نافع لأهل بيته لطواف ودوران القطط على أهل البيت. والله أعلم". وسبحانك اللهم بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
ملاحظة : في المداخلة المصورة لم يتم إلقاء إلا ملخص موجز مما أعد وكتب وفقا للوقت المتاح ...وهذا النص الكامل الذي كتب بأناة وبعد مراجعة .
ألقيت المداخلة مساء الجمعة بعد المغرب 15 شعبان 1443 الموافق ل18 مارس 2022
في مصلى مدرسة تاج الوقار التابعة لمسجد الطيب العقبي بباش جراح

الأربعاء, 09 شباط/فبراير 2022 12:48

بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ

1- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهَا بسَكِينَة ووقار.
2- فإذا دخل المسجد قال: بسم اَللَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ، اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، ويقدم رجْلَهُ اليمنى لدخول المسجد، واليسرى للخروج منه، ويقول هذا الذكر، إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك، كما ورد في ذلك اَلْحَدِيثِ (اَلَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ).
3- فَإِذَا قَامَ إِلَى اَلصَّلَاةِ قَالَ: اَللَّهُ أَكْبَرُ.
4- وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ، أَوْ إِلَى شَحْمَةِ أذنيه، في أربعة مواضع:
أ- عند تكبيرة الإحرام، ب- وعند الركوع، ج- وعند الرفع منه، د- وعند القيام من التشهد الأول، كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
5- وَيَضَعُ يَدَهُ اَلْيُمْنَى عَلَى اَلْيُسْرَى، فَوْقَ سُرَّتِهِ، أو تحتها، أو على صدره.
6- وَيَقُولُ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالى جَدُّكَ، وَلَا إِلَه غَيْرُكَ"، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ اَلِاسْتِفْتَاحَاتِ اَلْوَارِدَةِ عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
7- ثُمَّ يَتَعَوَّذُ، ويُبَسْمِل، وَيَقْرَأُ اَلْفَاتِحَةَ،
8- وَيَقْرَأُ مَعَهَا فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ اَلْأُولَيَيْنِ مِنْ اَلرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ سُورَةً تَكُونُ:
أَ- فِي اَلْفَجْرِ: مِنْ طُوَالِ الْمُفَصَّل،
ب- وفي المغرب: من قصاره،
جـ- وفي الباقي: من أوساطه.
9- يجهر في القراءة ليلًا، ويُسِرُّ بِهَا نَهَارًا، إِلَّا اَلْجُمْعَةَ وَالْعِيدَ، وَالْكُسُوفَ وَالِاسْتِسْقَاءَ، فَإِنَّهُ يَجْهَرُ بِهَا.


باب صفة الصلاة


    بعد أن ذكر المصنف ما يسبق الصلاة من شروط؛ قدم ذكر صفة الصلاة بسرد أفعالها وأقوالها مرتبة ومجردة عن أحكامها قبل أن يعود لبيان أحكم هذه الأفعال والأقوال، وهذا أمر مهم جدا في تعليم المبتدئين ؛ على أننا في الشرح سنذكر بعض الأحكام ولا سيما التي سكت عنها فيما يأتي.
1- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهَا بسَكِينَة ووقار.
   أول شيء ذكره هو أدب المشي إلى الصلاة وخاصة لمن أراد إدراك صلاة الجماعة في المسجد وهو المشي إليها بسكينة ووقار وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:« إِذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلَا تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» متفق عليه. ومن حكم ذلك تكثير الخطا وكذا الحفاظ على السكون والخشوع في الصلاة لأن المسرع قد يضيق نفسه وهو في الصلاة، وظاهر الحديث العموم لمن كان بعيدا أو قريبا ولمن خاف فوات الركعة ، وقد جاء في رواية لمسلم:" فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ". ولا يعارض هذا النهي عن الاسراع والسعي قوله تعالى (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) [الجمعة: 9] لأن معنى السعي في الآية المشي والمضي دون إسراع ويطلق السعي على العمل.
2- فإذا دخل المسجد قال: بسم اَللَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ، اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، ويقدم رجْلَهُ اليمنى لدخول المسجد، واليسرى للخروج منه، ويقول هذا الذكر، إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك، كما ورد في ذلك اَلْحَدِيثِ (اَلَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ).
   ثم ذكر المصنف أدب الدخول إلى المسجد والحديث الذي عزاه لابن ماجة من حديث فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولفظه عنده كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ» ، وَإِذَا خَرَجَ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» وقد رواه الترمذي وبين ضعفه.
   ولكن ثبت عند مسلم عن أبي حميد أو أبي أسيد قَالَ :« إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ». وزاد ابو داود وابن ماجة :« فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ».
    وثبت أيضا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَالَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ رواه أبو داود.
    وأما ما يتعلق بصفة الدخول ، فقد روي عن أنس  أنه قال:« من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى » رواه الحاكم وهو مختلف في صحته، وقال البخاري :» باب التمين في دخول المسجد وغيره وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى»، ثم أخرج حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها:« كَانَ النَّبِيُّ  يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ»-وهو متفق عليه-.
3- فَإِذَا قَامَ إِلَى اَلصَّلَاةِ قَالَ: اَللَّهُ أَكْبَرُ.
   ثم ذكر المصنف القيام والتكبير وهما ركنان في الصلاة ، والتكبير هو تحريم الصلاة، ولا يجزئ بغير هذه الصيغة (الله أكبر) فمن قال (الله الكبير) أو (الرحمن أكبر) لم تصح صلاته ، ومن باب أولى من أتى ذلك بغير العربية.
4- وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ، أَوْ إِلَى شَحْمَةِ أذنيه، في أربعة مواضع:
أ- عند تكبيرة الإحرام، ب- وعند الركوع، ج- وعند الرفع منه، د- وعند القيام من التشهد الأول، كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
   ومن السنة أن يصحب تكبير الإحرام رفع اليدين إلى حذو المنكبين أو إلى شحمة الأذنين، وسنة رفع اليدين ثابثة في أربعة مواضع ذكرها ابن عمر ففي صحيح البخاري قال نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
   واختلفت الرواية في الرفع عند السجود فقال ابن عمر :"وَلَا يَرْفَعُهُمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ" متفق عليه. وجاء في حديث مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ فِي صَلَاتِهِ وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَإِذَا سَجَدَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ رواه النسائي وصححه الألباني، لكن الحديث في الصحيحين من غير هذه الزيادة. وتبويب النسائي للحديثين يفهم منه أنه إنما كان يفعل ذلك أحيانا لا دائما.
5- وَيَضَعُ يَدَهُ اَلْيُمْنَى عَلَى اَلْيُسْرَى، فَوْقَ سُرَّتِهِ، أو تحتها، أو على صدره.
   السنة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة ، وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء، يدل عليه حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو حَازِمٍ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم رواه مالك وعنه البخاري. وحديث وائل بن حجر أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى الحديث رواه مسلم.
   وذهب الليث بن سعد وأكثر المالكية إلى أن السنة الإرسال والأحاديث الصحيحة حجة عليهم.
واختلف الجمهور في موضع الوضع:
-فقيل تحت السرة وهو مذهب الحنفية وأحمد في رواية، وروي عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما.
-وقيل فوقها تحت الصدر، وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك ورواية عن أحمد، وروي عن علي رضي الله عنه.
-وقيل توضع على الصدر، وهو مذهب الصنعاني والشوكاني والألباني ونسبه إلى إسحاق.
-وقيل بالتخيير وهو مذهب الأوزاعي وأحمد في رواية واختيار ابن حبيب وابن المنذر والمصنف، وهو مروي عن عطاء، وقال الترمذي:« والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم: يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة، ورأى بعضهم أن يضعها فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعها تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم».
   وهذا أرجح الأقوال لأنه لم يصح في تحديد موضع الوضع حديث، قال ابن حبيب:« ليس لذلك موضع معروف».
فأما أحاديث وضعها على الصدر وكذا تحت السرة فلا تصح كلها .
6- وَيَقُولُ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالى جَدُّكَ، وَلَا إِلَه غَيْرُكَ"، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ اَلِاسْتِفْتَاحَاتِ اَلْوَارِدَةِ عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
   أول شيء يأتي به المصلي بعد تكبيرة الإحرام : دعاء الاستفتاح، وهو سنة خلافا للمالكية، ومحله بعد تكبيرة الإحرام لا قبلها . يدل على ذلك الحديث الذي ذكر المصنف، وهو صحيح بطرقه، وأصح منه حديث أبي هريرة فَقُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ متفق عليه .
   وأما من احتج على نفيه بحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ  وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (متفق عليه) فلا حجة له لأن المثبت مقدم على النافي ولأنه كان يتحدث عما كان يجهر به لا ما كان يسر به وقد جاء في رواية لأحمد :"لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم".
7- ثُمَّ يَتَعَوَّذُ، ويُبَسْمِل، وَيَقْرَأُ اَلْفَاتِحَةَ،
  بعد دعاء الاستفتاح تستحب الاستعاذة عند الجمهور -خلافا لمالك في كراهتها- وأوجبها الأوزاعي والثوري وداود وابن حزم لظاهر الأمر في قوله تعالى : (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل/98].
  ولما كانت الاستعاذة تابعة للقراءة فإنها تشرع في كل ركعة، وهو مذهب الشافعية وابن حبيب ورواية عن أحمد.
    وبعد الاستعاذة يأتي المصلي بالبسملة، وقد قيل هي من الفاتحة فتجب قراءتها ويجهر بها وهو قول الشافعي، وذلك بناء على قراءة ابن كثير التي كان يقرأ بها الشافعي رحمه الله ، وقيل لا تقرأ أصلا كما هو مذهب مالك لأنها عنده ليست من الفاتحة وهي قراءة نافع ، ولأنه لم يثبت الجهر بها في الصلاة .
   والبسملة في أكثر القراءات والمصاحف ليس آية من الفاتحة وفي بعضها آية ، والصحيح أنها تقرأ سرا في الصلاة كما هو مذهب أحمد.
   واستحب أحمد أن يجهر بها أحيانا واختار ذلك ابن تيمية وذلك لأن مرجع الاختلاف إلى اختلاف القراءات، وهو اختلاف تنوع، وخاصة أنه ثبت الجهر بها عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
   وأما قراءة الفاتحة فهي ركن من أركان الصلاة لقول النبي  لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (متفق عليه) ويأتي في كلام المصنف تفصيل حكمها فتركه لموضعه.
8- وَيَقْرَأُ مَعَهَا فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ اَلْأُولَيَيْنِ مِنْ اَلرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ سُورَةً تَكُونُ:
أَ- فِي اَلْفَجْرِ: مِنْ طُوَالِ الْمُفَصَّل،
ب- وفي المغرب: من قصاره،
جـ- وفي الباقي: من أوساطه.
   من السنة أن يقرأ المصلي في الركعتين الأوليين مع الفاتحة شيئا من القرآن، وذلك المقروء متفاوت في الطول وقد حدده المصنف على هذا النحو :
أ-صلاة الفجر : من طوال المفصل وهي من سورة ق إلى المرسلات وقيل إلى سورة الانشقاق. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة ق في صلاة الصبح.
ب –صلاة المغرب : من قصار المفصل وهي من سورة الضحى إلى الناس، وقيل من الزلزلة إلى الناس.
ج- صلوات الظهر والعصر والعشاء: من أوساط المفصل وهي من سورة عم إلى الليل، وقيل من البروج إلى البينة. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالبروج والطارق ونحوها في الظهر والعصر وبالانشقاق في العشاء.
    ودليل المصنف على هذا التقسيم قول أبي هُرَيْرَةَ :" مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ  مِنْ فُلَانٍ كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَيُخَفِّفُ الْأُخْرَيَيْنِ وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطُوَلِ الْمُفَصَّلِ" رواه النسائي وصححه الألباني.
 وهذا الفعل أغلبي وقد ثبت غيره في السنة الصحيحة.
فثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح بالزلزلة والسجدة والصافات والروم والمؤمنون .
وثبت عنه أحيانا القراءة في المغرب بالطور والمرسلات والأعراف.
  وجاء في بعض الروايات ما يفيد جواز القراءة في الركعتين الأخيرتين أيضا ومن ذلك ما روى مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً أَوْ قَالَ نِصْفَ ذَلِكَ وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ.
9- يجهر في القراءة ليلًا، ويُسِرُّ بِهَا نَهَارًا، إِلَّا اَلْجُمْعَةَ وَالْعِيدَ، وَالْكُسُوفَ وَالِاسْتِسْقَاءَ، فَإِنَّهُ يَجْهَرُ بِهَا.
   أما موضع الجهر والاسرار في الصلوات الخمس المفروضة فهو معلوم من الدين بالضرورة، وأما في غيرها من النوافل فالقاعدة هي الجهر في صلاة الليل والإسرار في صلاة النهار.
  وأما إذا قضى المصلي صلاة الليل كالعشاء في النهار جهر، وكذا إذا قضى الظهر ليلا أسر.
والنساء شقائق الرجال في الجهر والاسرار، إلا إذا كانت في مكان فيه أجانب فتترك الجهر ، قال ابن قدامة :» وتجهر في صلاة الجهر وإن كان ثم رجال لا تجهر إلا أن يكونوا من محارمها فلا بأس « .
   واستثنى المصنف الجمعة والعيد والكسوف والاستسقاء من القاعدة لأنها تصلى نهارا ويجهر فيها لأن ذلك هو الثابت في السنة النبوية الصحيحة .

الثلاثاء, 01 شباط/فبراير 2022 16:36

خواطر في ظلال حديث "لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ".
قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ" متفق عليه عن معاوية رضي الله عنه .
   إن هذا الحديث يعتبر من جوامع الكلم النبوي، ومن دلائل صدق النبوة، ومن المبشرات لهذه الأمة، وتأملته يوما فخطرت لي خواطر في تبيين معانيه فسجلتها على هذا النحو :
أولا : إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لا يتكلم عن أعداء الأمة من أهل الملل؛ ولكنه يتكلم عن فئات كلها من أمته التي آمنت به، فالأمة التي تدين بالإسلام فيها فئة الناصرين للحق وقائمين عليه، وفيها فئة المخالفين للحق والمحاربين لأهله، وفيها فئة الخاذلين لأهل الحق والمخذلين .
ثانيا : إن الفئة القائمة على الحق وصفت في حديث معاوية رضي الله عنه بالأمة ووصفت في أحاديث مشابهة -كلها في الصحيح- بالطائفة أو القوم أو العصابة، وفي كل ذلك إشارة لتقليل عدد أهلها بالنسبة لمجموع الأمة.
ثالثا : يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القلة؛ حتى لا يستوحش ناصر الحق طريقه لقلة الصابرين والثابتين، وحتى يتسلى فيثبت ولا ينجر مع المخالفين الساعين لرضا أهل الباطل أو مع الخاذلين الخائفين من أهل الباطل.
رابعا : ويخبرنا صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا لنكون على يقين أن هذا الدين محفوظ إلى قيام الساعة؛ وهو معنى قوله (حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ) فدين الله محفوظ بنا أو بغيرنا وقد قال سبحانه (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) (محمد: 38)
خامسا : وهذا الدين دين الله تعالى؛ وهو أمانة ينبغي المحافظة عليها وتسليمها للأجيال كما تلقيت، وليس لأحد منا مهما كانت منزلته أن يغيرها زيادة فيها أو نقصا منها، إرضاء للأهواء أو الملوك أو الجماهير، أو رضوخا للأعداء من أهل الملل؛ بدعوى الحفاظ عليها.
فالعبد الناصح كالترجمان ما عليه إلا البلاغ، ولا يجوز للمترجم أن يزيد أو ينقص في الكلام، بزعم استحسان الزيادة والمصلحة في النقصان؛ فإن فعل ذلك الترجمان فقد خان.
سادسا : والخذلان المذكور وصف لا يتحقق إلا في حق من عرف الحق وكتمه، أو كانت له قدرة على النصرة فامتنع، أما من كان غير قادر أو غير عارف أصلا والتزم الصمت، فهذا لا يدخل في أي من الفئات الثلاث؛ لأنه لا تكليف إلا بعد العلم وإلا مع القدرة، وموقف غير العارف ينبغي أن يكون على وفق حديث (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات).
سابعا : وأما الضرر المنفي عن الطائفة القائمة بأمر الله؛ فهو الضرر المتعلق بنصرتهم الحق، فهم ثابتون لا يتأثرون بالخذلان والمخالفة، ويمكن أن يكون الضرر بالمتعلق بمجموع الطائفة لا الآحاد والأفراد؛ فهم منصورون ويبقى قولهم معلوما والحق محفوظا حتى تقوم الحجة على جميع الخلق ، وذلك غاية المراد.
ثامنا : إن هذا الحديث يبين لنا مظهرا من مظاهر رحمة الله بهذه الأمة الخالدة، وهو أنها لا تجتمع على الخطأ ولا على الضلالة ، ولو بوجود فئة من العلماء تبين الحق أو عصابة تؤدي الفرض الكفائي الواجب على الأمة في وقته.
وهو من أقوى وأصرح أدلة حجية الإجماع؛ الأصل الثالث من أصول الاستدلال بعد الكتاب والسنة.
تاسعا : يسيء كثير من الناس فهم الحديث الذي يتحدث عن وصف "القيام على الحق" و"نصرة الحق" فيترجمه في واقعه على أفراد معينين مهما كانت المسائل والقضايا المطروحة، وهذا خطأ جسيم لأنه يؤدي إلى حصر حماة الدين في تخصص واحد دون غيره أو جهة واحدة دون غيرها، كما أنه أدي بالكثيرين بعد تعيين هؤلاء الأفراد إلى اعتقاد العصمة فيهم ، ولا عصمة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، وإلا لمجموع الأمة بعده، وما ثبت للمجموع لا يثبت للأفراد، والحكم المعلق بالأوصاف لا يجوز الجزم بتعيين أفراده؛ ولكنا نرجو ونخاف، والله تعالى هو علام الغيوب العالم بالسر وأخفى وعواقب الأمور وخواتمها وظاهرها وباطنها.
والله سبحانه أعلى وأعلم .

السبت, 22 كانون2/يناير 2022 15:02

استقبال القبلة والنية وصلاحية المكان


1- وَمِنْهَا: اِسْتِقْبَالُ اَلْقِبْلَةِ: قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (اَلْبَقَرَةِ: 149-150).
2- فَإِنْ عَجَزَ عَنْ استقبالها، لمرض أو غيره سقط، كما تسقط جميع الواجبات بالعجز عنها، قَالَ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (اَلتَّغَابُنِ: 16).
3- وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في السفر النافلة على راحلته حيث توجهت به، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ: غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي (عليها) اَلْمَكْتُوبَةَ.
4- وَمِنْ شُرُوطِهَا: اَلنِّيَّةُ.
5- وَتَصِحُّ اَلصَّلَاةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَّا:
- فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ،
- أَوْ مَغْصُوبٍ،
- أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ ،
- أَوْ حمَّام،
- أو أعطان إبل.
وَفِي سُنَنِ اَلتِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا: "اَلْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ، إلا المقبرة والحمام".



[استقبال القبلة]


بقي من شروط الصلاة استقبال القبلة والنية وصلاحية المكان نتعرض لها في هذه الحلقة جميعا باختصار.
1- وَمِنْهَا: اِسْتِقْبَالُ اَلْقِبْلَةِ ، قال تعالى : ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
   قوله (منها استقبال القبلة) أي من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة، وذلك باتفاق العلماء نقله ابن حزم وابن رشد وغيرها، دليله قوله تعالى : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حيث أوجب على المصلي التوجه إلى المسجد الحرام ، ومعنى شطر المسجد أي جهة المسجد، وإصابة الجهة كاف ولا يشترط إصابة عين الكعبة إلا لمن كان براها وكذلك المسجد.
   وينبغي على المكلف أن يتعرف على ما يدله على القبلة إذا كان خارج المدن، وأما إذا كان في مدينة فيكفيه أن يستدل عليها بقبلة المساجد أو بسؤال أهلها.
2- فَإِنْ عَجَزَ عَنْ استقبالها، لمرض أو غيره سقط، كما تسقط جميع الواجبات بالعجز عنها،  قال تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (التغابن:16).
   معنى كون الاستقبال شرطا بطلان صلاة من أخل به ، لكن هل ذلك يعم العاجز والمخطئ ؟ أجاب المصنف بأن العاجز يسقط عنه الاستقبال ، والقاعدة أن لا واجب مع العجز والدليل قوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ  فالتكليف كله منوط بالاستطاعة ، ومن أسباب العجز المرض ومنه كون الإنسان مربوطا أو مسجونا في مكان ضيق، وكذلك كونه في حال الحرب في مواجهة العدو كما قال تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً  (البقرة:239) قال ابن عمر:" مستقبلي القبلة وغير مستقبليها"، قال نافع:" لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي   "، رواه البخاري.
   ومثل العاجز المخطئ إذا بذل جهده في معرفتها، لأن الاجتهاد مظنة الخطأ، فهذا إذا تبين له خطؤه بعد الصلاة لم تلزمه الإعادة خلافا للشافعي، وأما من فرط ولم يبذل جهدا في معرفتها فإن صلاته لا تصح، ومما يستأنس به في الباب ما رواه الترمذي وضعفه من حديث عن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ مرفوعا –وقد حسنه الألباني- كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ  فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ  فَنَزَلَ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ .
3-وكان النبي  يصلي في السفر النافلة على راحلته حيث توجهت به -متفق عليه-، وفي لفظ :»غير أنه لا يصلي (عليها) المكتوبة «.
    ويستثنى من الشرطية النافلة لأنها مبنية على التخفيف حيث تصح مع ترك بعض أركانها كالقيام ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر النافلة على راحلته حيث توجهت به كما ذكر المصنف .
   وهنا يطرح سؤال عن جواز أداء المسافر للصلاة المكتوبة من غير استقبال القبلة، فيقال نعم يجوز ذلك لمن خاف خروج الوقت ولم يتمكن من الجمع وكان في وسيلة نقل لا يمكن إيقافها ولا القيام فيها لاستقبال القبلة كالطائرة أو الحافلة ونحوها، ودليل ذلك ما سبق في المسألة قبلها.
[النية]
4- وَمِنْ شُرُوطِهَا: اَلنِّيَّةُ
    عد المصنف هنا من شروط الصلاة النية وهي شرط في كل عبادة كما سبق، والمراد بها هنا تعيين الصلاة ومن المقصود بها، فيدخل في معناها الإخلاص لله تعالى وتمييز الفريضة عن النافلة وكذا تمييز الفرائض بعضها عن بعض، ومن الفقهاء من يعتبر النية ركنا باعتبار أنها جزء من الصلاة داخلة في ماهيتها، والأصح أنها شرط إذ يصح تقدمها على الشروع في الصلاة، فمن قصد المسجد لأداء صلاة الظهر ثم ذهل حتى كبر تكبيرة الإحرام قد أتى بالنية الواجبة وصلاته صحيحة.
[صلاحية المكان]
5-وَتَصِحُّ اَلصَّلَاةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَّا:
   هذا الشرط الأخير عند المصنف ويترجم بصلاحية المكان ليعم جميع الأحوال المذكورة، وعلى مذهب الجمهور -سوى الحنابلة- يقتصر على اجتناب النجاسة في المكان فضلا عن البدن والثوب.
- فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ.
   أما اجتناب الصلاة في المكان النجس فمعلوم من الأمر بتطهير المسجد في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، ومن الأمر بتطهير الثوب والبدن في الصلاة.
   ومن صلى في محل نجس وهو قادر على اجتنابه صلاته باطلة، وهو مذهب الجمهور خلافا لأبي حنيفة والشوكاني ، ووجه البطلان أننا أمرنا بالطهارة في الصلاة ونهينا عن الصلاة بالنجاسة لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والقاعدة عند الجمهور أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه إلا لدليل أو قرينة.
-أو مغصوب .
   لا شك أن اجتناب الغصب والصلاة في المكان المغصوب أمر مطلوب ، لكن لم يرد نهي خاص بالصلاة حتى يقال إن النهي يقتضي الفساد، وإنما الوارد هو النهي عن الغصب، الصواب أن الصلاة صحيحة مع الإثم لأن النهي عنه منفك عن العبادة ولا تعلق له بذات الصلاة، مثله من صلى في سفر معصية فصلاته صحيحة مع الإثم لم يختلف الفقهاء في صحة صلاته وإنما اختلفوا هل يأخذ برخص السفر كالقصر والميح ونحوها،  وما قيل في حكم الصلاة في المكان المغصوب يقال في الصلاة في الثوب المغصوب أو بخاتم الذهب وكذا الوضوء بالماء المغصوب، أي الصلاة صحيحة مع الإثم.
-أو في مقبرة .
   أما الصلاة في المقبرة فقد صح فيها النهي حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم :« لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» رواه مسلم، ومقتضى القاعدة أن النهي الدال على التحريم يقتضي فساد المنهي عنه ، هذا مذهب أحمد وداود واختيار ابن تيمية والعثيمين. وعلة النهي هي سد ذريعة الشرك بالله تعالى بالسجود بين القبور، وليس توهم نجاسة التربة كما ذكر بعض الفقهاء لذلك لا فرق في النهي بين مقبرة منبوشة وغير منبوشة.
   ومما هو داخل في مسمى المقبرة الأضرحة المبنية التي قد لا يكون فيها إلا قبر واحد.
   وأما المساجد التي دفن فيها شخص أو أكثر، فإن كانت قبورهم في غير اتجاه القبلة ومفصولة ببناء جازت الصلاة فيها وإلا لم تصح حتى تخرج منها أو تكون مفصولة ببناء.
-أو حمام .
   أما الصلاة في الحمام فقد ورد النهي عنها في الحديث الآتي ذكره وهو :« الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام »، وهو حديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، وقد أعله الترمذي والدارقطني وغير واحد من أهل الحديث بالإرسال، فلا اعتماد عليه ولا يصح القول بالبطلان، لكن الذي لا شك فيه كراهة الصلاة في كل مكان غير نظيف. وقد صح عن ابْنِ عَبَّاسٍ قال: «لَا تُصَلِّيَنَّ إِلَى حَشٍّ، وَلَا فِي الْحَمَّامِ، وَلَا فِي الْمَقْبَرَةِ» (رواه عبد الرزاق)، والمقصود موضع الاغتسال، وأما إذا كان في جهة ما من بناء الحمام مكان نظيف أو مخصص للصلاة فلا حرج في ذلك.
-أو أعطان إبل .
   وأما أعطان الإبل فصد صح النهي عنها صريحا في حديث أبي هريرة مرفوعا صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وقد رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني. ومقتضى النهي إذا كان دالا على التحريم فهو يدل على الفساد ، والقول ببطلان الصلاة في أعطان الإبل هو مذهب أحمد وأبي ثور . وصح في مسند أحمد (34/ 182) عن عبد الله بن مغفل قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ ".
-في سنن الترمذي مرفوعا :» الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام « .
   هذا الحديث في صحته نظر كما سبق وأما كون الأرض كلها مسجد فهو عموم وارد في أحاديث أخرى في الصحيحين وقد عده النبي  من خصائصه، وأول ما يستثنى الحشوش وأماكن النجاسة وقد صح استثناء أعطان الإبل والله أعلم

السبت, 08 كانون2/يناير 2022 20:35

شرح موجز للأسماء الحسنى
 
1-الله تعالى هو القهّار الغالب لمخلوقاته بقوته، المذلل لهم المتصرف فيهم لا رادّ لقضائه، ومنه قهره للجبارين بالعقاب وقهره للجميع بالموت.
2-الله تعالى هو الجبار الذي قهر خلقه بحكمه؛ فألزمهم بما أراد أمرا ونهيا
والمتعالي عليهم المتصرف في أمورهم بما يشاء مما فيه صلاحهم.
3-الله تعالى هو الناصر والنصير أي المعين للمؤمنين فلا يسلمهم ولا يخذلهم،
وييسر لهم الغلبة بتثبيت أقدامهم وإلقاء الرعب في قلوب عدوهم.
4-الله تعالى الولي والمولى، فهو ولي المؤمنين القريب منهم المحب لهم والناصر لهم، ومولاهم سيدهم المدبر لأمرهم المصلح لشأنهم والمعين لهم.
5-الله تعالى هو العزيز أي القوي الذي ليس لقوته نظير والمنيع الذي لا يتوصل إليه بمكروه والغالب الذي خضعت له المخلوقات وذل له كل عزيز.
6-الله تعالى هو الوكيل والكفيل أي المتولي تدبير مصالح خلقه المستغني عن غيره في القيام على شؤونهم والكافي لكل متوكل أسند أمره إليه.
7-الله تعالى هو القادر على كل ما يشاء، فلا يمتنع عليه شيء ولا يفوته مطلوب والقوي التام القدرة فلا يعجزه شيء والمتين الذي لا يمسه تعب.
8-الله تعالى هو الحفيظ الذي يحفظ الكون وما فيه ويحفظ العباد من المصائب ويحفظ أولياءه في دينهم ودنياهم ويحفظ أعمال الجميع ليوم الحساب.
9-الله تعالى هو المقدم والمؤخر منزل الأشياء منازلها، يقدم ما يشاء ويؤخر ما شاء زمانا ومكانا ومكانة وحالا؛ بحسب حكمته وسننه الكونية.
10-الله تعالى هو الحليم الذي ينعم على العباد مع علمه بعصيانهم، ولا يعجل العقوبة لمستحقها وهو قادر عليه، بل يمهله عسى أن يذكّر ويتوب.
11-الله تعالى هو اللطيف أي العليم بخفي الأمور ودقائقها والمحسن إلى العباد من حيث لا يعلمون والموصل رحمته إليهم من حيث لا يشعرون.
12-الله تعالى هو الوارث أي المسترد لأملاك العباد بعد موتهم ومورثها من يشاء، وهو الآخر الذي يبقى ملكه بعد فنائهم ثم يورث المؤمنين الجنة.
13- الله تعالى هو الشافي يشفي الصدور من الشبهات والشهوات وآفات القلوب، ولا يشفي الأبدان من الأدواء إلا هو إذ هو خالق الدواء ومنزل العافية.
14-الله هو الغني الذي له خزائن الدنيا والآخرة والمستغني بذاته عن مخلوقاته عن عبادتهم وعن نصرتهم وعن صدقاتهم بل هو الذي أغناهم وأقناهم.
15-الله تعالى الرازق موجد رزق الخلائق من قوت الأبدان والقلوب ومن مال وعلم وجاه وزوج وولد، وموصله إليهم بسبب وبغير سبب وبطلب وبغير طلب.
16-الله تعالى هو الوهاب المعطي بسؤال وغير سؤال من غير استحقاق ولا رجاء نوال، الذي جاد بالحياة والصحة والهداية والملك ومالا يحصى من نعم.
17-الله تعالى هو المحيط الذي أحاط بجميع خلقه إحاطة علم وإحصاء وحفظ وقدرة لا مهرب من أمره وقدره في الدنيا ولا مفر من قضائه يوم القيامة.
18-الله هو الحسيب أي الكافي الذي يكفى من توكل عليه والمكافئ المحاسب للعباد في الدنيا والآخرة والديان المجازي لهم بأعمالهم يوم القيامة.
19-الله تعالى هو الشهيد الحاضر المطلع على كل شيء، والمحيط بالخلائق علما وسمعا وبصرا، والشهيد على العباد يوم الحساب والمبين حجج حكمه.
20-الله تعالى هو الرقيب أي المطلع على الضمائر فضلا عن العمل الظاهر والشهيد الذي لا تعزب عنه أحوال خلقه والحفيظ الذي لا يغيب عنه شيء.
21- الله تعالى هو الحق المتحقق وجوده والمنفرد بالملك التام وبصفات الكمال والجلال والجمال والمستحق للعبادة أمره حق وفعله حق وكل وعده حق
22- الله تعالى هو المبين، الذي بين وحدانيته ونفى الشريك عنه، وبين لعباده سبل الرشاد وموجبات ثوابه وعقابه وسيبين للطغاة حقائق ما توعدهم به
23-الله تعالى هو الحَكم الذي حكم العباد بشريعته المحكمة وقدره الجاري عليهم والذي يحكم بينهم يوم القيامة بالقسط فيما كانوا فيه يختلفون
24-الله هو الهادي أرشد الخلق إلى مصالحهم وهدى العباد إلى معرفته وعبادته هداية بيان وهدى أولياءه هداية توفيق وتسديد وهداهم إلى النعيم
25- الله تعالى هو النور نور لا كالأنوار فهو وصف له كامل وهو منور السموات والأرض والهادي الذي به استنارت القلوب ومن أنواره كلامه وشرعه .
26-الله تعالى هو الجميل له جمال الذات وأسماؤه كلها حسنى وصفاته كلها صفات كمال وأفعاله كلها عدل وإحسان والنظر إليه أعظم نعيم في الآخرة
27-الله تعالى هو الواحد الأحد واحد في ذاته لا ثاني له واحد في صفاته لا نظير له تفرد بالخلق والملك والتدبير وهو المعبود بحق لا شريك له.
28-الله هو الصمد أي الأحد في ذاته لم يلد ولم يولد والمستغن عن غيره، وهو السيد الكامل في سؤدده الذي لا أحد فوقه المقصود في قضاء الحوائج
29-الله تعالى هو الحميد أي المستحق للثناء والمحبة إذ أسماؤه حسنى وصفاته كاملة وأفعاله حكيمة وهو المحمود على كل حال بحمده لنفسه وبحمد عباده
30-الله تعالى هو المجيد الذي كمل في الشرف والرفعة والعظمة وكثرت صفات كماله ونعوت جلاله عن العد واتسعت مظاهر كرمه وإحسانه عن الإحصاء .
31-الله تعالى هوالسميع، المدرك لجميع الأصوات والسر والنجوى والجهر عنده سواء، لم يزل سميعا ويسمع كل صوت في حينه، وهومجيب دعاء السائلين
32- الله تعالى هو البصير، المدرك لكل الموجودات والخفيات عنده جليات لا يحجبها حجاب ولا ظلمة ولا دقة، لم يزل بصيرا ويرى كل حركة في زمانها
33-الله تعالى هو العليم، يعلم جليل الأشياء ودقيقها والسر وأخفى والغيب وعواقب الأمور، أحصى كل شيء فلا يشغله علم عن علم ولا يضل ولا ينسى
34- الله تعالى هو الخبير المطلع على كنه الأشياء وحقائقها والعليم بعواقب الأمور ومصيرها، ولا يجري في ملكه أمر ظاهر أو خفي إلا خبره عنده
35- الله تعالى هو العظيم في ذاته وشأنه وصفاته وسلطانه العلي الذي تنزه عن النقائص والآفات وجاوز قدره حدود العقول فلايمكنها أن تحيط بكنهه.
36- الله تعالى هو الكبير، الذي يصغر كل كبير دونه ولا شيء أكبر منه، وعظيم الشأن والقدر، ذو الجلال والصفات غير المتناهية والمتعالي عن كل نقص
37-الله تعالى هو المتكبر المتفرد بالكبرياء والشرف العظيم وقاهر المستكبرين الذي استعلى عن الخلق وصفاتهم ونزه نفسه عن كل سوء وشر وظلم
38- الله تعالى هو الحكيم الذي أحكم كل ما أوجده بعلمه وعدله قوله صواب وشرعه صلاح وفعله حسن ولا تجد في خلقه خللا ووضع كل شيء في موضعه
39-الله تعالى هو الفتاح الحاكم بين الناس وناصر المحق على المبطل، وفاتح أبواب الرزق والرحمة ومفرج كروب عباده ومبصر القلوب بأنواع المعارف
40- الله تعالى هو التواب ييسر التوبة لعباده ويوفقهم إليها ويجازي المنيبين ويغفر للمذنبين ويقبل توبتهم مهما عظم الجرم ومهما تكرر العود
41-الله تعالى هو الحي حياته أزلية لا أول لها وأبدية لا نهاية لها ودائمة بلا حاجة إلى راحة ونوم وطعام ومن كمال حياته كمال صفاته وأفعاله
42-الله تعالى هو القيوم القائم بنفسه المستغني عن غيره، المقيم لشأن خلقه قوتا ورزقا وتدبيرا لكل أمورهم، والرقيب الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.
43-الله هو الأول الذي لا ابتداء لوجوده ولا شيء قبله وكل شيء وجد بإيجاده وهو الآخر الباقي الذي لا انتهاء له ولا شيء بعده ووارث كل شيء
44-الله تعالى هو الظاهر أي الأعلى الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن أي القريب الذي ليس دونه شيء فهو مع علوه على خلقه محيط ببواطن الأشياء
45-الله تعالى هو السبوح والقدوس أي الطاهر عن العيوب والنقائص والمنزه عن مماثلة الخلق وعن الشركاء والأنداد والمبارك الممجد بصفات الكمال
46-الله تعالى هو السلام المتصف بصفات الكمال والسالم من العيوب في صفاته ومن الظلم في أفعاله وذو السلام وواهب السلامة في الدنيا والآخرة.
47-الله تعالى هو الطيب المتصف بجميل الصفات والمنزه عن الآفات أسماؤه أحسن الأسماء وصفاته كلها كمال وكل ما يصدر عنه طيب ولا يقبل إلا طيبا
48-الله تعالى هو المؤمن المصدّق لنفسه ولرسله بآيات صدقهم والصادق الوعد ومؤمّن العباد من ظلمه والمؤمنين من عذابه ولا يأمن إلا من أمنه
49-الله تعالى هو المهيمن الشهيد على خلقه والرقيب عليهم والقائم على شؤونهم والحافظ لهم والحاكم المؤتمن عليهم والمحيط بهم علما وقدرة
50- الله تعالى هو القريب قربا عاما من كل العباد بعلمه ومراقبته وإحاطته وقربا خاصا يليق به من أوليائه فيحفظهم ويوفقهم ويهديهم ويجيبهم.
51-الله تعالى هوالواسع أي واسع الصفات والمحامد، وصفاته واسعة فهو واسع في غناه ورزقه وإحسانه ورحمته، وواسع في علمه وقدرته وعظمته وملكه.
52- الله تعالى هو العفو الذي يصفح عن ذنوب عباده فيضع عنهم تبعات خطاياهم ولا يجازيهم، وذلك بسبب توبة أو إحسان أو شفاعة أو بمحض مشيئته.
53- الله تعالى هوالغفور، الذي يعفو عن المذنبين ويسترهم ويرضى عنهم ولا يعتب عليهم، وهو غفار للذنب مهما تكرر، وغفور للذنوب جميعا مهما عظمت.
54-الله هو الشكور الذي يثني على من يطيعه ويذكر من يذكره ويتقرب إلى من تقرب إليه ويثيب على الإحسان ولو قل ويضاعفه ويورث صاحبه الجنة.
55-لله تعالى هو الودود الذي يحب الصالحين والتائبين أصفى حب وأنقاه ويحب صالح الأعمال، وقد امتلأت قلوب أوليائه بمحبته فهو أحب شيء إليهم.
56-الله تعالى هو الرفيق، معطي كل خير ومسهل أسبابه، وجاعل شرعه كله ميسرا، وهو رفيق في أفعاله وتدبير شأن خلقه، ومن رفقه حلمه بالعصاة.
57-الله تعالى هو الخالق موجد الأشياء بتقديره والخلاق الذي أتمها خلقا بعد خلق، ومبدع الخلق من العدم الذي لم يزل خالقا بلا كلفة ولا حاجة.
58-الله تعالى هو البارئ، الذي أبدع الخلائق على غير مثال؛ فقدرها وأبرزها إلى الوجود، فصَل بين صور أجناسها وأشخاصها وهو القادر على تحويلها .
59-الله تعالى هو المصور الذي أعطى خلقه صورا شتى على غير مثال احتذاه، وأنشأهم على هيئات مختلفة ليتمايزوا وباين صورهم ليتعارفوا بها .
60- الله تعالى هو المقيت، أي المقتدر على كل مخلوقاته، والمحيط بها إحاطة علم وقدرة وحفظ وتدبير، مقدر أقواتها والقائم على جميع شؤونها .
61-الله تعالى هو المقتدر، المتفرد بالقدرة التامة فلا يمتنع عليه شيء ومظهر قدرته بفعل كل ما يشاء، وكل قدرة في الكون فهو مسديها وواهبها.
62-الله تعالى هو القوي والمتين، قوي تام القدرة فلا حد لقدرته ولا يستولي عليه عجز، ومتين شديد لا تنقطع قوته ولا تلحقه مشقة ولا لغوب.
63-الله تعالى هو المالك والمليك، المتفرد بإيجاد الكون وما فيه والقادر عليه لا شريك له في ملكه، المتفرد بالتصرف فيه والوارث له يوم الدين.
64-الله تعالى هو الملك، المتفرد بتدبير ملكه فلا يجري فيه إلا ما يريد، ويهب الملك لمن يشاء وينزعه عمن يشاء، وهو الآمر الناهي والحكم المطاع.
65-الله تعالى هو الديان الملك الذي ألزم عباده بطاعته والحاكم الذي يقضي بينهم بالحق، والحسيب الذي لا يضيع أعمالهم والمجازي لهم يوم الدين
66-الله تعالى هو الحيي، فهو ذو حياء يليق بكماله يدع ما لا يتناسب مع عظيم كرمه وسعة عفوه ورحمته، وهو يحب الستر ويكره فضح القبائح
67-الله تعالى هو الستير، الذي يستر على عباده في الدنيا كثيرا من الذنوب والعيوب ويستر يوم القيامة التائبين وكل من ستر المسلمين
68-الله تعالى هو العلي، له العلو المطلق من كل وجه: علو الذات والصفات وعلو القدر والقهر، وهو فوق كل شيء على العرش استوى وعلى الملك احتوى
69-الله تعالى هو الأعلى والمتعالي، فهو الأعلى الذي ليس فوقه شيء من خلقه، والمنزه عن صفات النقص والمتعالى عن مماثلة المخلوقين
70- الله تعالى هوالمستعان، الغني عن غيره والمستحق أن يستعان به إذ هو واهب القدرة وميسر الأسباب، فلا اعتماد إلا عليه ولا ثقة مطلقة إلا به
71-الله تعالى هو البر، أي الرفيق بعباده والمحسن إليهم ومصلح أحوالهم، فعم الجميع برزقه وعفوه، وخص أولياءه بتوفيقه ومضاعفة ثواب أعمالهم.
72-الله تعالى هو المحسن؛ الذي أتقن كل شيء خلقه والذي أنعم إلى عباده فأوجدهم من العدم وأحسن صورهم ورزقهم وهداهم، ثم أحسن إلى محسنهم.
73-الله تعالى هو الكريم، جامع المحاسن والمحامد الذي عم جوده الخلق، يعطي بلا حساب ولا سبق استحقاق ولا رجاء ثواب، ويتجاوز عن المسيء.
74-الله تعالى هو المعطي، يعطي من شاء متى شاء من الرزق والقوة والعلوم والنعم التي لا تحصى، ويعطي أهل الجنة عطاء غير مقطوع.
75-الله تعالى هو القابض الباسط، مدبر أمر الخلق بحسب حكمته فلا حركة ولا سكون إلا بإذنه، باسط الأرزاق وقابضها وباسط الحياة وقابض الأرواح.
76-الله تعالى هو المنان، فهو المالك المعطي حقيقة وخلقه كلهم ممنون عليهم، ومن كمال منّه تعديد نعمه على عباده وترفعه عن الحاجة إلى الثواب.
77-الله تعالى هو المجيب، يجيب المثني فيثيبه والسائل فيعطيه، يجيب عباده إجابة عامة والمستجيبين له إجابة خاصة، ويجيب كل مضطر إذا رجاه.
78- الله تعالى هو الرب، أي المالك لجميع العوالم، والمصلح لشؤونها ومدبرها وفق نواميس محكمة، وهو السيد المطاع له الحكم ولا معقب لحكمه.
79-الله تعالى هو السيد، الذي له منتهى السؤدد، تفرد بكل خصال الشرف على وجه الكمال، وتفرد بالملك والخلق كلهم عبيد له محتاجون إليه.
80- الله تعالى هوالرحيم، الذي كل فعله وشرعه رحمة فوسعت رحمته جميع خلقه في الدنيا هداية وإنعاما وتجاوزا، وجعلها خالصة للمؤمنين في الآخرة.
81-الله تعالى هو الرحمن، هو أرحم الراحمين فلا سمي له ولا مثيل، ولم يزل رحمانا قبل أن يرحم خلقه، وهو وحده من رحمته وسعت كل شيء.
82-الله هو الاسم الدال على ذات الله تعالى، فلا يشاركه في معناه أحد، معناه أنه المعبود بالمحبة والتعظيم وهو جامع لمعاني كل الأسماء الحسنى.

الخميس, 25 تشرين2/نوفمبر 2021 20:34

[باب ستر العورة]


1- وَمِنْ شُرُوطِهَا: سَتْرُ اَلْعَوْرَةِ بِثَوْبٍ مُبَاحٍ، لَا يَصِفُ اَلْبَشْرَةَ.
2- وَالْعَوْرَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
- مغلَّظة: وهي: عورة المرأة الحرة البالغة، فَجَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ فِي اَلصَّلَاةِ إِلَّا وَجْهَهَا.
- ومخففة: وهي عَوْرَةُ اِبْنِ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى عَشْرٍ، وَهِيَ اَلْفَرْجَانِ.
- وَمُتَوَسِّطَةٌ: وَهِيَ عَوْرَةُ مِنْ عَدَاهُمْ، مِنْ السُّرَّة إلى الركبة.
3- قَالَ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (اَلْأَعْرَافِ: 31) .

[باب ستر العورة]


1- وَمِنْ شُرُوطِهَا: سَتْرُ اَلْعَوْرَةِ بِثَوْبٍ مُبَاحٍ، لَا يَصِفُ اَلْبَشْرَةَ.
   بعد أن تعرض المصنف لشرطين من شروط الصلاة الطهارة ودخول الوقت انتقل إلى شرط ثالث وهو ستر العورة ، والقول بالشرطية مذهب الجمهور، وقال المالكية إن ستر العورة واجب مع العلم والقدرة أو سنة تبطل صلاة من تركها عمدا، والفرق بين المذهبين حكم من تركها جاهلا وناسيا أو عاجزا هل تبطل صلاته أم لا ، وأما من كان قادرا على الاستتار وصلى عريانا فقد نقل ابن عبد البر الإجماع على فساد صلاته.
 ومن أدلة وجوب ستر العورة قوله تعالى : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف:31) وقوله صلى الله عليه وسلم:« فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ » رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم :« لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ»-رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة-.
   ومع القول بشرطية ستر العورة فالظاهر أنه يعفى عمن غفل عن يسيرها، لحديث عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ قَالَ :«فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنْ الرُّكْبَانِ فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْحَيِّ أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ» رواه البخاري.
   وقوله :"بثوب مباح" بمعنى أنه لا يجوز أن يصلى المرء بثوب محرم على المصلي لبسه سواء كان مسروقا أو مصنوعا من حرير بالنسبة للرجال أو من جلود السباع ونحو ذلك ، والمسلم منهي عن استعمال الثوب المحرم في الصلاة وخارجها، ولكن في الصلاة يشتد النهي ، ويرى الحنابلة بطلان الصلاة لأن النهي يقتضي الفساد ، وعند الجمهور تصح الصلاة مع الإثم لأن النهي عن استعمال المحرم جاء عاما ولم يأت في خصوص الصلاة ، ولو ورد النهي عن الصلاة بثوب حرير أو ثوب مغصوب لكان مقتضى النهي الفساد لكنه لم يرد، فمات الصلاة صحيحة بثوب الحرير للرجل مثلما لو صلى بخاتم الذهب ولا فرق والعلم عند الله تعالى.  
  وقوله :" لا يصف البشرة" بيان لشرط مهم في اللباس، فاللباس لابد أن يكون كثيفا لا يشف، والشفاف الذي يصف لون البشرة لا يصح أنه يقال إنه ستر العورة ، والصلاة به باطلة ، وكذلك لابد أن يكون صفيقا لا يصف ولا يحدد العورة ، وهذا فيه اختلاف فقيل بالبطلان أو الاعادة في الوقت وقيل بالصحة مع الكراهة وعلل برفع الحرج، ولعل بعض اللباس يخرج من محل الخلاف ملتحق بما يصف البشرة لأنه كمن ستر عورته بحناء أو صبغ.
ولم يذكر المصنف شرطا ثالثا وهو طهارة الثوب ولعله رآه داخلا في معنى شرط الإباحة أو اكتفى بما بالإشارات السابقة إليه في المتن حين قال : (فَإِذَا شَكَّ اَلْمُسْلِمُ فِي نَجَاسَةِ مَاءٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ بُقْعَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا: فَهُوَ طَاهِرٌ) وحين قال : (وَيَكْفِي فِي غَسْلِ جَمِيعِ اَلنَّجَاسَاتِ عَلَى اَلْبَدَنِ، أَوْ اَلثَّوْبِ، أَوْ اَلْبُقْعَةِ أَوْ غَيْرِهِا، أَنْ تَزُولَ عَيْنُهَا).
2- وَالْعَوْرَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
قسم المالكية والحنفية العورة إلى قسمين عورة مغلطة وعورة مخففة وهي في حق الرجل السوءتان وفي حق المرأة ما بين السرة والركبة، وثمرة التفريق عند المالكية جعل سترة المغلطة شرطا وستر المخففة واجبا .
وثمرتها عند بعض الحنفية تحديد القدر المعفو عنه والمغلظة عندهم هي السوءتان .
والذي جرى عليه المصنف جعل القسمة الثلاثية لكنه لم يبين لنا ثمرة التقسيم ، والذي ظهر لي أن هذا مجرد تقسيم لأنواع العورات –كما هو عند الحنابلة- لا يتعلق بالغلظ أو التخفيف أحكام والله أعلم.
- مغلَّظة: وهي: عورة المرأة الحرة البالغة، فَجَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ فِي اَلصَّلَاةِ إِلَّا وَجْهَهَا.
النوع الأول : هو جميع البدن إلا الوجه كما قول أحمد في رواية وإلا الوجه والكفين عند الجمهور وهو الصحيح.
والدليل قوله صلى الله عليه وسلم «المَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ»-رواه الترمذي وصححه-، ودليل الاستثناء أن النبي  نهى المحرمة عن لبس النقاب والقفازين، ولأن ابن عباس قال في تفسير قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها): وجهها وكفاها، ونحوه عن ابن عمر.
   قوله :"فجميع بدنها عورة في الصلاة إلا وجهها" أما في غير الصلاة فهي كلها عورة في مذهب أحمد وعند المصنف.
   واستثنى أبو حنيفة القدمين، ووافقه ابن تيمية والعثيمين، واحتج ابن تيمية بأن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كن يصلين في القمص والقمص لا ترخى حتى تستر القدم وأسفله وإنما تستر ساقها فقط (مجموع الفتاوى (22/118) الشرح الممتع (2/ 161)).
 ومن أدلتهم حديث عائشة: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قالت : "الفتخ حلق من فضة يكون في أصابع الرجلين"، وفي الإسناد ضعيف وامرأة لا تعرف-انظر تفسير ابن أبي حاتم (8/2575).
- ومخففة: وهي عَوْرَةُ اِبْنِ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى عَشْرٍ، وَهِيَ اَلْفَرْجَانِ.
   النوع الثاني من العورة عند الحنابلة في الصلاة وغيرها الفرجان فقط وهو خاص بالولد الذكر إذا كان عمره ما بين سبع سنين إلى عشر سنين.
    ومفهوم كلامهم أن من كان دون سبع سنين فلا عورة له وهو نفسه مذهب الشافعية، ومذهب المالكية أنه لا عورة له إلى ثمان سنين وعورته الفرجان إلى البلوغ، وهذا فيه نظر، وكأنهم ربطوا حكم العورة المغلظة بسن تمييزه هو، والأولى اعتبارها باشتهاء غيره له لأنه يسترها عن غيره من الرجال والنساء.
    وأقرب من هذا قول بعض الحنفية إنه لا عورة للصبي والصبية حتى يبلغا أربع سنين فعورتهما الفرجان ما داما لم يشتهيا، فإذا بلغ سبع سنين فتصبح عورته كعورة الكبير للأمر بالصلاة، ومنهم من قال إنما تتغلظ بدءا من السابعة إلى عشر سنين ثم يكون كعورة البالغين لأن ذلك زمان يمكن بلوغ المرأة فيه.
   ينبغي التنبيه أن من دون الثمان عند المالكية إذا صلى وجب عليه أن يستر عورته المغلظة، ولذلك قالوا يعيد في الوقت.
- وَمُتَوَسِّطَةٌ: وَهِيَ عَوْرَةُ مِنْ عَدَاهُمْ، مِنْ السُّرَّة إلى الركبة.
  النوع الثالث من العورات من السرة إلى الركبة ، وقوله :«من السرة إلى الركبة» الصحيح فيه أن السرة والركبة لا يدخلان في العورة.
   وقوله :«من عداهم »يشمل الأصناف الآتية:
1-من تجاوز عشر سنين من الذكور، فأما البالغ فعورته عند الجمهور ما بين السرة والركبة، وغير البالغ مثله عند الحنابلة والشافعية وبعض الحنفية ، وسبق أن المالكية حدوا وجوب سترها بالبلوغ وأن بعض الحنفية حدوها بسبع سنين.
2-عورة غير البالغة من الإناث التي تجاوزت سبع سنين، وهذا عند الحنابلة في الصلاة ومع محارمها أما مع الأجانب فجميع بدنها إلا الوجه والرقبة والرأس واليدين إلى المرفقين والساق والقدم.
وعند الحنفية أن عورتها عورة البالغة إذا صارت يشتهى مثلها.
وعند الشافعية عورتها من السابعة إلى التاسعة فرجها فإذا بلغت التاسعة صارت في حكم البالغات.
3-وعورة الأمة في الصلاة وغيرها وهو قول الجمهور، وقيل ما عدا الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبة وهو رواية عن أحمد. وقيل كلها عورة ما عدا الرأس حكي عن مالك، وهو قول ابن حزم وابن تيمية وأقصى حالهن أنهن كالقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا.
4-قال تعالى : (  يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) (الأعراف:31) .
    أورد المصنف هذه الآية للدلالة على وجوب سترة العورة في الصلاة ، وفي تفسير الآية أقوال عدة:
فقيل إنها واردة في ستر العورة في الطواف.
وقيل إنها في ستر العورة في الصلاة.
وقيل المراد بها التجمل للجمع والأعياد.
    والأول صح عن ابن عباس كما في مسلم وغيره، ولكن أمر الصلاة أوكد من الطواف، وعليه تكون الآية شاملة للأقوال جميعها، على أن الآية نصت على الأمر بالزينة وإنما دلت على الأمر بستر العورة بدلالة التضمن أو الأولى، قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/326):« أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال تعالى : (خذوا زينتكم عند كل مسجد) (الأعراف:31) فعلق الأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة».
     وفي سياق معنى الزينة المأمور بها في الآية أمرنا  بستر أعلى الجسد زيادة على ستر العورة، فقال :« لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ » متفق عليه.



الجمعة, 19 تشرين2/نوفمبر 2021 18:07

كِتَابُ الصَّلاةِ [باب مواقيت الصلاة]


1- تَقَدَّمَ أَنَّ اَلطَّهَارَةَ مِنْ شُرُوطِهَا.
2- وَمِنْ شُرُوطِهَا: دُخُولُ اَلْوَقْتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ: أَنَّهُ أَمَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَوَّلِ اَلْوَقْتِ، وَآخِرِهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، الصَّلاةُ مَا بينَ هَذَينِ الوَقْتَينِ. رواه أحمد والنسائي والترمذي.
3- وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ اَلنَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَقْتُ الظُّهْرِ، إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ، مَا لَمْ تَحْضر العَصْر، وَوَقْتُ العَصْرِ، مَا لَمْ تَصْفَّر الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ، وَوَقْتُ صَلاةِ العِشَاءِ، إِلى نِصْفِ اللَّيلِ، وَوَقْتُ صَلاةِ الصُّبحِ: مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ، مَا لم تَطْلع الشَّمْسُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
4- وَيُدْرَكُ وَقْتُ اَلصَّلَاةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
5- وَلَا يُحِلُّ تَأْخِيرُهَا، أَوْ تَأْخِيرُ بَعْضِهَا عَنْ وَقْتِهَا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ.
6- إِلَّا إِذَا أَخَّرَهَا لِيَجْمَعَهَا مَعَ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ، أَوْ مَطَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ نَحْوِهِا.
7- وَالْأَفْضَلُ تَقْدِيمُ اَلصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا .
8-إلا: العشاءَ إذا لم يشق، وإلا الظهرَ في شدة الحر، قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّم".
9- وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فَوْرًا مُرَتِّبًا.
10- فَإِنْ نَسِيَ اَلتَّرْتِيبَ أَوْ جَهِلَهُ، أَوْ خَافَ فَوْتَ اَلصَّلَاةِ، سَقَطَ اَلتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اَلْحَاضِرَةِ.


كتاب الصلاة
[باب مواقيت الصلاة]


    بعد أن فرغ المصنف من كتاب الطهارة وذكر أهم مسائلها انتقل إلى كتاب الصلاة وافتتحه بالحديث عن المواقيت، وذلك في سياق عام ذكر فيه شروط الصلاة ، سبق منه شرط الطهارة وستتلوه الشروط الأخرى تباعا. ولعل هذا المكان أنسب لتعريف الصلاة من تعريفها في بداية الكتاب فيقال الصلاة في اللغة العربية هي الدعاة وقد نقلت في لسان الشرع إلى عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، وهو تعريف يشمل الصلاة المفروضة وغيرها وصلاة الجنازة ونحوها..
1- تَقَدَّمَ أَنَّ اَلطَّهَارَةَ مِنْ شُرُوطِهَا.
   هذا تذكير بالعبارة التي افتتح بها كتاب الطهارة حيث قال رحمه الله :" أمَّا الصلاة : فلَهَا شُرُوطٌ تَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا : فَمِنْهَا الطَّهَارَةُ ..." ثم شرع في تفصيل مسائل الطهارة ، وقد جرت عادة الفقهاء على إفراد الطهارة بكتاب خاص دون الصلاة رغم كونها من شروطها وتقديمها على عليها نظرا لكثرة مسائل الطهارة، وجرت عادتهم على تقديمها أيضا إلا الإمام مالك رحمه الله في الموطأ فقد قدم كتاب المواقيت على الطهارة وقد قيل إنه فعل ذلك لأن الطهارة لا تجب إلا بدخول وقت الصلاة والله أعلم.
2- وَمِنْ شُرُوطِهَا: دُخُولُ اَلْوَقْتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ: أَنَّهُ أَمَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَوَّلِ اَلْوَقْتِ، وَآخِرِهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، الصَّلاةُ مَا بينَ هَذَينِ الوَقْتَينِ. رواه أحمد والنسائي والترمذي.
   أورد المصنف حديث جبريل عليه السلام ليبين أن من شروط الصلاة دخول الوقت وأن لوقت الصلاة  أولا وآخر، ولم يسق كل متنه مكتفيا بمحل الشاهد استغناء بالحديث الآتي الذي هو مقدم عليه من جهة المعنى إذ فيه زيادة في بعض الأوقات وهو متأخر عنه ولا شك.
3- وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ اَلنَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:
"وَقْتُ الظُّهْرِ، إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ، مَا لَمْ تَحْضر العَصْر،
وَوَقْتُ العَصْرِ، مَا لَمْ تَصْفَّر الشَّمْسُ،
وَوَقْتُ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ،
وَوَقْتُ صَلاةِ العِشَاءِ، إِلى نِصْفِ اللَّيلِ،
وَوَقْتُ صَلاةِ الصُّبحِ: مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ، مَا لم تَطْلع الشَّمْسُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
في هذا الحديث تفصيل لمواقيت الصلاة من أولها إلى آخرها ، وهذا بيانها حسب ترتيبها فيه .
أولا : وقت الظهر
أوله زوال الشمس (اتفاقا) قوله :"زالت الشمس" أي مالت إلى المغرب وهو الدلوك، ويعلم ذلك بتحول ظل الأشياء من جهة الشرق إلى جهة الغرب، أو بنقصان طول ظلها ثم زيادته والحد الأدنى للنقصان هو الفيء، أو ميل الظل عن خط الشمال الذي تحدده البوصلة (والفيء طول الظل إذا كان فوق خط الشمال)
وآخره : بلوغ ظل كل شيء مثله (مع حساب الفيء) (وخالف في هذا أبو حنيفة ومد الوقت إلى بلوغ كل شيء مثليه). وقوله:"ما لم يحضر العصر" تأكيد لقوله :"وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ" وهو دليل على أنه ليس ثمة وقتا مشتركا بين الظهر والعصر.
ثانيا : وقت العصر
أوله من بلوغ ظل كل شيء مثله
وآخره إلى الاصفرار كما هو نص الحديث وهو رواية عن أحمد، وقيل إلى بلوغ ظل كل شيء مثليه لظاهر حديث جبريل (هو قول مالك والشافعي وأحمد في رواية).
ويستمر وقتها إلى غروب الشمس لأهل الضرورات وهم (الحائض والمجنون والصبي والكافر والمغنى عليه). والدليل قول النبي  : «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» متفق عليه.
ثالثا : وقت المغرب
أوله : مغيب قرص الشمس (اتفاقا).
وآخره : إلى مغيب الشفق الأحمر وهو نص الحديث وقد قال به أبو حنيفة وأحمد، وقيل ليس له إلا وقت واحد لظاهر حديث جبريل وهو قول مالك والشافعي.
رابعا : وقت العشاء
أوله : مغيب الشفق الأحمر (عند الجمهور)
وآخره : نصف الليل وهو وقت الاختيار وهو نص الحديث ( وهو قول أبي حنيفة ورواية عن مالك وأحمد ) والليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر .
وقيل آخره ثلث الليل الأول (وهو قول الشافعي، ورواية عن مالك وأحمد)
   وما بعده إلى طلوع الفجر الثاني وقت ضرورة. وقال  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى» رواه مسلم.
خامسا : وقت الصبح
أوله : طلوع الفجر الثاني أو الفجر الصادق (اتفاقا) وهو الضوء المنتشر في الأفق يكون خيطا أفقيا فاصلا بين الليل والنهار ويقابله الفجر الأول أو الكاذب وهو ضوء يظهر عموديا .
وآخره : إلى طلوع الشمس (عند الأئمة الأربعة) وقال بعض الشافعية والحنابلة وروي عن ابن القاسم أن آخره الاسفار وما بعده ضرورة .
4- وَيُدْرَكُ وَقْتُ اَلصَّلَاةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
   المعنى أن أقل ما يدرك به الوقت هو ركعة تامة من الصلاة، وذلك سواء كان معذورا أو غير معذور للحديث، وهو قول مالك وقول للشافعي ورواية عن أحمد واختيار ابن تيمية ، وقال أبو حنيفة يدركها بأقل من ركعة ، والراجح الأول : فمن أدرك أقل من ركعة اعتبرت صلاته قضاء لفائتة وأثم إن كان متعمدا .
ومما يبنى على هذا ما تدرك به صلاة الجمعة فمن أدرك أقل من ركعة صلاها ظهرا .
وأيضا إذا طهرت المرأة في آخر وقت صلاة بمقدار يسع ركعة لزمها القضاء وإلا فلا ولو حاضت بعد دخول الوقت بأقل من مقدار ركعة لم يلزمها القضاء.
وأيضا فضل صلاة الجماعة يدرك بركعة تامة .
5- وَلَا يُحِلُّ تَأْخِيرُهَا، أَوْ تَأْخِيرُ بَعْضِهَا عَنْ وَقْتِهَا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ.
   إن معنى كون الوقت من شروط الصلاة أنها لا تصح قبل دخوله، ولا يعني أنها لا تصح بعده ، ولذلك ناسب التنبيه على عدم جواز تأخيرها أو بعضها عن وقتها الاختياري لها وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103) وقال سبحانه : ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ )، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» رواه البخاري.
   وقوله :"أو تأخير بعضها" يفيد أن إدراك الصلاة بركعة إذا كان بغير تعمد لم يأثم صاحبه وأما من تعمد فمع كونه قد أدرك الصلاة فإنه يأثم عند المصنف ، لأن ظاهر النصوص أداء الصلاة كلها في وقتها قبل أن تحل الأخرى.
   وقوله "لعذر أو غيره" معناه لا يجوز تأخيرها مهما كان العذر أو الشغل وقد شرعت صلاة الخوف حتى في حال القتال حتى لا تخرج الصلاة عن وقتها ، ولا عذر لمريض إذ يجب عليه أن يصلي جالسا أو مضطجعا ولا يؤخرها، ولا عذر لمن لم يجد ما يتطهر فيصلي على حاله، وإذا منع المعذور من التأخير فمنع غيره أولى، ولو قال المصنف :"ولا يحل تأخيرها ولو لعذر" لكان أفضل والله أعلم.
6- إِلَّا إِذَا أَخَّرَهَا لِيَجْمَعَهَا مَعَ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ، أَوْ مَطَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ نَحْوِهِا.
   هذا استثناء متعلق بأصحاب الأعذار الذين يجوز لهم تأخير الصلاة عن وقتها بشرط وجود نية الجمع وهذا خاص بالصلوات التي يضح فيها الجمع وهي الظهر مع العصر فينوي تأخير الظهر إلى وقت العصر، والمغرب مع العشاء فينوي تأخير المغرب إلى وقت العشاء .
   وأما الأعذار المعتبرة فهي السفر والمطر والمرض، لأن المسافر يحرجه كثرة التوقف، وفي المطر يكون على الناس حرج في الخروج إلى المسجد في كل صلاة ، وقد تلحق المريض مشقة أو حرج لحاجته للنوم أو العلاج وغيره.
   وقول المصنف :" أو نحوها" معناه أنه لا حصر للأعذار فوجود الحرج في غير السفر قد يكون للمرض أو المطر كما يكون للخوف أو البرد الشديد ومما هو موجود في عصرنا الشغل المستمر الذي لا يمكن قطعه كالعمليات الجراحية وما شابه ذلك من الحاجات .
   وقول المصنف :" إلا إذا أخرها " نص في جواز جمع التأخير لتلك الأعذار ، ولا يختص الجمع بجمع التأخير بل يجوز جمع التقديم أيضا فتصلى صلاة العصر في وقت الظهر وصلاة العشاء في وقت المغرب إذا كان ذلك هو ما يرفع الحرج.
  لذلك يقال إن الجمع نوعان :
الأول: جمع تقديم في وقت الأولى وقد اتفق العلماء على مشروعية جمع الظهر والعصر جمع تقديم بعرفة، ومن أدلة جمع التقديم حديث سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ، قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ كَيْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ رواه مسلم. وهذا الجمع أنسب للجمع بين الصلاتين في المسجد بسبب المطر .
والنوع الثاني جمع تأخير في وقت الثانية، ووقد اتفق العلماء على مشروعية جمع المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، ومن أدلة جمع التأخير حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ متفق عليه.
7- وَالْأَفْضَلُ تَقْدِيمُ اَلصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا
   ثم رجع المصنف لبيان أفضلية أداء الصلاة في أول وقتها ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (فاستبقوا الخيرات) ويدل عليه فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة رضي الله عنهم، قَالَ الشَّافِعِيُّ :« وَالْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى آخِرِهِ اخْتِيَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَمْ يَكُونُوا يَخْتَارُونَ إِلَّا مَا هُوَ أَفْضَلُ وَلَمْ يَكُونُوا يَدَعُونَ الْفَضْلَ وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ» -نقله عنه الترمذي- .
    وأما حديث سؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ فقَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»متفق عليه، فلا يدل على المطلوب لأنه يدل على تفضيل الصلاة على غيرها لا الصلاة في أولها على الصلاة في غيره.
   وأما حديث أم فروة سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا-عند أبي داود والترمذي-، فحديث ضعيف. وحديث :" الْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَالْوَقْتُ الْآخِرُ عَفْوُ اللَّهِ "-عند الترمذي-حديث موضوع.
8-إلا: العشاءَ إذا لم يشق، وإلا الظهرَ في شدة الحر، قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّم"(متفق عليه).
   يستثنى من تفضيل تقديم الصلاة لأول وقتها حالتان :
الأولى العشاء قال المصنف :"إذا لم يشق" لأن المشقة قد تلحق المأمومين في المسجد بالتطويل والتأخير مثله وربما أكثر منه ، والدليل على ذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ» -رواه الترمذي وأصله في الصحيحين-، وقد تحدث الفقهاء عن الوقت المفضل للتأخير هل هو الثلث الآخر أو النصف وسكت عنه المصنف لأنه معلوم من آخر الوقت ، وربما لكون التأخير مفضل ولو كان يسيرا وليس شرطا أن يكون إلى آخر وقتها.
الثاني : الظهر وذلك إذا اشتد الحر، وهو المسمى بالإبراد ، لأنه في بعض البلاد في فصل الصيف تكون الشمس عمودية فوق الرؤوس عند الزوال ، وخروج الناس للصلاة في ذلك الوقت فيه نوع أذى ومشقة فتؤخر الصلاة إلى أن تنكسر الشمس وتكون ثمة ظلال يستظل بها للصلاة أو للمشي إلى الصلاة  وقد جاء في رواية للبخاري عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: «أَبْرِدْ» ثُمَّ قَالَ: «أَبْرِدْ» حَتَّى فَاءَ الفَيْءُ، يَعْنِي لِلتُّلُولِ ثُمَّ قَالَ: «أَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» رواه البخاري.
وزاد المصنف في كتابه إرشاد أولى البصائر(ص69) صورة ثالثة ليس فيها نص وهي :" من يرجو وجُود الماء لعادمه، إذا رجاه في آخر الوقت" بل وضع قاعدة نصها :"أن التقديم أوْلى، إلا إذا كانَ في التَّأخير مصْلحة شَرْعية".
9- وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فَوْرًا مُرَتِّبًا.
  وفي كلامه ثلاث مسائل :
الأولى : في وجوب قضاء الصلاة الفائتة ، وذلك إن تعلق بالنائم والناسي فهو متفق عليه لقول النبي  :«مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» متفق عليه.
    أما تارك الصلاة لغير ذلك فاختلف فيه فقيل لا يقضي وهو مذهب أحمد وابن حبيب وابن حزم وابن تيمية وبني ذلك على القول بتكفيره عند بعضهم وعلى كون الوقت شرطا للصحة فلا فرق بين من صلى قبل الوقت ومن صلى بعده، وقيل يقضي وهو مذهب الجمهور ورجحه المصنف في الإرشاد(ص:67).
    ومن قال ليس عليه القضاء أمره بالتوبة وبالإكثار من النوافل عسى أن يجبر بها نقص الفرائض وتثقل موازينه يوم القيامة انظر المحلى 2/ 10.
الثانية : الفورية وقد عللها المصنف في الإرشاد بأن الأمر المطلق على الفور، وفي هذا الأصل نظر وكذا في وجوب الفورية حديث أبي قتادة في تأخير قضاء الصبح بعد أن نام الصحابة عنها ، وإذا فرض الأمر فيمن ترك الصلاة عمدا لشهور أو سنوات ؛ صار القول بالفورية من العنت ولا يقال بمثله .
الثالثة: في وجوب الترتيب وقد قال بالوجوب مطلقا أحمد وفي صلاة اليوم الواحد مالك وأبي حنيفة، وقال الشافعي لا يجب، ولا شك أن الترتيب أولى وأفضل لكن ما ثبت عن النبيِّ عليه الصلاة والسَّلام من قضى ما فاته مرتبا يوم الخندق لا يدل على المنع من قضائها على غير ترتيبها.
10- فَإِنْ نَسِيَ اَلتَّرْتِيبَ أَوْ جَهِلَهُ، أَوْ خَافَ فَوْتَ اَلصَّلَاةِ، سَقَطَ اَلتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اَلْحَاضِرَةِ.
    ومعنى النسيان هنا أن يخل بالترتيب ناسيا، ومعنى الجهل أن يذكر أنه عليه ظهر وعصر من يومين مختلفين، ولا يذكر أيهما ترك أولا الظهر أو بالعصر؟
    ويتصور خوف فوات الصلاة الحاضرة فيمن نام عن صلاة الظهر والعصر واستيقظ في آخر وقت صلاة العصر، فإنه يصلي العصر قبل الظهر.
   وهذا كله على مذهب من يرى وجوب الترتيب والله أعلم.

الأربعاء, 17 تشرين2/نوفمبر 2021 22:20

هل الله سبحانه يضاعف السيئات ؟
ورد إلى سؤال نصه : كيف يجمع بين قول الله تعالى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] وبين قوله تعالى : {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } [الفرقان: 68، 69]. وبعد مدة جاءني سؤال في معناه حيث استشكل السائل حديث : "وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة " (متفق عليه) الذي ظهر للسائل معارضا للآية الكريمة (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا). فلما تكرر السؤال رأيت تحرير جواب مكتوب مفصل عسى أن يحد من ينتفع به، نسأل الله تعالى الإخلاص والتوفيق والسداد.
فأقول مستعينا بالله تعالى وحده ، إن الله تعالى بحكمته وفضله وعدله؛ قضى أن جزاء الحسنة يضاعف من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف وقد يزيد، وذلك من فضل الله تعالى وواسع رحمته بعباده ، وقضى أن جزاء السيئة مثلها وأن لا تضاعف وهذا من عدله سبحانه ، فمن اقترف جريمة فإنه لا يستحق إلا جزاء جريمته المحدد من غير زيادة كما في قوله تعالى  (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} وكما في قول نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم : (وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ) ولا يعارض هذا ظواهر بعض الآيات التي ورد فيها ذكر التضعيف، وهي آيات لكل منها معناها الذي يوضحه سياقها .
1-فقوله تعالى { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } –الذي ورد في السؤالين -جاء بعد قوله {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } [الفرقان: 68] فالمضاعفة هنا سببها تعدد الجرائم المقترفة وليس المراد مضاعفة إثم جرم واحد، فمن أشرك بالله تعالى استحق الخلود في جهنم ومن أضاف إلى ذلك قتل النفس بغير حق استحق عقابا زائد عما فيه من عذاب ، ومن زاد على ذلك الزنا استحق عقابا زائدا، ولا تتداخل العقوبات ولو كانت في وقت واحد، وهذا من عدل الله تعالى بين أهل النار فلا يستوى فيها من أتى بجريمة أوجبت له دخولها ومن أتى بتلك الجريمة وزاد عليها غيرها ولا من فعل الجريمة مرة ومن كررها مرارا، ولذلك لم يكن أهل الكفر في دركة واحدة، وقد جعل الله تعالى للنار دركات كما جعل للجنة درجات، وليس فيما ذكر شيء يخالف أن جزاء السيئة مثلها بل إن مقتضى المثلية تعدد العقاب بتعدد الجرائم.
2-وورد الخبر عن التضعيف أيضا في قوله تعالى {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20] والمشار إليهم هم المذكورون في قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18، 19] فالسياق يوضح أن المقصود بهذا الوعيد هم رؤوس الكفر دعاة الضلالة الصادين عن سبيل الله، فالإخبار عن مضاعفة العذاب لهم هنا لا يختلف عن قوله عز وجل {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } [النحل: 25] وكذلك هو في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :" وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئا" (رَوَاهُ مُسلم). وذلك أن جريمة الدعوة إلى الضلالة والصد عن سبيل الله في حد ذاتها جريمة مضاعفة؛ وعقوبتها تكون من جنسها وبحسبها فمن أضل واحدا ليس كمن أضل عشرة وليس كمن أضل ألفا وهكذا ، وليس في هذا ما يخالف أن جزاء السيئة مثلها فالسيئة الصغيرة يجد المرء مثلها والسيئة الكبيرة يجد مثلها والسيئة المتعدية يجد أيضا مثلها .
3-وورد الخبر بإمكان مضاعفة العذاب في آية أخرى معلقا بشرط -وليس وهو متحققا في الواقع- في قوله تعالى {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:30- 31] وهذه الآيات في سياقها العام تبين أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لهن خاصية تميزهن على سائر النساء ، وقد قال تعالى بعدها (يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) لأن منة الله تعالى عليهن أعظم من بقية النساء المؤمنات ومنزلتهن أعظم من غيرهن، فهن قدوات النساء وهن شرف النبي صلى الله عليه وسلم، فلعظم المنة والمنزلة جُعل العذاب مضاعفا، وذلك متفق مع حكمة الله وعدله ؛ وقد جعل عقوبة الإيماء في الدنيا نصف عذاب الحرائر تبعا لعظم المنة {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، ثم إنه كما جعل العذاب مضاعفا جعل الأجر مضاعفا أيضا ، أي إن الحسنة بعشرين ضعفا كما قال بعض المفسرين ..والخلاصة أن هذه المضاعفة لا تنافي العدل ولا تنافي أن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها؛ لأن المثل يختلف باختلاف المعصية أحيانا ويختلف باختلاف العاصي أحيانا أخرى باعتبار مكانته أو المنة عليه  كما سبق ذكره، ولابد في الختام أن نؤكد أن هذا الحكم لا يخرج عن حيز الامكان وأنه غير واقع مثله مثل قوله تعالى في حق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] .
وخلاصة الخلاصة أن قوله تعالى ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)  يبقى محكما وإليه يرد كل آية مشتبهة المعنى ..والله سبحانه أعلى وأعلم.

الجمعة, 05 تشرين2/نوفمبر 2021 11:28

بَابُ الحَيضِ


1- وَالْأَصْلُ فِي اَلدَّمِ اَلَّذِي يُصِيبُ اَلْمَرْأَةَ: أَنَّهُ حَيْضٌ، بِلَا حدٍ لسنِّه، وَلَا قدره، ولا تكرره
2- إِلَّا إِنْ أَطْبَقَ اَلدَّمُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ، أَوْ صَارَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا إِلَّا يَسِيرًا فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَحَاضَةً، فَقَدْ أَمَرَهَا اَلنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَجْلِسَ عَادَتَهَا.
3- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ، فَإِلَى تَمْيِيزِهَا.
4- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ، فَإِلَى عَادَةِ اَلنِّسَاءِ اَلْغَالِبَةِ: ستة أيام أو سبعة. والله أعلم.

باب الحيض

     آخر باب يطرق في كتاب الطهارة هو كتاب الحيض، ويبحث فيه عن أحكام الدماء التي تصيب المرأة ما الذي يعد طبيعيا يعتبر حيضا تترتب عليه أحكامه وما ليس طبيعيا فيعتبر داء علة ومرض خارجا عن مسمى الحيض، والنفاس هو نفسه الحيض إلا أنه يكون إثر الولادة ومدته أطول من الحيض الذي يصيب المرأة مرة في الشهر.
1- وَالْأَصْلُ فِي اَلدَّمِ اَلَّذِي يُصِيبُ اَلْمَرْأَةَ: أَنَّهُ حَيْضٌ، بِلَا حدٍ لسنِّه، وَلَا قدره، ولا تكرره.
    من أجل الوصول إلى التمييز بين دم الحيض وغيره تطرق الفقهاء إلى عدة مسائل لعلهم يضبطونه بها ، ومن ذلك ضبطه بالسن التي يمكن أن يكون فيها والتي ينقطع فيها، وكذا محاولة ضبطه بالمدة فتكلموا عن أقله وأكثره، ثم عن التكرر الذي يثبت به الحيض أو العادة أو تغيرها.
    والمصنف رحم الله أعرض عن كل تلك الضوابط التي وقع فيها اختلاف كبير ووضع ضابطا واحدا، وهو أن الأصل في الدم الذي يصيب المرأة أنه حيض ولا تعدل عنه إلا إذا تيقنت أنه استحاضة بأمور سيذكرها.
قوله :"بلا حد لسنه" سن الحيض من البلوغ إلى اليأس، ولم يأت في الشرع تحديد لسن البلوغ ولا سن اليأس ، وهو أمر مختلف لا شيء يضبطه، والموجود مختلف اختلافا كبيرا.
قوله :"ولا قدره" أي أن أكثره وأقله لا يتحدد، فأما أكثره فأكثر ما قيل هو سبعة عشر يوما وهو مذهب الأوزاعي وداود ورواية عن مالك وعن أحمد واختيار ابن حزم ، وما ذكره المصنف هو اختيار ابن تيمية. فمن حد أكثره بعشرة أيام أو خمسة عشر يوما أو سبعة عشر يحكم على ما زاد في كل حال بأنه استحاضة مباشرة والمصنف يختار أنه حيض ولو تجاوزها.
وأما أقله فممن قال لا حد له مالك وداود والأوزاعي وابن حزم وابن تيمية ، ومعنى عدم التحديد أن الأقل يمكن أن يكون قطرة توجب افساد الصوم وتوجب الاغتسال، ومن حده بيوم أو ثلاثة أيام لم يوجب اغتسالا وأوجب عليها قضاء ما تركت من الصلاة.
   وأما أكثر الطهر لا يتحدد بالإجماع وأقله بين حيضتين فيه أقوال فقيل ثلاثة عشر يوما وقيل خمسة عشر والمصنف يختار أن لا حد له أيضا.
   وكذلك عند المصنف لا حد لأقل النفاس كما هو قول الجماهير، ولا لأكثره وهو رواية مالك واختيار ابن تيمية(1) ، وقيل أكثره ستون يوما وقيل أربعون وهو قول أبي حنيفة معنى الآثار المروية عن الصحابة أن غالبه أربعون فإن أطبق عليها الدم رجعنا إلى هذا الحد من أجل قضاء الصلاة ، وليس معناه أن ما تجاوزه اعتبر استحاضة قطعا والله أعلم.
2- إِلَّا إِنْ أَطْبَقَ اَلدَّمُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ، أَوْ صَارَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا إِلَّا يَسِيرًا فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَحَاضَةً، فَقَدْ أَمَرَهَا اَلنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَجْلِسَ عَادَتَهَا.
   بعد أو وضع المصف الأصل الذي يتحاكم إليه في نوازل الحيض رجع إلى بيان حالة الخروج عن هذا الأصل، وهو إطباق الدم واتصاله أو اتصال سيلانه إلا يسيرا ، فهنا فقط تخرج المرأة من حكم الحيض وتنتقل لحكم المستحاضة ، وجمهور الفقهاء يحكمون هنا أكثر الحيض بجعله حدا فاصلا وحاكما مميزا كما سبق .
   واستدل المصنف للخروج على هذا الأصل بخبر ذكره بمعناه وهو أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن اتصل بها الدم ولم ينقطع أن رجع إلى العادة المعهودة لديها ، وقد ورد هذا المعنى في أحاديث منها حديث عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي متفق عليه. ومثله في الدلالة حديث عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ أَمَّ حَبِيبَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الدَّمِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي رواه مسلم.
   فقوله صلى الله عليه وسلم:"قدرها" أو "قدر ما كانت تحبسك" يدل على تحكيم العادة السابقة لحالة اتصال الدم وعدم انقطاعه.
3- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ، فَإِلَى تَمْيِيزِهَا.
    الغالب على النساء أن تكون لهن أيام معلومة يحضن فيها، لكن في النساء من لا عادة لها ثابتة ، وهذه قبل أن يحدث لها إطباق الدم كانت تتبع وجود الدم وانقطاعه فإذا حدث هذا الاطباق رجعت إلى تمييزها بصفات الدم الذي كانت تعرفه من قبل من لونه ورائحته وغلظه فمتى تحول الدم عن لونه وزالت رائحته ورق فقد زال الحيض وما السائل بعدها دم استحاضة ، ومما يحصل به التمييز نزول القصة البيضاء بفتح القاف وهو ماء أبيض ينزل من الرحم آخر الحيض ، فما نزل بعدها مهما كان لونه اعتبر استحاضة ، وقد روى مَالِك عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدِّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ يَسْأَلْنَهَا عَنْ الصَّلَاةِ فَتَقُولُ لَهُنَّ لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضَةِ. فهؤلاء النسوة ما كن يسألن إلا لأن الحيض قد استمر لديهن، وكانت أيامه مضطربة عندهن، ولو كانت معلومة لردتهن إليها عائشة رضي الله عنها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
4- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ، فَإِلَى عَادَةِ اَلنِّسَاءِ اَلْغَالِبَةِ: ستة أيام أو سبعة، والله أعلم.
   افترض الفقهاء حالة نادرة وهو وجود امرأة لا عادة لها ولا تمييز، وقد تتصور فيمن جاءها الحيض حديثا وهي التي تسمى المبتدأة بمعنى حاضت أول مرة، وقد اختلف فيها العلماء على أقوال عدة ، فمنهم من قال تتحيض ستة أيام أو سبعة وهي عادة غالب النساء بإطلاق –وهذا اختيار المصنف-، وأيدوا ذلك بحديث حمنة بنت جحش مرفوعا:« إِنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ اغْتَسِلِي » رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث ضعيف مداره على عبد الله بن محمد بن عقيل وقد ضعفه قال ابن هانئ:« قيل لأحمد: حديث حمنة عندك قوي؟ قال: ليس هو عندي بذلك، حديث فاطمة أقوى عندي وأصح إسناداً منه»(2). وضعفه أيضا أبو حاتم والدارقطني (3).
   ومنهم من قال إنها تتبع عادة نسائها أي قريباتها لأن هذا أقرب إليها –ورجحه العثيمين –(4)
   هذا عند المصنف إنما يحتاج إليه فقط إذا أطبق عليها الدم كما سبق.
   وهل هذا الاطباق خاص بمن علم حيضها من قبل أم يعم المبتدأة التي جاءها الدم أول مرة ، الله أعلم .
    والفرق بينهما أن من حاضت من قبل قد تيقنا بلوغها ومن جاءها الدم أول مرة فلسنا نعلم أصلا هل هو حيض ، فيحتمل الرجوع إلى الأصل وهو عدم بلوغها أو أن الأصل في الدماء التي تصيب النساء أنها حيض والله أعلم.
    وهذه الاختيارات التي اختارها السعدي في هذا الباب وقبله ابن تيمية أكثر انضباطا مما رامه أكثر فقهاء المذاهب فتضاربت أقوالهم واضطربت عند التنزيل .
    ومما ينبه إليه أنه وجد في عصرنا من تحبس حيضها بأدوية مددا متفاوتة، ثم تضطرب عادتها وتتقطع فهذه لا شك أنها تعتبر كل قطرة حيضا ، وتتحمل تبعات تناول هذه الأدوية ، بل من النساء من تمنع الحيض بحقن مدة عام بأكمله ثم تحيض بعد ذلك شهرا أو شهرين فهذه أيضا لا يشك في اعتبار دمها حيضا وأنها كالنفساء التي اجتمع حيضها تسعة أشهر ثم اندفع مع الولادة ، وجواب هذه النوازل منسجم مع تأصيل السعدي، ومن اختار غيره مضطر إلى مخالفة تأصيلاته إن اتبع المعنى إذ اعتبار أكثر الحيض في النازلة الأخيرة يعتبر ظاهرية لا يلتفت إليها.
الهوامش

1/ انظر إرشاد أولي البصائر (49) مجموع الفتاوى (19/ 239-240) الاشراف للقاضي عبد الوهاب (1/189).
2/ مسائل الإمام أحمد لابن هانئ (رقم 164).
3/ علل ابن أبي حاتم (رفم 123).
4/ الشرح الممتع (1/489).

الإثنين, 01 تشرين2/نوفمبر 2021 07:35

أحكام المحدث


1-ومن عليه حدثٌ أصغر لم يحل له: أن يصليَ،
2- ولا أن يطوفَ بالبيت،
3- ولا يمس المصحف.
4- ويزيد من عليه حدث أكبر: أنه لا يقرأ شيئًا من القرآن،
5- ولا يلبث في المسجد بلا وضوء.
6- وتزيد الحائض والنفساء: أنها لا تصوم،
7- ولا يحل وطؤها،
8- ولا طلاقها.


 [أحكام المحدث]


      الأمور الممنوعة على المحدث ثمانية على الحائض والنفساء، وخمسة على الجنب، وثلاثة على المحدث حدثا أصغر، وقد جمعها المصنف تحت عنوان أحكام المحدث ورتبها بطريقة تجنب فيها التكرار بذكر الممنوعات المشتركة قبل التي تنفرد بها الحائض والتي ينفرد بها الجنب والحائض على النحو .  
1-ومن عليه حدثٌ أصغر لم يحلّ له : أن يصليَ.
   منع المحدث –مهما كان حدثه -من الصلاة أمر متفق عليه بين العلماء، بل هو من الأمور المعلومة من الدين الضرورة ، قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»متفق عليه، وقال الله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) (المائدة:6) وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلاَةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا، فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي»متفق عليه.
   واختلفوا في حكم صلاة فاقد الطهورين على أقوال هل يصلي ولا يعيد أم يصلي ويعيد أم لا يصلي ويعيد أم لا يصلي ولا يعيد، والصحيح الأول وهو أنه يصلي بلا طهارة ولا يعيد، وهو قول مالك وأحمد في رواية عنهما، ودليله قصة سبب نزول رخصة التيمم في آية المائدة فقد صلى الصحابة رضي الله عنهم بلا طهارة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة ، والله أعلم.
   وتتصور حالة فاقد الطهورين بعد تشريع التيمم في صورة المريض الذي لا يقدر على الحركة أو المصاب في يديه ووجهه وفي حالة عدم إمكان الوصول إلى الماء الصعيد إلا بعد خروج وقت الصلاة كالمسجون المقيد أو راكب الطائرة ونحوها مما لا يمكن إيقافه.
2-ولا أن يطوفَ بالبيت.
   مذهب جمهور العلماء أن المحدث مهما كان حدثه ممنوع من الطواف، ومن أدلتهم بحديث:« الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ »رواه الترمذي، وحديث:« فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»متفق عليه، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْضِي شَيْئًا مِنَ الْمَنَاسِكِ إِلاَّ وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ رواه ابن أبي شيبة.    وذهب ابن تيمية –وهو رواية عن أبي حنيفة –واختاره العثيمين إلى أن الطهارة للطواف سنة وليس واجبا ولا هو شرط في صحته لأن الأصل عدم الوجوب وفعل النبي صلى الله وسلم والصحابة يدل على الاستحباب وهذا القدر لا خلاف فيه، وأما الحديث الأول الصواب فيه الوقف وأنه قول ابن عباس، وهو محمول على اجتناب محظورات الصلاة في الطواف وليس إلحاق الطواف بالصلاة في جميع أحكمها، والحديث الثاني يحتمل الخصوصية بالحيض وهو قول داود، أو هو محمول على منعها من الدخول إلى المسجد وهذا توجيه ابن تيمية.
  وتوسط الحنفية فقالوا إن الطهارة للطواف واجب لا شرط الأفضل لمن طاف من دونها إعادته فإن لم يعد فعليه دم لتركه واجبا من الواجبات.
   ولعل الحاجة العملية تظهر في هذه المسألة في صورتين: الأولى في حق من انتقض وضوؤه أثناء الطواف هل يكمل أم يجب عليه الخروج منه لأجل الوضوء، لأنه لا يقع الطواف من جنب، إذ الغالب أن يتوضأ المرء للطواف. والثانية : وهي الحائض إذا اضطرت لأجل للحاق برفقة لا يمكن تأخيرها، فالقائل بأن المنع للحدث يحرم عليها الطواف، ويبطل طوافها والقائل بأن المنع لأجل المسجد يجيز لها الطواف ويصحح طوافها.
3-ولا يمس المصحف.
   مذهب جماهير العلماء منع المحدث حدثا أصغير فضلا عن غيره من مس المصحف استدلالا بقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة/77-79) ووجهه أن وصف الملائكة الذي يمسون القرآن في اللوح المحفوظ بالمطهرين مشعر بالعلية، فلا يمس القرآن في المصحف من المكلفين إلا متطهر متشبه بهم، واستدلوا بحديث مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» رواه مالك، قال أحمد :أرجوا أن يكون صحيحا.
  كما أنه مذهب الصحابة رضي الله عنهم ولا مخالف لهم ، ومن ذلك ما صح عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أُمْسِكُ الْمُصْحَفَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَاحْتَكَكْتُ فَقَالَ سَعْدٌ لَعَلَّكَ مَسِسْتَ ذَكَرَكَ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ قُمْ فَتَوَضَّأْ فَقُمْتُ فَتَوَضَّأْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ» رواه مالك.
-وثبت عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ لاَ يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إِلاَّ وَهُوَ طَاهِرٌ رواه ابن أبي شيبة.
-وعن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان قال : كنا معه في سفر فانطلق فقضى حاجته ثم جاء فقلت أي أبا عبد الله توضأ لعلنا نسألك عن آي من القرآن فقال سلوني فإني لا أمسه إنه لا يمسه إلا المطهرون فسألناه فقرأ علينا قبل أن يتوضأ رواه الدارقطني.
 وقال إسحاق:« وكذلك فعل أصحاب النبي عليه السلام والتابعون»، لكن الخلاف ثابت عن التابعين، فأجاز مسه بغير وضوء الحسن والشعبي، وقال داود بالجواز للمحدث والجنب.
والصحيح مذهب الجماهير المذكور أولا .
ومما يجدر التنبيه عليه أن كتب العلم ولو كانت كتب التفسير لا تدخل في المنع وعليها تقاس الهواتف المحمولة  
4-ويزيد من عليه حدث أكبر: أنه لا يقرأ شيئا من القرآن.
    مذهب الشافعي وأحمد أن المحدث حدثا أكبر لا يقرأ شيئا من القرآن الكريم، وقول المصنف (لا يقرأ شيئا) يقصد أنه لا يقرأ لا بعض آية ولا الآية والآيتين ، وقد رخص أبو حنيفة للجنب والحائض قراءة بعض آية، بناء على بعض الآية لا يعد قرآنا ، كما رخص مالك للجنب في الآية والآيتين على سبيل التعوذ ، وأجاز للحائض القراءة مطلقا في المشهور عنه.
   ورجح هذا القول الأخير ابن تيمية والعثيمين ويؤيد التفريق أن الجنب مفرط بخلاف الحائض فهي لا تمتلك أن تتطهر حتى يزول حيضها، وهي تحتاج أن تراجع القرآن أو تعلمه لغيرها.
    وقد استدل للمنع بأحاديث لا تصح منها حديث ابن عمر:« لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» رواه الترمذي وابن ماجة، وهو حديث ضعيف متفق على ضعفه، وحديث عَلِيٍّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا رواه أهل السنن، وهو ضعيف أيضا ضعفه البخاري وأحمد.
    وكما استدل له بآثار عن الصحابة كقول علي :« اقرؤوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة فإن أصابته جنابة فلا ولا حرفا واحدا» رواه الدارقطني وصححه، وما روي عن عبيدة السلماني قال كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب رواه عبد الرزاق. لكن ثبت الخلاف عن ابن عباس أنه كان يقرأ ورده وهو جنب رواه ابن المنذر وصححه ابن حجر في التغليق. ولا حجة في قول الصحابة مع وجود المخالف.
    وقد قال مالك كما في النوادر 1/124: "ولقد حرَصْتُ أنْ أجِدَ في قراءة الجُنُبِ القرآن رُخْصَةً فما وَجَدْتُها". وقد وجدنا الرخصة في أثر ابن عباس رضي الله عنهما ، وعدم المنع للجنب والحائض هو مذهب ابن المسيب وعكرمة وربيعة وابن المنذر وداود واختاره ابن حزم، اعتبارا للبراءة الأصلية والتي يؤيدها قول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه»، وحديث: «افعلي ما يفعله الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت » .
   وهذا الجواز لا ينافي الكراهة لا سيما للجنب الذي لا عذر له في تأخير الغسل وينبه هنا أن المعذور الذي يجوز له التيمم للصلاة يباح له التيمم لقراءة القرآن عند المانع فيخرج من محل النزاع.
5-ولا يلبث في المسجد بلا وضوء.
    مما يمنع منه الجنب ومثله الحائض المكوث في المسجد لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (النساء:43)، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء باعتزال المصلى وهذا مالك والشافعي وأحمد هو الصحيح لظاهر الآية الكريمة، لأن تأويلها لا تقربوا مواضع الصلاة.
   ومنعهما أبو حنيفة من المكوث والعبور، وذهب داود وابن المنذر إلى جواز المكوث والعبور معا، وروي عن أحمد الترخيص للجنب إذا توضأ أن يلبث في المسجد لما روى هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة رواه سعيد بن منصور، ولا يقبل مثل هذا من هشام بن سعد وفيه ضعف، ويعارضه ما صح عن عَنْ جَابِرٍ، قَالَ : كَانَ الْجُنُبُ يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَازًا رواه ابن أبي شيبة.وقد روى ابن ابي شيبة الأثر عن هشام من غير ذكر الوضوء وحمله على المرور دون المكوث.
   والمرور في المسجد لا يكون إلا لحاجة فيه أو لمن لم يجد طريقا غيره وقد تكون الحاجة أن يدخل فيحدث من فيه حديثا ولا يلبث.
6-وتزيد الحائض والنفساء: أنها لا تصوم.
   وتمنع الحائض والنفساء من الصوم وهذا باتفاق العلماء وهو معلوم من الدين بالصرورة ومما يدل عليه حديث مُعَاذَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ فَقَالَتْ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ قُلْتُ لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّي أَسْأَلُ قَالَتْ كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ رواه مسلم.
7-ولا يحل وطؤها.
وكذلك لا يجوز وطء الحائض وهذا باتفاق العلماء أيضا، لقوله تعالى : ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (البقرة:222) .
وأما الاستمتاع فيما دون الفرج فجائز وهو قول أحمد وداود لقول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية :« اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»رواه مسلم.
8-ولا طلاقها.
ولا يحل للرجل أن يطلق زوجته وهي حائض لحديث ابن عمر أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» متفق عليه. وهذا الطلاق مع كونه لغير السنة إلا أنه إن وقع احتسب .

الجمعة, 15 تشرين1/أكتوير 2021 20:54

بَابُ التَيَمُّمِ


1-وَهُوَ اَلنَّوْعُ اَلثَّانِي مِنَ اَلطَّهَارَةِ.
2- وَهُوَ بَدَلٌ عَنِ اَلْمَاءِ
3- إِذَا تَعْذَّرَ اِسْتِعْمَالُ اَلْمَاءِ لِأَعْضَاءِ اَلطَّهَارَةِ، أَوْ بَعْضِهَا لِعَدَمِهِ،
4- أَوْ خَوْفِ ضَرَرٍ بِاسْتِعْمَالِهِ.
5- فَيَقُومُ اَلتُّرَابُ مَقَامَ اَلْمَاءِ
6-بِأَنْ: ينويَ رَفْعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ اَلْأَحْدَاثِ
7- ثم يقول: بِسْمِ اللَّهِ،
8- ثم يضرب التراب بيديه مَرَّةً وَاحِدَةً، يَمْسَحُ بِهِمَا جَمِيعَ وَجْهِهِ، وَجَمِيعَ كَفَّيْهِ.
9- فَإِنْ ضَرَبَ مَرَّتَيْنِ فَلَا بَأْسَ.
10- قَالَ تَعَالَى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6).
11-وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ اَلنَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيّمَا رَجُل أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةَ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَومِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" متفق عليه.


باب التيمم


1-وَهُوَ اَلنَّوْعُ اَلثَّانِي مِنَ اَلطَّهَارَةِ.
   النوع الأول هو طهارة الماء التي تشمل الوضوء والغسل، والنوع الثاني هو طهارة التيمم وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
    فأما الكتاب فمنه قوله تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (المائدة:6).
   وأما السنة فمنها حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ -متفق عليه-.
   وأما الإجماع على مشروعيته فنقله غير واحد من العلماء، وبعد إجماعهم على مشروعيته اختلفوا في قضايا فرعية يأتي ذكر بعضها  
2- وَهُوَ بَدَلٌ عَنِ اَلْمَاءِ
   التيمم مشروع بدلا عن طهارة الماء أي الوضوء والغسل ولا فرق بينهما، دل على ذلك الآية الكريمة المذكورة أعلاه حيث ذكر فيها الحدث الأصغر في قوله (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) والحدث الأكبر  في قوله (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) إذ الملامسة كناية عن الجماع كما سبق، وفي الصحيحين أنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبْ الْمَاءَ فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ-متفق عليه-.
3- إِذَا تَعْذَّرَ اِسْتِعْمَالُ اَلْمَاءِ لِأَعْضَاءِ اَلطَّهَارَةِ، أَوْ بَعْضِهَا لِعَدَمِهِ،
   أول سبب مبيح للتيمم هو عدم الماء أو عدم كفايته لجميع أعضاء الطهارة.
-سواء كان في سفر أو في حضر، وإن كان في الحضر ففيه خلاف فإن من الفقهاء من قال لا يصلي حتى يجد الماء، ومنهم قال يصلي بالتيمم ويعيد، والصحيح ما ذكرنا وهو قول مالك وأحمد في رواية، ولكن الغالب أن الماء موجود في الحضر والناس قد تقصر في طلبه، وأما المدن الواقعة على ساحل البحر وتحيط بها الأنهار فلا يتصور فيها عدم الماء.
-قوله ( أو بعضها ) إشارة إلى عدم كفاية الماء ، فمن علم أن الماء لا يكفيه لا يلزمه استعماله ويعدل مباشرة إلى التيمم، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي في القديم .
-قوله (لعدمه) احتراز عن الجبيرة أو إصابة العضو بجرح وقد سبق أن ذلك موجب للمسح على الموضع، لا يسقطه ولا يوجب التيمم.
4- أَوْ خَوْفِ ضَرَرٍ بِاسْتِعْمَالِهِ.
   والسبب الثاني المبيح للتيمم هو المرض أو خوفه، وقد عبر عنه المصنف بخوف الضرر باستعمال الماء، وذلك أن المرض ثلاثة أقسام:
الأول : مرض يسير لا يتأثر بالماء إطلاقا لا يجوز معه التيمم.
والثاني : مرض خطير يخشى معه الهلاك إذا استعمل الماء، فهذا مبيح للتيمم.
والثالث : مرض يخاف معه زيادة المرض أو إطالة مدة العلاج وهذا يبيح التيمم أيضا.
ويضاف إلى حالة المرض حالة الصحة لكن يخشى صاحبها المرض أو الهلاك باستعمال الماء، وقد صح عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا رواه أبو داود.
    وحصر الأسباب المبيحة للتيمم في هذين الأمرين يفيد أن الخوف خروج الوقت أو خوف فوات الصلاة سواء كانت فرضا أو جنازة أو عيدا ليس من أسباب إباحة التيمم .
5- فَيَقُومُ اَلتُّرَابُ مَقَامَ اَلْمَاءِ
  وفي هذه العبارة توهم اشتراط كون الصعيد ترابا ذا غبار كما هو مذهب الشافعي وأحمد، لكن المصنف صرح في المختارات الجلية : بجواز التيمم بكل ما صعد على الأرض، من تراب له غبار أو لا غبار له، أو رمل، أو حجر، أو غير ذلك، وهذا هو الصحيح لأنه لا دليل صحيح على هذا التخصيص وقد أجمعوا على إجزاء الرمل ولا تراب فيه، ثم إنه لا يجب إيصال التراب إلى الوجه بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ في يديه وفي رواية نفضها، وأما ما يحتجون به من قول ابن عباس :« الصعيد تراب الحرث» فجوابه أن الرواية الثابتة في كتب الحديث والتفسير المسندة :« أطيب الصعيد تراب الحرث» فيصبح حجة لمن لم يشترط كونه ترابا ذا غبار.
6- بِأَنْ: ينويَ رَفْعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ اَلْأَحْدَاثِ
في هذه الفقرة مسألتان:
الأولى : أن النية شرط لصحة التيمم لأنه عبادة ، والعبادات لا تتميز عن العادة إلا بالنية.
الثانية : أن التيمم يرفع الحدث أي رفعا مؤقتا إلى زوال العذر وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في رواية، ومن الفقهاء من قال يبيح الصلاة ولا يرفع الحدث.
   ويبني على ما اختاره المصنف فروع :
-أن من تيمم لصلاة لا يجب عليه تجديد التيمم حتى ينتقض تيممه.
-وأنه لا يشترط دخول الوقت لصحة التيمم.
-وأن من تيمم للجنابة لمانع لا يمنعه من الوضوء، فإنه يجب عليه الوضوء إذا أحدث ولا يعيد التيمم مرة أخرى.
     ولم يقيد المصنف رفع الحدث بكونه رفعا مؤقتا؛ لأن زوال العذر هو المرض وخوفه أو عدم الماء ناقض للتيمم بإجماع الفقهاء لحديث عمران:« وَكَانَ آخِرُ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ قَالَ اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ» متفق عليه، ولكن تقييده بذلك أضحى مهما لظهور الخلاف عند بعض الفقهاء في المتأخرين ، حيث صار يحكى في المسألة ثلاثة أقوال.
7- ثم يقول: بِسْمِ اللَّهِ،
    تستحب التسمية في أول الوضوء قياسا على الوضوء.
8- ثم يضرب التراب بيديه مَرَّةً وَاحِدَةً، يَمْسَحُ بِهِمَا جَمِيعَ وَجْهِهِ، وَجَمِيعَ كَفَّيْهِ.
    هذه المذكورة للتيمم هي الصفة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها :
-أنه يضرب التراب مرة واحدة (وهو مذهب أحمد).
-ويمسح جميع وجهه ويستوعبه (خلافا لأبي حنيفة في رواية).
-ويمسح الكفين ولا يزيد عليها الذراعين لا إيجابا ولا استحبابا (وهو مذهب أحمد).
-وأيضا يقدم الوجه على الكفين وجوبا (وهو قول الجمهور) والمصنف اكتفى بالترتيب في الذكر دون تنصيص على ذلك.
   وقوله ( التراب) الأولى أن يقال الصعيد كما سبق ليعم كل ما صعد على الأرض مما هو من جنسها.
9- فَإِنْ ضَرَبَ مَرَّتَيْنِ فَلَا بَأْسَ.
    قوله (فلا بأس) يعني أنه يجزئه ولا خلاف في ذلك وإن كان خلاف السنة الثابتة، وقد ثبت فعل ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
10- قَالَ الله تَعَالَى: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6).
ختم المصنف الباب بذكر بعض أدلة المسائل فذكر أولا الآية الكريم من سورة المائدة وفيها :
-دليل على مشروعية التيمم بدلا عن الوضوء والغسل كما سبق.
-ودليل إجزاء كل ما أطلق عليه اسم الصعيد وهو وجه الأرض، وربما استدل الشافعية والحنابلة على وجوب إيصال التراب إلى الوجه بقوله في الآية "منه" أن من تبعيضية، والصواب أن المراد بذلك التأكيد على ملامسة بعضه وأنه لا يكفي الإشارة إليه.
-نص على الحكمة من تشريع التيمم وهو رفع الحرج عن المكلفين في أهم عبادة كلفوا بها وهي الصلاة.
11- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ اَلنَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيّمَا رَجُل أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةَ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَومِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" متفق عليه.
   وبعد الآية الكريمة ذكر حديث جابر رضي الله عنه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه
-دليل على مشروعية التيمم
-وتفسير لمعنى الصعيد بأنه وجه الأرض ، وقد جاء في بعض الأحاديث "وتربتها طهور" فتمسك به الشافعية والحنابلة وأجيب عن هذا الحديث بأنه من باب التنصيص على بعض أفراد العام كقوله تعالى : (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) (البقرة/98) ومنهم من أجاب بأنه ثمة فرقا بين التراب والتربة لأن التربة تطلق على ظاهر الأرض وهو التراب وغيره كما جاء في الحديث :"خلق التربة يوم السبت".

الجمعة, 15 تشرين1/أكتوير 2021 08:41

تحرير الفكر السياسي الإسلامي
يهتم كثير من المعاصرين بمجال السياسة ثم يقفز إلى كتب التراث الإسلامي دون تأصيل شرعي يمكنه من فهم ما حوته من نصوص واجتهادات، ودون اكتساب للموازين الشرعية التي توزن بها الآراء المختلفة، مكتفيا بما لديه من ثقافة عامة ربما حصلها من كتب التاريخ وتاريخ التشريع الإسلامي، وكل رصيده هو الموازين الغربية الحديثة التي حصلها من دراسته أو محيطه الذي غيبت فيه الشريعة منذ عقود والسياسة الشرعية منذ قرون، فتراه يتصفح مؤلفات الماوردي وأبي يعلى والجويني وابن تيمية وابن القيم باحثا عن نظرية الحق الإلهي والعقد الاجتماعي وعارضا لها على مبدأ السيادة الشعبية والديمقراطية ونحوها، ثم ينقسم هؤلاء الهواة إلى قسمين، قسم يحاكم الشريعة الإسلامية إلى تلك الموازين الغربية والمفاهيم الحادثة، وقسم يحاول تطويع الشريعة حتى توافق تلك المفاهيم ولا تتناقض معها.
فأما القسم الأول فأمره ظاهر إذ هو بطريقة أو أخرى يطعن في السياسة الشرعية وصلاحيتها لزماننا، وربما يقدح حتى في صلاحيتها في زمان تأليف تلك الكتب، ومن يريد منهم تجنب الطعن في الشريعة حفاظا على انتماءه للإسلام؛ أو حتى لا يصدم المسلمين، فيحوّل سهامه إلى العلماء المؤلفين في هذا الباب فيطعن في نياتهم ويجعلهم خداما للسلاطين المستبدين مطوعين للشريعة حسب أهوائهم، وحقيقة الطعن في العلماء جميعا هو الطعن في الدين ذاته؛ إذ الدين لا يحفظ إلا بهم، والعصمة وإن كانت منتفية عن آحادهم؛ فهي ثابتة لمجموعهم؛ حيث قضى الله تعالى أن لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكثيرا ما يستر هؤلاء عورتهم بمحاولة إقناع القارئ بثقافته الإسلامية وسابق دراسته لفن من الفنون الشرعية، وقد رأيت من يسرد عناوين الكتب ومؤلفيها ويعطى أحكاما جزافية عليها ليوهمنا أنه مستوعب لها، لكنه يترك في طيات كلامه دلائل عدم فهم مقاصد أصحابها؛ أو عدم الاطلاع عليها؛ إذ كثيرا ما يعتمدون على وسائط لا يصرحون بها. وغاية هذا الصنف أن يلقوا في شعور كل مسلم أنه لا وجود لنظام إسلامي خالص، وأن ما احتواه التراث ليس إلا شرائع وضعية أسست لخدمة أوضاع قائمة لا مزية لها على الأنظمة المعاصرة؛ وأنه لا معنى لزعم وجود سياسة شرعية أو نظام إسلامي مخالف لما توصل إليه العقل الغربي.
وأما القسم الثاني: فأمره قد يلتبس على كثيرين؛ لأنه يزعم استثمار التراث لاستلهام نظريات إسلامية تؤسس لسياسة شرعية معاصرة، لكن تكوينه الذي صنع وعيه الذاتي ودراسته التي صنعته عقله، جعلته يحاول البحث عن شبح الديمقراطية في الشورى وعن وهم السيادة الشعبية في الإجماع وعن نظرية العقد الاجتماعي وغيرها، فتجده يقول هذا الماوردي يوحي إلى كذا وهذا ابن تيمية يشير إلى كذا ، فيتعلقون بالأوهام التي سببها بتر النصوص وسوء الفهم، وكتابات هؤلاء لا تخلوا من تأثر بالقسم الأول حيث يسعى بعضهم إلى دفع اتهاماتهم للشريعة؛ لكنهم يدفعون باطلا بباطل، حيث يسلمون لهم منطلقاتهم، كما قد يسلمون لهم طعنهم في العلماء لكن يخصون الجويني بتهمة شرعنة الاستبداد دون من قبله أو يستثنون ابن تيمية فيجعلونه منقذا للفكر الإسلامي من ورطة التيوقراطية، وأهل هذا القسم أيضا مختلفون فقد تجد بعضهم يرد على بعض فيصفه بعدم الموضوعية وهو واقع في مثل ما عابه، وجميعهم يرهب كلمات القوة والشوكة والغلبة حتى لو ارتبطت بشرط التولية لا بطريقة التولية، وكأن حاكم جمهوريتهم الفاضلة لابد أن يكون بلا "لوبي" يدعمه ولا "مهابة" توجب طاعته، ولا "جند" يفرض بهم النظام.

الخميس, 14 تشرين1/أكتوير 2021 19:52

من واجبات محقق المخطوط تحديد رواية القرآن التي كتب بها النص
كتب أحد الدكاترة الأفاضل تعقيبا ينبه فيه المحققين إلى ضرورة الحفاظ على القراءة التي وردت بها الآيات في المخطوط المحقق دون تغيير لها، فذكرني بما كنت سجلته في دروس توجيه القراءات تعليقا على توجيه قراءة ابن كثير في قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ) حيث قرأها القرَان وقال تلميذه إسماعيل بن عبد الله في توجيهها:"القرَان اسم وليس مهموزا لم يؤخذ من قرأت ، ولو أخذ من قرأت لكان كل ما قرئ قرآنا ولكنه اسم مثل التوراة".
فقلت :" أخذ الشافعي القراءة عن إسماعيل بن عبد الله المعروف بالقسط عن ابن كثير، وهو من روى توجيه قراءة حرف "القُرَان" عنه، وقد تنبه الشيخ أحمد شاكر لهذا الأمر ونبه على أنه يكتب لفظ القرآن في الرسالة حيث ورد بضم القاف وفتح الراء مخففة وتسهيل الهمزة (ص14)، وهذا شيء مهم يحمد عليه الشيخ، وكان جديرا به أيضا أن يضبط الآيات القرآنية الواردة في الرسالة جميعها على قراءة ابن كثير، لأن ضبط القرآن أهم من كلام الشافعي، واختلاف القراءة قد يؤثر في المعاني.
  وقد قال الشافعي في موضع مثلا :« وفي كتاب الله دِلالة عليه، قال الله تعالى : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:106) فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله، وقال: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (النحل:101) (الرسالة ص108).
    فإذا ضبطنا الآية على وفق رواية حفص عن عاصم لم يتناسب ذلك مع التفسير الذي ذكر الشافعي رحمه الله حيث قال "تأخير إنزاله" الذي هو تفسر قراءة ابن كثير (أو ننسأْها).
   ومما كان ينبغي ضبطه على قراءة ابن كثير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(البقرة: 240) (الرسالة 137-138).
    وقد ضبط (وصية) بالنصب على وفق قراءة عاصم لا بالضم كما هي قراءة ابن كثير ونافع"اهـ.
أزيد على ذلك :
وكذا ينبغي أن يطبع تفسير الجلالين على هامش مصحف بقراءة أبي عمرو لا على هامش مصحف بقراءة عاصم أو نافع ، وينبغي أن تطبع كل التفاسير على هامش مصاحف وفق القراءة أو الرواية التي كان يعتمدها المفسر في تفسيره كما هو حال التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور المطبوع على هامش رواية قالون عن نافع، وربما يستثنى من هذا اللزوم التفاسير المتقدمة قبل استقرار القراءات كتفسير الطبري الذي كان له اختيار خاص؛ يختلف عن جميع القراءات التي جمعها تلميذه ابن مجاهد.

السبت, 09 تشرين1/أكتوير 2021 10:54

بَابُ مَا يُوجِبُ الغُسْلَ وَصِفَتُهُ
وَيَجِبُ اَلْغُسْلُ مِنَ:
1- اَلْجَنَابَةِ، وَهِيَ: إِنْزَالُ اَلْمَنِيِّ بِوَطْءٍ أو غيره، أو بالتقاء الختانين.
2- وخروج دم الحيض، والنفاس.
3- وموت غير الشهيد.
4- وإسلام الكافر.
قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) (المائدة: 6) .
وقال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ) (البقرة: 222)، أي: إذا اغتسلن.
وقد أمر النبى -صلى الله عليه وسلم- بِالْغُسْلِ مِنْ تَغْسِيلِ اَلْمَيِّتِ.
وَأَمَرَ مَنْ أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ.
[صفة الغسل]
وَأَمَّا صِفَةُ غَسْلِ اَلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ اَلْجَنَابَةِ:
1- فَكَانَ يَغْسِلُ فَرْجَهُ أَوَّلًا.
2- ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءًا كَامِلًا.
3- ثُمَّ يَحْثِي اَلْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، يُرَوِّيه بِذَلِكَ
4- ثم يفيض الماء على سائر جسده،
5- ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ بِمَحَلٍّ آخَرَ.
6- وَالْفَرْضُ مِنْ هَذَا:
غَسْلُ جَمِيعِ اَلْبَدَنِ، وَمَا تَحْتَ اَلشُّعُورِ الخفيفة والكثيفة، والله أعلم.



بَابُ مَا يُوجِبُ الغُسْلَ وَصِفَتُهُ


   في هذا الباب تعرض المصنف إلى الغسل هو الطهارة الكبرى، وقد قسمه إلى قسمين الأول لموجبات الغسل والثاني لصفة الغسل .
وَيَجِبُ اَلْغُسْلُ مِنَ:
1- اَلْجَنَابَةِ، وَهِيَ: إِنْزَالُ اَلْمَنِيِّ بِوَطْءٍ أو غيره، أو بالتقاء الختانين.
   أول موجبات الغسل خروج الماء الدافق بشهوة سواء كان بوطء أو غيره وسواء في النوم أو اليقظة، وذلك بإجماع العلماء. ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة ، وقد جاء في حديث أم سلمة قَالَتْ جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ» متفق عليه.
وقوله :"أو بغيره" فقد يكون الإنزال يكون بالاحتلام أو الاستمناء وهذه الأسباب المعهودة، كما قد يكون بسبب البرد أو الضرب أو المرض ، وأكثر الفقهاء لم يعتبر هذه الأخيرة موجبة للجنابة ولذلك يقدوا نزول المني أن يكون بشهوة ، ولم يشترط ذلك الشافعي وداود ، وسكوت المصنف يوهم موافقتهما والله أعلم.
قوله :"أو بالتقاء الختانين". وهذا سبب آخر للجنابة غير متعلق بالإنزال وقد قال به جمهور العلماء- إلا داود- ودل عليه قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ» متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» رواه مسلم.
2- وخروج دم الحيض والنفاس.
   والموجب الثاني للغسل خاص بالنساء وهو خروج دم الحيض والنفاس، وهذا بإجماع العلماء، نقله الطبرى وابن المنذر وغيرهما، ومن أدلة إيجاب الغسل عند انقطاع هذا الدم حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ، كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ، فَدَعِي الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي» متفق عليه.
3- وموت غير الشهيد.
   والموجب الثالث للغسل هو الموت، بمعنى أنه يجب على المسلمين تغسيل موتاهم وهو فرض كفاية، ومن أدلة وجوب تغسيل الميت حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيرِهِ، فَوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» متفق عليه. وهذا الغسل غسل تكريم وتنظيف وليس غسل حدث كالجنابة والحيض.
  وقوله :"غير الشهيد" بمعنى أن الشهيد -وهو شهيد المعركة- مستثنى لا يجب تغسيله، ومن أدلة ذلك حديث جَابِرٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ»- رواه البخاري -. وسبب هذا الاستثناء جاء موضحا في قوله : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ»- رواه البخاري -.
4- وإسلام الكافر.
   والموجب الرابع إسلام الكافر ومثله توبة المرتد وعودته إلى الإسلام وهو غسل تعبدي ليس لمعنى الحدث، وبه قال مالك وأحمد ، ومن أدلته حديث قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ« أَنَّهُ أَسْلَمَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ»رواه الثلاثة وصححه ابن خزيمة.
-قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )
  بعد أن ذكر المصنف الموجبات الأربعة عاد إلى ذكر أدلتها فذكر قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )وهذا فيه دليل على وجوب الاغتسال من الجنابة وهو شامل للإنزال ولالتقاء الختانين، وقد جعل التقاء الختانين موجبا للجنابة تعليقا للحكم بمظنته كما هو حال النوم الذي هو مظنة خروج الريح.
-وقال: ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ ) (البقرة:222) أي إذ اغتسلن .
   ثم ذكر هذه الآية ووجهها أنه حرم الاتيان إلا بعد التطهر والتطهر في الشرع هو الاغتسال، والآية تتحدث عن قربان الزوج زوجته، وفي المعنى التطهر هنا خلاف عند السلف هل هو الطهارة الشرعية أم إزالة النجاسة فقط، ولا خلاف في إيجاب الغسل للصلاة ولذلك ذكرنا حديثا واردا في ذلك أعلاه.
وقد أمر النبى -صلى الله عليه وسلم- بِالْغُسْلِ مِنْ تَغْسِيلِ اَلْمَيِّتِ.
  ثم ذكر دليل الموجب الثالث بالمعنى وهو ما روي عن النبي من الأمر بالغسل من تغسيل الميت، ومن ألفاظه :"مِنْ غُسْلِهِ الْغُسْلُ وَمِنْ حَمْلِهِ الْوُضُوءُ يَعْنِي الْمَيِّتَ" –رواه أبو داود وغيره-، والأحاديث الواردة في هذا المعنى كلها ضعيفة. قال أحمد وابن المديني :" لا يصح في هذا الباب شيء". وقد سبق أن المصنف يرى وجوب الوضوء من تغسيل الميت ، ولو كان يرى وجوب التغسيل لذكر ذلك أعلاه، ولعله اعتبر الأمر بالاغتسال من التغسيل أمرا بالتغسيل حتى لو كان مستحبا ، والدليل الذي ذكرناه أعلاه أصح وأصرح والوجوب مجمع عليه بل هو معلوم من الدين بالضرورة.
وَأَمَرَ مَنْ أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ.
وأخيرا ذكر دليل الموجب الرابع بالمعنى أيضا ومنها ما ذكرنا نصه أعلاه، ومنها حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ثُمَامَةَ الْحَنَفِيَّ أُسِرَ فَأَسْلَمَ , «فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى حَائِطِ أَبِي طَلْحَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ» -رواه عبد الرزاق وصححه الألباني على شرط الشيخين-.
 [صفة الغسل]
    وأما صفة غسل النبي  من الجنابة:
وَأَمَّا صِفَةُ غَسْلِ اَلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ اَلْجَنَابَةِ:
1- فَكَانَ يَغْسِلُ فَرْجَهُ أَوَّلًا.
2- ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءًا كَامِلًا.
3- ثُمَّ يَحْثِي اَلْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، يُرَوِّيه بِذَلِكَ
4- ثم يفيض الماء على سائر جسده،
5- ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ بِمَحَلٍّ آخَرَ.
   انتقل المصنف رحمه الله إلى ذكر صفة الغسل الكاملة كما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بواجباتها ومستحباتها ورتبها بهذا الترتيب في النقط المذكورة وقد ورد في صفة الاغتسال الكاملة حديثان الأول عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضُوءًا لِجَنَابَةٍ فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ أَوْ الْحَائِطِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ قَالَتْ فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا فَجَعَلَ يَنْفُضُ بِيَدِهِ -متفق عليه-.
   والثاني عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ  كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ متفق عليه وعند مسلم :« ثم غسل رجليه».
-قوله :"يغسل فرجه أولا" هذا جاء مذكورا في حديث ميمونة والمقصود به التنظيف ومما يشرع قبله التسمية وإن لم ترد في الأحاديث.
-قوله "يتوضأ وضوء كاملا" بناء على ظاهر حديث عائشة وهو مجمل وقد فسرت الصفة في حديث ميمونة، ومن الفقهاء من قال بالتخيير بينهما بناء على أنهما صفتان.
-قوله :"ثُمَّ يَحْثِي اَلْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، يُرَوِّيه بِذَلِكَ" المقصود أن يتأكد من إصابة الماء لبشرته ومنابت شعره .
-قوله :"ثم يفيض الماء على سائر جسده"، كذا جاء في الحديثين معا وورد تفصيل آخر في حديث عن عَائِشَةَ في البدء بالشق الأمين قبل الأيسر حيث قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ فَأَخَذَ بِكَفِّهِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ» متفق عليه.
-قوله :"ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ بِمَحَلٍّ آخَرَ"، ربما فعل هذا لأنه كان يغتسل في بقعة فيها أذى أوجب الانتقال ، وقد ورد هذا في حديث ميمون ة وقد ذكرت سنة أخرى وهي ترك التنشيف بالمنديل ولم يذكرها المصنف.
6- وَالْفَرْضُ مِنْ هَذَا: غَسْلُ جَمِيعِ اَلْبَدَنِ، وَمَا تَحْتَ اَلشُّعُورِ الخفيفة والكثيفة، والله أعلم.
   الفرض في الغسل تعميم الجسد بالماء مع النية فحسب.
-فلا يجب البدء بالوضوء (خلافا لداود)
-ولا الدلك وهو إمرار اليد على الجسد (خلافا لمالك).
-ولا الترتيب ولا المضمضمة والاستنشاق ولا التسمية.
ولا بجب نقض الضفائر لا في الجنابة (خلافا للنخعي) ولا في الحيض (خلافا لأحمد)
وقد دل على ذلك حديث أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ قَالَ لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ -رواه مسلم-، وفي رواية :« لغسل الحيض والجنابة » .
  ومن التعميم أن يغسل ما تحت الشعور الخفيفية والكثيفة كما قال المصنف، لحديث عَائِشَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ فَقَالَ تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ-رواه مسلم-.
   ومما يجب النية وهي شرط في كل عبادة وقد نص على ذلك المصنف عند الحديث عن الوضوء فلم يكررها هنا.
  وبقي النظر في الموالاة عند المصنف وقد سكت عنها هنا فيحتمل أنها كالنية فتشترط لأن الغسل عمل واحد فهو داخل في قوله السابق " وَكَذَا كُلُّ مَا اشترطت له الموالاة"، ويحتمل أنه لا يشترطه لأنه لو كان يرى ذلك لنص عليه.
   وعلى كل فالصحيح اشتراط الموالاة-وهو مذهب مالك والشافعي في القديم- ويتفرع على ذلك أن من وجب بعض ما يكفيه لم يجب عليه استعماله ويعدل إلى التيمم ومن شرع في الغسل ثم نفد الماء ولم يجد ما يتم به غسله إلا بعد وقت طويل وجب عليه استئناف غسل جديد ولا يبنى على ما فات، ومن الفقهاء من قال إنما يستأنف المتهاون أما المعذور فيبني مع القول بشرطي الموالاة والعلم عند الله تعالى
 

الإثنين, 04 تشرين1/أكتوير 2021 17:40

بَابُ نَوَاقِضِ الوُضُوءِ
وَهِيَ:
1-اَلْخَارِجُ مِنْ اَلسَّبِيلَيْنِ مطلقًا،
2- وَالدَّمُ اَلْكَثِيرُ وَنَحْوُهُ ،
3- وَزَوَالُ اَلْعَقْلِ بِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ،
4- وَأَكَلُ لَحْمِ اَلْجُزُورِ،
5- وَمَسُّ اَلْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ،
6- ومس الفرج،
7- وتغسيل الميت،
8- والرِّدَّة: وَهِيَ تُحْبِط اَلْأَعْمَالَ كُلَّهَا.
9- أ-لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [اَلْمَائِدَةِ: 6] .

ب-وَسُئِلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ اَلْإِبِلِ؟ فَقَالَ: "نعم". رواه مسلم.
ج-وَقَالَ فِي اَلْخُفَّيْنِ: "وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وبَولٍ ونَومٍ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.


باب نواقض الوضوء


     بعد أن فرغ المصنف من الحديث عن المسائل المتعلقة بصفة الوضوء انتقل إلى الحديث عن نواقض الوضوء وقد أوصلها إلى ثمانية نواقض، عددها تعدادات ثم عاد ليذكر أدلتها.
وهي :
1-اَلْخَارِجُ مِنْ اَلسَّبِيلَيْنِ مطلقًا.
الناقض الأول هو ما خرج من السبيلين وفيه ماهو متفق عليه وما هو خلافي وقول المصنف "مطلقا" هو ترجيح يعم كل الخلافيات المندرجة تحت هذا المسمى ، والخارج من السبيلين يشمل ما يأتي:
-البول والغائط وهذان ناقضان بالإجماع، ودليله من القرآن سيذكره المصنف، وهو قوله تعالى : (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ  ) (المائدة: 6).
-الفساء والضراط وهو ناقض متفق عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي تخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة :« لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» -متفق عليه-.
-المذي سواء خرج لشهوة أو لا ، لحديث عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِمَكَانِ ابْنَتِهِ فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ:« يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» -متفق عليه- واشترط فيه مالك كونه خرج بشهوة.
-دم الاستحاضة لحديث عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي (ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ)» رواه البخاري.
-الدود والحصى وغيره قياسا على دم الاستحاضة .
    وهذه الثلاثة الأخيرة خالف فيها المالكية لأنهم اعتبروا الخارج المعتاد دون غيره وهذه أمور غير معتادة.
2- وَالدَّمُ اَلْكَثِيرُ وَنَحْوُهُ .
   ذكر المصنف في النواقض سيلان الدم وهذا قد يكون رعافا وقد يكون من الجروح أو الحجامة، وأما إذا كان من السبيلين فهو داخل فيما سبق وما ذكره هو مذهب أحمد وأبي حنيفة، وقد اعتمدوا القياس على البول والغائط بجامع أنها نجاسة خرجت من البدن ومقتضى هذا القياس تعميم الحكم لكل نجس خرج من البدن ولذلك قال المصنف :"ونحوه" أي كالصديد والقيح.
  والصحيح أن الدم قليله وكثيره لا ينقض مطلقا ومما يدل عليه حديث جابر أن رجلين حرسا المسلمين ليلة غزوة ذات الرقاع فقام أحدهما يصلي فجاءه رجل من الكفار فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ "فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ حَتَّى رَمَاهُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ "رواه أبو داود وحسنه النووي، وهذا يفيد أن أتم صلاته وداؤه تجري.
3- وَزَوَالُ اَلْعَقْلِ بِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ،
   الناقض الثالث المذكور هو زوال العقل وهو متفق عليه بين العلماء في الجملة، والتعبير بزوال العقل أعم من كونه نوما لأن زوال العقل قد يكون بجنون أو سكر أو إغماء، ولذلك قال المصنف "بنوم أو غيره" فعبر هنا بالعلة الموجبة للحكم عكس الفقرة السابقة التي عبر فيها بالدم ولعله تجنب التعبير بالنجاسة الخارجة من البدن حتى لا تتداخل مع ما خرج من السبيلين.
   وقد اتفق العلماء على أن النعاس لا ينقض الوضوء لأنه ليس فيه زوال للعقل، واختلفوا بعد ذلك في بعض الحالات، والصحيح أنه ناقض بكل حال سواء كان كثيرا أم قليلا وسواء كان قاعدا أو مضطجعا لتحقيق معنى زوال العقل فيه، ولعموم حديث صفوان بن عسال السابق.
4- وَأَكَلُ لَحْمِ اَلْجُزُورِ.
   الناقض الرابع عند المصنف أكل لحم الجزور وهو الإبل ، وقد صح في ذلك أحاديث منها حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ قَالَ إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ قَالَ أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ قَالَ نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ قَالَ أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَالَ نَعَمْ قَالَ أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ قَالَ لَا –رواه مسلم-، وحديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَقَالَ تَوَضَّئُوا مِنْهَا وَسُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ فَقَالَ لَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهَا –رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة-، وبه قال أحمد وابن المنذر والنووي.
   وإذا ثبت أن أكل لحمه موجب للوضوء فإن أكل مرقه وشحمه وجميع أجزائه كذلك، ومثله أيضا شرب لبنه.
5- وَمَسُّ اَلْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ.
    الناقض الخامس عند المصنف مس المرأة بشهوة، وهو مذهب مالك وأحمد في الشهور، وقال الشافعي وأحمد في رواية إن لمس المرأة ناقض للوضوء مطلقا، والحكم يتعدى للمرأة إذا لمست الرجل ولا يختص بلمس اليد، وعمدتهم قوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (المائدة:6) ومن قيده بالشهوة اعتمد حديث عائشة قالَتْ: «كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلاَيَ، فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا» متفق عليه.
    والصحيح هذا اللمس أنه لا ينقض الوضوء مطلقا وهو قول أبي حنيفة وأحمد في رواية واختيار ابن تيمية، لأن المراد باللمس في الآية الكريمة الجماع، ويؤيده حديث عائشة المذكور.
    ومحل الكلام كله إذا لم يسبب هذا اللمس خروج المذي فإن خرج المذي انتقض الوضوء لا للمس ولكن لخروج الخارج من السبيلين.
    وقد اختلف القائلون بنقض الوضوء في تفاصيل كثيرة كسن الملموس أو لمس الشعر، ونقض وضوء الملموس، ومن قصد الشهوة ولم يجدها، وهي تفاصيل تسقط الحاجة إلى بحثها على القول الذي رجحناه.
6- ومس الفرج.
   الناقض السادس عند المصنف هو مس الفرج ، وقد أطلقه مما يعني أنه ناقض سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وبقصد أو بغير قصد، وبباطن الكف أو ظاهرها، ولا يختلف حكم المرأة عن الرجل، وبهذا قال الأوزاعي وأحمد في رواية، ويدل على ذلك حديث بسرة مرفوعا :« مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلَا يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ »رواه أهل السنن وصححه أحمد، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا :« مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ » رواه أحمد وصححه البخاري.
   وقول المصنف:"ومس الفرج" أولى ممن عبر بمس الذكر لدلالته على عموم الحكم للمرأة، ومنهم من قصد بهذه العبارة العموم لمس حلقة الدبر ولا دليل على ذلك، والحكم لا يتعدى لمن مس فرج غيره المرأة تغسل أولادها لعدم النص على ذلك ولأن مفهوم الأحاديث المذكورة ينفيه.
7- وتغسيل الميت.
    من النواقض عند المصنف وأكثر الحنابلة تغسيل الميت، وقال ابن حزم حمل الميت ناقض، قال الترمذي :« وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الَّذِي يُغَسِّلُ الْمَيِّتَ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ  وَغَيْرِهِمْ إِذَا غَسَّلَ مَيِّتًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ وقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَسْتَحِبُّ الْغُسْلَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَلَا أَرَى ذَلِكَ وَاجِبًا وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وقَالَ أَحْمَدُ مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا أَرْجُو أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، وقَالَ إِسْحَقُ لَا بُدَّ مِنْ الْوُضُوءِ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ لَا يَغْتَسِلُ وَلَا يَتَوَضَّأُ مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ».
  والصحيح مذهب الجمهور واختيار ابن قدامة أنه لا يجب الوضوء من غسله ولا من حمله، وقد صح عن ابن عمر أنه قال:« كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل » رواه الدارقطني وصححه الألباني، وما روي عن الصحابة في الوضوء يحتمل الاستحباب فلا جزم .
8- والرِّدَّة: وَهِيَ تُحْبِط اَلْأَعْمَالَ كُلَّهَا.
   من النواقض عند المصنف الردة وهذا على قول الحنابلة والمالكية، ويتصور ذلك فيمن ارتد واستتيب فتاب قبل انتقاض وضوئه، والقول ببطلان الوضوء يلزم منه القول ببطلان كل أعماله السابقة فلو حج البيت وجب عليه الحج مرة أخرى وقد بين المصنف هذا الحكم وقال :"وهي تحبط الأعمال كلها".
   والصحيح أن إبطال الردة للأعمال مشروط بالموت عليها، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) (البقرة: 217)، وأما من تاب بعدها فإن أعماله لا تحبط بإذن الله تعالى.
9- أ-لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) (اَلْمَائِدَةِ: 6).
  بعد أن فرغ المصنف من سرد نواقض الوضوء عاد لذكر الأدلة، لكنه لم يستوعب جميعها، والآية المذكورة دليل على نقض الوضوء بما خرج من السبيلين، قال القرطبي : "الغائط كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين".
   وأوردها المصنف دليلا على نقض الوضوء بلمس المرأة ولكن في دلالتها نظر لأن المقصود بالملامسة الجماع في هذا السياق، والله أعلم.
ب-وَسُئِلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ اَلْإِبِلِ؟ فَقَالَ:"نعم". رواه مسلم.  
    وهذا الحديث دليل على نقض الوضوء بأكل لحم الإبل وسبق سياقه بتمامه، وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين لحم الغنم، وقوله في الغنم توضأ إن شئت ينفي احتمال حمل الحديث على الاستحباب أو ادخاله في معنى الوضوء مما مست النار عموما.
ج-وَقَالَ فِي اَلْخُفَّيْنِ:"وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وبَولٍ ونَومٍ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
   وهذا الحديث دليل على نقض الوضوء بالنوم وبزوال العقل .
   وخلاصة ما ينقض الوضوء –على الصحيح -هو ما خرج من السبيلين مطلقا وزوال العقل مطلقا ، ولمس الفرج مطلقا وأكل لجم الجزور والعلم عند الله.

السبت, 02 تشرين1/أكتوير 2021 19:56

[باب المسح على الخفين والجبيرة]


1- فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ خُفَّانِ وَنَحْوُهُمَا مَسْحَ عَلَيْهِمَا إِنْ شَاءَ.
2- يَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهنَّ لِلْمُسَافِرِ.
3- بِشَرْطِ أَنْ يَلْبَسَهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ،
4- وَلَا يمسحهما إلا في الحدث الأصغر، عن أنس مرفوعًا: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ فَلْيَمْسَحْ عَلَيهِمَا، ولْيُصَلِّ فِيهِمَا، ولا يَخْلَعْهُمَا إِنْ شَاءَ إلا مِنْ جَنَابَةٍ". رَوَاهُ اَلْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
5- فَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْضَاءِ وَضُوئِهِ جَبِيرَةٌ عَلَى كَسْرٍ، أَوْ دَوَاءٌ عَلَى جُرْحٍ، وَيَضُرُّهُ اَلْغُسْلُ: مَسَحَه بِالْمَاءِ فِي اَلْحَدَثِ اَلْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ حَتَّى يَبْرَأَ.
6- وَصِفَةُ مَسَحِ اَلْخُفَّيْنِ: أَنْ يَمْسَحَ أَكْثَرَ ظَاهِرِهِمَا.
7- وَأَمَّا اَلْجَبِيرَةُ: فَيَمْسَحُ على جميعها.


[باب المسح على الخفين والجبيرة]


   من أبواب الطهارة باب المسح على الخفين افرده الفقهاء لكثرة المسائل المتعلقة به ، والمصنف رحمه الله تعالى ذكر ما رآه مهما منها وعطف عليها المسح على الجبيرة بجامع كون الخف والجبيرة كلاهما ممسوحا.
1- فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ خُفَّانِ وَنَحْوُهُمَا مَسْحَ عَلَيْهِمَا إِنْ شَاءَ.
     المسح على الخفين بدلا من غسل الرجلين في الوضوء مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فقوله تعالى في آية الوضوء (وأرجلكم إلى الكعبين) حيث قرئت أرجلكم بالجر معطوفة على مسح الرأس وذلك محمول على المسح عليهما إذا كان عليهما خفان كما بينته السنة ، وأما السنة فأحاديث كثيرة منها ما سيأتي في الشرح وقد قال أحمد: «ليس في قلبي من المسح شيء فيه أربعون حديثا عن رسول الله  ما رفعوا وما وقفوا». وأما الإجماع فقال ابن المبارك :« ليس في المسح عن الصحابة اختلاف ».
   والخفان مثنى خف وهو ما يلبس في الرجل من جلد.
   وقوله "ونحوهما" إشارة إلى جواز المسح على غير الخفين مما يبلس في الرجل ويكون ساترا لمحل الفرض من نعال وجوارب وغيرها من غير نظر في مادة صنعها، وإنما العبرة بتحقق المعنى الموجود فيه وهو كونه لباسا ثخينا يستر محل الفرض وكان في نزعه نوع مشقة، فالجوارب المصنوعة من الصوف ونحوها إذا تحقق فيها معنى الخف يجوز المسح عليها، وقد نقل ذلك كثير من الصحابة ولا مخالف لهم وفي الباب أحاديث يستدل بها كثير من الفقهاء والمحدثين لكنها لا تصح، وقول الصحابة وفعلهم كاف في ذلك ، ومن ذلك قول ابن عمر: الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وقال الترمذي :"وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ المُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، قَالُوا: يَمْسَحُ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَعْلَيْنِ إِذَا كَانَا ثَخِينَيْنِ ".
    وإن كان في الخف خرق فوق الكعبين جاز المسح بلا خلاف، وكذلك إن كان يسيرا حتى لا يظهر شيء من القدم، وإن كان فاحشا بحيث لا يمكن متابعة المشي فيه فلا يجوز المسح بلا خلاف، وإن كان غير فاحش حيث يمكن متابعة المشي فيه، فاختلفوا فيه والصحيح الجواز هو مذهب مالك والشافعي في القديم وابن المنذر وابن حزم .
    قوله "إن شاء"، إشارة إلى أن الغسل أفضل كما هو مذهب الجمهور، أو إلى أن الغسل والمسح سواء؛ وهو رواية عن أحمد، خلافا للمشهور عن أحمد من أن المسح أفضل.
2- يَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهنَّ لِلْمُسَافِرِ.
    وهذا المسح رخصة محددة بزمن ومشروطة بشرط، وقدم المصنف الحديث عن الزمن مع أنه متعلق بالشرط، وهذا التحديد الزمني تعبدي جاء منصوصا في أحاديث منها حديث شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَتْ عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَسَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ  ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ رواه مسلم. ومنها حديث صَفْوَان بْنِ عَسَّالٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ رواه النسائي وابن ماجة والترمذي وصححه. فلا يجوز للمتوضئ أن يتجاوز يوما وليلة إذا كان مقيما ولا ثلاثة أيام بلياليهن إذا كان مسافرا.
    ويتعلق بمدة المسح البحث في ابتدائه هل هو من لبسه أم من أول حدث بعد لبسه أم من أول مسح بعد الحدث، اختار الجمهور الثاني وذهب الأوزاعي وأحمد في رواية إلى الأخير وهو الأظهر .
   ولا يعتبر انتهاء المدة ناقضا للوضوء، وكذا نزع الخف -خلافا لأحمد- ، ولا يجب على من نزع الخف أن يغسل قدميه -وهو قول داود واختيار ابن حزم والنووي-.
3- بِشَرْطِ أَنْ يَلْبَسَهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ.
    بعد أن ذكر المصنف المدة عاد إلى ذكر الشرط وهو لبس الخفين على طهارة ، وهو شرط مجمع عليه، ويدل عليه حديث الْمُغِيرَةِ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ  فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا» متفق عليه.
   ويتعلق بهذا الشرط جزئية وقع فيها اختلاف وهي اشتراط الطهارة الكاملة، لأن اللابس للخف قد يغسل رجله اليمنى ثم يدخلها في الخف ثم يغسل اليسرى، والصحيح اشتراطها وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور.
   ومما يبتلى به الناس أكثر من هذا هو لبس الخف بعد التيمم ؛ فهل يجزئه المسح عليه ، الظاهر أنه يجزئه لأنه لبسه على طهارة ولأن التيمم يرفع الحدث على الصحيح .
4- وَلَا يمسحهما إلا في الحدث الأصغر، عن أنس مرفوعًا: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ فَلْيَمْسَحْ عَلَيهِمَا، ولْيُصَلِّ فِيهِمَا، ولا يَخْلَعْهُمَا إِنْ شَاءَ إلا مِنْ جَنَابَةٍ". رَوَاهُ اَلْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
   وهذا متفق عليه لأن المسح رخصة خاصة بالوضوء وليس في غسل الجنابة مسح.
   والحديث المذكور معلول، وفي الباب ما هو أصح من هذا الحديث وهو صفوان بن عسال السابق والله أعلم.
5- فَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْضَاءِ وَضُوئِهِ جَبِيرَةٌ عَلَى كَسْرٍ، أَوْ دَوَاءٌ عَلَى جُرْحٍ، وَيَضُرُّهُ اَلْغُسْلُ: مَسَحَه بِالْمَاءِ فِي اَلْحَدَثِ اَلْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ حَتَّى يَبْرَأَ.
    مما يبتلى به المرء الإصابة بجرح في محل الوضوء يكون عليه دواء أو ضماد أو كسر تكون عليه جبيرة ؛ والكسر والجرح إذا كان يتضرر بالماء عذران يسقطان وجوب غسل العضو ولا شك ، لكن ما الواجب بدلا عن الغسل.
فقيل يسقط العضو وهذا غير صحيح، وقيل يعدل إلى التيمم لأنه بدل الوضوء في حال العجز، ومنهم من قال : يمسح على الموضع الذي يتعذر غسله ويغسل الباقي وهو اختيار المصنف، وأصح شيء يعتمد عليه أصحاب هذا القول فعل ابن عمر وقوله فعَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَكَفُّهُ مَعْصُوبَةٌ فَمَسَحَ عَلَيْهَا وَعَلَى الْعِصَابِ، وَغَسَلَ سِوَى ذَلِكَ. وعنه أنه كان يقول: " مَنْ كَانَ لَهُ جُرْحٌ مَعْصُوبٌ عَلَيْهِ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْعَصَائِبِ وَيَغْسِلُ مَا حَوْلَ الْعَصَائِبِ "، ومنهم من زاد ايجاب التيمم احتياطا وهو يحقق الخروج من الخلاف بلا شك.
   وقد شرط المصنف للمسح التضرر بالغسل ولم يشترط التضرر بنزع الجبيرة لأن في نزع الجبيرة كل مرة إذا كانت مربوطة حرجا .
ونص على أن هذا المسح مشروع للحدث الأصغر والأكبر أيضا. وأنه مستمر إلى زوال العذر الموجب لهذه الرخصة وهو البرئ
6- وَصِفَةُ مَسَحِ اَلْخُفَّيْنِ: أَنْ يَمْسَحَ أَكْثَرَ ظَاهِرِهِمَا.
    ثم عاد المصنف إلى بيان مقدار الممسوح من الخفين، فينبغي أن يعلم أولا أن الواجب في المسح هو مسح أعلى الخف دون أسفله، وأنه لا يستحب مسح أسفله، لأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم هو المسح على ظهر خفيه دون زيادة، وقد قال علي رضي الله عنه :« لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ » رواه أبو داود وصححه ابن حجر.
  وإذا تقرر أن المسح خاص بأعلى الخف ينبغي أن يعلم أن الواجب مسح أكثر ظاهره كما هو مذهب أحمد، لأن المسح ورد مطلقا وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله فلم ينقل عنه الاكتفاء بأقل ما ينطلق عليه الاسم-خلافا للشافعية-، كما أنه لم ينقل عنه أنه تتبع أطراف أعلاه ليستوعبه-خلافا للمالكية-.
7- وَأَمَّا اَلْجَبِيرَةُ: فَيَمْسَحُ على جميعها.
   ثم عاد المصنف ليبين أن المقدار الممسوح في الجبيرة مختلف عن الخفين فيجب استيعابها، وعلى من يضع الجبيرة أن لا يوسع المحل أكثر من الحاجة ، وكذا من يضع عصابة على جرح ، حتى لا يتجاوز بالضرورة أكثر من قدرها. ومستند وجوب الاستيعاب أنه بدل عن عضو وجب استيعابه غسلا وتركه بلا مسح هو مثل ترك بعض العضو، وهو مسح يشبه التيمم أكثر منه المسح على الخفين.

السبت, 02 تشرين1/أكتوير 2021 12:25

"رسالة الذب عن الأشعري" لأبي القاسم ابن درباس (605هـ)
ودلالاتها التاريخية والعقدية

بحث قدم للملتقى الدولي : الأشعري والأشاعرة الذي نظمته كلية الإلهيات بجامعة قسطموني تركيا بتاريخ 04-06 ماي 2018

مقدمة
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والأخيرين وصحابته الكرام، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد فإنّ الإمام الأشعري رحمه الله تعالى قد ألَّف كتبا كثيرة بقصد الدفاع عن عقيدة أهل السنة ونصرتها على من خالفها من الفرق التي وجدت في عصره ولا سيما المعتزلة، وسلك فيها طريقة الجدال والمناظرة واستعمل فيها لغة المتكلمين وأساليبهم؛ وبفضل هذه الكتب وتلاميذه الذين تتلمذوا عليه نشأت المدرسة الكلامية الأشعرية، فاختلف أهل الحديث في طريقته؛ فمنهم من حمدها لما فيها من نصرة الحق، ومنهم من ذمها لما وجد فيها من أخطاء أو تقليدا للمتقدمين الذي ذموا علم الكلام وأهله قبل بروز الأشعري، وتوسَّعت هذه المدرسة توسعا بطيئا أوّل الأمر وكان مركزها بغداد، ثم عرفت التوسُّع الكبير بعد أن تبنتها رسميا الدولة الأيوبية في المشرق والدولة الموحدية في المغرب، وفي هذا العصر ازداد الجدل حول الاتجاه الأشعري بين الرافضين له والقابلين له، وظهر جدل آخر بين المنتسبين للأشعري أنفسهم من جهة أخرى، حيث ظهرت خلافات عقدية بينهم، نتيجة تطورٍ وتحولٍ في المنهج، وقد حمل لنا التاريخ عن هذه الخلافات بعض الأخبار، كما وصلنا من تلك الحقبة بعض الكتابات التي نقلت لنا صورا منها، ومن تلك الكتابات "رسالة الذب عن الأشعري" لأبي القاسم عبد المالك بن عيسى بن درباس (605هـ) قاضي صلاح الدين الأيوبي؛ وهي رسالة على وجازتها تحمل في مضمونها عدة دلالات تاريخية وعقدية، حيث إن القراءة الأولية لهذه الرسالة تثير عدة تساؤلات، في مقدمتها ما هو منهج هؤلاء الطاعنين في الأشعري من المنتسبين إليه؟ وما سبب الخلاف بينهم وبين ابن درباس؟
    ورغم أن الرسالة قد طبعت عدَّة مرات، وقد استفاد منها كثيرون في تثبيت نسبة كتاب الإبانة للأشعري، إلا أن دراسة مضمونها المنهجي ودلالتها التاريخية والعقدية أمر بقي مُعرضا عنه رغم أهميته الكبيرة في التأريخ للعقيدة الأشعرية، ورُغم مكانة مؤلفها ودوره في نشرها في المشرق، وقد سلكت في تحقيق الأهداف المرسومة المنهج التحليلي بالوقوف مع نصوص الرسالة فهما واستنباطا للدلالات التي تحملها ومناقشتها.
     وللجواب عن تلك التساؤلات والوقف مع جميع الدلالات التي حملتها الرسالة مضمونا ومنهجا سلكت الخطوات الآتية:
    وضعت تمهيدا عرّفت فيه تعريفا موجزا بالمؤلف وذلك أمر ضروري، وعرفت فيه أيضا بالرسالة ومحتواها وطبعاتها ومخطوطاتها، كما تحدَّثت فيه عن السياق التاريخي الذي أُلّفت فيه.
   ثم انتقلت إلى المواضيع الأساسية وجعلتها في مباحث :
المبحث الأول: في دلالة الرسالة على تأكيد نسبتها لأبي القاسم عبد الملك ابن درباس الأشعري.
المبحث الثاني: في دلالة الرسالة على انتماء ابن درباس لأهل الطور الأول في الاتجاه الأشعري.
المبحث الثالث : في دلالة الرسالة على وجود صراع بين أنصار المنهج القديم والمنهج الجديد قبل التحول النهائي.
المبحث الرابع : في دلالة الرسالة على بعض أسباب التحول المنهجي في العقيدة الأشعرية.
المبحث الخامس : في دلالة الرسالة على بعض أسباب انتشار الأشعرية.
المبحث السادس : في دلالة الرسالة على موقف أبي القاسم ابن درباس من منكري علم الكلام.
    وختمت ذلك بتسجيل أهم النتائج المتوصل إليها.
التعريف بالمؤلف ورسالته والسياق التاريخي لتأليفها
أولا : التعريف بالمؤلف
   هو عبد الملك بن عِيْسَى بن دِرباسِ المارَانِيُّ الكُرْدِيُّ الملقب بصَدْرُ الدِّيْنِ وكنيته أبو القاسم(1)، ولد الموصل فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِ مائَةٍ(2)، وقيل إنه ولد في أواخر سنة عشر وخمسمائة(3).
   بعد أن حصل ابن درباس المبادئ في بلده(4) رحل على عادة أهل زمانه، فشملت رحلته مدائن الشام ومصر، فدخل حلب فكان من شيوخه بها أبو الحسن علي بن سليمان المرادي، وقد أخذ عنه الفقه الشافعي والحديث، ورحل إلى دمشق فلقي أبا سعد ابن أبي عصرون فأخذ عنه الفقه الشافعي وغيره، وسمع الحديث من الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وأَبِي القاسم الحسن بن الحسين الأسدي المعروف بابن البُن، ثم انتقل إلى مصر وسمع بها من علي بن إبراهيم الأنصاري المعروف بابن بنت أبي سعد، والحَافِظُ أَبي الحَسَنِ بنُ المُفَضَّلِ وغيرهم(5).
   واستقر بمصر ابتداء من سنة ستة وستين (566) لما قدمها مع صلاح الدين(6). حيث ولاه القضاء في الغربية، ثم نصبه قاضي قضاة الديار المصرية كلها، كما أسند إليه ديوان الأحباس، واستمر في هذه الولايات مدة حكم السلطان صلاح الدين (ت:589). واستمر في منصبه إلى وفاته، ولم يعزل عنه إلا لأشهر في عهد العزيز ابن صلاح الدين، في سنتي أربع وتسعين وخمس وتسعين(7).
     وفي ولايته لم يستنب في أقاليم مصر وما تابعها إلاّ من كان شافعي المذهب، وكان ذلك من أسباب انتشار المذهب الشافعي(8)، وقد كان أغلب من ولي من الشافعية أشاعرة من المصريين أو من الذين استقدمهم صلاح الدين من خريجي المدارس النظامية بالعراق(9).
    والذي لا شك فيه أن أبا القاسم ابن درباس كان أشعريا، بل كان متعصبا جدا لآراء الأشعري الكلامية، حتى نقل عنه المقريزي أنه كان يكفر من خالف العقيدة الأشعرية(10)، وهذا ما يثير تساؤلات عن الاتجاه الذي سلكه ابن درباس داخل المدرسة الأشعرية.
   وكان قبل استقراره في مصر مشهورًا بالصلاح والغزو وطلب العلم، ويتبرك بآثاره للمرضى(11)، ومع اشتغاله بالولايات، فقد تتلمذ عليه علماء أجلاء، ومنهم أولاده: محمد (ت:656) وإسماعيل (ت:624) وإسحاق (ت:613) وعبد الرحمن (ت:585)، وابن أخيه إبراهيم بن عثمان (ت:622)، أبو محمد عبد الله بن عبد العزيز النحوي العطار (ت:606) والحافظ أبو محمد المنذري (ت:656).
     وتوفي فِي رجب سنة خمس وستمائة(605هـ) بالقاهرة كذا أرخه تلميذه المنذري رحمهما الله تعالى(12).
ثانيا : التعريف بالرسالة
   إنّ الرسالة التي هي محل الدراسة لم يرد لها ذكر في كتب التراجم، مما يجعل الجزم بعنوانها الصحيح أمرا عسرا، وقد ورد في الصفحة الأولى من بعض مخطوطاتها والمطبوعة الهندية العبارة الآتية:"رسالة أبي القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس في الذب عن الأشعري"(13)، التي تدل أن موضوع الرسالة هو الذب عن أبي الحسن الأشعري, وهذا الدفاع في فحواه تنزيه الأشعري عن عقائد انتحلها بعض المنتسبين إليه وهي مخالفة لعقيدته، وذلك بإثبات نسبة كتاب الإبانة إليه وجعله العمدة في تحقيق العقيدة الأشعرية، وهذه فاتحة الرسالة تنبئ عن سبب التأليف ومغزاه، وهو تصحيح نسبة الكتاب للأشعري؛ وكذا التأكيد على أن ما تضمنه هو عقيدته التي استقر عليها أمره، حيث قال:"فاعلموا معاشر الإخوان وفقنا الله وإياكم للدين القويم، وهدانا أجمعين للصراط المستقيم أن كتاب الإبانة عن أصول الديانة؛ الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده، وبما كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه عن الاعتزال بمنَّ الله ولطفه، وكلُّ مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه فقد رجع عنها"(14).
 وقد ضمن الرسالة شهادات الأئمة قبله بصحة نسبة الكتاب وإفادتهم منه، وهؤلاء الأئمة هم :
1-الإمام أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458)، 2-أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي الأصفهاني (ت:521)، 3-أبو عثمان إسماعيل بن عثمان الصابوني (ت: 449)، 4-أبو علي الحسن بن علي الفارسي الأهوازي ت: 446، 5-أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي (ت: 490)، 6-أبو القاسم علي بن الحسن ابن عساكر (ت: 571)، 7-أبو المعالى مجلى بن جميع الشافعي (ت: 550)، 8-أبو محمد المبارك بن علي البغدادي (ت: 575)، 9- أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي (ت 611).
وكل المذكورين من الشافعية أشاعرة، إلا الأهوازي فهو من الحنابلة السالمية(15)؛ وهو غال في إثبات الصفات؛ فمع ثبوت كتاب الإبانة عن الأشعري عنده فكان يطعن فيه، ولما كان قصد ابن درباس تصحيح النسبة لم ير ضيرا في إيراد كلامه، مع تدليس اسمه حيث سماه أبا علي المقرئ الفارسي ولم يسمه بالتسمية المشهورة وهي أبو علي الأهوازي.
ثالثا : السياق التاريخي لتأليف الرسالة
    إن هذه الرسالة قد تم تأليفها في مرحلة زمنية عرفت تحولات سياسية وفكرية كبيرة؛ لذلك كان لابد من وضعها في السياق المناسب لها، فأما عرض ابن درباس العقيدة الأشعرية كبديل سني يمحو به آثار الانحرافات الشيعية فأمر ظاهر ومشهور تاريخيا، لكن الأمر الذي ينبغي الوقوف عنده؛ هو أننا نجد العقيدة الأشعرية قد تطوَّرت ومرَّت بمراحل، لابد من تحرير خصائصها العامة لنضع هذا الكتاب في الخانة المناسبة له والمرحلة التي أراد المؤلف نصرتها.
    وهذا التطور لا نعني به الاختلافات في قضايا الدقيق التي تبقى جزئية لا تؤثر في المنهج العام، ولكن المقصود به التطور المنهجي والخلاف في القضايا الكلية والمسائل الجوهرية في العقيدة الاسلامية، وعلى رأسها مناهج الاستدلال في العقائد والموقف من آيات الصفات، وإذا نظرنا إلى المذهب الأشعري من هذه الحيثية فإننا نجده مر بمراحل ثلاث أساسية، المرحلة الأولى مرحلة مذهب المؤسس أبي الحسن الأشعري وتلاميذه كابن مجاهد والباهلي وتلاميذهم كالباقلاني وابن فورك وأبي إسحاق الإسفرايني وتلاميذهم كالداني والقاضي عبد الوهاب.
     والمرحلة الثانية أبرز رجالها الجويني(16) وتلاميذه كابن القشيري والغزالي ونحوهم، وقد تميزوا من الناحية المنهجية بإبطال أغلب طرق الاستدلال المعتمدة عند الأشاعرة، وإقحام المنطق وقواعده في علم الكلام، ومن ناحية مضمون العقيدة فقد عُرف عنهم الجنوح إلى تأويل الصفات الخبرية بنحو تأويلات الجهمية والمعتزلة؛ التي ردّها الأشعري وأصحابه في كتبهم، وأهم تلك الصفات صفة العلو والاستواء على العرش.
     والمرحلة الثالثة وتبدأ مع فخر الدين الرازي ثم سيف الدين الآمدي، وهي مرحلة حُكِّمت فيها قواعد المنطق في دلائل الكلام وفلسفت مسائله، وجنح الرازي وأتباعه إلى ما هو أبعد من تأويل الصفات الخبرية؛ حيث تعدى التأويل إلى الصفات المعنوية نحو السمع والبصر والقدرة والإرادة(17).
     ومؤلِّف الرسالة عايش بعض مراحل هذا التحوُّل، والغالب أنه التحول من المرحلة الأولى إلى الثانية، لأن الرازي (ت:606) معاصر له وكان في بلاد ما وراء النهر، وكتبه وأفكاره لم تدخل العراق ومصر والشام إلا في عصر المؤلف أو بعده(18)، حيث إننا نجد المؤلف يؤكد على صحة نسبة الإبانة لأبي الحسن الأشعري، وعلى أنّه المصدر الأساس في توثيق آراء الأشعري، مما يبين أنه من أنصار الأشعرية المتقدمين، كما أنَّه في هذا الكتاب على اختصاره يؤرِّخ لوجود طائفة من المنتسبين للمذهب الأشعري مالت في أقوالها إلى آراء الجهمية في الصفات، واعتقدت الأقوال التي فنَّدها الأشعري وتاب عن اعتقادها بعد رجوعه عن الاعتزال، وقد يكون هؤلاء من أتباع أبي المعالي الجويني وسالكي طريقه، وقد ألّف هذه الرسالة لأن بعض أهل هذه الطائفة أنكروا كتاب الإبانة للأشعري، أو زعموا أنه كتبه في مرحلة متوسطة بين الاعتزال وبين ما استقر عليه أمره؛ اعتقد فيها ما اعتبروه تشبيها للخالق بالمخلوق، وليس المصنَّف بأوَّل من أشار إلى هذا التحول في الاعتقاد لدى المنتسبين للأشعري من أهل السنة، بل سبقه إلى ذلك أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين في رسالته في إثبات الاستواء والفوقية (19)، وكتاب أبي محمد الجويني يبين أن الانشقاق في المذهب الأشعري قديم، إنما أظهره وشهره ابنه إمام الحرمين الجويني في كتبه في باب الصفات الذاتية الخبرية، ولا ندري فقد يكون في المنتسبين للأشعري من ذهب إلى ما هو أبعد من مذهب الجويني لكن لم يشتهر(20)، لأنه إنما اشتهر من المتكلمين من كان له عناية بالفقه والعلوم الشرعية، والمصنف متأخر عن عصر الجويني؛ فلا يبعد أن يكون المردود عليه ممن سار على طريقته في باب الصفات.
هوامش التمهيد
1/ الوافي بالوفيات للصفدي (19/ 126) تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، ط1-1420هـ، 2000م، سير أعلام النبلاء للذهبي (21/ 475)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3-1405هـ، 1985م
2/ الوافي بالوفيات للصفدي (19/ 126) سير أعلام النبلاء للذهبي (21/ 475)
3/ العسجد المسبوك للملك الأشرف الغساني (327) تحقيق شاكر عبد المنعم، دار البيان بغداد، ط1-1395، رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر (ص: 252) تحقيق علي محمد عمر ،مكتبة الخانجي بالقاهرة ، ط1-1418، 1998 م.
4/ لم تنقل لنا المصادر شيئا عن شيوخه في بلده، ولا يبعد تتلمذه على أبي العباس الخضر بن نصر بن عقيل (ت:567)، وهو شيخ الشافعية في إربل الذي به تخرج أخوه عثمان بن عيسى بن درباس، وكان للخضر المذكور مدرسة عامرة اسمها مدرسة القلعة أسسها له نائب صاحب إربل سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة (533)، انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (2/237) تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بدون.
5/ التكملة لوفيات النقلة للمنذري (2/156) تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة بيروت، ط3-1405، 1984، سير أعلام النبلاء للذهبي (21/475) رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر(252).
6 / رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر (ص: 252)
7 / التكملة لوفيات النقلة للمنذري (2/ 156) رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر (ص: 252-253، 294)
8/ المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي (4/ 166) دار الكتب العلمية، بيروت، ط1-1418 هـ
9/ البعد السياسي في انتشار المذهب الأشعري في المشرق الإسلامي ومغربه لمصطفى مغزاوي (ص:60) كنوز الحكمة، الجزائر العاصمة، 1432.
10/ المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي (4/ 51)
11/ التكملة لوفيات النقلة للمنذري (2/156) رفع الإصر عن قضاة مصر (ص:252) سير أعلام النبلاء للذهبي (21/ 475)
12/ الوافي بالوفيات للصفدي (19/ 126) سير أعلام النبلاء للذهبي (21/ 475)
3 / مخطوطة جامعة الملك سعود وكذا مخطوطة المدينة، وأما العنوان الذي اختاره حمدي عبد المجيد حمدي السلفي "رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري وكتابه الإبانة عن أصول الديانة" فقد اعتمد فيه على ما دون بخط مفهرس المجموع وواضع غلافه حيث وردت الرسالة في مجموع يضمها إلى الابانة للأشعري، ومثل هذا لا يعتمد.
14 / رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:1) دائرة المعارف العثمانية ، ط2-1367، 1948.
5  / انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 13-18).
6 / انظر: نشأة الأشعرية وتطورها لجلال محمد عبد الحميد موسى (ص:409-410) دار الكتاب اللبناني بيروت، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود (602-610) مكتبة الرشد الرياض ، ط1-1415، 1995، وقال ابن السبكي:" وَالْإِمَام لَا يتَقَيَّد لَا بالأشعري وَلَا بالشافعي لَا سِيمَا فِي الْبُرْهَان" طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 192) تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط2-1413هـ.
7 / انظر تعقبات ابن التلمساني على الرازي في شرح المعالم (ص:329، 333، 334، 339، 411) تحقيق نزار حمادي ، دار الفتح للدراسات والنشر، الأردن، ط1-1431، 2010، وقد زعم أن الخلاف في الصفات مع الفلاسفة لفظي كما في نهاية العقول (2/239) تحقيق سعيد فودة، دار الذخائر، بيروت، ط1-1436، 2015، والمطالب العالية (3/224) تحقيق أحمد حجازي السقا، دار الكتاب العربي، بيروت ،ط1-1407، 1987، وبناء على ذلك نجد محمد بن يوسف السنوسي (ت:895) يحذر من مطالعة كتب الرازي بعبارات شديدة اللهجة كما في شرح أم البراهين (ص:28) تحقيق مصطفى الغماري، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989.
8 / قال أبو العباس البسيلي:" إن تصانيف الرازي لما وصلت مصر لم يقبلوا عليها لمخالفتها نظم كتب المتقدمين حتى اشتغل بها تقي الدين المقترح فقربها لأفهامهم فعكفوا عليها وتركوا كتب المتقدمين " المقترح هو مظفر بن عبد الله الأنصاري (ت: 612) ينظر مقدمة محقق شرح المعالم لابن التلمساني (ص: 27-28).
9 / قال رحمه الله في (ص:31):"وممن ذهب إلى هذه الأقوال وبعضها قوم لهم في صدري منزلة، مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين، لأني على مذهب الشافعي رضي الله عنه عرفت فرائض ديني وأحكامه، فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها". رسالة في إثبات الإستواء والفوقية لأبي محمد الجويني، تحقيق أحمد معاذ حقي، دار طويق للنشر، الرياض، 1419.
20/ ممن جنح إلى التأويل من الأشاعرة وهو متقدم عن أبي المعالي الجويني أبو منصور البغدادي (ت:429) ينظر كتابه أصول الدين (ص:99-100، و131-133) تحقيق أحمد شمس الدين دار الكتب العلمية، ط1-1423، 2002.

المبحث الأول : تأكيد نسبة الرسالة إلى أبي القاسم ابن درباس
     إنّ أهمية هذه الدراسة مرتبطة بمكانة المؤلف رحمه الله وانتمائه الأكيد إلى العقيدة الأشعرية، وأثره الكبير في نشرها بعد توليه القضاء في دولة صلاح الدين الأيوبي، ولذلك كان من الضروري التأكيد على صحة نسبة هذه الرسالة إليه، وخاصة أنه وجد في الباحثين المعاصرين من ذهب إلى خلاف ما هو مشهور، ونسبها إلى إبراهيم بن عثمان ابن أخي أبي القاسم عبد المالك بن عيسى بن درباس (572 - 622 هـ)(1).
    وفي إطار البحث عن توثيق النسبة حصلت على أربع نسخ خطية، إحداها ناقضة من أولها والثلاثة الباقية كاملة؛ وقد اتفقت جميعها على نسبتها لأبي القاسم عبد الملك بن درباس، حيث أثبت النساخ اسمه في أولها(2).
    كما طبعت منسوبة إليه في الهند بدائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد طبعتين؛ الثانية منهما كانت سنة (1367)، ثم طبعت منسوبة إليه أيضا بذيل كتاب "الأربعين في دلائل التوحيد" لأبي إسماعيل الهروي بتحقيق الدكتور علي بن ناصر الفقيهي سنة (1404).
    ثم أعاد نشرها بعد ذلك حمدي عبد المجيد السلفي في مجلة الحكمة الصادرة لندن سنة 1422؛ فنفى نسبتها إلى أبي القاسم ابن درباس، واعتبر ذلك خطأ واضحا... واستند إلى عبارة وجدها في وسط النسخة التي اعتمد في التحقيق نصها:" أخبرنا به الإمام شيخ الإسلام بقية السلف الصالح صدر الدين قاضي القضاة عمي أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس قدس الله روحه بقراءتي عليه... إلخ"(3). فجعل ذلك دليلا على نفي نسبتها إلى القاضي جهة أنَّ المؤلف روى عنه في الرسالة ذاتها.
   وهذا حكم فيه تعجُّل بين، لأن هذا النص ليس فيه دلالة على النفي، إذ راوي الرسالة الذي قال في أوَّلها :"قال أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس"، وهو نفسه الذي قال في وسطها:" أخبرنا عمي أبو القاسم"، وكان بإمكانه أن يفعل ذلك عقب كل رواية في الرسالة ..وهذا الخطأ عجيب من مثله وهو الخبير بطرق رواية الكتب عند المتقدمين، وبمثل هذه الحجة الواهية نفي قديما أحمد أمين كتاب الأم عن الشافعي وأيد رأي من جعله من تأليف تلميذه الربيع بين سليمان(4)، ولكن هذا احتجاج ناتج عن عدم دراية بطرق الأقدمين في رواية الكتب ونقلها عن مؤلفيها(5)، بل يمكننا أن نعكس الدليل ونجعله حجة مؤكدة لما هو مدون في أوَّل المخطوط.  
   وقد ذهب الشيخ حمدي إلى نسبة الرسالة إلى إبراهيم بن عثمان لأن الراوي قال:" أخبرنا عمي"، وأيَّد ذلك بخبر نقله ابن المستوفي في "تاريخ إربل"، مفاده أن إبراهيم المذكور كان يطعن في أبي الحسن الأشعري، فاستنتج الشيخ أن الجهمية المردود عليهم في هذه الرسالة هم من اعتبر مؤلفها طاعنا في أبي الحسن الأشعري(6)، وهذا مجرد احتمال قد نوافق على بعضه -ونقول بموجبه- فنقول إن سبب نسبتهم الطعن إلى إبراهيم هو روايته لهذه الرسالة عن عمه مع تبني فكرتها، ومنه فمثل هذا لا ينهض دليلا على نفي الرسالة عن القاضي عبد الملك ولا لنسبتها للمحدث إبراهيم.
    والذي يظهر لي أن إبراهيم بن عثمان ابن درباس كان محدثا على طريقة والده الفقيه عثمان ومنهج السلف في تلقي العقيدة ، وأنه لم يكن راضيا على طريقة المتكلمين في إثبات العقائد سواء كانوا معتزلة أو أشعرية، وسواء كانوا على طريقة الأشعري في الإبانة أو طريقة المتأخرين الموصوفين في الرسالة بأنهم جهمية، وربما يدلنا على هذا الموقف تأليفه لكتاب عنوانه "تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة" في نصرة أهل الحديث، قال فيه:" فالروافض تسميهم نواصب، والقدرية يسمونهم مجبرة، والمرجئة تسميهم شكاكا، والجهمية تسميهم مشبهة، وأهل الكلام يسمونهم حشوية ونوابت وغثاء وغثرا"(7). فتفريقه في هذا النص بين الجهمية وبين أهل الكلام يدلُّ على أنه يقصد بالمتكلمين الأشاعرة، ولا شك أن مثل هذا التوجه يجلب سخط الأشاعرة جميعا.
    وهذا الموقف العام من أهل الكلام يؤكد نسبة الرسالة إلى القاضي أبي القاسم؛ لأننا نجد مؤلفها لا ينكر انتماءه إلى الأشعرية؛ وإنما ينكر على من ينتسب إلى الأشعري وهو جاهل بمذهبه.
   هذا فضلا عن أن القراءة المتفحصة لمحتوى الرسالة تورثنا اليقين في نسبتها لأبي القاسم ابن درباس، ذلك أن مؤلفها قد ذكر فيه شيوخا له؛ عندما ننظر في تاريخ وفياتهم وسنة لقائهم ندرك أنه من المحال أن يكون المؤلف هو أبو إسحاق إبراهيم. وهؤلاء الشيوخ المذكورون ثلاثة هم :
أولا : أبو محمد القاسم ابن أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر (527-600) وهذا الشيخ معاصر لهما، ويمكن أن يكون إبراهيم قد أخذ عنه، ولكن اللقاء مؤرخ بسنة 576 ببيت المقدس(8)، وهذا لا يمكن إلا في حق أبي القاسم لأن عمر إبراهيم سنتها أربع سنين فقط.
ثانيا : الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السِّلفي (ت:576 ) ، وقد روى عنه المؤلف قصةً -سقطت من جميع النسخ- والنص يدل أنه سمعها منه مباشرة(9)، وذلك في حق إبراهيم مستحيل، فإنه أخذ عن أبي طاهر بالإجازة لما كان له سنتان، إذ كتب له إجازة معينة سنة (574)(10)، والظاهر أنه والده هو من استجاز له في هذه السن وإنما يستجيز منه كتب الحديث، وقد وصفت الإجازة بكونها معينة لا عامة.
ثالثا: ظفر بن أبي العباس أحمد بن ثابت الطرقي الأصفهاني، المتوفي سنة 589 (11)، روى عنه عن والده أحمد بن ثابت، ولما توفي ظفر كان لإبراهيم سبع عشرة سنة، وهو قد ولد ونشأ بمصر، ورحلته إلى العراق وأصفهان الغالب أنها تأخرت عن هذا الوقت، لأن تحصيله للعلم كان بمصر ثم رحل إلى الشام قبل العراق وما ورواءها.
    وبعد استعراض هذه الحجج والدلالات يظهر أن نسبة الرسالة إلى القاضي أبي القاسم عبد المالك بن عيسى بن درباس رحمه الله هو الأوفق، وأنه أمر يقترب من اليقين إن شاء الله تعالى.
هوامش المبحث الأول
1/ انظر ترجمة إبراهيم ابن درباس في تاريخ إربل لابن المستوفى (1/ 215) تحقيق سامي بن السيد خامس الصقار ، منشورات وزارة الثقافة والاعلام العراقية ، 1980، وسير أعلام النبلاء للذهبي (22/290).
2/ الأولى بالحرم المدني رقم (214/3) نسخت سنة 1301، والثانية بجامعة سعود بالرياض رقم 4291، نسخت سنة 1311، والثالثة بالمكتبة الأزهرية، ضمن مجموع برقم (904) نسخت سنة 1308، والرابعة الناقصة ضمن مجموع في مكتبة ريفان كشك بتركيا برقم (510) منه نسخة مصورة بالجامعة الاسلامية بالمدينة برقم (116) مكرر، تاريخ نسخه 1084 هـ.
3/ رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري  (ص 152)، مجلة الحكمة العدد 23 رجب 1422.
4/ ضحى الإسلام لأحمد أمين (2/230-231) دار الكتاب العربي-بيروت-ط10 .
5/ قال سيد أحمد صقر:" ولست أرتاب أن أهم دليل لدى الدكتور لا يقبله من له أدنى إلمام بالكتب القديمة وطريقة الأقدمين في روايتها، وكل من قرأ فيها يعلم بيقين أن وجود عبارة أخبرنا الربيع قال، قال الشافعي في أول الكتاب أو في داخله. دليل ناصع على أنه تأليف الشافعي وأن هذه النسبة ازدادت وثاقة ومتانة برواية  الربيع عن الشافعي، ثم برواية تلميذ الربيع عن الربيع، ثم برواية تلميذ التلميذ إن وجد، وهكذا إلى آخر سلسلة رواية الكتاب عن مؤلفه وهي أوثق طرق التوثيق والتأكيد من نسبة الكتاب المروي إلى من وضعه»، مقدمة تحقيق مناقب الشافعي للبيهقي (1/33) مكتبة دار التراث القاهرة بدون.
6/ تاريخ اربل لابن المستوفى (2/215)، رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري (ص 152)، مجلة الحكمة العدد 23
7/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/ 111).
8/ رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:3).
9/ رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:6).
10/ انظر : تاريخ إربل لابن المستوفى (1/ 215) وسير أعلام النبلاء للذهبي (22/290)، وانظر ترجمة السلفي في سير أعلام النبلاء (21/ 5-39).
11/ رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:3) وانظر ترجمة ظفر بن أحمد في: ذيل تاريخ بغداد لابن الدبيثي (2/ 430) تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الاسلامي، ط1-1427 تكملة الإكمال لابن نقطة (4/55) تحقيق عبد القيوم عبد رب النبي، مركز إحياء التراث جامعة أم القرى، ط1-1408..

المبحث الثاني : انتماء ابن درباس إلى الطور الأول من الأشعرية
     لقد تمكن صلاح الدين الأيوبي من القضاء على النفوذ السياسي الفاطمي، وسعى للقضاء على عقائد الشيعة وبدعهم بحنكة وطريقة سلمية لا إكراه فيها، وكان من الطرق التي سلكها بناء المدارس ووقف الأوقاف على المذاهب السنية، واستقطاب العلماء من الآفاق ودعوتهم للإقامة في مصر، وتعيين العلماء السنيين في الوظائف الدينية، وكان من هؤلاء العلماء الذين استوطنوا مصر القاضي عبد المالك بن عيسى بن درباس، وإذا كان كلاهما كان يدين بالعقيدة الأشعرية، فإنه حتما ستكون العقيدة التي ستحارب بها العقيدة الشيعية هي عقيدة الأشاعرة .
    لكن كما علمنا في التمهيد فإن العقيدة الأشعرية تطورت بسرعة ومر المنتمون إليها بمراحل، مما يفرض علينا التساؤل عن طبيعة العقيدة التي كان يتبناها القاضي ابن درباس، هل هي عقيدة الإمام المؤسس؟ أم عقيدة أبي المعالي الجويني ومن تبعه؟
    إن الذي نستخلصه من خلال هذه الرسالة بعد تأكيد نسبتها إلى القاضي؛ أنه كان على العقيدة الأصيلة وهي عقيدة الإمام المؤسس، وهي العقيدة المصرَّح بها في كتاب الإبانة، بدلالة دفاعه عن الأشعري بجمع الدلائل على صحة نسبة الإبانة إليه، وبدلالة النصوص المنتخبة منها التي ضمنها الرسالة.
    فأما التأكيد على صحة نسبة الإبانة للأشعري فهو الموضوع الأساس للرسالة، وقد سبق أنه حشد لذلك ما تيسر لديه من أقوال العلماء لسابقين؛ فجمع تسعة نصوص من أعلام القرن الخامس والسادس آخرهم شيخه أبو الحسن ابن المفضل المقدسي ثم المصري.
    وأما دلالة النصوص المنتخبة؛ فهما نصان مهمان انتخبهما من الإبانة للأشعري، والثالث من تبيين كذب المفتري لابن عساكر.
     فأما النص الأول : فهو متعلق بصفتي العلو والإستواء، وهما من أهم الصفات التي وقع فيها الاختلاف داخل المذهب الأشعري في بعض الطبقة الثانية منه وفي الطبقة الثالثة والرابعة، حيث وجد من جنح فيها إلى منهج التأويل(1) بعد أن كان جل الأقدمين على عقيدة المؤسس وهي الإثبات(2)، وقد نقل ابن درباس في ذلك قول أحمد بن ثابت الطرقي(3) الذي استشهد بنص الإبانة؛ حيث قال:"رأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي العرش وتأويل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري. وما هذا بأول باطل ادَّعوه وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم بـ "الإبانة عن أصول الديانة" أدلة من جملة ما ذكرته على إثبات الاستواء.
وقال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم يقولون: يا ساكن العرش..ثم قال: ومن حَلِفِهِم جميعًا قولهم : لا والذي احتجب بسبع سماوات.
هذا آخر ما حكاه، وهو في الإبانة كما ذكره(4).
النص الثاني: متعلق بصفة الكلام ، وقد ذكر أبو محمد الجويني اختلاف الأشاعرة في مسألة الحرف والصوت(5)، وذهب أبو المعالي إلى جعل أكثر الخلاف مع المعتزلة لفظيا وحصره في إثبات الكلام النفسي حيث صرح بخلق ما عداه(6). ونقل ابن درباس نص الأشعري في الإبانة بواسطة البيهقي حيث قال:" فإن قال قائل: حدثونا أتقولون: إن كلام الله في اللوح المحفوظ؟ قيل له: نقول ذلك، لأن الله قال: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ فالقرآن في اللوح المحفوظ، وهو في صدور الذين أوتوا العلم. قال الله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ وهو متلو بالألسنة، قال الله تعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ﴾ فالقرآن مكتوب في الحقيقة، محفوظ في صدورنا في الحقيقة، متلو بألسنتنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة كما قال تعالى: ﴿ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾(7).
والنص الثالث: متعلق بالعلاقة بين الأشاعرة والحنابلة حيث إنه قرَّر على لسان ابن عساكر الوفاق، وأن الخلاف حدث في عهد أبي نصر ابن القشيري وهو تلميذ أبي المعالي الجويني، وهذا نصه المنقول: "واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين، ولم تزل الحنابلة في بغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات، تعتضد بالأشعرية حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر بن القشيري ووزارة النظام، ووقع بينهم الانحراف من بعضهم عن بعض لانحلال النظام"(8). ومما يؤكد هذه الحقيقة أخبار الجلسات العلمية التي كانت تعقد في بيوت الحنابلة  ويحضرها كبار الأشاعرة كابن مجاهد والباقلاني(9) ولا شك أن مواقف الأشاعرة المتقدمين من القضايا الأساسية لم تكن تثير حفيظة الحنابلة، ولا سيما ما تعلق بقضية الكلام والعلو، وأيضا إثبات الصفات الخبرية، ورِضَى ابن درباس عن تلك المرحلة من مراحل العقيدة الأشعرية، وثناؤه على أهلها يؤكد انتسابه إلى عقيدة أهلها ، والله أعلم.
هوامش المبحث الثاني
 1/ انظر: مشكل الحديث لابن فورك (231-235) تحقيق دانيال جيماريه، المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، ط2003، وأصول الدين للبغدادي (ص:99-100، 131-133)، ورسالة في إثبات الإستواء والفوقية لأبي محمد الجويني (ص:20)، والإرشاد إلى قواطع الأدلة لأبي المعالي الجويني (39-41) تحقيق محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم، مكتبة الخانجي مصر، 1369، 1950، ولمع الأدلة لأبي المعالي الجويني (ص:108) تحقيق فوقية حسين، عالم الكتب بيروت، ط2-1407، 1987.  
2/ انظر: تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني (ص:260-262) تحقيق رتشرد مكارثي، المكتبة الشرقية بيروت، 1957، وشرح عقيدة ابن ابي زيد للقاضي عبد الوهاب (ص:26-27) دار الكتب العلمية، بيروت ، ط1-1423، 2002، والرسالة الوافية لأبي عمرو الداني (ص:20-22) تحقيق حلمي بن محمد الرشيدي، دار البصيرة، الاسكندرية ، ط1-1426، 2005.
3 / هو أحمد بن ثابت بن محمد الأصفهاني وطرق من قراها ، محدث فقيه متقن صاحب رحلة، سمع من عبد الوهاب بن منده وأبي إسماعيل الهروي، وتفنن في التصنيف، توفي سنة 521 هـ، انظر الأنساب لابن السمعاني (8/235-236) تحقيق محمد عوامة ، مكتبة ابن تيمية القاهرة بدون، وسير أعلام النبلاء (19/ 528 – 529)
4/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم ابن درباس (ص:3) وسيأتي توثيق النص من الإبانة وتصحيح عبارة يا ساكن العرش ب"ياساكن السماء".
5/ انظر: رسالة في إثبات الإستواء والفوقية لأبي محمد الجويني (ص:77-79).  
6/ الإرشاد إلى قواطع الأدلة لأبي المعالي الجويني (116-117).  
7/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:2) والاعتقاد للبيهقي (ص:52، 53) دار الكتب العلمية ، ط1-1404.
8/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم ابن درباس (ص:6) وتبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص 152 – 153) دار الكتاب العربي ، بيروت، ط3-1404.
9/ انظر بعضها في تبيين كذب المفتري لابن عساكر (221، 390).

المبحث الثالث : الخصومة بين المتقدمين والمتأخرين من الأشاعرة
    إنّ التحوُّل الذي عرفه المذهب الأشعري عبر المراحل التي سبق وصفها؛ لم يكن تحوّلا مفاجئا حاصلا دفعة واحدة، بل كان تدريجيا، ولم يكن أيضا متَّفَقًا عليه في بدء كل مرحلة، بل جرت السُّنة أنّ لكل تحوّل جديد روّاد يقودونه وينصرونه؛ ومعارضون يرفضونه أو يتحفظون منه، وقد يكون بين هؤلاء وهؤلاء ردود ومناظرات وخصومات، تحملها أخبار المؤرخين أو تبقيها آثار المؤلفين منهم، وفي هذه الرسالة النفيسة نجد توثيقا تاريخيا لبعض تلك الخصومات الحاصلة بين الأشاعرة المتقدمين والمنتسبين إلى الأشعرية من المتأخرين الذي خالفوا المؤسس في قضايا جوهرية، وهي خصومات ذات نبرة قوية فيما يظهر، حيث نجد وصف المخالفين لعقيدة المؤسس بالجهمية، وهو نبز له مدلوله الخطير ولا سيما على مذهب الأشاعرة(1)، ونجد في المقابل وصف المثبتين لعقائد الإبانة بالحشوية، التي يقصد بها الرمي بالتجسيم والتشبيه.
     وذكر ذلك ابن درباس بكل وضوح في مقدمة الرسالة وخاتمتها وفي ثنياها نقلا عن غيره، قد وصف –كما ذكرنا- المخالفين بالجهمية وبالمنتسبين للأشعري زورا، كما أنه اعتبرهم طاعنين في الإمام الأشعري مفترين على مذهبه.
 وهذا نصُّه الدال على هذا الوضع وعلى النبز المتبادل وحدَّة الخصومة حيث قال:" ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراءً إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس، فأنكرها وجحدها، وقال: ما سمعنا بها قط، ولا هي من تصنيفه، واجتهد آخرًا في إعمال رويته ليزيل الشبهة بفطنته، فقال بعد تحريك لحيته: لعله ألفها  لما كان حشويًا، فما دريت من أي أمريه أعجب؟ أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في التصانيف من العلماء، أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته بالاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها؟"(2).
وقد أعطى ابن درباس تعليلا لهذا الجهل بحقيقة مذهب الإمام المؤسس؛ فبيَّن أنهم يعتقدون العقائد التي وجدوها في كتب من بعض المنتسبين إلى المذهب، وشدّد في العبارة حتى قال:" من ينتمي إلى أبي الحسن بمجرد دعواه"، وفي الواقع أننا نجد فيهم من هم أشاعرة فعلا، لكن اضطربوا في بعض القضايا الجوهرية بسبب كثرة الخصومة مع المعتزلة، إضافة إلى لبعد عن كتب الإمام أو غير ذلك من الأسباب، وهذا نصه المتضمن لهذا التعليل:" وقد قنع أحدهم بكتاب ألّفه بعض من ينتمي إلى أبي الحسن بمجرد دعواه، وهو في الحقيقة مخالف لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها، قد ذهب صاحب ذلك التأليف إلى المقالة الأولى"(3).
وقد أكّد ابن درباس في بداية رسالته على أن هذه العقائد المنسوبة للإمام في هذه الكتب المخالفة لما في الإبانة؛ كلها قد رجع عنها وأنها عقائد الاعتزال:"إن كتاب الإبانة عن أصول الديانة؛ الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده، وبما كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه عن الاعتزال بمنَّ الله ولطفه، وكلُّ مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه فقد رجع عنها، وتبرأ إلى الله سبحانه منها"(4).
وهذه الخصومات لم تكن في جهة واحدة من البلاد، فبعضها كان في بيت المقدس كما هو مُدوَّن أعلاه، وبعضها كان في بغداد أو أصفهان بدلالة ما حكاه أحمد بن ثابت الأصفهاني(5)، وبعضها  كان بمصر بحكم أن الغالب تأليف ابن درباس للرسالة كان بعد استقراره بمصر بدلالة نقله عن شيخه أبي الحسن علي بن المفضل، وهو إنما لقيه وأخذ عنه بمصر، وقوله :"وهي بيد شيخنا الإمام رئيس العلماء الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن علي بن المفضل المقدسي"(6) يؤكد أن تأليف الرسالة كان بمصر.
هوامش المبحث الثالث
 1/ ردود الأشعري عليهم عنيفة جدا حتى رماهم في موضع من الإبانة بالزندقة، انظر الإبانة عن أصول الديانة للأشعري (ص:123) تحقيق فوقية حسين محمود، دار الأنصار ، القاهرة، ط1-1397.
2/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:6).
3/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:6).
4/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:1).
5/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:3).
6/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:5).

المبحث الرابع : أسباب ابتعاد المتأخرين عن عقيدة المؤسس
    إنَّ البحث في تطور المذاهب الأشعري وابتعاد المنتسبين إليه عن منهج الإمام المؤسس؛ ووصول الأمر إلى درجة كبيرة من التنافر؛ يجعلنا نتساءل عن سبب هذا التطور في الفكر والتحول في الآراء، وعن سبب الاختلاف في فهم كلام الإمام ومخالفة البعض لمنهجه، وخاصة عندما نعلم أن هذا العلم وغيره من العلوم الإسلامية كانت تتلقى في تلك الأزمنة مشافهة، ومن ضرورة ذلك اتصال السند إلى صاحب المذهب أو العقيدة.
    وبقليل من التأمل نجد في هذه الرسالة ذكرا لسبب مهم من أسباب الاختلاف وعامل من عوامل التطور في الفكر الأشعري ومخالفة عقيدة المؤسس؛ وهو الابتعاد عن المصادر التي ألَّفها الإمام أبو الحسن الأشعري، أو المتقدمون من أصحابه؛ والاكتفاء بكتابات المتأخرين من المنتسبين إلى الأشعرية؛ وذلك في قول ابن درباس رحمه الله:" وقد قنع أحدهم بكتاب ألّفه بعض من ينتمي إلى أبي الحسن بمجرد دعواه، وهو في الحقيقة مخالفٌ لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها، قد ذهب صاحب ذلك التأليف إلى المقالة الأولى"(1).
    فبغض النظر عن كلمة "بمجرد دعواه" فإننا نجد المصنف يدلنا على حقيقة مهمة حول الآراء المبثوثة في مصنفات المنتمين إلى المذاهب العقدية وكذا الفقهية، ولأن المؤلف في المواضيع التي يدخلها الرأي والتفسير والشرح مختلفة تماما عن الكتب التي أخلصت للرواية؛ فما يثبته المصنف الأشعري في كتابه في الاعتقاد هو في الواقع فهمه للآراء المحكية عن الإمام، أو اختياره من بين ما سمع من آراء محكية عنه، والفهوم والترجيحات مختلفة كل الاختلاف عن الروايات الأمينة عن الإمام التي لا زيادة فيها ولا نقصان.
    إنّ ما هو مُدوَّن في كتب الأشاعرة هي آراء فردية تتحكم فيها عوامل متعددة؛ تختلف من عالم إلى آخر؛ بل ربما تتغير هذه العوامل في حق العالم الواحد؛ فنجد له رأيا في كتاب ورأيا مخالفا في كتاب آخر، كما نراه في مؤلفات أبي المعالي الجويني المتعددة الارشاد والشامل واللمع والرسالة النظامية، وهذه العقيدة وإن أُخِذت مشافهة؛ فنحن نجد الاختلاف في بعض المسائل بين تلاميذ الشيخ الواحد.
   وإذا أردنا أن نفتش عن تلك العوامل نجدها كثيرة ولعلي أبرز هنا منها ثلاثة ، أولها أن كتب الأشعري كثيرة جدا موضوعاتها مختلفة وأغراضها متنوعة، لكن أبينها في تقرير العقيدة واعتماد النصوص في إثباتها كتاب الإبانة، وهذا الكتاب قد أخذه طائفة من أصحابه ولم يصل إلى آخرين كما نجد ذلك جليا في دوَّنه ابن فورك الذي جمع مؤلفات الأشعري ذكرا؛ فلم يذكر من ضمنها الإبانة، وألف كتاب المجرد الذي حرص على حكاية أقوال الأشعري فيه ولم ينقل من الإبانة حرفا واحدا، وإذا وقفنا على هذه الحقيقة يتجلى لنا سبب الخلاف بينه وبين الباقلاني المعتمد قطعا على كتاب الإبانة وغيره، ونحن نجد في كلام ابن درباس تعجبه من جهل الأشعري المقدسي الموصوف بأنه جهمي بكتاب الإبانة "مع شهرته وكثرة من ذكره في التصانيف من العلماء"(2).
   الثاني من العوامل أن علم الكلام مبني على الجدل والمناظرة للخصوم من المعتزلة وغيرهم، وأئمة المذهب متفاوتون في مقدار مطالعة كتب المخالفين وفي نسبة التأثر بمحتواها، ولذلك أسباب تتعلق بتكوين هذا الإمام المناظر، وهذا العامل من أبرز التحول الذي عرفه المذهب الأشعري على يد أبي المعالي الجويني ، فقد كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم والفلاسفة، مما أدى به إلى موافقة أقوال المعتزلة حينا والتوسط بين الأشعرية والمعتزلة حينا آخر، بل إننا نجده يدافع عن أبي هاشم الجبائي ويعتذر عنه حتى فيما لم يوافقه فيه من الآراء، وصدرت منه فلتات فلسفية لعله رجع عنها(3).
     والأمر نفسه نجده عند رمز المرحلة الثالثة وهو الفخر الرازي، الذين كثر تأثره بآراء المعتزلة وخاصة أبي الحسين البصري، وميله إلى مناهج الفلاسفة بسبب دراسته لعلومهم، فرام التوفيق بين مذاهب المسلمين وآراء الفلاسفة الجهمية في الصفات كما هو ظاهر في كتبه(4).   
   والثالث من العوامل مرتبط بالأول وهو الانقطاع عن كتب المتقدمين فمهما اختلفت الفهوم، وتعددت الآراء، فإن الباحث عن الحقيقة لا يمكنه الاستغناء عما كتبه المتقدمون ولا سيما الإمام المؤسس، وهذا الانقطاع يعد معضلة من معضلات العلوم كلها؛ وليس علم الكلام خصوصا، ولذلك نجد الإمام أبا إسحاق الشاطبي في إطار دعوته التجديدية يدعو إلى مطالعة كتب المتقدمين في الفنون بعد أخذ مفاتيح العلوم من أفواه الشيوخ، واعتبر المتقدمين أقعد بكل الفنون ولم يستثن؛ فدخل علم الكلام في كلامه مثله مثل الفقه والأصول وغيرها(5).
هوامش المبحث الرابع
  / انظر : رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:6).
2/ رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:6).
3/ انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود (1/610-615) مكتبة الرشد الرياض، ط1-1415.
4/ انظر مثلا نهاية العقول للرازي (2/239) والمطالب العالية للرازي (3/224).
5/ الموافقات للشاطبي (1/148) تحقيق مشهور حسن آل سلمان ، دار ابن عفان، ط1-1417، 1997.

المبحث الخامس : أسباب انتشار العقيدة الأشعرية
   من الأشياء المهمة التي نقرؤها في هذه الرسالة على وجازتها بعض أسباب انتشار الاشعرية وقبولها لدى الناس، فقد تضمنت عدة أسباب منها قربها من عقيدة أهل الحديث والتطابق معها في أكثر فصولها، ونعنى بذلك عقيدة الأشعري في الإبانة، ومنها اصطباغ مؤلفات أصحابها بالصبغة الحديثية كما هو حال هذه الرسالة، ومنها الانتماء للإمام أحمد بن حنبل والحرص على عدم التميز عن أصحابه وأتباعه، وفيما تأتي تفصيل ذلك.
المطلب الأول: قرب عقيدة المتقدمين من عقيدة أهل الحديث
  إن قرب عقيدة أبي الحسن الأشعري والمتقدمين من أصحابه أمر مشهور، ونحن نجد هذا في المسائل التي أشار إليها المصنف في هذه الرسالة والنصوص المقتبسة، حيث ذكر مسألة حقيقة القرآن ومسألة العلو والإستواء، فذكرها بالصيغ المتفق عليها التي لا ينكرها أهل الحديث ولا الفقهاء دون خوض في التفاصيل التي تثير بعض الخلاف، فقد نقل بواسطة البيهقي قول الأشعري في القرآن : "فالقرآن في اللوح المحفوظ، وهو في صدور الذين أوتوا العلم. قال الله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ وهو متلو بالألسنة، قال الله تعالى: ﴿ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ﴾ فالقرآن مكتوب في الحقيقة، محفوظ في صدورنا في الحقيقة، متلو بألسنتنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة كما قال تعالى: ﴿ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾(1). ولا شك أن اعتبار المكتوب والمتلو والمحفوظ والمسموع كله قرآنا حقيقة لا مجازا من نقط الاتفاق بين أهل الحديث ومتقدمي الأشاعرة وإنما يظهر الخلاف عندما يتطرق إلى الكلام النفسي الذي يثبته الأشاعرة دفعا لشبهة الحدوث التي يثيرها الجهمية والمعتزلة.
ونقل المصنف أيضا بواسطة أحمد بن ثابت الطرقي من نصوص الأشعري في إثبات العلو والاستواء قوله:" ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم يقولون: يا ساكن العرش..ثم قال: ومن حَلِفِهِم جميعًا قولهم: لا والذي احتجب بسبع سماوات"(2). مع التنبه أن عبارة "ساكن العرش" غلط في النقل، والصواب يا ساكن السماء كما هو مثبت في الإبانة(3)، والأشعري تمسك هنا بدليل نقلي مرده إلى الإجماع الذي يشترك العامة في علمه مع الخاصة، ومثل هذا مما تتفق عليه كلمة المحدثين ومتقدمي الأشاعرة أيضا.
وهذا بغض النظر عن مسائل السمعيات ومسائل الصحابة والإمامة التي اتفق فيها أهل الحديث مع الأشاعرة اتفاقا تاما ظاهرا وباطنا.
المطلب الثاني: اصطباغ كتبهم بالصبغة الحديثية
     إن من أسباب انتشار العقيدة الأشعرية تبني عدد من المحدثين لها ودفاعهم عنها وتوليهم نشرها ،كأبي ذر الهروي وأبي عمرو الداني من المالكية والبيهقي والخطيب البغدادي وابن عساكر من الشافعية، ومؤلفات هؤلاء لا تنكرها نفوس المحدثين التي ألِفت الاعتماد على الإسناد والرواية، وهذه الرسالة التي بين أيدينا لا تختلف عن نهجهم وطريقتهم في طريقة كتابتها ووضعها، إذ كل خبر أو نص مثبت فيها هو منقول بالإسناد إلى قائله، حتى ما هو موجود في كتب مشهورة واسعة الانتشار كالاعتقاد لأبي بكر البيهقي وتبيين كذب المفتري لأبي القاسم ابن عساكر.
المطلب الثالث: الانتماء إلى أحمد بن حنبل والحرص على عدم التميز عن أصحابه
    وهذا السبب من أهم الأسباب وقد كان الإمام المؤسس حريصا عليها، إذ دون ذلك في كتابه الإبانة، وفي غيره من الكتب، لأنَّ الإمام أحمد صار علم أهل السنة في عصره وبعد عصره، وسار على طريقة الأشعري أبو بكر الباقلاني ناشر مذهبه الذي كان يصف نفسه بالحنبلي ويحمل كتاب الإبانة لدفع الشناعة التي أثارها عليه بعض فقهاء الشافعية في بغداد(4).
    ومؤلف هذه الرسالة القاضي ابن درباس قد أكد على هذه القضية في أولها وآخرها، فقال في أولها: "وقد نصَّ فيه على أنَّه ديانته التي يدين الله سبحانه بها، وروى وأثبت ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين"(5)، ونقل في آخرها قول ابن عساكر: "وبينوا فضل أبي الحسن، واعرفوا إنصافه، واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين، ولم تزل الحنابلة في بغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات (تعتضد)(6) بالأشعرية حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر بن القشيري"(7).
 وقد كان في ضمن من نقل عنهم إثبات الرسالة أبا علي الأهوازي الذي ألَّف في مثالب الأشعري فانبرى ابن عساكر للرد عليه في كتابه التبيين، ولا تفسير لهذا الصنيع إلا محاولة رأب الصدع وجمع الكلمة كما صرح في آخر كلمة كتبها، حيث قال في نقد من اختار مذهب التأويل للصفات ونسبه للأشعري:" وكان خلاف ذلك أحرى به وأولى، لتستمر القاعدة وتصير الكلمة واحدة"(8).
هوامش المبحث الخامس
 1/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:2) والنص مثبت في: الإبانة عن أصول الديانة للأشعري (100-101) والاعتقاد للبيهقي (ص:52، 53).
2/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:3).
3/ جاء في الإبانة عن أصول الديانة للأشعري (ص:115):"وأجمعت الأمة على أن الله سبحانه رفع عيسى صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم يقولون جميعا: يا ساكن السماء، ومن حلفهم جميعا: لا والذي احتجب بسبع سماوات".
4 انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (1/270) تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط2-1411 هـ، 1991م، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (4/15-17).
5/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:1).
6/ وفي النسخة التركية : (تستند) وفي الطبعة وبقية النسخ خطية (يعتقدون) والتصويب من تبيين كذب المفتري.
7/ رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:5) تبيين كذب المفتري، لابن عساكر، ص 152 – 163.
8/ انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس (ص:6).


المبحث السادس : موقف ابن درباس من منكري علم الكلام
    وآخر دلالة نختم بها هذه الدراسة أن ابن درباس ألَّف هذه الرسالة للذب عن الأشعري وكتابه الإبانة؛ وهذا الصنيع في فحواه ذبٌّ عن الأشعري المتكلِّم وعن كتابٍ في علم الكلام، لأن كتاب الإبانة ليس كتابا في تقرير العقيدة على طريقة المحدثين فحسب؛ بل هو كتاب في مجادلة الطوائف المنحرفة في جميع أبواب الدين، وقد ضمَّنه الأشعري دقائق في مذهبه يخالف فيها مذهب أهل الحديث؛ لا يفطن لها إلا بصير بالكلام ومذاهب الناس؛ ولأجل هذا أو ذاك رفضها بعض الحنابلة؛ رغم ما فيها من ثناء على أحمد بن حنبل ومذهبه.
     فابن درباس إذ نصر طريقة الأشاعرة المتقدمين فهذا لا يخرجه من دائرة المتكلمين، كيف هو قد وصف بالتعصب للأشعري حتى أنه وصل إلى حد التكفير للمخالفين كما قال المقريزي(1)، ولعلنا نجد في سيرته ما يؤكد ذبه عن علم الكلام وانتصاره لأهله وموقفَه المتشدّد تُجاه منكريه؛ وهو خبر مخاصمته لأخيه عثمان ابن درباس الفقيه الشافعي المعروف(2) في آخر حياتهما، ولقد كان خلافهما فيما يظهر في قضية عقدية جَدَّت ولم تكن مطروحة من قبل، وقد وثّق هذه الخصومة الحافظ ابن حجر فقال:"ووقع بينه وبين أخيه الضياء عثمان شارح "المهذب"، اختلاف فِي العقيدة فهجره، حَتَّى إنه لما مات لَمْ يُصلّ عَلَيْهِ. وامتنع من دفنه بمقبرته. وَكَانَ إِذَا ذكره تلا قوله تعالى: (لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية. ثُمَّ يقول لَمْ يبق لَهُ الحقُّ أخاً"(3). ولم يذكر ابن حجر المسألة العقدية ولا أشار إلى طبيعتها، وأنا أقدِّر أنَّ المسألة لم تكن من قبيل الجزئيات والفرعيات التي يمكن تحمُّل الخلاف فيها بدلالة أنه اعتبر أخاه ممن حاد الله تعالى ورسوله، وترك الصلاة عليه، ونحن نجده في آخر كلمة قالها في رسالته مع ما فيها من نبزٍ للمخالف يدعو إلى جمع الكلمة بين الأشاعرة وتجاوز الخلافات، فلا شك أن الخلاف كان في قضية منهجية كلية؛ تستدعي التكفير والهجران والعزل عن القضاء والتدريس ثم ترك الصلاة عليه.
      وقد ظهر لي أن القضية مرتبطة بالموقف من علم الكلام؛ فإنَّ أخاه عثمان كان على عقيدة أهل الحديث التي ورثها عن فقهاء الشافعية الذين كانوا ينهون عن الخوض في علم الكلام، ويكتفون بالدلائل الشرعية في الاعتقاد دون لجوء إلى الأدلة العقلية، وأكثر كتب الفقيه عثمان مفقودة لكني وجدت في بعض كتب أصول الفقه معارضته للأشاعرة في قولهم إن كلام الله تعالى معنى لا يتبعض، بحجة قرآنية وهي قوله: "وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) مَعَ التَّصْرِيحِ بِاخْتِصَاصِ مُوسَى بِالْكَلام"(4).
     ومن مؤلفاته المشهورة كتاب سماه "الانتصار"(5) مما قرَّره فيه أن معرفة الله تعالى إنما تكون بالشرع لا بالعقل، وشدّد على المتكلمين الموجبين للنظر والمعتبرين للمكتفي بدلائل النصوص مقلدا، وقد اقتبس منه أبو عبد الله القرطبي نصوصا تدل على إنكاره لمنهج علماء الكلام جملة وتفصيلا، منها قوله: "وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون. وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا داخلين فيمن ذمهم الله بقوله: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (الأحزاب: 67)...فبيَّن تعالى أن الهدى فيما جاءت به رسله عليهم السلام. وليس قول أهل الأثر في عقائدهم: إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الأمة، من قولهم: إنا وجدنا آباءنا وأطعنا سادتنا وكبراءنا بسبيل، لأن هؤلاء نسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول، وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الأباطيل، فازدادوا بذلك في التضليل"(6).  
      وقد ظهر لي أن الأمر الذي جدَّ فأوجب الخلاف بين الأخوين؛ هو إخراج هذا الكتاب الذي يُنكر فيه علم الكلام ويعتبر فيه أهله أحق بوصف التقليد من المكتفي بدلائل الكتاب والسنة، ولا شك أنَّ هذا الموقف يُثير حفيظة كلِّ متكلم أشعري بناء على عقيدته في وجوب النظر وإنكار التقليد، وإذا فرضنا أن عبد الملك ابن درباس كان لا يرى إكفار المخالفين بالتأويل -خلافا لما نقل المقريزي عنه-، فإنّ مسألة إيجاب النظر مسألة أخرى منهجية كلية بنى عليها أكثر الأشعرية التكفير أو التفسيق(7)، وكل واحد من الرأيين كاف لتبرير تصرفات القاضي تجاه أخيه من عزل من منصب القضاء، وهجران في الحياة وترك للصلاة عليه بعد الممات، والله تعالى أعلم.   
هوامش المبحث الثالث
  1/ المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي (4/ 51)
2/ هو عُثْمَان بن عِيسَى بن درباس ضِيَاء الدّين أَبُو عَمْرو الهدباني الماراني ثمَّ الْمصْرِيّ، تفقه بإربل على الْخضر بن عقيل ثمَّ بِدِمَشْق على ابْن أبي عصرون وَسمع الحَدِيث من أبي الجيوش عَسَاكِر بن عَليّ، من مؤلفاته الِاسْتِقْصَاء فِي شرح الْمُهَذّب في عشرين مجلدا وصل فيه إلى الشهادات وَشرح اللمع فِي أصُول الْفِقْه قال ابن السبكي :"وَكَانَ من أعلم الشَّافِعِيَّة فِي زَمَانه بالفقه وأصوله، لما اختلف مع أخيه عزل عن القضاء والتدريس ، فوقف عليه الأمير جمال الدين خشتر بن الهكاري مدرسة أنشأها بالقصر بالقاهرة، وفوض تدريسها إليه، مَاتَ بِمصْر سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة وَقد قَارب التسعين سنة"، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 337- 338) الوافي بالوفيات (19/ 331) في التكملة للمنذري (2/ 90):"خشترين الكردي".
3/ رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر (ص: 252-253)
4/ التحبير شرح التحرير للمرداوي (3/1277)، تحقيق عبد الرحمن الجبرين وآخرين، مكتبة الرشد ، الرياض، ط1-1421هـ - 2000م.
5 / انظر : درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (9/16-17).
6/ تفسير القرطبي (2/ 213) دار الكتب المصرية القاهرة ، ط2-1384، 1964.
7/ انظر توثيق الأقوال مفصلة عن الأشاعرة في هذه المسألة في المنهج السديد شرح كفاية المريد للسنوسي (ص: 47-50) تحقيق مصطفى مرزوقي ، دار الهدى عين مليلة ، الجزائر، ط 1994.


الخاتمة :
   بعد هذه الجولة في رحاب التاريخ والعقيدة وفي ظل رسالة الذب عن الأشعري لعبد المالك ابن درباس؛ نصل إلى استخلاص النتائج التالية :
أولا : إن مضمون هذه الرسالة يؤكد صحة نسبتها إلى القاضي أبي القاسم عبد الملك ابن درباس الأشعري، بدلائل أسماء بعض الشيوخ المروي عنهم وتواريخ لقائهم؛ كأبي محمد ابن عساكر وظفر بن أحمد بن ثابت الأصفهاني والحافظ السِّلفي، وأيضا فإن الرسالة لم تكتب إلا على أرض مصر بدلالة ما نقل عن أبي الحسن بن المفضل.
ثانيا: إنّ النصوص المنتخبة من الإبانة والتي ورد ذكرها في الرسالة المتعلقة بمسألتي الكلام والعلو؛ تدل على انتماء أبي القاسم ابن درباس لأهل الطور الأول في الاتجاه الأشعري المتبعين لمنهج الإمام المؤسس وتلاميذه والباقلاني.
ثالثا : في هذه الرسالة دلالة على أن التحول في المذهب الأشعري لم يتم إلا في ظل جدال وخصومة بين أنصار المنهج القديم والمنهج الجديد، اتسم بشدة اللهجة حيث نجد إضافة للخلاف التنابزَ بالألقاب، حيث صار يوصف أنصار الإبانة من قبل خصومهم بالحشوية والمجسمة، وكان يوصف الرافضون لها بالجهمية المنتسبين للأشعري زورا، وفي الرسالة دلالة على أن الخصومة  شملت الشام ومصر وبغداد أو أصفهان.
رابعا : في هذه الرسالة دلالة على بعض أسباب التحول المنهجي في العقيدة الأشعرية؛ وهو الانقطاع عن كتب الإمام المؤسس والمتقدمين من أصحابه، والاستغناء عنها بمؤلفات المتأخرين الذين كانت لهم اختيارات وافقوا فيها الجهمية، وخالفوا الإمام الأشعري مع الحفاظ على الانتساب إلى مذهبه.
خامسا: في الرسالة دلالة على بعض أسباب انتشار الأشعرية وقبولها، ففضلا عن تبني الدولة الأيوبية لها، وجعلها واجهة تمحى بها عقائد الرافضة، فإن العقيدة المتبناة كانت قريبة جدا من عقائد أهل الحديث متفقة معها في جل الأصول والكليات، وحرص أصحابها –ومنهم ابن درباس- على عدم التميز عن مذهب أحمد وأصحابه، واصطبغت كثير من مؤلفاتهم بما فيها هذه الرسالة بالصبغة الحديثية المعتمدة على الرواية.
سادسا : في الرسالة دلالة على موقف أبي القاسم ابن درباس من علم الكلام، وهو موقف المتبني المناصر من غير ريب، وقد وجدنا في سيرته ما يؤكد موقفه من العلم ومن منكره المخالف لأهله جملة وتفصيلا، وهو موقف لا يخلو من تشدد إذ جعله يهجر أخاه الفقيه عثمان ابن درباس في حياته ويترك الصلاة عليه بعد وفاته.

فهرس المراجع
1-الإبانة عن أصول الديانة للأشعري ، تحقيق فوقية حسين محمود، دار الأنصار ، القاهرة، ط1-1397.
2-الإرشاد إلى قواطع الأدلة لأبي المعالي الجويني، تحقيق محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم، مكتبة الخانجي مصر، 1369، 1950.
3-أصول الدين للبغدادي، تحقيق أحمد شمس الدينن دار الكتب العلمية، ط1-1423، 2002.
4-الاعتقاد للبيهقي، دار الكتب العلمية ، ط1-1404.
5-الأنساب لابن السمعاني، تحقيق محمد عوامة ، مكتبة ابن تيمية القاهرة بدون.
6-البعد السياسي في انتشار المذهب الأشعري في المشرق الإسلامي ومغربه لمصطفى مغزاوي، كنوز الحكمة، الجزائر العاصمة ، 1432.
7-تاريخ إربل لابن المستوفى، تحقيق سامي بن السيد خامس الصقار ، منشورات وزارة الثقافة والاعلام العراقية ، 1980.
8-تبيين كذب المفتري لابن عساكر، دار الكتاب العربي ، بيروت، ط3-1404.
9-التحبير شرح التحرير للمرداوي ، تحقيق عبد الرحمن الجبرين وآخرين، مكتبة الرشد ، الرياض، ط1-1421هـ - 2000م
10-تفسير القرطبي، دار الكتب المصرية القاهرة ، ط2-1384، 1964.
11-تكملة الإكمال لابن نقطة، تحقيق عبد القيوم عبد رب النبي، مركز إحياء التراث جامعة أم القرى مكة المكرمة، ط1-1408..
13-التكملة للمنذري تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة بيروت، ط3-1405، 1984
14-تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني، تحقيق رتشرد مكارثي، المكتبة الشرقية بيروت، 1957.
15-درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط2-1411 هـ ، 1991 م
16-ذيل تاريخ بغداد لابن الدبيثي ، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الاسلامي، ط1-1427 .
17-الرسالة الوافية لأبي عمرو الداني، تحقيق حلمي بن محمد الرشيدي، دار البصيرة، الاسكندرية ، ط1-1426، 2005.
18-رسالة في إثبات الإستواء والفوقية لأبي محمد الجويني ، تحقيق أحمد معاذ حقي، دار طويق للنشر، الرياض، 1419.
19-رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لأبي القاسم بن درباس، دائرة المعارف العثمانية ، ط2-1367، 1948.
20-رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مجلة الحكمة الصادرة بمانشتسر لندن، العدد 23 رجب 1422.
21-رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة الخانجي بالقاهرة ، ط1-1418، 1998م.
22-سير أعلام النبلاء للذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3-1405هـ، 1985م.
23-شرح المعالم لابن التلمساني، تحقيق نزار حمادي ، دار الفتح للدراسات والنشر، الأردن، ط1-1431، 2010
24-شرح أم البراهين للسنوسي، تحقيق مصطفى الغماري، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989.
25-شرح عقيدة ابن أبي زيد للقاضي عبد الوهاب، دار الكتب العلمية، بيروت ، ط1-1423، 2002.
26-ضحى الإسلام لأحمد أمين، دار الكتاب العربي-بيروت-ط10    
27-طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي، تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط2-1413هـ
28-العسجد المسبوك للملك الأشرف الغساني، تحقيق شاكر عبد المنعم، دار البيان بغداد، ط1-1395
29-لمع الأدلة لأبي المعالي الجويني، تحقيق فوقية حسين، عالم الكتب بيروت، ط2-1407، 1987.  
30-مجموع الفتاوى لابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم، المكتب التعليمي السعودي بالمغرب.
31-مشكل الحديث لابن فورك ، تحقيق دانيال جيماريه، المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، ط2003.
32-المطالب العالية من العلم الإلهي للرازي، تحقيق أحمد حجازي السقا، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1-1407، 1987.
33-مناقب الشافعي للبيهقي ، تحقيق السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث القاهرة.
34-المنهج السديد شرح كفاية المريد للسنوسي، تحقيق مصطفى مرزوقي، دار الهدى، عين مليلة الجزائر، ط 1994
35-المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1-1418 هـ
36-الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي، تحقيق مشهور حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط1-1417، 1997.
37-موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود، مكتبة الرشد الرياض ، ط1-1415، 1995.
38-نشأة الأشعرية وتطورها لجلال محمد عبد الحميد موسى، دار الكتاب اللبناني بيروت.
39-نهاية العقول في دراية الأصول للرازي، تحقيق سعيد فودة، دار الذخائر، بيروت، ط1-1436، 2015.
40-الوافي بالوفيات للصفدي، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، ط1-1420هـ، 2000م.
41-وفيات الأعيان لابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر ، بدون.


الخميس, 30 أيلول/سبتمبر 2021 12:57

الانجيل الموضوع انجيل برنابا


كان نوح بن أبي مريم رجلا صالحا جمع علوما كثيرة في زمانه حتى سمي بنوح الجامع لكنه كما قال ابن حبان جمع كل شيء إلا الصدق، ومراده أنه كان يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ..وقد اعترف بوضع الأحاديث فلما قيل له كيف تتجرأ على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله : أنا أكذب له لا عليه ، ومن أشهر ما اعترف بوضعه أحاديث فضل قراءة كل سورة من سور القرآن أي 114 حديثا ..قال رأيت الناس اشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن اسحاق وهجروا القرآن فأردت أن أرغبهم في قراءة القرآن..لكن علماء السنة أسقطوا روايته وعلمه رأسا وأصبح يمثل به للكذابين المغفلين الذين يفسدون الدين ويظنون أنهم يحسنون صنعا..
  ويعتبر هذا التفكير الساذج نواة الفكر المكيافيلي في الإسلام الذي تبنته طوائف الخرافيين والدجالين المنتسبين إلى الإسلام، كما أنه امتداد لفكر بولس محرف النصرانية الذي اتهمه الحواريون في عصره بالكذب على الله وعلى عيسى عليه السلام فأجابهم بقوله إذا كان مجد الله يزداد بكذبي لصالحه فلماذا اعتبر مذنبا كما في رسالته إلى أهل رومية ..
  ومن الخرافيين المنتسبين إلى الإسلام من تشبه ببولس وتعدى كذبه الكذب على الأنبياء إلى الكذب على الله تعالى، كمن ادعي أنه عرج به إلى السماء وأن الله كلمه وأوصاه ..وكمن وضع الإنجيل المسمى بإنجيل برنابا، وهذا الانجيل الذي لازلت أقرأ عنه في كتب الرد على النصارى من أنه يحوى البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه ذكر فيه كذا وكذا مرة، وكنت ممن يظنه أصدق الأناجيل..ثم لما قدر الله لي أن أقف عليه قرأته بنهمة كبيرة وعكفت عليه حتى ختمته في يومين أو ثلاث...لكن صدمت بعدة صدمات الصدمة الأولى كانت متعلقة بحجمه الكبير الذي لم أكن أتوقعه ..ثم الصدمة الثانية كانت في مقدمة الكاتب التي يصرح فيها الكاتب بأنه ألف هذا الإنجيل ليرد على تحريف بولس لدين المسيح عليه السلام ألفه من خلال ما سمعه وما شاهده من المسيح ..ونحن نعتقد ان الانجيل منزل من الله فكيف يكون مؤلفا من أحد الحواريين ...توالت الصدمات منها أنه استقبلتني فيه خرافات متأخري الصوفية ...والتكلف الظاهر لذكر محمد صلى الله عليه بمناسبة وبلا مناسبة ...وقد وضعت ورقة سجلت فيها كل تلك الدلائل والاشكالات والعلامات التي تدل على أن الكتاب مكذوب، ومن أكبر تلك الصدمات صدمة أصابتني لما وصلت إلى فصل تغير فيه الأسلوب والمصطلحات وصار الكلام فلسفيا ..اذكر أني حينها تيقنت بأن الكتاب مكذوب لأن عيسى عليه السلام ولا شك لم يكن فيلسوفا..ثم عرفت بعد أيام قلائل من البحث أن ذلك الفصل منقول من الكوميديا الإلهية لدانتي ..حيث توجهت لقراءة كل ما كتب عن الانجيل نقدا أو تأييدا..وقد حصلت لي قناعة أن الانجيل موضوع (لمصلحة الدعوة) تحت شعار (الغاية تبرر الوسيلة) وكاتبه رجل غالب الظن أنه كان نصرانيا ثم أسلم وقد ضمنه شذرات من الفكر الإسلامي السائد في عصره..
    وقد دعيت هذا المساء للتعليق على منشور زعم فيه كاتبه أن إنجيل برنابا هو الإنجيل الصحيح فكتبت تعليقا أكدت فيه على ثلاث نقط الأولى تضمنه خرافات صنعت في عصر متأخر من العصور الاسلامية..الثانية اقتباس الكاتب فصلا من الكوميدبا الالهية لدانتي..والثالثة تصريح الكاتب أن مؤلف الانجيل هو برنابا..  ثم وجدت إشارة إلى أن صاحب الصفحة قد رد على تعليقي فلما حاولت الدخول وجدته قد حظرني ، وقد نقل لي أحد الأصدقاء تعليقه الذي لم يكن سوى سبا وشتما واتهاما لي الكذب..
   أسفت أولا للحظر ثم زال الأسف لما قرأت تعليقه ..لأني كنت أظن الرجل فتح صفحة للحوار بين المسلمين والنصارى، ولا يفعل ذلك إلا من جمع بين العلم والحلم، ولا يشترط في هذا الجمع الكمال ..ولكن ظهر لي من رده الموجز مستواه في اللغة والأدب والعلم، وأنه ليس إلا واحدا من المغفلين الذي يظنون أنهم يخدمون الإسلام وهم يسهمون في هدمه بنشر مثل هذه الأباطيل، ومن ضاق صدره بنقاش مسلم لم يحو إلا حقائق ..كيف سيصبر على مناقشة النصارى الذين لا يقدرون على ترك القدح في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم كلما أفحموا بالحجج الدامغة التي تظهر تحريف الانجيل...

الثلاثاء, 28 أيلول/سبتمبر 2021 22:41

بَابُ صِفَةِ الوُضُوءِ
1- وَهُوَ: أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ اَلْحَدَثِ، أَوْ اَلْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ لِجَمِيعِ اَلْأَعْمَالِ مِنْ طَهَارَةٍ وَغَيْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
2- ثُمَّ يَقُولَ: "بِسْمِ اَللَّهِ"،
3- وَيَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا،
4- ثُمَّ يَتَمَضْمَضَ، وَيَسْتَنْشِقَ ثَلَاثًا، بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ،
5- ثُمَّ يَغْسِلَ وجهه ثلاثًا،
6- ويديه إلى المرفقين ثلاثًا
7- وَيَمْسَحَ رَأْسَهُ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ إِلَى قَفَاهُ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُعِيدَهُمَا إِلَى اَلْمَحَلِّ اَلَّذِي بَدَأَ مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً،
8- ثُمَّ يَدْخُلَ سَبَّاحَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ، وَيَمْسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا،
9- ثُمَّ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ مَعَ اَلْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.
10-هَذَا أَكْمَلُ اَلْوُضُوءِ اَلَّذِي فَعَلَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالْفَرْضُ مِنْ ذَلِكَ:
1) أَنْ يَغْسِلَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
2) وَأَنْ يُرَتِّبَهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ اَللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] .
3) وألا يَفْصِلَ بَيْنَهَا بِفَاصِلٍ طَوِيلٍ عُرْفًا، بِحَيْثُ لَا يَنْبَنِي بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِ، وَكَذَا كُلُّ مَا اشترطت له الموالاة.


باب صفة الوضوء


   انتقل المصنف رحمه الله إلى باب الوضوء، وقد اختار أن يتحدث عن أفعاله مرتبة حسب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه أنفع للمبتدئ ولا سيما إذا كان صغيرا ، وبعد أن فرغ منها عاد ليحدد الفرض من هذه الأفعال ليعلم أن ما عداها سنة .
1- وَهُوَ: أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ اَلْحَدَثِ، أَوْ اَلْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ لِجَمِيعِ اَلْأَعْمَالِ مِنْ طَهَارَةٍ وَغَيْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:» إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَىِ« متفق عليه.
    أول أفعال الوضوء هو النية وهو عمل قلبي معناه القصد ومحله قبل الشروع في العمل، والمراد بالنية أن يكون المقصود بغسل الأعضاء رفع الحدث أو الوضوء للصلاة ونحوها من طواف أو مس للمصحف، أي أن يكون غسل هذه الأعضاء للعبادة لا للعادة، وإذا قلنا إنها عمل قلبي فإن التلفظ بها بدعة والجهر بها نوع من الوسوسة .
   والنية شرط في الوضوء لأنه عبادة والعبادات تشترط لها النية لقوله :« إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَىِ »، فالأعمال تتميز عن بعضها البعض بالنيات ، ولا يحصل للمرء من أثرها إلا ما نواه بقلبه ، فمن نوى التبريد أو إزالة الأدران لم يرتفع حدثه ولم تبح له الصلاة ونحوها ومن نوى العبادة أبيحت له الصلاة وغيرها، وقوله :"شرط لجميع الأعمال " المراد أنها شرط في جميع الأعمال التي هي من جنس العبادات والقربات.
2- ثُمَّ يَقُولَ: "بِسْمِ اَللَّهِ".
   ثم يقول المتوضئ استحبابا "بسم الله" وليس ذلك بواجب فضلا عن أن يكون شرطا، ومما يدل على المشروعية حديث أنس :"قَالَ طَلَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَضُوءًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مَاءٌ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ وَيَقُولُ تَوَضَّئُوا بِسْمِ اللَّهِ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ" -رواه النسائي-، وأما الحديث الدال على الوجوب أو الشرطية ولفظه "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" فهو حديث ضعيف لا يعتمد عليه، على أن بعض من صححه من تأوله على النية حيث حمل الذكر على الذكر القلبي.
3- وَيَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا.
   وبعد التسمية يغسل المتوضئ كفيه وغسل الكفين مستحب اتفاقا، ويستحب للمتوضئ إذا غسلهما أن لا يدخلهما في الإناء؛ بل يصب الماء عليهما صبا، كما ورد في الأحاديث التي وصفت وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا استيقظ المرء من النوم وأراد الوضوء فإنه يكره له إدخالهما في الإناء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:« إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»متفق عليه، ولا فرق بين نوم الليل والنهار عند الجمهور ؛ خلافا لأحمد الذي خص ذلك بنوم الليل مراعاة للفظ "باتت" ولا مفهوم للعبارة لكونها خرجت مخرج الغالب، ولأن التعليل بعدم الدراية يستوي فيه نوم الليل والنهار.
4- ثُمَّ يَتَمَضْمَضَ، وَيَسْتَنْشِقَ ثَلَاثًا، بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ.
   وبعد غسل الكفين ينتقل المتوضئ إلى المضمضة والاستنشاق، وقد جاء ذكرهما في جميع أحاديث صفة الوضوء، والسنة أن يجمع بينهما من كف واحدة وأن يثني أو يثلث فيها، ولا يشترط في المضمضة إدارة الماء في الفم، والسنة أيضا أن يكون الاغتراف باليمين والاستنثار باليسار كما جاء في حديث علي رضي الله عنه في صفة الوضوء.
   وقد اختلف في حكمهما فقال داود وأحمد في رواية بالوجوب، لأنهما من الوجه ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم :« أَسْبِغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا »رواه أهل السنن وصححه الترمذي وفي رواية عند ابي داود: «إذا توضأت فمضمض»، ومنهم من أوجب الاستنشاق دون المضمضة لقوله صلى الله عليه وسلم:« إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ » متفق عليه.
   والصحيح عند الجمهور أنهما من السنن المؤكدة التي لا ترقى للوجوب وذلك للأوامر المذكورة ولمدوامة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، وقد نقل الشافعي رحمه الله الاتفاق على عدم وجوبهما فقال في الأم(2/54): "ولم أعلم المضمضة والاستنشاق على المتوضئ فرضاً، ولم أعلم اختلافاً في أن المتوضئ لو تركهما عامداً أو ناسياً وصلى لم يُعد". قال الحافظ ابن حجر معلقاً على الإجماع الذي نقله الشافعي:"وهذا دليل قوي؛ فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة" فتح الباري (1/262).
5- ثُمَّ يَغْسِلَ وجهه ثلاثًا.
    وبعد المضمضة والاستنشاق يغسل المتوضئ وجهه وهذا من فرائض الوضوء بإجماع العلماء، وحد الوجه من منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا فيدخل البياض الذي بين الأذن واللحية، ولا يجب غسل ما انسدل من اللحية؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي في قول واختيار ابن حزم، ولا يجب أيضا تخليل ما على الوجه من اللحية وهو قول الجمهور -خلافا لإسحاق- لأن الوجه ما تحصل به المواجهة.
6- ويديه إلى المرفقين ثلاثًا.
    وبعد غسل الوجه يغسل المتوضئ يديه إلى المرفقين ، وهذا الغسل واجب بالإجماع أيضا، ويستحب أن يبدأ باليد اليمنى ولا يجب ذلك باتفاق أهل السنة.
    قوله "إلى المرفقين" بمعنى مع المرفقين -كما عبر في الكعبين- فيجب غسلهما ولابد من أن يُشرِع في العضد، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا تستحب إطالة الغرة والتحجيل وهو قول مالك وأحمد في رواية واختيار ابن تيمية وابن القيم لأن العبادة مبناها على التوقيف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» متفق عليه، وأما زيادة:« فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» فزيادة مدرجة.
   وقوله :" ثلاثا" أي ثلاث غسلات يستوعب بها كل عضو، فإن غسل العضو بغرفتين اعتبر ذلك غسلة واحدة، فالعبرة بالغسلات لا بالغرفات.
7- وَيَمْسَحَ رَأْسَهُ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ إِلَى قَفَاهُ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُعِيدَهُمَا إِلَى اَلْمَحَلِّ اَلَّذِي بَدَأَ مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً.
   وبعد غسل اليدين إلى المرفقين يمسح المتوضئ رأسه، وهذا المسح واجب بالإجماع، وحده كما ذكر المصنف من مقدم الرأس إلى القفا وهي منابت الشعر عادة، ولا يسن مسح الرقبة، وفي تحديده إشارة إلى إيجاب استيعاب جميع الرأس وهو قول مالك وأحمد في رواية.
    وقوله "مرة واحدة" يعني أن الذهاب والإياب يعتبر مرة واحدة؛ إلا أن الواجب واحد منهما والآخر مستحب، والسنة البدء من مقدم الرأس. في حديث عبد الله بن زيد:" فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ"متفق عليه.
    والمشروع أن يُمسح الرأس مرة واحدة -خلافا للشافعي- لأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عدم تكرير مسح الرأس والروايات التي تخالف ذلك شاذة.
8- ثُمَّ يَدْخُلَ سَبَّاحَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ، وَيَمْسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا.
   ويسمح المتوضئ مع رأسه أذنيه، وهذا المسح سنة عند الجمهور، وقد نقل الطبري الإجماع على أن من ترك الأذنين لا إعادة عليه، قال النووي في شرح المهذب (1/416):" وكذا نقل الإجماع غيره وحكي ابن المنذر وأصحابنا عن إسحق بن راهويه أنه قال من ترك مسحهما عمدا لم تصح طهارته وهو محجوج بإجماع من قبله"، وقال الخلال:" كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا أنه يجزئه".
   وقد صح عن رفاعة بن رافع مرفوعا :" إِنَّهَا لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدٍ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحُ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ"-رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة-. فلم يذكر غلا الفرائض المنصوصة في القرآن ، وأما حديث:" الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ" فليس بصحيح مرفوعا وإنما مروى عن جمع من السلف وهو يفيد أنهما يمسحان مع الرأس ولا يؤخذ لهما ماء جديد.
    وقد صح في صفة مسح الأذنين حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا-رواه الترمذي وصححه. وفي رواية للنسائي:" ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ بَاطِنِهِمَا بِالسَّبَّاحَتَيْنِ وَظَاهِرِهِمَا بِإِبْهَامَيْهِ".
9- ثُمَّ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ مَعَ اَلْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.
    وآخر أفعال الوضوء غسل الرجلين وهو واجب اتفاقا إلا أن يكون عليهما خفان فيجوز المسح عليهما بشروط تأتي في بابها، وهذا توجيه اختلاف القراء في قوله تعالى : ( وأرجلكم إلى الكعبين  ) هل هي بكسر اللام أم بفتحها فقراءة الكسر محمولة على المسح على الخفين .
قوله:"مع الكعبين" أي فيجب غسلهما ويُشرع قليلا في الساق لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
    وأما تخليل الأصابع فمستحب إلا إذا كان الماء لا يمر بينها فيجب حينها التخليل هذا مذهب الجمهور.
10- هَذَا أَكْمَلُ اَلْوُضُوءِ اَلَّذِي فَعَلَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالْفَرْضُ مِنْ ذَلِكَ:
1) أَنْ يَغْسِلَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
    الفرض فيما يجب غسله أن يغسل مرة واحدة وهذا باتفاق العلماء، والمقصود غسل العضو كاملا مرة واحدة ولو تعددت الغرفات فليتنبه.
   كما اتفقوا على أن الزيادة على الثلاثة مكروهة، لحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ:« هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ»-رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة-.
2) وَأَنْ يُرَتِّبَهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ اَللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة:6) .
    وكذلك الترتيب بين الأعضاء الأربعة فرض، وهو قول الشافعي وأحمد واختيار ابن حزم، والآية الكريمة دالة الترتيب من أوجه منها إدخال ممسوح بين مغسولين، وعدم مراعاة الأقرب فالأقرب، وقيل إن الواو إذا عطفت أجزاء فعل واحد دلت على الترتيب، ويدل على الترتيب أيضا مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
   وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه خلاف هذا الترتيب فلا يثبت منه شيء كما قال ابن القيم، ومنها حديث المقدام بن معدي كرب وهو ضعيف شاذ، وحديث الربيع بنت معوذ وهو ضعيف السند مضطرب المتن.
3) وألا يَفْصِلَ بَيْنَهَا بِفَاصِلٍ طَوِيلٍ عُرْفًا، بِحَيْثُ لَا يَنْبَنِي بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِ، وَكَذَا كُلُّ مَا اشترطت له الموالاة.
   ومن الفرائض أيضا الموالاة فلا يفصل بين عضو وعضو بفاصل طويل واشتراط الموالاة هو مذهب مالك وأحمد في المشهور، ويدل عليه حديث عمر بن الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى-رواه مسلم-، وبناء على ذلك فإن الفاصل الطويل مبطل لما سبق غسله من أعضاء فيجب استئناف الوضوء من جديد، وحد الفاصل الطويل غير محدد في الشرع ومنهم من حده بجفوف العضو ومنهم من قيد هذا الحد بالجو المعتدل ومنهم من قيده بحال العجز ، وقيل المرجع إلى العرف .
   فمن فصل بين أعضاء الوضوء بفاصل يسير بنى على ما سبق وأتم الوضوء ومن فصل بينها بفاصل طويل لم بجز له البناء ووجب عليه الاستئناف من جديد.

الأحد, 26 أيلول/سبتمبر 2021 19:32

بطلان نظرية العقد الاجتماعي والديمقراطية الموهومة والسيادة المزعومة
يقول ربنا جل جلاله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (البقرة: 213).
    إنه بعد أن أنزل الله تعالى آدم عليه السلام وتكاثرت ذريته كونت مجتمعا واحدا، والأمة مأخوذة من الائتمام هم القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض -كما قال القفال-. وتكوين هذا المجتمع أوجبته الفطرة وحمته الضرورة لاستحالة ان يستقل الفرد بأسباب معاشه، قال محمد رشيد رضا في تفسيره (2/ 225):"خلق الله الإنسان أمة واحدة; أي: مرتبطا بعضه ببعض في المعاش لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدره الله لهم إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضا، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفيته جميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته فيستعين بهم في بعض شأنه، كما يستعينون به في بعض شأنهم، وهذا الذي يعبرون عنه بقولهم: (الإنسان مدني بالطبع) يريدون بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته، بل قدر له أن تكون منزلة أفراده من الجماعة منزلة العضو من البدن، لا يقوم البدن إلا بعمل الأعضاء، كما لا تؤدي الأعضاء وظائفها إلا بسلامة البدن".
   وهذا المجتمع المتكون بدافع الجبلة والضرورة معا كان محكوما بقوانين تضبطه ولابد، تبين حقوق الأفراد وواجباتهم ، وتمنع التظالم بينهم، وهذه القوانين كانت ربانية جاءت وحيا من الله تعالى من لدن آدم عليه السلام الذي كان أول الأنبياء والآية تدل على أنهم كانوا أمة واحدة أي مجتمعا متحدا محكوما بالكتاب المنزل على الأنبياء، وهذا الكتاب هو الذي كان يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، وكما الاجتماع فطري فإن الاختلاف فطري، والخالق العليم الخبير لم يترك عباده سدى وهملا، بل هيأ لهم أسباب انتظام حياتهم خلقا وتدبيرا حتى يحققوا الهدف الأسمى لإيجادهم الذي هو تحقيق عبوديته في الأرض .
قال محمد رشيد رضا أن أفراد الأمة الواحدة :"لا بد لهم أن يعيشوا تحت نظام واحد يكفل لهم ما يحتاجون إليه مدة بقائهم في هذه الحياة الدنيا، ويضمن لهم ما به يسعدون في الحياة الأخرى، ولا يمكنهم في هذه الوحدة ومع تلك الوصلة اللازمة بمقتضى الضرورة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام؛ مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول وحرمانهم من الإلهام الهادي لكل منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه، لما كانوا كذلك كان من لطف الله ورحمته بهم أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، يبشرونهم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة؛ إذا لزم كل واحد منهم ما حدد له واكتفى بما له من الحق، ولم يعتد على حق غيره، وينذرونهم بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الآخرة إذا اتبعوا شهواتهم الحاضرة ولم ينظروا في العاقبة".
فالاجتماع سابق على التفرق والاختلاف، والهدى والإيمان سابق على الضلال والكفر، وما وجد تفرق وظلال إلا بأسباب خارجة عن الشرعة الإلهية مرجعها إلى البغي، وهو التعدي بسبب التحاسد "وغالب استعماله في حقوق العباد والاستطالة عليهم" -كما قال ابن القيم- ويؤكده عبارة (بينهم) فهو تعدي أفراد المجتمع الواحد بعضهم على بعض.

السبت, 25 أيلول/سبتمبر 2021 08:54

الإنسان مدني بالفطرة والجبلة لا بعقد اجتماعي مختلق موهوم
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في الوحي المحمدي ص 8 :"فالإنسان مدنّى الطبع، ومتديّن بالطبع، أو بالفطرة كما يقول الإسلام". وعبارة الإنسان مدني بالطبع قد تواطأ عليها علماء الإسلام من مختلف المذاهب والتخصصات وقد تنسب لأرسطو، وزاد عليها رشيد رضا لازمها وتابعها الضروري وهو التدين بدين يضبط قانون هذا الاجتماع.
   وممن نص على كون الإنسان مدنيا بطبعه: ابن مسكويه (ت:421هـ) في تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق (ص: 38) ناسبا ذلك للحكماء، والراغب الأصفهاني (ت:502هـ) في الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 265) ومفردات القرآن (ص94)، ثم ابن العربي المالكي (ت:543هـ) في كتابه نكت المحصول (ص:183) ثم الرازي (ت:606هـ) في تفسيره ، ثم ابن تيمية (728هـ) في الحسبة وبعده كثيرون لا يحصون .. ولم أجد من انتقدها سوى أن الشيخ محمود شاكر نازع في لفظ الطبع وقال إنه مدني بالضرورة كما في جمهرة المقالات (1/602) .
وهذا نص ابن تيمية في كتاب الحسبة (ص: 7) ومجموع الفتاوى (28/ 62):" وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمرٍ وناهٍ. فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين، فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم، مصيبين تارة ومخطئين أخرى".

الخميس, 23 أيلول/سبتمبر 2021 10:58

لماذا ناقشنا مواد الدستور أو حتى لا تغفل عن عقيدتك

 
لابد أن تتذكر ولا تنسى أنه هناك فرق شاسع بين من يقول باسم الله (الرحمن الرحيم الحكيم العليم) ومن يقول باسم الشعب (الذي لا دراية له بالنظم والقوانين والدساتير)
1-إن نقاشنا لمواد الدستور وفقراته وعباراته كان تسليما جدليا لأهله بمحاكمته لمبادئ وقواعد واضعيه، وبيانا لتناقضهم فيه، وفضحا لعقليتهم الدكتاتورية التي تتدثر بدثار ديمقراطية موهومة وسيادة شعبية مزعومة.
2-إن نقاشنا للدستور كان نصحا للأمة التي كثير منها لم يتعود على قراءة النصوص القانونية، وفهم مدلولاتها ومراميها ولا منتبها لأثرها في واقع الناس.
3-إن نقاشنا للدستور كان أيضا من منطلق التعامل مع ما هو موجود في دولتنا التي لم تكن يوما إسلامية ولا عادلة، ولا يخفى أن بعض الشر أهون من بعض، فالنقاش كان سعيا للحفاظ على مكتسبات فيه، ومحاولة لدفع انحرافات جديدة أضيفت إليه.
4-لقد ناقشنا بعض مواده مع اعتقادنا أن الدستور في بلادنا لم يكن في يوم من الأيام معبرا عن هوية المجتمع الجزائري وعقيدته وتطلعاته، ولا ناتجا عن عقد بين الشعب والسلطة شرعية، وإنما كان منذ الاستقلال إلى يومنا يعبر عن عقيدة أقلية ليس هدفها تنظيم المجتمع وقيادته ولكن هدفها دائما صناعة مجتمع وتغيير تصوراته وفرض إيديولوجياتها المستوردة عليه.
5-لقد ناقشنا مواده مع علمنا أن دساتير الجزائر ما هي إلا مشاريع حزبية للفئة الحاكمة أو الفئات المتحالفة في الحكم، وكلنا يذكر أن دستور لجزائر المسلمة كان ينص على أن الاشتراكية خيار لا رجعة فيه وكان متنكرا ومؤخرا للدين وغير معترف بالبربرية ولم يكن ذلك في الواقع إلا مذهب شرذمة قليلة فلما سقطت خلفتها شرذمة أخرى بعقيدة أخرى وايديولوجية أخرى مضادة لها متفقة معها فقط في تأخير الدين وإبقائه حبرا على ورق كما كان، وهكذا ستبقى الأمور لأن المخلوق الظلوم الجهول لن ينصف أبدا بني جنسه ما لم يكن يعتقد المساواة التي يكتسبها من العبودية لله تعالى ولا مؤمنا بالعدالة التي مصدرها إلهي لا بشري.
6-إن فلسفة الدساتير قائمة على مفاهيم مضادة لعقيدة المسلم في ربه الرحيم الحكيم العليم الذي لم يترك الناس سدى وهملا، ومنافية لعقيدته في قصة مبدأ الإنسان وسكناه الأرض حيث خلقه الله تعالى على الفطرة في أحسن تقويم، وعلمه الأسماء والبيان وكان أول البشر نبيا مهديا موحى إليه.
لذلك لا يجوز أن يفهم من محاكمة الدستور إلى مبدأ السيادة الشعبية الناتج عن فرضية العقد الاجتماعي يعتبر إقرارا له، كما هو شأن كثير من أبناء الأحزاب الإسلامية الذي لم يعرفوا النظام الإسلامي إلا من نسخه المطورة التي استحدثتها أحزابهم الاستسلامية لا الإسلامية، والتي صار كثير منها ينكر وجود نظام حكم إسلامي له خصائصه ومميزاته، التي ترفعه وتنزهه عن أن يقارن بخرافات الإنسان الأروبي في عصر ما بعد الظلام المسمى عصر التنوير وهي ظلمات بعضها فوق بعض.
فلا تغفل عن عقيدتك
الخميس, 16 أيلول/سبتمبر 2021 17:46

التجديد في علم أصول الفقه
مفهومه ومشروعيته ومحاوره الأساسية

نشر في مجلة الاستيعاب الصادرة عن مخبر الدراسات الشرعية -جامعة تلمسان -العدد 5 -ماي 2020

     الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد فإن علم أصول الفقه إن علم أصول الفقه هو علم أصول التفكير الإسلامي، وهو علم المنطق الاسلامي والآلة العاصمة للذهن من الخطأ في فهم الدين وإعمال نصوصه، وهو "منهج بحث ومعرفة" مرتبط بكل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولقد كان في عهده الأول محركا للفقه ومحييا له ودافعا للاجتهاد وضابطا له؛ ولكن مع تعاقب العصور أصابه الجمود والقصور فلم يعد مثمرا لما يرجى منه ومنتجا لآثاره، إذ أصابه ما أصاب العلوم الإسلامية جميعها في عصور الانحطاط، لا يستثنى في المنتسبين إليه والمؤلفين فيه إلا أفراد معدودون وُصفوا بالمجددين كابن تيمية وابن القيم والشريف التلمساني والشاطبي رحمهم الله، وفي عصر النهضة الحديثة تجدَّدت الدعوة إلى تجديد علم أصول الفقه بغية إحيائه ليعود فاعلا في الحياة الإسلامية مسهما في بناء حضارتها، واعتُبر ذلك ليس من الحاجات المهمة حسب، بل من الضرورات الملحة، واستند دعاة التجديد إلى أفكار بثها مجددون من أهل العصور السابقة منهم من ذكرنا، فوجدت دعوتهم المستجيب المؤيد؛ كما اعترضها الجامدون المحافظون، واستغلها من جهة أخرى الحداثيون المتحللون المشككون في ذات العلم وصلاحيته، فانقسم الناس في موقفهم من عملية التجديد إلى طرفين ووسط، والذين تبنوا الموقف الوسط تعدَّدت اتجاهاتهم واهتماماتهم في عملية في تجديد العلم، على مستوى التنظير أو التأليف، وعند النظر في هذه الاتجاهات نجدها متكاملة ومتآزرة تعتبر كلها من محاور التجديد بمعناه الشرعي الصحيح، وقد رأيت أن أجمع في تجلية هذه المعاني بحثا عنوانه:" التجديد في علم أصول الفقه مفهومه ومشروعيته ومحاوره الأساسية" يهدف إلى بيان مفهوم التجديد المطلوب ومشروعيته وإلى بيان محاوره الأساسية التي إذا اتضحت تقرب المعنى لدى المتوجس وزال اللبس، وانكشفت دعوى هادم الأصول باسم التجديد، وقد قسّمته حسب المعاني السابقة إلى مبحثين، الأول في بيان مفهوم التجديد ومشروعيته ومناقشة الرافضين له، وإبراز مبرراته المحدِّدة لاتجاهه وكذا الفرق تجديد العلم وتجديد الأصول، والمبحث الثاني في إبراز محاور التجديد التي تُكوِّن المعنى المتكامل له وهي: حذف الدخيل والمسائل الفرضية وإضافة مسائل وتوسيع أخرى، الابتعاد عن العصبية وتحقيق الحياد، وإبراز الترابط بين الأصول والفقه، وتجديد المنهج في عرض المسائل الأصولية، وأخيرا الرجوع بالعلم إلى ما كان عليه في عهد الأئمة المجتهدين.
 
المبحث الأول : مفهوم التجديد في علم أصول الفقه ومشروعيته
   إنّ مشروعية التجديد مرتبطة بالمبررات الواقعية وأيضا بالدلائل الشرعية ولابد من الوقوف عندها، لأن التجديد في العصر الراهن يتجذابه طرفان ووسط، طرف غالٍ منكر لعلوم السلف جملة وتفصيلا، وطرف جافٍ منكر لكل تجديد متخوِّف من فتح الباب لمن يريد هدم علوم الإسلام، ووسط إصلاحي يفسِّر التجديد بمعاني لا تمس الجوهر الأصيل والثوابت ويضبطه في إطار يجعله في منأى من أغراض الحداثيين والمنسلخين من الشريعة.
      المطلب الأول : مفهوم التجديد
    التجديد فعيل من "جَدَّ يَجِدّ بالكسر جِدَّةً فهو جَدِيدٌ وهو خلاف القديم و جَدَّدَ فلان الأمر وأَجَدَّهُ واسْتَجَدَّهُ إذا أحدثه فَتَجَدَّدَ(1) فمعنى التجديد في اللغة تصيير الشيء جديدا أو إرجاعه إلى حاله، بعدما طرأ عليه ما أبلاه وغيره(2).
    وقد تنوَّعت عبارات العلماء في تحديد معناه في الشرع، وتعدَّدت صيغهم، وليس ذلك اختلافا في المعنى، بل هو إما اختلاف في عبارة أو دلالة على جزء من المعنى، لذلك نرى أقوالهم يستلزم بعضها بعضا، وهي كلها لا تخرج عن المعنى اللغوي المذكور :
أولا : إحياء ما اندرس من معالم الشريعة والسنن ونشرها بين الناس، وقد نص على هذا المعنى ابن تيمية والمناوي ومن المعاصرين المودودي(3).
ثانيا : قمع البدع والمحدثات، وتنقية الإسلام مما علق به من أوضار الجاهلية، والعودة به إلى ما كان عليه زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام(4). وهذا المعنى مكمل للسابق ملازم له لأن المخالفة للدين إما نقص منه أو زيادة فيه، فالتعريف الأول انصب على النقص والثاني انصب على الزيادة.
ثالثا: تنزيل الأحكام الشرعية على ما يجد من وقائع وأحداث، ومعالجتها معالجة نابعة من هدي الوحي(5). وهذا ربط للتجديد بالاجتهاد الذي هو أهم معالم الشريعة الإسلامية، وسر خلودها وصلاحيتها لكل الأزمنة والأمكنة.
   وقد جمع هذه المعاني الثلاث محمد رشيد رضا فقال: «المراد بتجديد الدين تجديد هدايته وبيان حقيقته وأحقيته، ونفي ما يعرض لأهله من البدع والغلو فيه، أو الفتور في إقامته ومراعاة مصالح الخلق، وسنن الاجتماع والعمران في شريعته»(6).
   ومن أحسن ما قيل في تلخيص تلك المعاني:« تجديد الدين بمعنى إحياء وبعث ما اندرس منه ، وتخليصه من البدع والمحدثات وتنزيله على واقع الحياة ومستجداتها»(7).
المطلب الثاني : دلائل مشروعية التجديد
الفرع الأول : الدلائل الصريحة في السنة النبوية
أولا: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :« إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»(8). وهذا نص صريح في أن الله تعالى يسخر لهذا الدين الذي ارتضاه ليكون خاتمة الأديان من يجدده في النفوس ومن يجدد معالمه ويطهره مما ليس منه حتى تبقى حجة الله قائمة إلى العباد، وفي نفس المعنى ورد حديث آخر لفظه: « لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ»(9). وقد أشار إلى هذه المعاني غير واحد من العلماء السابقين(10)، ومن معاني هذا التجديد والاستعمال تسخير العلماء الذي أبرزوا العلوم التي كانت كامنة فرسموا حدودها وقعدوا قواعدها وضبطوا مسائلها، كالشافعي مع أصول الفقه والشاطبي مع المقاصد .
ثانيا : ومن الأحاديث الدالة على معنى التجدُّد قوله صلى الله عليه وسلم :«بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»(11)، فمعنى العودة يلتقي مع معنى التجدُّد، وقد استدل به العلماء على معاني التجديد المذكورة بما فيها الدعوة إلى الاجتهاد(12).
الفرع الثاني : الدلائل المستنبطة من الكتاب والسنة
أولا : أدلة حفظ الدين كقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) إن الرسل عليهم السلام كانوا يبعثون مجددين للدين ومصلحين لما أفسده البشر، وقد جاء رسولنا صلى الله عليه وسلم بالشرعة الخاتمة فلا نبي بعده، ولذلك تكفل الله بحفظ هذا الدين قدرا ولم يكله إلى العباد، وقد هيأ لهذا الحفظ أسبابا ظاهرة تخدمه، منها العلماء المجددين للعلوم المتعلقة بهذا الذكر الحكيم، والذين ينفون عنه تحريفات الغالين وتأويلات الجاهلين وانتحالات المبطلين(13).  
ثانيا : أدلة شمول الدين وكماله، وكفايته لكل ما يحتاجه الناس، كقول الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل 89) وقوله تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (النساء 59)، وتفريعا على ذلك قال الشافعي:«فليست تنـزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها»(14)، ومقتضى هذا الشمول للأحداث في الأزمنة والأمكنة؛ أن يتجدَّد التفاعل مع نصوصه، من أجل تنزيلها على هذه الوقائع الممتدة غير المحدودة(15).
المطلب الثالث : الفرق بين تجديد الأصول وتجديد العلم
    إنَّ الدلائل المقدمة على مشروعية التجديد مضافة إلى التفسيرات التي ذكر العلماء للتجديد المذكور في الحديث النبوي، تُعطينا مفهوما واضحا متكاملا لتجديد الدين، والذي يعني إعادته إلى سابق وضعه تنقية مما ليس منه وإحياء لما نسي من تعاليمه، بما في ذلك الاجتهاد الذي يجعله صالح مصلحا للأوضاع البشرية، ويظهر من هذا التفسير ضرورة وجود أصول ومعايير ثابتة يتحاكم إليها في هذا التجديد، وهي عند التأمل نصوص الوحي وقطعياته وأحكام الشرع وكلياته التي كان عليها خير القرون..  
    فحقيقة الدين لا تبلى بتقادم الزمان ومرِّ العهود، وإنما يُضيعه أصحابه نسيانا وتحريفا زيادة ونقصا، والحديث أشار إلى هذا المعنى إذ قال صلى الله عليه وسلم :« من يجدد لها دينها » فأضاف الدين إلى الأمة ولم يقل يجدِّد لها الدين، وذلك أن الدين وما اشتمل عليه من عقائد وعبادات وأخلاق؛ ثابت لا يقبل التغيير والتجديد، أما دين الأمة بمعنى علاقة الأمة بالدين ومدى تمسكها وتخلقها به، فهو المعنى القابل للتجديد والتغيير، حيث يطرأ عليه الانحراف والتغيير والنسيان(16).
    وإذا طبقنا هذا المعنى على علم أصول الفقه نقول إن أصول الفقه التي هي مصادر الدين وقواعد الفهم المتعلقة بهذه المصادر ثابتة غير قابلة للتجديد والتغيير والاستبدال، لأنها أساس الدين بناء وفهما، وإنما الذي يقبل التجديد: هو تلك المؤلفات التي احتوت هذه الأصول وتلك المناهج التي أُلِّفت على ضوئها تلك المؤلفات، وسُلكت في معالجة القضايا الجزئية في العلم، تصويرا واستدلالا وترجيحا، وهذا يُوصلنا إلى التفريق بين تجديد الأصول التي هي الدين، وتجديد علم الأصول الذي هو طريقة عرض الأصول ومعالجة قضاياها، وهي علاقة عقل الإنسان بهذه الأصول.
    إنَّ تجديد العلم هو عملية نقدية لانجازات بشرية واجتهادات ظنية فردية؛ يُظن فيها أنّها انحرفت عن الطريق الصحيح؛ بينما تجديد الأصول هو نقد للدين في حد ذاته من جهة التشكيك في قطعياته وهدم كلياته.
    وهذه نقطة الاختلاف بين دعاة التجديد الإصلاحي الإسلامي ودعاة التجديد الحداثي العلماني(17).

المطلب الرابع : مبررات التجديد وأثرها في تحديد المنحى التجديدي
الفرع الأول : مبررات التجديد الواقعية في علم أصول الفقه
أولا : وجود مسائل إضافية من علم الكلام واللغة والمنطق وغيرها من العلوم؛ شغلت حيزا كبيرا في مادة العلم وقد ظهر عدم جدواها، حيث تجد في الأصوليين من يصرح بكونها دخيلة أو كونها غير مفيدة في الفقه، أو أن الخلاف فيها مجرد خلاف نظري أو لفظي، وقد اشتهر هذا المنحى على لسان الشاطبي، وقد تعلق بكلامه كلُّ دعاة التجديد بمختلف اتجاهاته(18).
ثانيا :  ومن الأمور التي تشبَّث بها المنتقدون للعلم: غلبة الجدل العقلي العقيم على المباحث الأصولية، وأيضا تحكيم القواعد المنطقية في مسائله وحدوده، وهذا أيضا مبررٌ مشترك بين دعاة التجديد(19).
ثالثا : من الأشياء المتفق عليها أن علم الأصول بصورته الموروثة صار لا يستجيب لحاجات العصر، لأنه اكتسى ثوب التجريد والنظرية وانفصل عن الفقه، فعلم الأصول صار منتجا للأقوال والجدال ولا ينتج فقها ولا فروعا(20)، وهذا أمر قد انتبه له بعض الأصوليين المتقدمين، فألفوا في تخريج الفروع على الأصول تكميلا لهذا النقص الواضح.
رابعا : إنّ العلم هو علم الاجتهاد، لكنه فشل في تكوين العقول المتحررة من التقليد؛ التي تمتلك آلات النظر في الأدلة، فتُرجح في المسائل القديمة وتخرِّج أحكاما للمسائل المستجدّة، فأصبح علم الأصول علما كماليا، ربما يستعمل في ترسيخ فكرة التقليد وغلق باب الاجتهاد وتعطيل الاستدلال(21).
الفرع الثاني : المنحى التجديدي لهذه المبررات
    إنّ المبررات الواقعية والمتفق عليها المذكورة؛ تؤكد أن العيب والنقص ليس في ذات أصول الفقه الإسلامي؛ ولكن في العلم الذي انحرف منهج التأليف فيه .
أولا : فدعوى وجود الدخيل يتضمن الإقرار بوجود الأصيل؛ الذي ينبغي الاقتصار عليه والاكتفاء به ربحا للوقت وتوفيرا للجهد، وشغلا للعقول بما يفيد في تكوينها وتأهليها لرُتب الاجتهاد، لا بما يرهقها ويعطلها وينحرف بمسارها ثم يُجمدها.
ثانيا : وكذلك انتقاد الجدل العقلي العقيم، واقحام قواعد المنطق في المسائل والحدود والاستدلال، فهو نقد لأمور إضافية في العلم وليست أصيلة فيه، وقد غلط غلطا عظيما من اعتقد أصالتها ومن ثَمَّ جعلها مبررا لإلغاء أصول الفقه، وتبديلها بأصول أخرى أكثر تحررا من القيود وأكثر إنتاجا حسب زعمه(22).
ثالثا : وانتقاد العلم بكونه منفصلا عن الفقه وغير منتج في عصرنا؛ مع الاقرار بكونه كان منتجا في عصر سابق؛ يؤكد أنّ التجديد المطلوب يتعلق بالصياغة والمنهج لا بذات الأصول، فالأصول منتجة بدلالة كونها أنتجت في عصر ما وصارت غير منتجة بسبب انفصالها عن الفقه ، وهذا نقد للعلم وليس للأصول.
رابعا : وكذلك إسهام العلم في ترسيخ التقليد بدلا أن يكون دافعا لحركة الاجتهاد، لا يبرر إلغاء الأصول؛ ولكن يبرر إعادة النظر في بعض مسائله، ومعالجة طريقة تدرسيه والتأليف فيه ليس إلا.   
المطلب الخامس :شبهات الرافضين للتجديد في علم أصول الفقه
    يعترض بعض المعاصرين على تجديد العلم فضلا عن غيره، ولهم في ذلك عدَّة حجج نختصرها في الفرعين الآتيين:
الفرع الأول : أن في التجديد إنكارا لجهود الأصوليين المتقدمين
    قيل: إن دعوى التجديد تتضمن إنكارا ضمنيا لجهود العلماء السابقين الكاشفين عن غوامضه والمتفننين في أساليب الكتابة فيه(23).وربما يقول آخرون إنَّ علم الأصول نضج ولم يحترق، نضج بتقرير قواعده وتفريع فروعه، ولم يحترق حيث إنه لم يبلغ النهاية في ذلك، ويردٍّد فريق ثالث:"أنه ما ترك الأول للآخر شيئا". الجواب عن هذا من وجوه:
أولا : أنّ مستند دعاة التجديد في القضايا محل النقاش؛ هو كلام الأصوليين المجددين أنفسهم، ولا يلزم من التجديد والالتزام بالقواعد المنهجية في التأليف أنْ تُنكر جهود المتقدمين، وإلا كان كلُّ واحد من الأئمة المصنفين على وفق طريقة مبتكرة؛ مخالفة لطريقة من تقدمه منكرا هو الآخر لجهود من تقدمه، وهذا الجويني يعطي لنفسه حق انتقاد من تقدمه، ويجوِّز ضمنا لمن بعده أن يتعقبه فيقول:«السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل...وهذا واضح في الحرف والصناعات، فضلا عن العلوم ومسالك الظنون، وهذه الطريقة يقبلها كل منصف وليس فيها تعرض لنقض مرتبة إمام»(24).
ثانيا : إنّ الذي لا يمكن جحوده هو التفوق العلمي للأصوليين المتقدمين، والتسليم بسعة مداركهم التي مكّنتهم من إثراء هذا العلم، ولكن ليس معنى ذلك قصر الإبداع والابتكار عليهم؛ حتى لم يبق لأحد بعدهم شيء يضيفه، ومنع المتأخرين من الانخراط في سلكهم واللحاق بركبهم، ومقولة "ما ترك الأول للآخر" قد قوبلت بالرفض منذ القديم، واعتبرت من أنماط التثبيط لهمم المتأخرين، كما أن شواهد التاريخ تنادي ببطلان هذه المقولة وفسادها(25).
ثالثا: إنّ من ملامح التجديد العلو في الإسناد والرجوع إلى ما كان عليه الأولون، وهذا مما لا يزال العلماء ينصحون به، كالشاطبي الذي نص على ضرورة تحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد لأنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين(26).
الفرع الثاني: فتح الباب للفوضى العلمية
    قيل: إنّ في هذه الدعوة فتحا لباب الفوضى العلمية، فيعسر ضبط اجتهادات الناس، لأنها تضع قوانين الاجتهاد في محل الاتهام، وسيتمكن كل متحلل من أحكام الشريعة أن يزعم التجديد، وأنه لا يعترف بتلك الأصول القديمة المدونة.
    والجواب: أن حركة التجديد إذا بلغت غايتها هي التي ستمكن من ضبط الاجتهاد، لأنّ من غاياتها سدُّ ثغرات هي موجودة ومنها ينفذ هؤلاء المتحللون، وليس من معنى التجديد كما قيل وضع قوانين الاجتهاد في قفص الاتهام، فإنّ الاختلاف في قواعد الاجتهاد قديم، وإنما يقول هذا من لم يتحرر عنده معنى التجديد المشروع المختلِف جذريا عن تجديد رافضي الشريعة الإسلامية، وإن جنس هؤلاء لا يزال موجودا، وليس السكوت عن الأخطاء المنهجية التي طغت على المؤلفات الأصولية، هو الذي سيصرفهم عن أعمالهم وأقوالهم وتشكيكاتهم(27).
المبحث الثاني : محاور التجديد في علم أصول الفقه
     بعد أن بينَّا مفهوم التجديد ومشروعيته، وأردفنا ذلك بتصحيح مساره والرد شبهات من يتوجس منه، ننتقل في هذا المبحث إلى شرح أهم محاور التجديد في علم أصول الفقه، وذلك سواء من ناحية الشكل أو المضمون، وسأحاول إبرازها بشكل موجز أجمع فيه بين التنظير والتطبيق، إمعانا في الإقناع بضرورة التجديد وإفاضة في شرح فحواه.
     المطلب الأول : حذف الدخيل والمسائل الفرضية
     أبرز محاور التّجديد حذف المسائل التي ليست من العلم، والمسائل التي الفرضية التي لا ثمرة لها، وبيانها فيما يأتي.
الفرع الأول : المسائل الفرضية
    فأمّا المسائل الفرضية المقدّرة فلا ثمرة ترجى منها؛ فهي مجرد حشو بلا فائدة، ومنها تلك المتعلقة بالجواز العقلي، كبحثهم في جواز حصول الإجماع عن توفيق بلا دلالة؟ وهل يجوز نسخ الحكم الثابت بالإجماع؟(28)، وهل يجوز أن ينسخ جميع القرآن؟(29).
   ومنها مسألة تخصيص العموم بصورة مجهولة التي عُدَّت من أسباب الإجمال، كما لو قال :" اقتلوا المشركين" ثم قال بعد ذلك:" بعضهم غير مراد لي من لفظي"، وقد علّق عليه عبد الرزاق عفيفي: «هذا مثال فرضي لا يقع مثله في التكليف»(30). ومنها مسألة تعارض الفعلين التي قال عنها المازري إنها لا تُتصوَّر، لأن كل فعل يختص بمحله ويقع في زمنه، والتضاد إنّما يتحقَّق مع تساوي الزمن والمحل(31)، ومسألة النهي عن شيء لا بعينه، ومسألة ارتداد أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من الأعصار(32)، وكالبحث في وجود مرتبة متوسطة بين الصدق والكذب، وهل يدخل جبريل عليه السلام في التكليف(33). وغيرها من المسائل التي هي محض فضول، ويمكن للخيال أن يقدرها، ولا يُمكن نسبتها لعلم من العلوم.
    ونقد إدراج هذه المسائل موجود في ثنايا بعض البحوث، كما نص عليه ابن القيم حين تعرض لحكم دراسة العلم(34).
الفرع الثاني : المسائل الدخيلة
    وأما المسائل الدخيلة التي هي من ضمن علوم أخرى، أو المسائل المستعارة التي لا يبنى عليها فقه، ولا تكون عونا في ذلك كما قال الشاطبي فما أكثرها(35)، وقد وقفت على اعتراف كثير من الأصوليين بأنَّ محل دراستها ليس علم الأصول، فإقحام مسائل الكلام التي لا حاجة إليها اعترف به أبو الحسين البصري والغزالي(36)، وهي لا تحتاج إلى تمثيل، وإقحام المسائل اللغوية التي لا حاجة إليها انتقده الجويني والغزالي قبل الشاطبي(37)، وانتقد ابن السمعاني والغزالي إقحام مسائل فقهية(38)، وانتقد ابن السبكي إقحام المسائل الحديثية(39)، وانتقد الغزالي اقحام مسائل علم الجدل(40)، وانتقد ابن رشد الحفيد إقحام مسائل المنطق، وله في ذلك عبارة رائقة تدل على عمق نظرته المنهجية، حيث قال: « فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإن من رام أن يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلم ولا واحدا منها»(41).  
المطلب الثاني : إضافة مسائل وتوسيع أخرى
     من محاور التجديد المطلوب إلحاق مسائل أصولية، وبحوث كثيرة ذات خطر وأثر عظيم في تحقيق غاية هذا العلم، وتحقيق ما لم يتم تحقيقه؛ ومنها المسائل التي تحتاج إلى تتبع واستقراء للنصوص الشرعية كصوارف الأمر عن الوجوب(42)، ومنها ما هو جدير بالإدراج ونجده عند غير الأصوليين؛ كحجية الحديث الحسن والحديث الضعيف، ومنها ما يحتاج إلى مزيد تفصيل وتأصيل؛ كأسباب الزلل في التأويل الذي ابتدأه الجويني بالمثال ولما يتم، وتطوير بحث التفريق بين الاصطلاح الشرعي والوضعي؛ في ظل إثبات الحقائق الشرعية والعرفية، ومما اقترح في هذا السياق التفصيل في مسألة المذهبية(43).
    وعدَّ بعضهم من صور التجديد في هذا العلم التمحيص والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون(44). ونازع آخرون في عدِّ ذلك من صور التجديد، لأن المرجح لم يأت بشيء جديد، وإنما قد اختار قولا قد سُبق إليه(45)، والصواب أنه ليس كل ترجيح يُعد تجديدا، وإنما التجديد في الترجيح المبني على استقراءات مفيدة للقطع، حيث تصير المسألة الخلافية قطعية، وكذلك التجديد بإقصاء المذاهب المحدثة، والآراء غير المعتبرة من كتب الأصول، والإبقاء على ما فيه خلاف معتبر.
المطلب الثالث : الابتعاد عن العصبية وتحقيق الموضوعية
     من محاور التجديد أيضا تحقيق الحياد في كتب الأصول، والابتعاد عن العصبية التي صيرت من علم الأصول فرعا لا أصلا وتابعا لا متبوعا، فإنّ علم الأصول إذا كان يهدف إلى دعم المذاهب وتقرير التقليد، كما جرت عليه طريقة كثير من الفقهاء، فإنه لن يكون مفيدا لغرضه ولا محققا لهدفه(46)، إذ من الأصوليين من أكثر من إيراد المسائل الفقهية الفرعية وجرَّد قلمه للانتصار لمذهب إمامه، بل قرَّر قواعد الأصول على ضوء ما حكم به إمامه في هذه المسائل، فكأنه يؤلٍّف ليؤهٍّل ويكوٍّن مجتهد المذهب، لا المجتهد المطلق الذي يعتني ببحث القواعد الأصولية على ضوء أصول الشريعة، والاستدلال عليها بالكتاب والسنة دون ميل إلى نصرة مذهب إمام معين(47). وهذه نماذج لغير أصوليي الحنفية نُمثل بها لما ذكرنا:
    النموذج الأول: ابن السمعاني الذي قرر وجوب تقليد الشافعي، وله تعقبات كثيرة على الجويني الذي عُرف بعدم التقيد بالمذهب، منها قوله:"وهذا ترك لمذهب الشافعي رحمه الله، ومساعدة للمخالفين، وليس سبيل من ينتصب للتقدم في مذهبه ويعتقد أنه الفحل المدافع عن حريمه؛ أنه إذا جاء إشكال في المسألة يترك مذهب صاحبه ويوافق الخصوم، بل ينبغي أن يبذل له جهده ويجعل وكده لحل الإشكال، فإن أمكنه ذلك وإلا تركه إلى من يوفقه الله تعالى له ويهديه إليه»(48).
  والنموذح الثاني: أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي، ففي مسألة جواز التعليل بالحكم في إثبات حكم آخر ذكر قولين: الأول جواز ذلك ونسبه للحنابلة، والثاني عدم الجواز ونسبه إلى بعض المتأخرين، وقال عن الأخير: « وهو الصحيح عندي، ولكن ننصر قول أصحابنا»(49).
المطلب الرابع : إبراز الترابط بين الأصول والفقه
     من محاور التجديد الأساسية إعادة الترابط بين علم الأصول وعلم الفقه، وذلك عن طريق الحرص على التمثيل للقواعد الأصولية بالأمثلة الواقعة في النصوص الشرعية(50)، وكذلك باعتماد التفريع الفقهي على القواعد الأصولية الخلافية، بجلب فروع فقهية من كتب الخلاف المؤلفة على المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها، ولعل هذا المحور من الأمور التي يوافق عليها حتى بعض من يعارض دعوى التجديد بمعناها الإيجابي، إذ وجدنا في كلام بعضهم استثناء : العمل على إخراج مسائل العلم وبحوثه ومضموناته بأسلوب آخر يمتاز بمزيد من الوضوح والتفصيل، ويعزز بمزيد من الأمثلة الفقهية التي توضح العلاقة السارية بين القواعد الأصولية وثمراتها الفقهية(51).
    ومن المعاصرين من يدعو إلى تعديد التفريعات التي تتخرج على القواعد الأصولية، وإلى انتقاء أمثلة جديدة من الحوادث المستجدة في حياتنا المعاصرة، وذلك لإضفاء نوع من الحيوية في هذا العلم، ولبيان خلود هذه الشريعة وديمومتها، وكذلك لإشعار الدراسين بأهمية هذا العلم وجدواه فضلا عن تدريبهم على توظيفه في المسائل الفقهية(52)، وذلك من غلو في الإيراد ولا خروج إلى مناقشة المسائل الفرعية كما لوحظ على الحنفية، وهذه الطريقة المتوسطة هي التي سار عليه الإمام الشافعي واضع العلم(53) وكثير من المتقدمين كابن حزم وابن السمعاني والجصاص ومن المتأخرين ابن القيم في أعلام الموقعين والزركشي في البحر المحيط.
     وفي هذا المعنى يقول عبد الرزاق عفيفي:« ولو سلك المؤلفون في الأصول بعد الشافعي طريقته في الأمرين تقعيدا واستدلالا وتطبيقا وإيضاحا بكثرة الأمثلة ، وتركوا الخيال وكثرة الجدال والفروض واطرحوا العصبية في النقاش والحجاج، ولم يزيدوا إلا ما تقتضي طبيعة النماء في العلوم إضافته من مسائل وتفاصيل لما أصل في الأبواب، وإلا ما تدعو إليه الحاجة من التطبيق والتمثيل من واقع الحياة للإيضاح -كما فعل ابن حزم-لسهل هذا العلم على طالبيه ولانتهى بمن اشتغل به إلى صفوف المجتهدين من قريب»(54).
    وقد عدَّ بعض المعاصرين من محاور التجديد دراسة قواعد أصولية لم تدرس بطريقة شاملة تبرز خصائصها وأهميتها، وآثارها في الفقه ومسائل الخلاف(55)، وهذا المنحى متعلق باتجاه جديد من اتجاهات الدراسات الأصولية وهو تخريج الفروع على الأصول ، وأغلب الدراسات الأصولية الجامعية اتخذت هذا الطابع ؛ وفي اعتقادي أن الدراسات التي لم تصبغ بهذه الصبغة فهي غير مجدية.  
المطلب الخامس : تجديد المنهج في عرض المسائل الأصولية
    ومن محاور التجديد إعادة النظر في طريقة عرض مسائل العلم ابتداء من اللغة والأسلوب، وحسن التبويب والترتيب، حتى يسهل فهمه ويبعد عن التعقيد والغموض، الذي طبع أكثر الكتب الأصولية المتأخرة؛ وخاصة المختصرات الملغزة وحواشيها، فلا بد من تأليف كتب مختصرة للمبتدئين واضحة لا تحتاج إلى شرح لغتها، وأخرى متوسطة ومبسوطة يستغنى عن اختصارها، تُكتب بأسلوب منهجي موافق لروح العصر وميول أهله ويتلاءم مع قدرات الطلاب على اختلاف مستوياتهم(56).
    ومما يلتحق بتجديد طريقة العرض الالتزام بما تقتضيه المنهجية العلمية السليمة في وضع الحدود والتعاريف وحكاية المذاهب وذكر الأدلة ومناقشتها. والاعتناء بذكر أدلة القواعد الأصولية من الآيات القرآنية، وما ثبت من الأحاديث النبوية والآثار السلفية، وما صح من الأدلة العقلية والشواهد اللغوية(57). وشرح هذه القضايا وتفاصيلها وضوابطها؛ قد حاولت الإلمام به في أطروحة الدكتوراه الموسومة بمنهجية البحث في علم أصول الفقه.
المطلب السادس: الرجوع بالعلم إلى ما كان عليه في عهد الأئمة
     من محاور التجديد الأساسية: محاولة الرجوع بهذا العلم إلى ما كان عليه السلف وخاصة الأئمة المجتهدين، وذلك عن طريق اعتماد آثار الصحابة وإجماع السلف في أدلة الأصول، وتقديمها على أدلة المعقول، وكذلك عن طريق الاعتناء بنقل آراء الأئمة المجتهدين لمعرفتها وعدم الخروج عنها، وتقديم اختيارات أتباعهم على غيرهم من المتكلمين.
    ومن فوائد الالتزام بطرائق الفقهاء المتقدمين ابتداء من عصر الأئمة وسلفهم من الصحابة والتابعين، وأتباهم الأولين: تقليل الخلاف في المسائل الأصولية وإقصاء الكثير من الأقاويل الشاذة والمحدثة، وكشف إبهام بعض الأدلة المجملة، أو تقييد مطلقاتها، أو تخصيص عموماتها، أو دفع وهم التعارض بينها، والدعوة إلى الالتزام بآراء المتقدمين سبق إليه مجددوا العصور السابقة كابن تيمية، الذي جعل معرفة أقوالهم أفضل من معرفة أقوال المتأخرين في جميع علوم الدين(58)، وكذا الشاطبي الذي قال: « يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل»(59).
    وهذا الأمر يكاد يكون مُغيَّبا في طريقة المتكلمين الذين غلو في الاستقلالية عن مذاهب الأئمة في ميدان علم أصول الفقه، وصاروا لا ينظرون أصلا في آراء الفقهاء، أو ينظرون إليها نظرة دونية باعتبار قصورهم في علم الكلام وعدم إلمامهم بمسائله، ولا أظهر دليلا على ما أقوله من إهمال ذكر آراء الأئمة الأربعة وأتباعهم في أكثر كتب المتأخرين، وسننقل هنا نصوصا لعلها تكون صادمة للبعض، لكنها كاشفة لحقيقة موقف المتكلمين من الفقهاء، فهذا الباقلاني مؤسس طريقة المتكلمين الأشعرية؛ إذا قال أصحابنا وشيوخنا وأهل الحق والتحقيق فإنما يقصد المتكلمين لا الفقهاء(60)، وقد صدرت منه عبارات استعلاء فيها غض من الإمام الشافعي مؤسس هذا العلم فكيف بغيره، ومن ذلك عندما تطرق إلى مسألة تصويب المجتهدين؛ مذهب الشافعي في المسألة معروف ومنصوص في الرسالة(61)، ومع ذلك نسب إليه ضده وقال: «لولا أن مذهبه هذا وإلا ما عددته من الأصولية»(62)، وتكرر منه ذلك في مسألة تخصيص العلة(63)، وكذا الجويني فإن موقفه أشد تطرُّفا، وقد اختار في مسألة في نسخ القرآن بالسنة خلاف قول الشافعي والسلف وقال:« والذي اختاره المتكلمون وهو الحق المبين: أن نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع»، وقال في رد مذهب الشافعي في المسألة الأخرى وهي منع نسخ السنة بالقرآن:«..فإنّ منْعه كان منكرا من القول، وإن جوّزه وزعم أن الرسول يسن عند نزوله سنة بخلاف السنة الأولى، فيقع نسخ السنة بالسنة، فهذا من الهزء واللعب والتلاعب بالحقائق»(64). وهذا الموصوف بهذه الصفات هو رأي الشافعي البين الواضح في الرسالة(65)، ولا تسل عن موقفه من الأئمة الآخرين والمتأخرين من فقهاء الشافعية وغيرهم، وقد صدرت منه رحمه الله وعفا عنا وعنه عبارات غير لائقة في حقهم فقال: «وأما أبو حنيفة فما كان من المجتهدين أصلا، لأنه لم يعرف العربية»(66)، وما أكثر عباراته التي يلغي فيها الفقهاء إلغاء؛ بما فيهم كبار علماء الشافعية كالصيرفي شارح الرسالة، بل هو لا يستثني إلا من درس علم الكلام كأبي الطيب الطبري وهذا نصه: « وذكر القاضي أبو الطيب الطبري أن هذا المسلك من أعلى المسالك المظنونة وكاد يدَّعي إفضاءه إلى القطع، وإنما سميت هذا الشيخ لغشيانه مجلس القاضي مدة واعتلاقه أطرافا من كلامه، ومن عداه حثالة وغثاء»(67).
    ولذلك تجد المتكلمين يحكون الإجماع في مسائل خلاف الفقهاء فيها مشهور، وإنما يعنون بالإجماع إجماع المتكلمين، وأضرب مثالا واحدا في مسألة عملية مهمة جدا؛ وهي تقليد الميت من العلماء، حيث قال فيها الغزالي: «وقد قال الفقهاء يقلده وإن مات لأن مذهبه لم يرتفع بموته وأجمع علماء الأصول على أنه لا يفعل ذلك»(68). ولا أدري كيف تم هذا الإجماع والأمة لا تزال تقلد الأئمة الأربعة بعد موتهم وهي مجمعة إجماعا عمليا على إباحة تقليد الصحابة ومن بعدهم، ولذلك قال الصنعاني ترجمة المسألة:« واعلم أنه اختلف في جواز تقليد الميت فقيل يحرم وادعي عليه الإجماع، وقيل يجوز وادعي عليه الإجماع أيضا»(69).
   وفي مما يندرج في هذا المضمار ضرورة نفض الغبار عن مدرسة الفقهاء المتقدمين من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، التي تحمل كثيرا من السمات المنهجية المفيدة في التجديد، وهي مخالفة لطريقة المتكلمين وأولى منها؛ إلا في قضية التعصب والتقليد، فهذه المسألة الحق فيها وقف بين غلو بعض الفقهاء وجفاء أكثر المتكلمين والعلم عند الله تعالى.

الخاتمة
     إنّ تجديد الدين بمعنى إحياء ما اندرس منه وبعثه، وتخليصه من البدع والمحدثات الملصقة به والاجتهاد في تنزيله على واقع الحياة ومستجداتها، أمر مشروع بل واجب من أعظم الواجبات وهو من مهام ورثة الأنبياء، وقد دل على وجوبه ووقوعه أحاديث نبوية صريحة كقوله صلى الله عليه وسلم :"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل سنة من يجدد لها أمر دينها"، وهذا التجديد من مقتضيات حفظ الدين الذي وعد به رب العالمين، ومن سبل بيان شموله وصلاحيته للأزمنة والأمكنة، وعلم أصول الفقه من جملة العلوم الإسلامية التي ينبغي تجديدها بالمعاني الثلاثة المذكورة إحياء له وإثراء، وتخليصا له مما ليس منه مما أعاق إثماره، وربطا له بالفقه وسائر العلوم الإسلامية، وهذا التجديد كما هو موضح إنما يمس شكله ومناهج دراسته وإخلاءه مما ليس منه، وبحث سبل تفعيله وليس بمعنى تبديل الأصول التي هي مصادر الشريعة الإسلامية، أو استبدال آليات الفهم وقواعده، وعندما نظرنا في مبررات التجديد المشتركة والمتفق عليها وجدناها تخدم التجديد الشرعي لا الحداثي، ثم إنه بسبب وجود دعوات الحداثيين وجد طرف يرفض التجديد بالمعنيين، ويزعم أن تشريعه يفتح الباب للدخلاء المنحلين، وقد بيّنا أن ذلك غير لازم بل بقاء العلم معطلا هو الذي يفتح باب النقد للإسلام، كما أنّ الرافضين أيضا زعموا أن في التجديد إهدارا لجهود المتقدمين وإنكارا لفضلهم؛ وليس ذلك بلازم بل هو استمرارٌ لحركية التأليف وفق المناهج المناسبة لكل عصر، فكما خالف بعضهم بعضا في مناهج التأليف، وانتقد بعضهم بعضا في المسائل عبر الزمن ولم يعتبر ذلك إهدارا ولا إنكارا ، بل صنيعهم يشرع لمن جاء بعدهم أن يفعل نحو ذلك، ثم إن قواعد التجديد مستلهمة أكثرها من نصوصهم المصحِّحة والناقدة، وقد تم استقراء ما تيسر منها في هذا البحث، وهي في مجملها تصبُّ في ستِّ محاور أساسية يكمِّل بعضها بعضا، ومنخرطة كلها في معنى تجديد الدين المطلوب ولا محذور فيها، وهي: أولا : حذف الدخيل وإرجاعه وإرجائه إلى علومه الأصيلة، وكذا حذف المسائل الفرضية التي لا طائل من ورائها، ثانيا: إضافة مسائل مهمة حقها أن تدرس في أصول الفقه وتوسيع أخرى بالتفصيل والتأصيل الناتج عن الاستقراء، ثالثا : الابتعاد عن التعصب المذهبي وتحقيق الحياد قدر الجهد في علم نقصد به وضع معايير الآراء الصائبة في الشريعة الإسلامية، وليس الانتصار لمذهب معين دون غيره، رابعا : إبراز الترابط بين علم الأصول وعلم الفقه الذي هو ميدانه ومكان إنتاجه وإثماره، خامسا : تجديد المنهج في عرض المسائل الأصولية؛ تعاريفا وتقسيما وحكايةً للمذاهب وأدلة ومناقشة، سادسا: الرجوع بالعلم إلى ما كان عليه في عهد الأئمة المجتهدين، وقد علّلنا كل منحى من هذه المناحي، وذكرنا من أشار إليه من أعلام المتقدمين والمتأخرين ،كما أنّنا دعمنا الدعوى أحيانا بشواهد تقطع الشك باليقين في وجود الخلل والحاجة إلى التصحيح، وهذه المحاور وجد من اعتنى ببعضها، ولكن التجديد المجدى والمؤتي ثماره إن شاء الله تعالى يكون باتخاذها غايات وأهداف في الدراسات الجامعية الأكاديمية، وبإعمالها مجتمعة غير متفرقة فيما يُؤلف من مؤلفات تعليمية في علم أصول الفقه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
1/ انظر المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي(1/ 92).
2/ انظر لسان العرب لابن منظور (2/50) مختار الصحاح للرازي (57) التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان محمد أمامة (16).
3/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (18/297) فيض القدير للمناوي (2/365) التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان أمامة (17).
4/ فيض القدير للمناوي (2/365) عون المعبود للعظيم آبادي (11/386-391).
5/ الاجتهاد للتجديد سبيل الوراثة الحضارية لعمر عبيد حسنة (20) نقلا عن التجديد في الفكر الإسلامي (18).
6/ مجلة المنار لمحمد رشيد رضا (30/115) ونقله في التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان أمامة (17) عن السيوطي خطأ .
7/ التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان محمد أمامة (19).
8/ رواه أبو داود في السنن (رقم:4291) والحاكم في المستدرك (4/522) وصححه البيهقي والعراقي وابن حجر والسخاوي في المقاصد الحسنة (ص:121) والمناوي في فيض القدير (2/365-366) والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم:599).
9/ رواه ابن ماجة (رقم:8) وصححه ابن حبان (رقم:326) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم:2442).
10/ انظر : مدارج السالكين لابن القيم (3/79) الصواعق المرسلة لابن القيم (2/400).
11/ رواه مسلم (رقم:232) عن أبي هريرة ، ورواه الترمذي (رقم:2360) بسند آخر بلفظ :" إن الدين بدأ غريبا، ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي، من سنتي" وقال الألباني : ضعيف جدا.
12/ انظر : أعلام الموقعين لابن القيم (2/231).
13/ انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 435) التجديد والمجددون لعبد السلام بن محمد بن عبد الكريم (69).
14/ الرسالة للشافعي (20).
15/ التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان محمد أمامة (24-25).
16/ التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان محمد أمامة (66).
17/ انظر تجديد أصول الفقه الإسلامي للترابي (73).
18/ أليس الصبح بقريب للطاهر بن عاشور(181).
19/ تجديد أصول الفقه الإسلامي للترابي (68).
20/ منهجية الإمام الشافعي في الفقه وأصوله لعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان (122) وتجديد أصول الفقه الإسلامي للترابي (68).
21/ أصول الفقه لمحمد أبو زهرة (18) التجديد والمجددون في أصول الفقه لعبد السلام بن محمد بن عبد الكريم (40-41).
22/ انظر: منهجية البحث في علم أصول الفقه لمحمد حاج عيسى (135-136).
23/ حول تجديد أصول الفقه للبوطي (157).
24/ البرهان للجويني (2/744) ونحوه في الواضح لابن عقيل (5/425).
25/ انظر منهج البحث في الفقه الإسلامي لعبد الوهاب أبو سليمان (79-80).
26/ الموافقات للشاطبي (1/97) وانظر منهج البحث في الفقه الإسلامي لعبد الوهاب أبو سليمان (88).
27/ انظر: منهجية البحث في علم أصول الفقه لمحمد حاج عيسى (127).
28/ انظر الإحكام للآمدي (1/261-263) (1/264-267) (3/160) .
29/ الإبهاج لابن السبكي (5/1648).
30/ الإحكام للآمدي (3/11).
31/ المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي شامة (191-192) .
32/ الإحكام للآمدي (1/280).
33/ البحر المحيط للزركشي (3/193) التحبير للمرداوي (1/255-168).
34/ مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/486) وانظر الإحكام للآمدي –مقدمة عفيفي-(ص :د).
35/ الموافقات للشاطبي (1/42).
36/ المعتمد لأبي الحسين البصري (1/3) المستصفى للغزالي (1/43).
37/ البرهان للجويني (1/136 و146) المستصفى للغزالي (1/43) الموافقات للشاطبي (1/42).
38/ القواطع لابن السمعاني (1/414) المستصفى للغزالي (1/304) و(2/456).
39/ تشنيف المسامع للزركشي (2/1073).
40/ المستصفى للغزالي (2/377-378).
41/ الضروري لابن رشد (37-38).
42/ انظر شرح الأصول من علم الأصول للعثيمين (163).
43/ التجديد والمجددون في أصول الفقه لعبد السلام بن محمد بن عبد الكريم (434).
44/ أصول الفقه نشأته تطوره ومدارسه والدعوة إلى تجديده لشعبان محمد إسماعيل (97).
45/ حول تجديد أصول الفقه للبوطي (163-164).
46/ انظر أصول الفقه لمحمد أبو زهرة (22).
47/ الإحكام للآمدي -مقدمة عبد الرزاق عفيفي -(د).
48/ القواطع لابن السمعاني (1/86).
49/ التمهيد لأبي الخطاب (4/44).
50/ أصول الفقه لمحمد أبو زهرة (14) وانظر التجديد والمجددون لعبد السلام بن محمد بن عبد الكريم (538).
51/ حول تجديد أصول الفقه للبوطي (183).
52/ أصول الفقه نشأته تطوره ومدارسه لشعبان إسماعيل (105) منهج البحث في أصول الفقه لعبد الوهاب أبو سليمان (213).
53/ الفكر الأصولي لعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان (85و78).
54/ الإحكام للآمدي –مقدمة عبد الرزاق عفيفي-(ج).
55/ تجديد علم أصول الفقه لأبي الطيب مولود السريري (123).
56/ التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان أمامة (150) أصول الفقه نشأته تطوره ومدارسه والدعوة إلى تجديده لشعبان إسماعيل (105).
57/ معالم أصول الفقه للجيزاني (533).
58/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/24).
59/ الموافقات للشاطبي (3/72).
60/ مدرسة المتكلمين لمسعود فلوسي (233).
61/ الرسالة للشافعي (479، 503-505).
62/ البرهان للجويني (2/861).
63/ البحر المحيط للزركشي (5/139).
64/ البرهان للجويني (2/851-852).
65/ الرسالة للشافعي (108-112).
66/ البرهان للجويني (2/873).
67/ المرجع السابق (2/547).
68/ المنخول للغزالي (591).
69/ إجابة السائل للصنعاني (410).


فهرس المراجع
1-الإبهاج في شرح المنهاج لابن السبكي، ت أحمد الزمزمي ونور الدين صغيري دار البحوث والدراسات الإسلامية وإحياء التراث دبي ط1-1424
2-إجابة السائل شرح بغية الآمل للصنعاني ت السياغي والأهدل، مؤسسة الرسالة ط1-1420
3-الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ، ت عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، ط2-1402
4-أصول الفقه لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي القاهرة، بدون
5-أصول الفقه نشأته وتطوره ومدارسه والدعوة إلى تجديده لشعبان محمد إسماعيل، المكتبة المكية ط1-1423.
6-أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، ت طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل بيروت 1973م
7-أليس الصبح بقريب للطاهر بن عاشور، دار ابن سحنون تونس ودار السلام مصر ط2-1428
8-البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، دار الصفوة الكويت ط1-1401
9-البرهان للجويني، ت عبد العظيم ديب ، مطابع الوفاء المنصورة 1991م
10-تجديد أصول الفقه الإسلامي للترابي دار البعث قسنطينة  بدون
11-تجديد علم أصول الفقه لأبي الطيب مولود السريري دار الكتب العلمية ط1-2005.
12-التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان محمد أمامة
13-التجديد والمجددون في أصول الفقه لعبد السلام بن محمد بن عبد الكريم المكتبة الإسلامية القاهرة ط2-1425
14-التحبير شرح التحرير للمرداوي، ت عبد الرحمن الجبرين وعوض القرني وأحمد السراح مكتبة الرشد ط1-1421
15-تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع للزركشي، ت عبد الله ربيع وسيد عبد العزيز، مكتبة قرطبة القاهرة ط2-1419
16-التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب الحنبلي، ت محمد بن إبراهيم، دار المدني جدة ط1-1406
17-حول تجديد أصول الفقه للبوطي دار الفكر ط1-1426
18-الرسالة للشافعي، ت أحمد محمد شاكر، دار الفكر، بدون
19-سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، مكتبة المعارف ط-1415
20-السنن لابن ماجة، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر بيروت
21-السنن لأبي داود، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بدون
22-السنن للترمذي، ت أحمد شاكر وفؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بدون
23-شرح الأصول من علم الأصول للعثيمين، دار البصيرة بدون.
24-صحيح ابن حبان (الإحسان لابن بلبان) ت شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة ط1-1408
25-صحيح مسلم ، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر بيروت 1403
26-الصواعق المرسلة لابن القيم ، ت علي بن محمد الدخيل، دار العاصمة الرياض ط3-1418
27-الضروري في أصول الفقه لابن رشد ت جمال الدين علوي دار الغرب الإسلامي ط1-1414
28-عون المعبود لعبد الحق العظيم آبادي ، دار الكتب العلمية بدون
29-الفكر الأصولي لعبد الوهاب أبو سليمان ، دار الشروق جدة ط2-1404
30-فيض القدير للمناوي ، ت أحمد عبد السلام دار الكتب العلمية ط1-1415
31-قواطع الأدلة لابن السمعاني، ت محمد حسن الشافعي، دار الكتب العلمية ط1-1418
32-لسان العرب لابن منظور، دار صادر بيروت 1412
33-مجموع الفتاوى لابن تيمية ، جمع عبد الرحمن بن قاسم، المكتب التعليمي السعودي بالمغرب
34-المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول  لأبي شامة، ت أحمد الكويتي، دار الكتب الأثرية ، ط1-1409
35-مجلة المنار لمحمد رشيد رضا، عن المكتبة الشاملة .
36-مختار الصحاح للرازي ، ت أحمد إبراهيم زهوة ، دار الكتاب العربي بيروت ، ط1-1423
37-مدارج السالكين لابن القيم، ت محمد المعتصم بالله، دار الكتاب العربي ط1-1410
38-مدرسة المتكلمين ومنهجها في دراسة الأصول لمسعود فلوسي، مكتبة الرشد ط1-1425
39-المستدرك للحاكم دار المعرفة بيروت لبنان مع فهرس المرعشلي .
40-المستصفى في علم الأصول للغزالي، ت محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة ط1-1417
41-المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي، المكتبة العلمية بيروت بدون.
42-معالم أصول الفقه عند أهل السنة للجيزاني، دار ابن الجوزي ط1-1416
43-المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري، ت خليل الميس، دار الكتب العلمية ط1-1403
44-مفتاح دار السعادة لابن القيم، ت علي حسن عبد الحميد، دار ابن عفان ط1-1416
45-المقاصد الحسنة للسخاوي، ت عبد الله محمد الصديق، دار الباز ط1-1407
46-المنخول من تعليقات الأصول للغزالي، ت محمد حسن هيتو، دار الفكر دمشق ط2-1400
47-منهج البحث في أصول الفقه لعبد الوهاب أبو سليمان، دار ابن حزم 1420
48-منهج البحث في الفقه الإسلامي لعبد الوهاب أبو سليمان، دار ابن حزم ط1-1416
49-منهجية الإمام الشافعي في الفقه وأصوله  لعبد الوهاب أبو سليمان، دار ابن حزم 1420
50-منهجية البحث في علم أصول الفقه لمحمد حاج عيسى، أطروحة دكتوراه جامعة الجزائر ، 2010-2011
51-الموافقات للشاطبي ، ت عبد الله دراز دار المعرفة بيروت بدون
52-الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الحنبلي، ت التركي مؤسسة الرسالة ط1-1420



الأربعاء, 15 أيلول/سبتمبر 2021 17:41

المبحث السادس : التربية التاريخية للأطفال
   
     يعتبر التاريخ مرآة الأمم يعكس ماضيها ويترجم حاضرها، ومن خلاله تستلهم مستقبلها، وإنه من الأهمية بمكان العناية به، تدوينا ونقلا إلى الأجيال، حتى يكون لها نبراساً هادياً في حاضرها ومستقبلها، والأمم التي تعيش بدون تاريخ أمم لا ذاكرة لها، وهي معرضة لإعادة إنتاجه مرة أخرى من غير استفادة منه وذلك في غير صالحها.
     وللتاريخ أثر عظيم في التربية الفكرية للأجيال وفي تكوين شخصية الأفراد، وإننا بتعليم تاريخنا للناشئة نرسخ فيهم البعد الإسلامي والعربي لثقافتنا وحضارتنا، ونكوّن لديهم معاني الوطنية الصحيحة، وهذا أمر بين لا ينكره إلا جاهل أو متآمر.
   مما ينبغي أن يعلمه المربي أن معرفة التاريخ الإجمالي لأمتنا وليس تفاصيله؛ من العلوم العامة التي يحتاجها كل فرد من أفراد الأمة؛ فهو كتعلم القراءة والكتابة والحساب، لأن فائدته تتعلّق بتكوين شخصية المرء وبناء فكره.
   إنه لأهمية التاريخ في الحفاظ على الهوية وصناعة الشخصية الإسلامية حرمت فرنسا على آبائنا يوم كانت جاثمة على أرضنا أن يدرسوا تاريخ أمتنا، وفرضت على من تعلم منهم في مدارسها أن يدرس تاريخ فرنسا ليصير فرنسي الشعور والتفكير، وانتدبت من جهة أخرى من يكتب تاريخا مغلوطا لبلدنا، لتقطعه عن حضارته العربية الإسلامية وتربطه بتاريخ أوروبا الرومية والنصرانية، ولكن الله تعالى سلم ولم يمكنهم من بغيتهم، وأصبح صنيعهم هذا جزءا من التاريخ الذي يعتبر به المعتبرون.
علاقة التاريخ بالشخصية الإسلامية
أولا : علاقة التاريخ بالعقيدة الإسلامية
    مما تجدر الإشارة إليه أن تاريخ أمتنا الإسلامية يعتبر علما شرعيا من جهة ثمرته ومن جهة كثير من مضامينه، لأن قسما كبيرا منه مرتبط بعقيدتنا، متعلق ببدء الخلق وتاريخ الأنبياء والمرسلين وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجزء عظيم منه جاء موضحا في القرآن الكريم من خلال القصص الذي تضمن أخبار الأمم الماضية، وقد امتن ربنا عز وجل على نبيه الكريم بهذا القصص وجعله من جملة ما أسداه إليه من النعم، فقال جل وعلا: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا) (طه:99). وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه بأخبار الأمم الذين قبلهم، ما يشرح به صدورهم ويقوي إيماناهم ويشد عزائمهم ويثبتهم.
ثانيا : تميز الأمة الإسلامية بتأريخها الخاص بها
   كما تتميز الأمم بلغتها وحضارتها التي تتمسك بها وتعتز بها، وتربي عليها أبناءها، فكذلك تتميز بتأريخها الذي تربط به أهم محطاتها وتجاربها في الحياة، وتضبط به أعيادها ومختلف المواسم والمناسبات الخاصة بها.
   والأمة الإسلامية قد تميزت بالتاريخ الهجري المرتبط بالهلال، وهو التاريخ الذي تعلم به مواسم العبادات من صيام وحج وحول الزكاة وغيرها، قال القرطبي :"الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط"، ودليل ذلك قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)  (التوبة:36) كما يدل عليه قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة:189) فجعل المواقيت متعلقة بالشهور القمرية وخص الحج بالذكر لكونه علما على نهاية الحول، ولا مانع من اعتماد التقويم الشمسي في الشؤون الفلاحية؛ لارتباطها بالفصول الأربعة الناتجة عن موقع الشمس من الأرض، والذين تعيشه الأمة الإسلامية في البلاد التي عرفت الغزو الصليبي هو تغييب التاريخ الهجري عن حياة الناس كما غيبت الشريعة الإسلامية ولا يزال الأمر كذلك إلى يومنا.
ثالثا : ارتباط التاريخ بالقيم والأخلاق
   إن التاريخ كما سبق مرآة للشعوب ترى فيها ماضيها وأمجادها ومآثرها وأخلاق أسلافها، وإن مما نجده في تاريخ أمتنا من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مواقف وخصال نفخر بها وتجعلنا نعتز بالانتماء لهذه الأمة، وإذا تحدثنا عن التاريخ فلا نحصر عقولنا في تلك الدائرة الضيقة للتاريخ السياسي التي لها إيجابياتها وسلبياتها، لأن صناع التاريخ الإسلامي فيهم رجال السياسة وفيهم رجال العلم والثقافة، والمواقف التي سجلها التاريخ في تراجمهم تعتبر مرآة تعكس لنا صورة واقعهم، وكيف كان تعاملهم وعيشهم، وتعبر عن القيم التي كانت سائدة وحاكمة في عصرهم.
رابعا : ارتباط التاريخ بالانتماء للأمة وللأوطان الحديثة
    لا شك أن دراسة المسلم لتاريخ الإسلام يعمق من شعوره بالانتماء إلى هذا الدين؛ وكذلك دراسة تاريخ الوطن الذي ينتسب إليه الإنسان يُنَمّي تلك المحبة الطبعية له، ويزيد من غيرته عليه وعلى حضارته ومكتسباته؛ التي يعلم أنها لم تصل إليه إلا بجهود وتضحيات متواصلة عبر الأجيال، فيسعى جاهدا للحفاظ عليها، ويغيظه أن يرى من بني جلدته من ينخلع عن تلك المكتسبات ويستبدلها بغيرها.
    وإذا كان مفهوم الوطنية واقعا مناص منه؛ فإن مما نؤكد عليه أن الوطنية الحقة التي يقبلها شرعنا لابد أن ترتبط بتاريخ الأمة وما يحمله من تراث ذي بعد إسلامي وعربي، وأعنى بالتاريخ التاريخ القريب منه الذي تكوّن فيه الوطن، وإذا أخليت الوطنية من معاني الدين واللغة والتاريخ أصبحت كلمة دعائية لا قيمة لها، أو ورقة إدارية لا صلة لها بكيان الإنسان تنال بمكان الميلاد أو بالنسبة لأحد الأبوين كما هو الحال في زماننا هذا وبلدنا هذا.
محاور التاريخ المطلوب وآثاره التربوية
    لن نرتب هذا المبحث حسب طرق تعليم التاريخ؛ ولكن حسب المحاور التي يطلب منا بناء شخصية الطفل عليها مع بيان أثرها، لأن المطلوب من التاريخ في التربية ليس جميعه وليس ذاته؛ ولكن النظر والاعتبار منه كما قال تعالى:  (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام:11)، وأما الطرق فربما يكفي أن نذكر أن تنحصر في جانب القراءة للقصة التاريخية، وجانب المشاهدة والسماع لها في الوسائل السمعية البصرية الحديثة.
المحور الأول : قصص الأنبياء عليهم السلام
   مما ينبغي أن يروى للأطفال قصص الأنبياء الكرام، الذي يتعلمون من خلاله بداية قصة الإنسان في الأرض وغاية وجوده فيها، وتاريخ الصراع بين الحق والباطل والفضيلة والرذيلة، ولابد من التنبه هنا على الاقتصار على ما ورد في القرآن والسنة الصحيحة؛ وما كان قريبا لا يعارضهما حتى لا ندخل في الأساطير والخرافات الإسرائيلية التي لا تسمن ولا تغنى من جوع، وقد يكون فيها ما هو مضاد للعقيدة الإسلامية والتربية التي ننشدها، وإن التعرف على الأنبياء والمرسلين ومعرفة أخبارهم وأحوالهم مع أقوامهم، يدخل في معنى الإيمان، وفيه من العبر الأخلاقية والفكرية ما لا يمكن وصفه وحدّه، ويكفي أن يقال إن الأنبياء الذي أُمِر نبينا أن يقتدي بهم هم قدوات لنا أيضا.
المحور الثاني : سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
   ومما ينبغي أن يروى لأطفالنا أيضا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعد من أوجب الواجبات، وإن من ضروريات الدين أن يتعرف النشء منذ نعومة أظفاره على خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي يشهد له بالرسالة يذكره كل يوم، وإنّ مما يؤسف له أنْ نجد في جيل اليوم من يجهل حتى الخطوط العريضة للسيرة النبوية التي تحدد الشخصية التي ينبغي أن يؤمن بها. ومن الآثار التربوية لمعرفة هذا الجانب من التاريخ غرس محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في القلوب وتعظيمه وتعظيمهم، وتوجيه الأولاد نحو القدوة الصالحة التي أمرنا بالاقتداء بها صراحة، كما أن لكل حادثة وموقف آثاره المتعلقة به، ولعل متابعة أحداث السيرة إلى نهايتها تجعل الطفل يتطلع بنفسه لمتابعة تسلسل الأحداث إذا ما عقل؛ فيقرأ ينفسه تاريخ الخلفاء وتاريخ دول الإسلام بعدهم.
المحور الثالث : الأبطال من صانعي تاريخنا السياسي
   لما كنا بصدد الحديث عن التاريخ الذي يوضع بين يدي أطفالنا حتى يسهم في بناء شخصيتهم ويعرفهم على الجوانب المشرقة من تاريخنا، فإن مما نرشد إليه لإفادته ذلك إفادة مباشرة تعريفهم بأبطال الأمة من الخلفاء والقضاة والسلاطين والقادة الفاتحين، ولا شك أنه قد أنتجت قصص مكتوبة وأفلام كثيرة في هذا المضمار –كما أنتج في قصص الأنبياء والسيرة النبوية ما يناسب سن الطفولة – وقصص الأبصال يعرفنا بنشأة دول الإسلام، والوقائع التاريخية الكبرى التي نفخر بها، كما يصور لنا جوانب من الواقع الذي كانت تحكمه شريعة الإسلام، وأقيمت فيه العدالة الإسلامية، مما يجعل أولادنا يعتزون بدينهم وبأمجاد أسلافهم.
المحور الرابع : الأبطال من صانعي تاريخنا العلمي والثقافي
     ومن الأبطال أيضا العلماء سواء علماء الشريعة أو علماء مختلف الفنون الكونية، الذي يستفيد الطفل من قراءة سيرهم محبتهم ومحبة العلوم التي نبغوا فيها، كما أنه يطلع على تضحياتهم في سبيل تحصيل العلم ولا سيما علماء الحديث الذين كان يمضون السنوات الطوال في السفر والترحال؛ في سبيل جمع السنة النبوية من مصادرها، وكان الواحد منهم يمضى من عشرة أعوام إلى عشرين عاما في تأليف كتاب واحد، كما يجد في أخبارهم مواقف بطولية وأخلاقا عالية، وينطبع مع كل ذلك في وعيه نمط عيشهم في ظل حضارة الإسلام، ولعل مما يجده الطفل في هذا قصص الأبطال مواعظ حيّة، يرى فيها سنن الله الكونية وعدالته وإنصافه للصادقين وانتصافه من الظالمين، وأنعم بها من فائدة.
المحور الخامس : التاريخ القريب للقطر الجزائري
   من المحاور المهمة التي ينبغي تقديمها للناشئة التاريخ القريب للقطر الجزائري من سقوط آخر دوله –الولاية العثمانية- في يد الاحتلال الفرنسي إلى الحرب التحريرية والاستقلال، فيعلم أن أمتنا عاشت عقودا مستضعفة مقهورة، تحت ظل غزو وحشي همجي حاول بشتى الطرق محو دينها ولغتها وجميع قيمها، ولكن الأمة بفضل إيمانها بالله تعالى وتمسكها بكتاب ربها وتضحية رجالها؛ عرفت كيف تقلب موازين القوى، وكيف تسلك الطريق الصحيح إلى الاستقلال، وهذا الجزء من التاريخ مهم لناشئتنا فهو يشحذ هممهم، ويبعث فيهم الأمل والتفاؤل، ويبثٌ فيهم روح التضحية، ويبين لهم أن الأمة التي أحياها الله تعالى بالقرآن لن تموت، ويبصرهم بحجم التضحيات التي بذلت من أجل طرد الغزاة، وينبههم إلى ضرورة الوحدة في مجابهة الأعداء، كما أنه يغرس في قلوبهم كره فرنسا الخبيثة التي كانت ولازالت استعمارية وكفى بهذا أثرا.
  وفي الأخير نؤكد على أن رقي الأمم وتطورها لا يبنى على مظاهر الحضارة المادية من بنايات ومؤسسات وصناعات، وإنما يبنى على العقائد والقيم والأفكار التي تصنع الرجال، لأن الرجال هم الذين يبنون الحضارات وهم الذين يكونون سببا في زوالها، فإذا أردنا أن نبني مجدا أو أن نستعيد أمجاد أسلافنا؛ فعلينا أن نهتم بصناعة الرجال قبل أي شيء آخر.

الإثنين, 13 أيلول/سبتمبر 2021 21:29

المبحث الخامس: تعليم اللغة العربية والاعتزاز بها

    ينشأ أطفالنا في وسط يتكلم لهجات عامية محلية يتواصلون بها في محيطهم الضيق، وهي لهجات غالبها هجين محدودة في مفرداتها وفي تأثيرها على نمو عقول الأطفال وثقافتهم، وإن الذي يدعم الشخصية الإسلامية المنشودة؛ ويبني التفكير الإسلامي السليم ويوجهه؛ هو تعليم العربية للطفل لغة وأدبا؛ فيتسع عقله باتساعها ويتأدب بمطالعة آدابها، وبها سيفهم دينه وعقيدته من مصادرها، ويحصل الشعور بالانتماء إلى الأمة التي أرادها الله أن تكون خير أمة أخرجت للناس.
    وإن من واجب المربين في المجتمع المسلم-آباء ومعلمين- أن يربوا الناشئة على اللسان العربي الفصيح منذ نعومة أظفارهم، أسوة بسلفنا الذين كانوا يعتنون بذلك اعتناء بالغا، وكانوا ينتدبون لأولادهم المؤدبين يعلمونهم الشعر والخط وفنون الأدب والبلاغة، وحرص سلف الأمة على تعليم الأولاد الأدب العربي واللغة العربية أمر معروف، وتحذيرهم من اللحن فيها أمر مشهور، ولعل مما يزيد من تأكيدنا على تعليم اللغة العربية في مبكر أن اللحن الذي كان يُخاف منه قد توسّع تحوّل إلى لهجات محلية؛ امتزج فيها العربي بالدخيل من اللغات الأعجمية، حتى صارت بعض اللهجات غريبة تماما عن اللغة العربية، وتعظم المسؤولية إذا رأينا المدارس الرسمية شرعت فعلا في تدريس العامية بدل الفصحى بطرق خبيثة وغير معلنة.
    ولقد كان السلف يعظمون أمر اللغة وينظرون إلى استقامة اللسان نظرة عميقة، فيستدلون بمنطق الإنسان على مقدار عقله وحكمته، حتى قيل:" المرء مخبوء تحت لسانه"، وقيل:" المرء بأصغريه: قلبه ولسانه"، وكما قال زهير بن أبي سلمى:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده   فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
    نعم لابد أن ننتبه إلى أن اللغة المستخدمة من الطفل تؤثر على فكره وخلقه ونموه العقلي، بما تحمله من مفردات ومعان وثقافة وأدب، واللغة العربية بالنسبة إلينا هي لغة ديننا وحضارتنا وهي أيضا من أسباب وحدتنا، وهي مفتاح العلوم كلها، وكلما تمكن الطفل منها؛ كان سببا لتمكنه في أي علم يريد تعلمه ويحب أن يكتسبه.
    وإن للغة العربية خصوصية في ذاتها دون سائر اللغات، فهي لغة غنية وكاملة ومعجزة وخالدة، وقد اعترف لها بذلك حتى أعداؤها الذين اجتهدوا في حربها، ومنهم المستشرق الفرنسي إرنست رينان (ت:1892) الذي يقول:" إن من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية...حيث بدت فجأة في غاية السلامة والغنى والكمال، فليس لها طفولة ولا شيخوخة"، نعم ليست لها شيخوخة بمعنى أنها لغة حية إلى الإبد بإذن الله تعالى .
أهمية اللغة العربية
   ولعله من المناسب في هذا المقام أن نفصل القول في المناحي التي تبين أهمية اللغة العربية في تكوين شخصية الطفل، وثلاثة مناحي :
1-ارتباط اللغة العربية بالعقيدة والعبادة
    إن اللغة العربية هي اللغة اصطفاها الله تعالى لتكون لغة كتابه ورسالته الخاتمة فقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، فلا يتم الفهم السديد للقرآن كتاب الإسلام ودستوره الخالد إلا بها، وكذلك هي لغة السنة النبوية، وتوقف فهم الأصلين عليها يجعل فهم عقائد الإسلام متوقفا عليها أيضا، فكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) مثلا لا تفيد صاحبها إلا إذا فهم معناها فهما يجعله يلتزم بمقتضياتها، والجاهل بمعناها لا يمكنه التزام مقتضياتها ولا اجتناب نواقصها وإن نطق بها.
    وإن من أسباب الانحراف عن العقيدة الإسلامية الصحيحة الجهل بها والبعد عن فقهها، فروي عن الشافعي أنه قال:" ما جهل الناس ولا اختلفوا، إلا لتركهم لسان العرب "، وقال الحسن البصري قبله :" أهلكتهم العجمة، يتأولون القرآن على غير تأويله".
    وتظهر أهمية اللغة العربية أيضا من جهة كونها لغة العبادة، فالمسلم أيا كان جنسه يجب عليه أن يصلي باللغة العربية تكبيرا وتشهدا تسليما وذكرا وقراءة للقرآن، فضلا عن أن المرء لا يمكنه تذوق القرآن والتأثر بمواعظه، ولا أن يصل إلى فقه أحكامه من دون إلمام بهذه اللغة ومعرفة بقواعدها وتعوّد على أساليبها. ولهذا قال ابن تيمية: «فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية" اقتضاء الصراط المستقيم - (1/527).
2--اللغة العربية والآداب
    إن علاقة اللغة العربية بالأدب علاقة متينة فالدواوين التي تحوي مادتها سميت كتب الأدب، ودارس هذه الدواوين يتعلم آداب العرب وأخلاقهم، مما سيؤثر حتما في تكوين شخصيته وفي تقويم تفكيره فيكون عربيا لا غربيا، وقد قال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده :" واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروِّهم الشعر يشجعوا وينجدوا". فبحفظ أشعار العرب يتعلم الطفل الكرم والوفاء والشجاعة والنجدة وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، وقال شعبة:"تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل".
    إذن علينا أن نعلم أولادنا اللغة العربية لأنها زيادة في عقله وتفكيره، ولأنها طريق لصناعة قوالب التفكير. قال ابن تيمية :« واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيراً قوياً بينا، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق» اقتضاء الصراط المستقيم - (1/527).
3-ارتباط اللغة العربية بالحضارة الإسلامية
    لقد انتشرت اللغة العربية مع انتشار الإسلام منذ العصور الأولى للإسلام الأولى في معظم أرجاء المعمورة، فأصبحت لغة الأدب والسياسة والعلوم الكونية والحضارة فضلاً عن كونها لغة العبادة والعلوم الشرعية، واستوعبت حضارات الأمم التي دخلت الإسلام وجعلت منها حضارة واحدة، وكان جل انتاجها في مختلف مناحي الحياة في ظل دولة الإسلام باللغة العربية.
    ومنه فإن اللغة العربية تعتبر الآن مفتاحا للثقافة الإسلامية، ورابطا للأجيال بتراثهم الحضاري المنتج خلال قرون متعاقبة، والجهل بها هو قطع للأجيال عن تراثهم وإبعاد لهم عن أسباب وحدتهم مع الشعوب التي تتكون منها الأمة الإسلامية.
    يقول مصطفى صادق الرافعي :"أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصه؛ فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة.
    والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها، وعمقها هو عمق الروح ودليل الحسن على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل، وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطماحها؛ فإن روح الاستعباد ضيق لا يتسع، ودأبه لزوم الكلمة والكلمات القليلة" وحي القلم (3/ 26-27).

كيف نعلم الأولاد اللغة العربية ونحببها إليهم
أولا : الترغيب فيها وغرس محبتها في قلوب الناشئة
    من طرق تعليم الأولاد اللغة العربية ترغيبهم فيها وغرس محبتها في قلوبهم، وذلك:
1-بتحديثهم عما سبق مما يبين علاقتها بالعقيدة والعبادة والحضارة والأخلاق، وبكونها لغة اختارها رب العالمين وأنزل بها الكتاب الذي جعله هداية للعالمين.
2-برواية آثار السلف في الأمر بتعلمها وذم اللحن فيها وتعظيم شأنها وإكرام أهلها نحو ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "سُوءُ اللَّحْنِ أَشَدُّ مِنْ سُوءِ الرَّمْيِ"، وما صح عن ابن عمر أنه :"كان يضرب ولده على اللحن". وقول مسلمة بن عبدِ الملك:" اللّحنُ في الكلام أقبحُ من الجُدَري في الوجه". وما روي عن عبد العزيز بن مروان أنّه كان يُعطِي على العربيّة ويحرُم على اللّحن.
3-وبذكر قصص النابغين في العربية، كسيبويه الذي أخطأ يوما في لفظة في حديث رسول الله  ، حيث قال له حماد بن سلمة:" لحنت يا سيبويه" فعزم على تعلم العربية فتعلمها حتى صار إماما يقتدى به فيها، وألف كتابه الذي هذب فيه علم النحو واستوفى قواعده وضوابطه وكل من جاء بعده فهم عيال عليه. ومما هو مأثور أن الشافعي صاحب المذهب المشهور لم يشتغل بدراسة العلم الشرعي حتى جلس في قبيلة بني هذيل يحفظ أشعارهم ودواوينهم وقد وفق لحفظ أكثر من عشرين ألف بيت من أشعارهم؛ ويعد ذلك من أسباب تفوقه وتوفيقه لتدوين علم أصول الفقه.
ثانيا : التعويد والاستعمال
     من طرق تعليم الولد اللغة العربية التعويد عليها والاستعمال لها الذي قد يسمى التعليم بالفطرة والممارسة، ذلك بأن يكلم الولد بالفصحى قبل السادسة من عمره وكلما كان الطفل أصغر فهو أفضل، وذلك ابتداء من السنة الأولى من عمره إن أمكن، ويكفي في ذلك أن يكلمه شخص واحد من أفراد الأسرة، وقد أكّد الباحثون في علم النفس أن سنوات الطفولة الست الأولى تمثل مرحلة تأسيسية تبني عليها مراحل النمو اللاحقة، وبناء عليها تتشكل شخصية الإنسان، ومن أعظم ما له أثر في تشكيل هذه الشخصية اللغة التي يفكر بها ويتحدث بها.
ثالثا : حفظ القرآن والأناشيد
    من أهم طرق تعليم اللغة العربية بحروفها وأصواتها ومفرداتها ومعانيها وتراكيبها ونحوها وبلاغتها تحفيظ القرآن الكريم العربي المبين، فإن في تحفيظ الأولاد الصغار للقرآن بالطريقة الصحيحة إقامة لألسنتهم وتقويما لسلوكهم وعقائدهم، وتزويدا لهم برصيد لغوي كبير يوسع عقولهم ومداركهم وثقافتهم.
   وبعد القرآن الكريم يحفظ الأطفال الصغار الأناشيد التي لا شك أنهم يميلون إليها أداء وحفظا وسماعا، فعلى المربي أن يغتنم هذا الميل الفطري لتنمية ثروة الطفل اللغوية، باختيار الأناشيد ذات اللغة الفصيحة الراقية والمعاني الأدبية والأخلاقية العالية، وكما يجنبه منها ما كان مصحوبا بالموسيقى وما كانت لغته عامية أو هجينة.
رابعا : البرامج المرئية والمسموعة
   من وسائل تعليم اللغة وسائل الاتصال المرئية والمسموعة، لأن أول طرق تعلم اللغة هو السماع قبل القراءة والكتابة ، لكن علينا أن نتعامل مع هذه الوسائل وبرامجها بحذر؛ من جهة ما تتضمنه من عقائد وأخلاق، ومن جهة اللغة المستعملة فيها أيضا، فعلينا أن ننتقي لأولادنا حتى في باب التسلية والترفيه من الرسوم المتحركة ونحوها ما كان بالعربية الفصحى وما كان معينا لنا على تربية الأولاد وتوجيههم.
خامسا : قصص الأطفال المقروء
    من الطرق التي ينبغي استعمالها القصة المقروءة ، وخاصة أننا نعلم ميل الطفل إلى متابعة أحداث القصص سماعا وقراءة، وفي هذا العصر يوجد في المكتبات قصص معد لمختلف الأعمار، ولا مناص من الاستعانة بها في تنمية الثروة اللغوية للطفل وتوسيع خياله؛ خاصة بعدما تم إضعاف نصوص القراءة في التعليم النظامي وإلغاء كتب المطالعة.
     وتعويد الطفل ابتداء من السنوات الأولى للتعلم على قراءة القصص يسهم بشكل كبير في تكوين شخصيته وبناء فكره وتوجيهه في مسار حياته، وإن من أسباب عزوف الشباب عن التعلم واستثقال الدراسة في جميع مراحلها أنه لم يعوّد على القراءة منذ نعومة أظفاره، وكان من آثار إهمال هذه الطريقة التربوية العريقة أن أصبحت أمة اقرأ لا تقرأ، لا تقرأ القرآن ولا تقرأ الحديث ولا تقرأ كتب الأدب ولا غيرها من الكتب، وغالب ميلها في هذا إلى سماع ومشاهدة المقاطع المرئية بشرط كونها قصيرة وهي في حالة كونها مفيدة لا تغني عن القراءة بتاتا.

الجمعة, 10 أيلول/سبتمبر 2021 16:16

المبحث الرابع : التربية على الاعتزاز بالدين

   من مضامين التربية الفكرية قضية مهمة يجب أن ينشأ عليها أولادنا فتكون جزءا لا يتجزأ من شخصيتهم؛ ويكون نظرهم للأشياء وحكمهم عليها من خلالها وهي قضية الاعتزاز بالدين وبشريعة الإسلام.
   ومعنى الاعتزاز بالدين إعلان الانتماء إلى الإسلام والفخر بالانتساب إليه، وإظهار شعائره دون حياء أو خوف، والتمسك بشرائعه والدفاع عنها بكل ثقة ودون ضعف أو خور. وقيل في شرح معناه : الاعتزاز بمفهومه العام: هو إحساس يملأ القلب والنفس بالإباء والشموخ والاستعلاء والارتفاع، ومعنى الاعتزاز بالإسلام: هو الافتخار والتباهي به، وإعلان الانتماء إليه بكل افتخار واعتزاز، والعمل على تطبيق شرائعه ومبادئه وأحكامه، دون خوف أو خجل أو حياء، وفي الاصطلاح: العزة في الإسلام هي ارتباط بالله، وارتفاع بالنفس عن موضع المهانة، وتحرر للذات عن قيد الهوى، والسير وفق ما شرعه الله ورسوله، فالعزة تصدر من قوة الإيمان ومن مدى تعلق الفرد بربه، فهي قوة معنوية تجعل المؤمن يعتز ويفتخر بالإسلام فلا يضعف ولا يذل ولا يخضع للآخر".
أهمية التربية على الاعتزاز بالإسلام
   للتربية على هذا المعنى النفسي الذين يدخل في مكونات شخصية المسلم آثار عظيمة في سلوكه ومواقفه، وخاصة في الأوضاع غير العادية وغير الطبيعية التي تعرفها أمتنا الإسلامية التي أورثتنا ذلا ومهانة وتخلفا وتبعية وجعلتنا حضارتنا تتراجع وشريعتنا تعزل عن الحياة، بل جعلت مجرد التمسك بالدين رجعية وتخلفا وإظهار شعائره تعصبا تطرفا والدفاع عنه عنفا وإرهابا.
    كما أن غرس هذا الإحساس في نفوس الأجيال الناشئة يحصنهم من جاهليات قديمة متجددة كالاعتزاز بالأنساب والأعراق والألوان والجهات والأوطان واللغات والأموال والمناصب وغيرها مما يفخر به الناس ويستعلي به على غيره، وكلها من الجاهليات التي محاها الإسلام فقال: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) (فاطر: 10) وقال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8) وقد جعل الاستعلاء بغير الإسلام وشعائره وشرائعه نوعا من الكبر والغرور المذموم
   وهذا الشعور يدفعه للثبات وصد الهجمات وللدعوة إليه في كل الظروف ولا يستسلم في أحلك الظروف، ولا يتنازل عن عقيدته ومبادئه طلبا لرضا الكفار والمنافقين.
    ولقد كانت تربية القرآن للمسلمين الأوائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متضمنة لهذا المعنى، وانظر إلى قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139) الذي نزل بعد غزوة أحد، ومقصوده تسلية الصحابة على مصابهم ورفع هممهم والحفاظ على ذلك الشعور الذين يجعلهم يصمدون ويثبتون على دينهم ويسعون لإعزازه مرة أخرى، ولقد كان هذا الشعور سببا من أسباب النصر فيما سبق لأنه مورث للتوكل وحشن الظن بالله تعالى، حتى أن المنافقين كانوا يرونهم مجرد غرور واستعلاء فارغ  كما قال سبحانه: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 49).
   ولابد أن نعلم أن قول النبي ﷺ: «المُؤمِن الْقَوِيُّ خيرٌ وَأَحبُّ إِلى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ" رواه مسلم، يشمل قوى البدن وقوى النفس-ومنها العزة-، التي تجعل المؤمن مؤهلا للقيام بالوظائف الشاقة التي بها يقوم بها الدين، وتنهض بها كلمة المسلمين.
   وقد اهتدى بعض المستشرقين لكون هذا الاعتزاز مصدرا من مصادر قوة المسلمين، وهو المستشرق الفرنسي ألفرد شاتليه (ت:1929) فقال في كتابه "الغارة على العالم الإسلامي": وإذا أردتم أن تغزوا الإسلام، وتخضدوا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيس لاعتزاز المسلمين وشموخهم، وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم...عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية، بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم، وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بوساطة نشر ثقافتكم وتاريخكم ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم، والسذج البسطاء لكفانا ذلك، لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها...".
طرق تربية الأولاد على الاعتزاز بالدين وبشريعة الإسلام
أولا : تمتين العقيدة الإسلامية
   إن الحديث عن الاعتزاز بالدين هو حديث عن ثمرة من ثمار الإيمان العميق والراسخ في القلوب، هو حديث عن محبة الله تعالى ومحبة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وحديث عن بلوغ مرتبة اليقين في العقائد المتعلقة برب العالمين، فلابد أن تمتين العقيدة في نفوس الأولاد وأن تكون مجرد عواطف سرعان ما تزول أو مجرد معارف عقلية لم تنفذ إلى القلوب، فالعقيدة الصحيحة علم وعمل يتفاعل معها العقل والوجدان معا، وتكون متينة إذا أصحبت متحكمة في سلوك المرء، وإذا انقلبت "لا إله إلا الله" إلى منهج حياة.
ثانيا : تعريف الأولاد بخصائص الشريعة الإسلامية
   مما يحصل به هذا الاعتزاز تلقين الأولاد خصائص شريعتنا الغراء ومن ذلك:
1-كونها شريعة ربانية المصدر ترتفع عن كل قوانين البشر، وذلك لكونها صادرة من عليم حكيم خبير، وربانيتها تجعلها ملزمة لكل الناس لا خيار لهم فيها، وقد قال تعالى: (مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب:36).
2-كونها شريعة محفوظة بحفظ الله تعالى، لم يضع من أصولها كتابا وسنة حرف واحد، كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) وأنه لا نقص فيها ولا تناقض، وأنه تحدي القرآن للبشر بأن يأتوا بمثله أو يجدوا فيه تناقضا لا يزال قائما، قال الله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (النساء:82).
3-كونها شريعة شاملة لكل الحوادث عبر الزمان والمكان، وكاملة لا تحتاج إلى استدراك أو تكميل، تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89) فالكتاب ومعه السنة التي هي بيان له، كافيان لكل ما يحتاج إليه الناس، ومن يطالع مدونات الفقه الإسلامي التي استنبطت من هذين المصدرين يجدها نظمت كل أمور الحياة العبادية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والصحية والسياسية، ولم تترك مجالا إلا وسعته وبينت أصوله وفرعت فروعه.
4-كونها شريعة واقعية أحكامها راعت الطبيعة البشرية قال تعالى : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: 286) وبناء على هذا جاء التكليف بالحج والصوم متعلقا بالاستطاعة، وجاءت مختلف الرخص الشرعية، فضلا عن إباحة المحظورات عند الضرورات محققة لقوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة:6)
ثالثا : تعليم الطفل بعض منجزات الحضارة الإسلامية
    ومما يجعل الطفل يعتز بدينه وتاريخه أن يعلم ببعض منجزات المسلمين والعلماء الذين أنجزوها عبر التاريخ ، والتي تبين أن مختلف الأمم التي دخلت الإسلام من عرب ترك وكرد وأقباط وبربر لم يعرفوا الحضارة الحقيقة والرقي العلمي إلا في ظل الإسلام.
   ففي المنظومات التشريعية الفقهية يعرف الأولاد أنه لا توجد حضارة انتجت ما يساوي عشر معشار ما أنتجه فقهاؤنا في مختلف المجالات التشريعية، ففي القرن الرابع هجري كانت انتشرت مؤلفات تعنى بفقه العمران وتنظيم التجارة والأسواق وبالتعليم ومواده وآدابه ونحو ذلك مما هو معتبر من مظاهر التحضر والتقدم.
    وفي مجال التاريخ تذكر أهم الموسوعات التاريخية للعصور المتعاقبة ككتب الطبري(310ه-923م) وابن الأثير (630هـ-1233م) وابن كثير (774هـ-1373م)، وموسوعات كتب التراجم التي ألفت للأعلام والعظماء كتاريخ دمشق لابن عساكر(571هـ-1176م) وتاريخ الإسلام للذهبي(763ه-1348م) وغيرها مما يبين كثرة الأعلام الذين استحقوا أن يخلد ذكرهم في تاريخنا، وفي الجغرافية يذكر لهم أمثال الإدريسي (ت:559 ه-1166م) الذي كانت خرائطه الدقيقة وكشوفه نواة للنهضة الأروبية الحديثة .
  وفي العلوم التجريبية يذكر في الطب ابن سينا (ت:427ه-1037) ومؤلفاته في الميدان ، وأن أول من اخترع المحرار وأدوات طبية أخرى وأول من شخص مرض التهاب السحايا وعدة أمرض داخلية أخرى. وفي الكيمياء يذكر جابر بن حيان الذي يعتبر أول من قام بعمليات : الترشيح والتبلور والتميع والأكسدة وغيرها، وكذا أبو بكر الرازي الذي يعتبر أو من قام بعمليات التكليس والتحليل والتلغيم وغيرها.
    ويتحدث عن المكتشفات العصرية ونواتها الأولى كالطائرة التي كانت فكرتها الأولى تبلورت عند العالم المتفنن عباس بن فرناس (274ه-887م) صاحب المخترعات الكثيرة الذي نال شرف أول محاولة للطيران ناجحة بالأجنحة الصناعية، كما تعتبر تلك المحاولة اختراعا للمظلة "البراشوت"، ومن ذلك أن الفكرة الأولى لاختراع الكامرا كانت على يد الحسن بن الهيثم (430ه-1040م) الذي اكتشف أن الإبصار يكون بدخول أشعة ضوئية إلى العين، وكان قد سمى الثقب المضيء في مكان مظلم قمرة وهو أصل كلمة كامرا.
   والحديث عن هذه المآثر يطول والمراد تحصيله هو تلك العزة والفخر الذي نريده أن يكون باعثا للهمم محركا للقوب ودافعا للنفوس لتهب وتنهض لتستعيد تلك الأمجاد.
رابعا : رواية قصص السلف في العزة بالدين
   إن للسلف الصالح من الصحابة من بعدهم مواقف تكثر عن الحصر سجل فيها اعتزازهم بدينهم وثقتهم ربهم سبحانه تعالى ولعلنا في هذا المقام ننقل شيئا منها.
   أولها موقف سعد بن معاذ رضي الله عنه بعدما أسلم وذهب إلى مكة معتمرا، وبَيْنَما سَعْدٌ يَطُوفُ إذ جاءه أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا سَعْدٌ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: تَطُوفُ بِالكَعْبَةِ آمِنًا، وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فارتفعت أصواتهما، فَقَالَ أُمَيَّةُ بن خلف لسَعْدٍ -وكان صديقه الذي استقبله في مكة-: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الحَكَمِ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الوَادِي، ثم قَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لَأَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ، فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يمسك سعدا ويَقُولُ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ، فَغَضِبَ سَعْدٌ منه وقَالَ له: دَعْنَا عَنْكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ»، قَالَ: إِيَّايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ (رواه البخاري)، ولا يخفى مواطن العزة بالدين والثقة في الرسول الأمين في خطاب سعد رضي الله عنه لأبي جهل أولا وفي خطابه لأمية ثانيا.
وثاني موقف ننقله هو موقف سلمان رضي الله عنه لما جاءه ذلك اليهودي وكأنه يقول له إن نبيكم قد قيدكم حياتكم وتدخل في كل شؤونكم حيث قال له بصريح العبارة:" قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ"، فرد عليه سلمان بكل عزة وثقة :" أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ"(رواه مسلم)، وكأنه قال له وأين الضير في ذلك؟ وهاك شيئا من تفاصيل ذلك، فاليهود كان مهاجما يريد إضعاف نفسية سليمان إشعاره بأن النبي صلى الله عليه سلم سلبهم الحرية والاختيار، ولكن سلمان لم يسقط في فخ الدفاع بل هاجم اليهودي بذكر التفاصيل التي تبين أن شريعة الإسلام نظمت جميع الحياة. إذ لا يعقل أن الشريعة التي تعرضت لتفاصيل آداب الخلاء تهمل ما هو أعظم من شؤون البيع والزواج والزراعة والتربية والعلاقات الدولية في السلم والحرب.
   الموقف الثالث نذكره حدث سنة 699 لما قدم غازان دمشق وخرج إليه ابن تيمية في جماعة من الصلحاء، وهو موقف لا يحتاج إلى أكثر من سرده وحكايته، إذ كان مما قاله ابن تيمية لغازان:" أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا؛ فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت". وقام لغازان وأعوانه وقال لهم الحق ولم يخش إلا الله تعالى، ولما قدم غازان للحاضرين طعاما أكلوا منهم جميعا إلا ابن تيمية رحمه الله، فقيل له: لم لا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس. ثم إن غازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: اللَّهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادًا في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فأن تفعل به وتصنع-يدعو عليه وغازان يؤمن على دعائه- قال قاضي القضاة أبو العباس ابن صصري (ت:721)راوي القصة: ونحن نجمع ثيابنا خوفا أن يقتل فنطرطش بدمه، ثم لما خرجنا قلنا له : كدت تهلكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا، قال: ولا أنا أصحبكم- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (5/ 699)-.

الثلاثاء, 07 أيلول/سبتمبر 2021 18:27

المبحث الثالث : التربية على تعظيم الوقت
    من عناصر التربية الفكرية للطفل تربية على تعظيم الوقت، هذا الوقت الذي يعتبر من أهم نعم الله تعالى العباد بعد نعمة الهداية والإيمان، وهو ساعات العمر أو المجال المحدود فيه تجري أعمال الإنسان وانجازاته، وهو ركن أساس يقوم عليه البناء الحضاري للأمم، ولذلك كان من الأشياء المهمة التي ينبغي أن يتربى عليها النشء المسلم تعظيم الوقت والحرص عليه، وعدم تضييعه في التفاهات وسفساف الأمور، لابد أن يبصر بقيمة الوقت في حياة المسلم، وأن يُعلّم أن الزمان بسنواته وشهوره وأيامه وساعاته هو رأس ماله في هذه الدنيا فمن أضاعه هو كالتاجر الذي ضيع رأس مال تجارته.
بلاء في الأمة منتشر
    إننا نرجو لأمتنا التي تعيش في هوان وتخلف عظيم أن تنهض وترجع إلى مكانتها الريادية؛ ولكن هذا الرجاء يبقى بعيد المنال ما دامت الأمة لم تعرف قيمة الوقت وأثر استثماره على الفرد والجماعة، وما دام داء تضييع الأوقات ينخر جسد الأمة، ويسري في شبابها وكبارها ورجالها ونسائها، يشب عليه الصغير ويشيب عليه الكبير، وأعراض هذا الداء يعجز المرء عن الإحاطة بها لكثرتها، لكن منها كثرة الكلام في ما لا يعنيهم ولا يفيد والخوض في كل شيء، كثرة الجلوس في المقاهي والمنتزهات وقوارع الطرقات، متابعة التفاهات التي لا حد لها عبر القنوات التلفزيونية، الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي والانقطاع عن الواقع، ملء الملاعب ودور اللعب الإلكترونية، الاشتغال بالتسالي التي زودت أجهزت الحاسوب والهواتف المحمولة، متابعة تفاصيل أخبار المنافسات والمباريات الكروية وأخبار الرياضيين والممثلين والمغنين، وتتبع عورات الناس من الأقارب والجيران وغيرهم، شيوع البطالة الإرادية والإفراط في النوم وكثرة السهر وعدم الاستيقاظ إلا قبيل الظهيرة، ولا نتحدث عما يوجبه الفراغ عن الشغل من المعاصي كشرب الدخان والمخدرات والمعاكسات.
    ومما يؤسف له أيضا أننا نرى العامل والصانع والباحث والمعلم أيضا لا يعرف للزمن قيمته، فالعمل الذي حقه أن ينجز في يوم ننجزه في أسبوع، ما ينبغي أن ينجز في شهر نستغرق فيه سنة، وهذا من أعظم مظاهر غش الأنفس وإهدار الأعمار وأهم عوامل التخلف.
طرق تربية الأولاد على تعظيم نعمة الوقت
أولا : الوعظ والتذكير
أول سبيل لرد الأمور إلى نصابها وتربية النشء على غير ما وجدنا عليه أمتنا التوعية والوعظ والتذكير، ومن ذلك :
1-أن ننبه الولد إلى عظم نعمة الوقت، إذ لولا هذه الأعمار الممدودة لما عرفنا الله تعالى ولما عبدناه، ولما أمكننا أن نتوب ونرجع إليه، ونبين له أن هذه النعمة منحة ربانية لا يقدر العبد على خلقها ولا الزيادة فيها ولعظمتها قد أقسم بها الرب جل جلاله، في سور كثيرة في القرآن الكريم فأقسم بالفجر والضحى والليل والعصر وغيرها.
2-أن نحدد للولد الهدف الرئيس في هذه الحياة وهو عبادة الله تعالى، فإن ذلك يجعله يحسن تنظيم أعماله وواجباته بحسب الأولويات، لأن كل ما في هذه الدنيا ينبغي أن يكون خادما ومكملا للهدف الأول وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ » رواه الترمذي وابن ماجة .
3-وتبعا لما سبق يجب أن نبطل في أنفس الناشئة تقسيم الوقت إلى وقت فراغ ووقت عمل، فإنه لا يوجد عند المسلمين وقت فارغ، قال تعالى : ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) (الشرح:7-8) ونعلمه أن حياته كلها بجميع أعمالها يمكن أن تكون كلها عبادة وكلها لله تعالى؛ وذلك إذا اقترنت بالنية الصالحة، كما كان ابن معاذ رضي الله عنه يحتسب الأجر في نومه حيث كان ينام أول الليل ليقوم آخره وقال: « أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي»، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحتسب اللهو وعلل ذلك بقوله : « إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فأقوى بذلك فيما بعد على الحق».
4-ومما ينبغي تحفيظه الأولاد بعض الحكم والأمثال المأثورة في تعظيم الوقت كقول الحكماء:" من علامة المقت إضاعة الوقت" وقولهم :"الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" وقولهم :"الوقت من ذهب إن لم تحرصه ذهب".
ثانيا : الترهيب
   من وسائل التربية على تعظيم الوقت الترهيب من تضييعه ومن البطالة، وذلك من خلال النقط الآتية :
1-التذكير بالحساب على النعم، أن نعلم الولد أن الله تعالى سائلنا عن النعم جميعها قال : (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (التكاثر: 8) وعلى رأس هذه النعم نعمة الوقت، أن نحفظه قول النبي صلى الله عليه وسلم :» لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ » رواه الترمذي وصححه.
2-تعليم الولد قول النبي صلى الله عليه وسلم:« نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ » رواه البخاري ومعناه أنهم محرومون من فضل هاتين النعمتين وأجرها، إذ من لا ينفقهما فيما ينبغي فقد غبن لكونه باعهما ببخس، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، وكل الناس منعم عليه بالصحة والفراغ في أكثر أحواله وما على المرء إلا اجتناب مطاوعة النفس في هواها حتى لا يكون من الخاسرين ، وقد قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ، قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» رواه الترمذي وصححه.     
3-تذكير الولد بعقوبة كفر نعمة الوقت، وأولها محق بركته كما أخير خير الأنام عليه الصلاة والسلام أن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان قال صلى الله عليه وسلم:« لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرَمَةِ بِالنَّارِ» رواه الترمذي وصححه الألباني.
4- وكذلك نعلم الأولاد قصر الأمل في الدنيا والابتعاد عن التسويف ، والعمل بوصية النبي  : «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» رواه البخاري. وعلينا أن نتلو عليهم قوله سبحانه : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر:37). وقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون:99-100).
ثالثا: القصص الهادف
   من وسائل التربية على تعظيم الوقت القصص الهاتف فنمكن الأولاد من قراءة سير سلفنا وعلمائنا كيف كانت أحوالهم وما خلفوه من أعمال وانجازات ومؤلفات، ومن الآثار المنقولة عن السلف في ذلك قول الحسن البصري:« أدركت أقواما كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه وديناره »، وقول عامر بن عبد قيس لما جاءه رجل؛ فقال له كلمني، فأجابه بقوله :« أمسك الشمس».
    ومما يدل على عظيم اعتنائهم بالوقت مقدار محفوظاتهم، والكتب نسخوها بأيديهم وسمعوها من شيوخهم فضلا عن التي طالعوها قراءة، ولعل من النماذج العجيبة التي يحسن ذكرها الإمام ابن الجوزي الذي ألف أكثر من ثلاثمائة وأربعين مصنفا في مختلف الفنون؛ منها ما وضعه في عشرين مجلدا، هذا مع أنه كان مشتغلا بالتدريس والوعظ، وإذا سمعت عن مقدار ما قرأه من كتب لم تزل متعجبا، حيث قال: «ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعد في الطلب»، لكن يزول العجب عندما نعلم أنه كان لا يضيع أي لحظة من لحظات عمره، وقد كان رحمه الله يستغل وقت حديثه مع الناس إذا زاروه في بيته لبري الأقلام، وجمع براية أقلامه التي كتب بها الحديث وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها.
   ومن النماذج أيضا تلميذه أبو الوفاء ابن عقيل صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد –غير مؤلفاته الأخرى-  الذي قال وهو يحكي عن نفسه وعن منهاج حياته: «إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عُمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجدُ من حرصي على العلم. وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجدُه وأنا ابن عشرين سنة». وقال : « أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبزة لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه».
   ولا ننسى أيضا ذكر بعض أعلام البشرية الذين نبغوا وأتوا بما أدهش العالم بسبب استغلالهم لأوقات فراغهم، ومنهم "تشارلس فروست" الذي كان إسكافياً يصلح الأحذية، وقد أصبحَ من البارزين في الرياضيات بتخصيص ساعة واحدة من يومه للدراسة، ومنهم "جون هنتر" الذي كان نجاراً، ودرس علم التشريح في أوقات فراغه، مخصصاً لنومه أربع ساعات فقط من الليل، حتى أصبح حجة في هذا الميدان، ومنهم "سير جون لايوك" الذي كان مديرا لمصرف لكنه استطاع أن يقتطع من يومه المزدحم بالعمل ساعاتٍ أخلصها لدراسة التاريخ حتى أصبح عَلَماً بين المؤرخين، ومنهم "جيمس واط" الذي كان تاجرا ومع ذلك درس الكيمياء، واخترع محرك البخار.
رابعا : التعويد
   ونربي الولد على الحفاظ على الوقت بتعويده احترام الوقت وتعظيم المواعيد وربط الأعمال بمواقيت محددة كالصلوات الخمس ، وكذا بتنظيم أمور حياته مما يقلل من أسباب ضياع الأوقات، ومن ذلك انتقاء الصحبة وتقليلها لأن كثرة المخالطة مشغلة وإذا كانت مخالطة للبطالين الذين لا هدف لهم في الحياة فهي الانتحار بعينه، ومن ذلك تنظيم أوقات النوم وعدم اطلاق العنان له في ذلك، ومن ذلك تجنيبه الفراغ وملء أوقاته بالأعمال المفيدة الأخروية والدنيوية، من ذكر الله تعالى، وتلاوة للقرآن، أو مطالعة كتب العلم ، أو إسهام في عمل تطوعي، أو ممارسة للرياضة، أو قضاء لحوائج البيت.

الإثنين, 06 أيلول/سبتمبر 2021 19:30

المبحث الثاني : التوجيه العلمي للطفل

    من عناصر التربية الفكرية في الإسلام التوجيه العلمي للطفل، وإنّه لا يوجد في تاريخ الأمم والأديان دين مثل دين الإسلام في الحث على العلم والحرص على تعليم الأولاد، وهذا مما شهد به أعداء الإسلام فضلا عن غيرهم، ولا غرابة أن يكون العلم محورا مهما في التربية وأن يكون شعار أهل الإسلام، لأن أول ما أنزل على محمد  الأمر بالقراءة والإشادة بالقلم، وهو قول تعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:5).       وإن اهتمام سلف الأمة بتعليم الصغار أمر قد تواترت به الأخبار وتكاثرت فيه الروايات، ومن ذلك قولهم:« مثل الذي يتعلم في العلم في صغره كالنقش على الحجر، ومثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء » (روي مرفوعا ولا يصح)، وقول الحسن البصري يقول :« قدموا لنا أحداثكم، فإنهم أفرغ قلوبا وأحفظ لما سمعوا »، وقول عطاء بن أبي رباح:« يَا غِلْمَانُ، تَعَالَوُا اكْتُبُوا، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَا يُحْسِنُ كَتَبْنَا لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قِرْطَاسٌ أَعْطَيْنَاهُ مِنْ عِنْدِنَا».
أهمية التوجيه العلمي
   إن المربي مهما علَّم الولد ووجهه فلن يستطيع أن يعلمه كلّ شيء، ولن يصحب الولد عمره كله، لذلك فهو مطالب بأن يعطي للنشء القواعد العامة المنظمة لفكره والتي ترسم له اتجاهه في الحياة، ومن ضمن هذه القواعد : التوجيه العلمي والارتباط بالعلم الشرعي على وجه الخصوص.
   وإننا بحاجة إلى تكوين أمة متبصرة تدري ما تفعل في حاضرها، وتحسب كل الحساب لعواقب تصرفاتها في المستقبل، وتبتعد في سلوكها وأعمالها عن حال الأمم التي ليس لها من حجة إلا أن تقول : (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب:67). وتبتعد أيضا عن حال ذلك الزمان الذي حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من شره، وقال : " إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ"رواه أحمد.
    إننا بحاجة إلى أمة ملتزمة بشرع ربها وتسمع لعلمائها الذين هم ورثة الأنبياء، وتخالف اليهود الذين أضاعوا الكتاب وكانوا يقتلون الأنبياء ويضطهدون العلماء.
    إننا بحاجة إلى أمة تفرق بين العلماء والمتشبهين بهم، وتبتعد قدر المستطاع عن السنوات الخداعات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:" يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ " قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ  قَالَ: " السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ "رواه أحمد.
    إننا بحاجة إلى أمة تفقه معنى قوله سبحانه وتعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60) تفقه معناه المباشر وفحواه ولوازمه ، وتتمثل توجيه العلماء الربانيين أمثال ابن باديس إذ يقول :
يَانَشءُ أَنْـتَ رَجَــاؤُنَــا ****وَبِـكَ الصَّبـاحُ قَـدِ اقْـتَربْ
خُـذْ لِلحَـيـاةِ سِلاَحَـهـا****وَخُـضِ الخْـطُـوبَ وَلاَ تَهبْ
واجب إيجاد العلماء الربانيين والمتخصصين في جميع مجالات الحياة
    ومما ينبغي أن يعلم كما أنه يجب على الأمة أن يوجدوا الأطباء يجب عليها إيجاد علماء ربانيين في الشريعة وبنفس العدد، فإن هؤلاء يداوون الأبدان وهؤلاء يداوون الأرواح، فإيجاد العلماء والخطباء والمدرسين واجب على الأمة فإن لم تفعل أثمت، وكيف لا تأثم وهي تعلم أن الناس إذا لم يجدوا الأطباء المتخصصين ذهبوا إلى المشعوذين المتطفلين. وإذا لم يجدوا العلماء الربانيين لجأوا إلى الأدعياء ودعاة الضلالة،  ومن أدلة هذا قوله تعالى:  (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) وقوله تعالى : (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43).
   ليس معنى هذا أن يصبح الناس كلهم علماء ولكن يجب علينا تربية النشء على المعارف العينية التي يشترك فيها كل المسلمين، ثم توفير المناخ المناسب ووسائل التكوين ثم يكون التوفيق من الله تعالى، ومن لم يكن عالما فعلى الأقل يكون مرتبطا بالعلماء قادرا على فهم كلامهم وتقريبه لمن يحتاج إليه، أن تكون لهم قدرات على التمييز تعصمهم من اتباع كل ناعق.
   والواجب على جميع من يتخصص في مجالات العلوم الكونية المختلفة أن تكون له قاعدة متينة في العلم الشرعي -عقيدة وفقها- يضبط بها علمه الدنيوي، وتجعله يوظفه في خدمة أمته، كما تعصمه من الأفكار الهدامة والسموم التي استهوت ولا تزال تستهوي أبناء الإسلام وتسلخهم من هويتهم ودينهم.
الطرق والوسائل المعينة على التوجه العلمي
أولا : الترغيب في التعلم والترقي في مدارجه
    أول الطرق الموصلة للتوجيه العلمي للطفل الترغيب في التعلم والترقي في مدارجه، ولابد أن يكون هذا الترغيب مرفقا بالتشجيع والإعانة والكفاية، ومما يذكر للمربين في هذا المقام لا للأولاد ما كانت تقوله والدة سفيان الثوري لولدها:«يا بني أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي»، خبر الإمام مالك لما كان صغيرا حيث كان المشجع له على طلب العلم أمه، التي كانت تحثه على الذهاب إلى حلقات العلم وتلبسه ثيابه، وتقول له : «اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه». ونذكر المربين أيضا ما قاله مصطفى بن باديس لولده: « يا عبد الحميد أنا أكفيك أمر الدنيا، أنفق عليك أقوم بكل أمورك، ما طلبت شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر، فاكفني أمر الآخرة، كن الولد الصالح العامل العالم ألقى به وجه الله ».
   ومما يؤثر في هذا الباب أن بديع الزمان الهمداني كتب إلى ابن أخت له يحثه على الجد وطلب العلم ، فقال:« أنت ولدي ما دمت والعلم شأنك، والمدرسة مكانك، والقلم أليفك والدفتر حليفك، فإن قصرت وما إخالك فغير خالك والسلام ».
    والذي يؤسف له في هذا الزمان أن الآباء قد غلبت عليهم المادة وأثرت عليهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي عاشوها فصاروا يرون أن لا جدوى من العلم والتعليم إلا باعتبارهما وسيلة إلى المال والمناصب، فإن كان المقصدان ممكنان لديهم من غير سلوك سبيل التعلم فلا حاجة إليه، وهذا من سوء التربية الذي زاد من حدة التسرب المدرسي الذي هو خسارة للأب والمجتمع كله ، والذي إذا اجتمع مع الفراغ والخلطة السيئة سيحول الولد إلى عنصر فاسد في نفسه مفسد لغيره.
ثانيا : تعويد الأولاد على الحفظ
   لابد من تعويد الأولاد على الحفظ، وأول ذلك حفظ القرآن الكريم، ثم الأذكار النبوية، ثم الأشعار والأناشيد، والأمثال ونحو ذلك، وقد وصف الله تعالى كتابه بأنه محفوظ في الصدور فقال: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت:49)، كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ حديثه فقال:« نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ » رواه الترمذي وصححه.
    وفي هذا التدريب فضلا عن تقوية الذاكرة نحصل أمورا أخرى كتهذيب الأخلاق وتقويم اللسان وتوسيع مدارك العقل بالمعارف التي تضمنتها تلك المحفوظات.
   وعلى المربي أن يبعد الأولاد عن أسباب النسيان وما يورث ضعف الذاكرة، ومنها كثرة الهم والأشغال، وإدمان المعاصي والنظر إلى المحرمات، وكثرة الضجيج وخاصة الذي تسببه التلفاز والموسيقى، ولا بأس أن يعين المربي ولده على الحفظ بما علم في الطب كونه مقويا للذاكرة من غير ضرر عليه كاللبان والزبيب ونحو ذلك .
ثالثا : تعويد الأولاد على التفكير
    من طرق التوجيه العلمي للطفل حث الولد على إعمال فكره وتدريبه على ذلك، عن طريق عرض المشكلات والتمارين والمسائل الحسابية والألغاز ونحو ذلك، مما يغرس في قلبه حب الاكتشاف وحل الاشكالات وإيجاد البدائل والمخارج للمعضلات، وكذلك كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ» متفق عليه، ولا نغفل عن عبارات التشجيع للولد وكل ما يبعث همته ويحييها، ولنحذر من تسفيه أجوبته أو السخرية مما يعرضه من أفكار، وكل ما من شأنه أن يثبط همته ويفتر عزيمه.
رابعا: تعليم الأولاد الكتابة والقراءة
    مما يساعد الولد على التوجيه العلمي تعليمه القراءة والكتابة، وهذا أمر ضروري للتعبير عن أفكاره ومحفوظاته، وهو من واجب الوالد فإما أن يقوم بذلك بنفسه أو بتسخير من يقوم بذلك نيابة عنه، ونحذر الأولياء في هذا الزمان من انتظار التحاق الولد بالمدرسة والاعتماد الكلي عليها، لأنها كثيرا ما تفشل في الوصول إلى هذه الغاية رغم كونها من أوليات التعليم، بسبب التيه والضياع الذي يعرفه قطاع التربية والتعليم في الجزائر سواء من حيث المناهج والبرامج أو من حيث التأطير.
خامسا : تحبيب العلماء إلى الأولاد
    من طرق التربية القدوة الصالحة ؛ ونعمل هذا الطريق بتحبيب العلماء إلى الأولاد وتعظيمهم في نفوسهم من خلال سيرهم ومواقفهم ومؤلفاتهم وابتكاراتهم، ونلقن الأولاد علماء الشريعة على وجح الخصوص هم ورثة الأنبياء وحملة لواء الدعوة والهداية بعدهم وأن الله تعالى أمر بسؤالهم والرجوع إليهم في المعضلات وطاعتهم.
    كما ينبغي علينا في زماننا هذا أن نحذر ثم نحذر أولادنا من الأفلام المغرضة التي هدفها تشويه صور علماء الأمة وكذا أبطالها؛ بما حوته من افتراءات وأكاذيب.
سادسا: إعداد المكتبة منزلية وربط الولد بالكتاب
   من الطرق التي تغرس في الولد حب العلم وأهله وتنمي فيه ما سميناه التوجيه العلمي للطفل، إعداد مكتبة منزلية حسب إمكانات الوالد، ثم محاولة ربطه بالكتاب قراءة وتلخيصا ومطالعة، وإذا بلغ سنا يعقل فيها ويحسن القراءة فلنجعل جوائزه كتبا وقصصا بعد أن كانت من قبل لعبا مناسبة لسنته وعقله، ومما ينصح به في هذا الباب اصطحاب الأولاد إلا المكتبات العمومية، والمكتبات العامرة عند شراء الكتب، وكذا المعارض التي تعرض فيها الكتب؛ لأن مجرد مشاهدة تلك الكتب له أثر في نفسية الطفل وأول ذلك الفضول وحب التعرف على ما تحويه وأقل ما يحصل هو تعظيم مؤلفي تلك الكتب النافعة التي يراها ويسمع عنها وعن محتواها.

الإثنين, 06 أيلول/سبتمبر 2021 11:34

الفصل السابع : التربية الفكرية

    إن الله تعالى خلق الإنسان وكرمه وفضله على جميع المخلوقات التي تدب على الأرض بنعمة العقل آلة الفهم والعلم، وقد حث المولى عز وجل عباده على التفكر واستعمال العقل، كما ذم من لم يعمل عقله، فأما الدعوة إلى التفكر واستعمال العقل فمنها قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، وأما ذمه لمن لم يعمل عقله له فمنه قوله تعالى: ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك:10).
    ولما كان الأمر كذلك رأينا أن يكون آخر فصل في بحث تربية الأولاد حول التربية الفكرية للنشء.
المبحث الأول : تنمية عقل الطفل وصيانته
   إن من أهم عناصر التربية الإسلامية التربية الفكرية، ويدل على هذه الأهمية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ» رواه مسلم، فإن من استقام منهج تفكيره حرص على ما ينفعه في الدنيا والآخرة، ومن اعوج تفكيره أو عطل عقله فإنه يقترف ما يضره في الدنيا والآخرة، وستناول هذا الموضوع من خلال التعرض لسبل تنمية القدرات العقلية للطفل ووسائل الحفاظ على سلامة العقل، وصيانته من المفسدات والمعوقات.
أولا : سبل تنمية القدرات العقلية للطفل  
   إن العقل الغريزي عنصر مشترك بين جميع بني آدم، وهو الآلة التي ركزها الله فينا للتمييز بين الأشياء وبها يفهم الخطاب ويتعلق التكليف، ولكن هذا العقل الغريزي يتبعه عقل آخر مكتسب، ويتفاوت الناس في مدى تحصيله بحسب النشأة والبيئة وطبيعة التعليم والوظيفة، وأهم مراحل تكوين هذا العقل هي مرحلة الطفولة؛ ولذلك كان لزاما أن نبين للمربين سبل تنمية القدرات العقلية للطفل وتربيته على التفكير، وهي أمور عملية في مجملها ننبه عليها:
    أول هذه الوسائل توجيه الطفل –الذي يميل إلى اللهو واللعب نحو الألعاب والأنشطة التي لها دور في تنمية ذكائه وتدفعه للتفكير واستعمال عقله ورياضته؛ إذ ثمة ألعاب كثيرة التي يجتمع فيها عنصر التسلية مع تنمية القدرات الإبداعية للطفل، وهناك من الأنشطة ما يعمل على توسيع خياله، ويعلمه التركيز، ويعوده على التحليل والاستنتاج، ويدفعه إلى إيجاد الحلول والبدائل، ولا شك أن ذلك مما يسهم في تنمية الذكاء لدى الطفل.
  فالألعاب منها ما فيه إعمال للتفكير كلعبة الداما والدومينو والشطرنج وتركيب الكلمات، وقبلها توفر له لعب تركيب المجسمات وتفكيكها، ومن الألعاب ما هو ترفيه محض، ومنها غير تربوي ومجمد للعقل مرهق له بلا فائدة، مورث لتشتيت الذهن، كما هو حال جل الألعاب الإلكترونية التي قد تزيد على ذلك فساد الدين والأخلاق بطبيعتها أو بشكلها وصورها.
  ومن الأنشطة التي يُعوّد عليها في وقت مبكر نشاطات الرسم والتلوين والزخرفة إذ هي تساعد على تنمية ذكاء الطفل، من جهة التدقيق في تفاصيل الأشكال وتقصي عناصر الأشياء المطلوب رسمها وتخطيطها، فضلا عن تنمية العوامل الابتكارية لديه بربطه بين الأشكال وتنسقيه بينها وإدخال التعديلات عليها.
    ومن الأمور التي تنمي القدرات العقلية للطفل العناية بتعليمه الحساب منذ نعومة أظفاره، وتعويده على إجراء عمليات الحساب الذهني، وفي هذا السياق نحذر الآباء من السماح لأولادهم الاعتماد على الآلات الحاسبة التي تورثهم الكسل والتواكل تعطل عقولهم وتمنعهم من رياضتها الرياضة المقوية لها .
    وإلى جانب الحساب لابد من تعويده على الحفظ؛ سواء حفظ القرآن أو الأذكار أو الأناشيد، وذلك أن الدماغ كما يحتاج إلى تعويد على الاستنباط والتفكير يحتاج إلى تقوية الذاكرة التي تخزن المادة التي يستنبط منها ويُتفكر فيها، فالفهم والحفظ رياضتان مهمتان في تنمية العقل، وهما وإن كانا لا يكادان يجتمعان على وجه الكمال، ولا على سبيل التساوي عند الإنسان، لكن لا ينبغي أن يُعتنى بأحدهما ويهمل الآخر لأن ذلك مورث للنقص لا محالة.
ثانيا : وسائل الحفظ على العقل وصيانته من المفسدات والمعوقات
1-صيانة العقل من المفسدات الحسية  
    إنه لابد على المربي أن يحافظ على سلامة العقل الفطري الغريزي للطفل لأنه عليه يتم البناء ومن فقده فلا أمل له فيما سواه ، وأول ذلك بتعويذه وتحصينه بالأذكار، لأن الولد قد يقوم بأعمال وقد يقول كلمات تثير إعجاب بعض الناس، فربما أصابوهم بالعين، والعين حق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يلقون أذكار الصباح والمساء ويعودون على ترديدها، ولا بد من الحذر من الذهاب بالأولاد إلى المشعوذين وتعليقهم التمام، فإن ذلك سبب تسليط الجن عليهم وسلبهم عقولهم ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً).
   ومما ينبغي أن يحذر منه المربون في عصرنا هذا إطلاق العنان للأولاد وهم يتابعون البرامج التلفزيونية –حتى وإن كانت تربوية ومنضبطة بالشرع- دون تحديد ذلك بوقت معقول ويناسب سنهم، وقد بينت دراسات علمية مختلفة تأثير ذلك سلبا على تركيز الأولاد، وأنه أهم أسباب إصابتهم بمرض التوحد، ومثل ذلك يقال عن الهواتف والألعاب والأجهزة الإلكترونية .
     ونحافظ على آلة التفكير لدى الأولاد بتحذيرهم من مفسدات العقول وعلى رأسها المسكرات من الخمور وأنواع المخدرات، ولابد تحذيرهم من مخالطة أصحابها وليس فقط من تناولها، وهذا من معنى الاجتناب المأمور به الذي هو معنى زائد على مجرد تحريم التناول، حيث قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90).
   ولابد أن نتنبه إلى أن مفهوم الإسكار والتخدير مفهوم واسع يشمل كل ما خمر العقل وغطاه وعرقله عن أداء واجبه، وإننا إذا تأملنا ذلك وجدنا من أعظم المسكرات ومذهبات العقل "الغناء"، الذي أنزل فيه قول المولى عز وجل : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (لقمان:6) فهذا الغناء الذي كان في الجاهلية القديمة قد حرم لعلة الصد عن سبيل الله تعالى، حيث اتخذ وسيلة لصرف الناس عن سماع القرآن، ولصرف العقول عن تفهمه والإيمان به، وهذا الغناء الذي تعفن فهذا الزمان لا يختلف عاقلان منصفان أنه صار من أعظم مفسدات للعقول والأديان والأخلاق، لذلك يجب على المربين صون الأولاد عنه حفاظا على سلامتهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة.
    ومن المخدرات العصرية أيضا بلية مناصرة الأندية والتعصب لها، والتي أصبحت صنعة وشغلا شاغلا للناس عن مصالحهم الدنيوية والأخروية، وسببا من أسباب تضييع أوقات الشباب وأعمارهم فيما لا ينفع، ومن واجب المربي أن يصون ولده عن هذه الموجات التي تجرف الأولاد وتنحرف بهم فتبعدهم عن طريق الله عز وجل، وتكون سببا لفساد فكرهم وتصورهم للحياة، وسببا لتخلفهم عن المدرسة ربما تركهم لمقاعد الدراسة.
2-صيانة العقل من المعوقات المعنوية
   كما أنه على المربي أن يحذر من مفسدات العقل الحسية عليه أن يحذر ويحذر الأولاد من مفسدات العقل المعنوية، والتي منها الطمع وضده الخوف، فالطمع وشدة الحرص كثيرا ما يحجب العقل ويجعل المرء يقع في مواقف مخزية يندم عليها أشد الندم، وكذلك الخوف والذعر فإنه يفقد المرء التركيز وحسن التدبير للأمور، ولا يتوقع أن يكون نمو عقل الطفل سويا إذا تربى في بيئة تغرس فيه أحد هذين الوصفين .
    ومن مفسدات العقل التي نحذر أولادنا منها ونصونهم عنها الغضب، فلا بد أن نعلمهم الحلم ومجاهدة النفس، وأن نربيهم على كظم الغيظ، قال تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) ولما كان الغضب معطلا للعقل عن التمييز ومانعا له من حسن التقدير للأمور، قال النبي صلى الله عليه وسلم :« لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ » متفق عليه. ولابد من تطهير فكر الأولاد من ظن فاسد رائج في مجتمعاتنا وهو أن الشخص الغضوب "العصبي" هو الشديد القوي المهاب أو أن تلك الصفة من معاني الرجولة، ويكفي لتحصيل ذلك تعليمهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» متفق عليه.
خطر التربية على التقليد الأعمى
   ومن المعوقات المعنوية التي ينبغي أن يضعها المربي في حسبانه "ظاهرة التقليد الأعمى"، وهو أن يتبع المرء غيره فيما يقول ويفعل، ملغيا عقله دون نظر في جدوى ذلك القول أو العمل، ومن دون نظر في حجة مقنعة به، فهو يعتقد لأنهم اعتقدوا ويقول لأنهم قالوا، ويعمل لأنهم عملوا، ويوصف هذا التقليد بأنه أعمى، لأنه لا بصيرة فيه ولا دليل عليه. ولهذا التقليد مظاهر كثيرة متفشية منها:
**ظاهرة تقليد الآباء والأجداد التي حكى رب العزة جل جلاله أنها كانت دليل المشركين على شركهم، قال تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170). لذلك على المربي أن يتجنب حمل الأولاد على ما يعتقد أنه حق وأنه من الدين بحجة أنه من سيرة الآباء والأجداد، بل نحمل الأولاد على ذلك لأنه هو الحق وما دونه باطل ونعلمه الحجة عليه، وما يأخذه الولد بهذا الطريق قد يتركه عندما يتحرر فكره من غل التقليد لسبب من الأسباب.
**ومنها ظاهرة تقليد الأكثرية، وقد قال تعالى :  (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام:116) فإذا جاء شخص برأي لم تسمعوه من قبل قلا تقولوا له هذا خلاف ما عليه أكثر الناس أو خلاف ما كان عليه الآباء والأجداد، ولكن يقال له أين دليله وحجته؟
**ومنها تقليد الكفار، الذي غرقت فيه الأمة في هذه الأيام لأسباب عدة منها ضعف الشخصية وغياب العزة بالدين، وتعظيم من لا يجوز تعظيمه، فصار أولادنا يقلدونهم في اللباس، وفي الكلام والطعام، وفي الهيئات والعادات ونظام الحياة، وكل شيء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» رواه أبو داود وحذرنا ربنا عز وجل في غير ما آية من موالاتهم ومحبتهم كقوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22).

الثلاثاء, 31 آب/أغسطس 2021 09:48

المبحث التاسع : آداب الطعام

   من مواضيع التربية الأخلاقية مواضيع متعلقة بالآداب، نحو آداب الطعام والكلام والزيارة والتعلم وغير ذلك ، ونحن لن تستقصي هذه المواضيع في سياق الحديث عن التربية كما لم نستقص العقائد من قبل، وإلا خرجنا عن المقصود، وسنتعرض في هذا المبحث إلى أهم آداب الطعام، التي ينبغي تلقينها للطفل، وهي الآداب التي تمس الحاجة إليها أكثر من غيرها.
أولا : غسل اليدين والتسمية في أوله
   أول أدب غسل اليدين قبل الطعام وبعده وقد تحدثنا عنه في بحث النظافة قبل هذا، وثاني هذه الآداب تعويد الأولاد على التسمية-قول بسم الله- أول الطعام والشراب، فقد ثبت عن عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ  وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ-متفق عليه-. ومن نسي التسمية في أول الطعام يعلم الاسراع إلى استدراكها متى ذكرها، وقد جاء في الحديث:« إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
   ومن المفيد جدا بيان حكمة من الابتداء بالتسمية للأولاد، وهي حصول البركة ومنع الشيطان من مشاركتهم في طعامهم، وأن يقص عليهم قصة الجارية التي جاءت كَأَنَّهَا تُدْفَعُ إلى طعام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا » رواه مسلم.
ثانيا : صفة الجلوس للطعام
   ويعلم الأولاد إلى التزام الجلسات الطبيعية للأكل، كالجلوس متربعا أو جاثيا على ركبتين وغيرها من الجلسات، وننهاهم عن الجلسات التي تضر بصحتهم والتي فيها سوء أدب كالأكل متكئا أو مستلقيا، فعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ  فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ لَا آكُلُ وَأَنَا مُتَّكِئٌ- رواه البخاري -.
    وأقل منه ضررا الشرب والأكل قائما فقد ثبت أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا، فسئل أنس عن الأكل فقال : ذاك شر وأخبث- رواه مسلم -. فلابد للمربي أن يعلم أولاده أن لا أكل إلا على مائدة الطعام ، ولا يؤذن لهم في أخذ لمجات يتجولون فيها في البيت أو يطوفون بها في الشارع فإن ذلك من سوء الأدب، وهذا النهي كله من جهة الأدب والكراهة، وإلا فإنه أمر جائز إذا دعت إليه الحاجة، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب قائما-متفق عليه-.
ثالثا : النهي عن عيب الطعام
    من الآداب تربية الأولاد على أكل الطعام إذا استساغوه وأن يرتكوه من غير له إذا لم يعجبهم، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ متفق عليه، والعيب قد يكون من جهة الخلقة كأن يكون فاكهة رديئة، وقد يكون من جهة الصنعة كأن يكون طعاما مالحا ، وقيل في حكمة النهي أن فيه أذية لصانع الطعام ومقدمه.
    ولابد أن ننبه أمر آخر متعلق بها وهو أن بعض الآباء يدلل أولاده الذين يتحججون لترك ما حضر من طعام بعيبه حتى يتمكنوا مما يشتهونه من طعام، فعلى المربي أن يكون حازما ولا يترك هذا الخلق السيء يتطور، لأنه آثاره ستكون وخيمة على شخصية الولد وسلوكه وصحته أيضا.
رابعا : الأكل والشرب باليد اليمنى
   من الأحاديث التي ينبغي أن يحفظها أولادنا ويلزمون بالعمل بها قبل أن يعقلوا قوله صلى الله عليه وسلم:« إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» رواه مسلم. وذلك حتى يتعودوا على ذلك، ولا بأن تبين لهم حكمة ذلك التي تتضمن آدبا آخر وهو تخصيص اليد اليسرى لملابسة القاذورات، قال ابن الجوزي :« لما جعلت الشمال للاستنجاء ومباشرة الأنجاس، واليمنى لتناول الغذاء لم يصلح استعمال أحدهما في شغل الأخرى، لأنه حط لرتبة ذي الرتبة ورفع للمحطوط، فمن خالف ما اقتضته الحكمة وافق الشيطان ».
خامسا : اجتناب الطعام الحار
   من الآداب النبوية من المتعلقة بالطعام اجتناب الطعام الحار وتركه حتى يبرد ، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا ثَرَدَتْ غَطَّتْهُ شَيْئًا حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرُهُ ثُمَّ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ رواه أحمد. قال النووي في شرح البركه:" وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والإمتاع به، والمراد هنا والله أعلم ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوي على طاعة الله تعالى وغير ذلك. فتضمن معنى البركة أمورا حسية وأخرى معنوية ومن الأمور الحسية السلامة من الأذى وانتفاع الجسم بالطعام على أحسن وجه، وهذا الأذى قد يصيب اللسان في العاجل والأسنان وكذا البطن في الآجل، كما تقديم الطعام الحار للأولاد قد يدفعهم للنفخ فيه بلا شعور وهو منهي عنه أيضا.
سادسا : النهي عن النفخ في الطعام وعن التنفس فيه
   وإذا كان الطعام حارا فيوجه الأولاد لتركه حتى يعتدل ويحذرون من النفخ فيه، وقد نهى النَّبِيَّ  أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ رواه أبو داود والترمذي وصححه ، وهذا النهي مرتبط بالتنفس في الإناء عموما لما في ذلك من أضرار صحية، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ » متفق عليه. مما يحتم علينا إذا شربنا أن نفصل بين الشربات حتى يمكننا التنفس بعيدا عن الإناء، وقد روى أَنَسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ رواه مسلم.
    ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ رواه البخاري ، ومثله القارورة ونحوها وذلك عدة حكم منها: أن الشرب منها قد يكون سببا للتنفس فيها، وأنه قد يكون في الماء شيء يلوثه فلا تراه، وكذا قد يرجع شيء من فم الشارب إلى داخلها، كما أن الناظر إليه قد يعاف أن يشرب منها إذا رأى من يضع فمه فيها.  
سابعا: الأكل مما يلي الآكل ومن أطراف الصحن
   من الآداب الأكل مما يلي الآكل ومن أطراف الصحن، وقد سبق فيه حديث عمر بن أبي سلمة، وذلك إذا كان يأكل مع الناس في صحن واحد حتى يتقذر منه الآكلون، وكذلك إذا كان الآكل في صحنه وحده أن يأكل من جوانبه، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «البَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي واللفظ له وصححه.
ثامنا : رفع اللقمة عند سقوطها ولعق والصحن واليد
   ومن الآداب المجهولة لدى الكثير رفع اللقمة التي تسقط وتنظيفها ثم أكلها ، قال صلى الله عليه وسلم في ذلك :« إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ » رواه مسلم. ومثل هذا التصرف يجعلنا نعظم أمر النعمة لدى الأولاد ونجنبهم التبذير ونحثهم على حفظ المال ولو كان يسيرا، وما نراه اليوم من شيوع لرمي الأطعمة في المزابل؛ قد يكون مبدؤه التهاون في الأمر والتسرع لرمي الطعام؛ مع إمكان إزالة الأذى عنه والانتفاع به.  
   ومما يتعلق بالتبذير والنظافة وكذا البركة ؛ تعويد الأولاد على لعق الصحن بعد الطعام وكذا اليد إن علق بها شيء من الطعام ، قَالَ صلى الله عليه وسلم :« إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا » متفق عليه. وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ وَقَالَ إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ رواه مسلم.
تاسعا: الاقتصاد في الطعام
  من أهم الآداب التي ينبغي أن يلقنها الأولاد الاقتصاد في الطعام وعدم الإسراف فيه، لقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31). وقد قال صلى الله عليه وسلم :« مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» رواه الترمذي وصححه. وإن لذلك أثرا عظيما على صحته وعلى أخلاقه ودينه، قَالَ عمر رضي الله عنه: « إيَّاكُمْ وَالْبِطْنَةَ، فَإِنَّهَا مُكْسِلَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ مُؤْذِيَةٌ لِلْجِسْمِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ فِي قُوتِكُمْ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْأَشَرِ وَأَصَحُّ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنَّ امْرَأً لَنْ يَهْلِكَ حَتَّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِينِهِ».
    وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه:« الْمَعِدَةُ حَوْضُ الْبَدَنِ، وَالْعُرُوقُ وَارِدَةٌ عَلَيْهَا وَصَادِرَةٌ عَنْهَا فَإِذَا صَحَّتْ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ عَنْهَا بِالصِّحَّةِ، وَإِذَا سَقِمَتْ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ بِالسَّقَمِ». وإنما يسقم المعدة كثرة الأكل والإسراع في ابتلاعه قبل مضغه جيدا.
عاشرا: حمد الله تعالى في آخره
   من أهم الآداب تعويد الأولاد على حمد الله تعالى بعد كل طعام يطعمونه، ومن الأدعية الثابتة أن يقول :« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ » رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. وكذلك قوله:« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ وَقَالَ مَرَّةً الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى رَبَّنَا »رواه البخاري، (غير مكفي) معناه: غير محتاج إلى الطعام فيكفى ولكنه هو يطعم ويكفي، (ولا مكفور) بمعنى : مجحود النعمة والفضل، ولا مودع: متروك معرض عنه ولا مستغني معرض عن الرغبة إليه. (ربنا) بالفتح أي يا ربنا فتح الباري (9/ 851).

الأحد, 29 آب/أغسطس 2021 07:30

المبحث الثامن : النظافة

    من الأمور المهمة التي ينبغي أن يُربى عليها النشءُ المسلم النظافة والطهارة، وإن ذلك من خصائص الإسلام دين الطهارة الباطنة والظاهرة، وقد قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: 222) فهو سبحانه يحب المتطهرين الطهارة الباطنة المعنوية من أمراض القلوب، ويحب أيضا المتطهرين الطهارة الظاهرة الحسية من القذارة والنجاسة، وقد أُمر المسلم بطهارة بدنه وثيابه ومحيطه، وهذه الطهارة المأمورُ بها منها ما هو تعبد محض كالوضوء والغسل للصلاة، ومنها ما جُمع فيه بين التنظيف والتعبد كغسل الجمعة وسنن الفطرة، ومنها ما فيه معان صحية وقائية، ومنها ما يتعلق بحق النفس ومنها ما يتعلق بحق الناس أجمعين أو رب العالمين.
    وإنه من واجبنا أن نربي أولادنا على الطهارة بجميع أنواعها، وأن نلقّنهم أن المحافظة عليها من الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ » رواه مسلم ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ » رواه مسلم ، وأهم طريق للتربية على هذا الخلق هو التعويد وتكرار التذكير حتى تصبح النظافة عادة للطفل، ولذلك سأقسم هذا المبحث على خلاف ما سبقه بحسب المعاني الثلاثة المذكورة طهارة البدن وطهارة الثوب وطهارة المحيط، للتنصيص على الأمور التي ينبغي أن يعود عليها الطفل، وليس حسب الطرق المستعملة.
أولا : طهارة البدن
    أول شيء يعلمه الأولاد في هذا المضمار: الاستنجاء عقب قضاء الحاجة، ولا ينبغي التساهل معهم في هذا، فإن عدم الاستنزاه من البول يعد من الكبائر الموجبة لعذاب القبر كما صح في الحديث، ويتلوه تعليمهم وحثّهم على المحافظة على سنن الفطرة، كتقليم أظافر اليدين والرجلين، وكذا نتف الإبط وحلق العانة بالنسبة للبالغين، فعن أنس  قال :« وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» رواه مسلم ، ومعنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لهم حدا أقصى، وإلا فالأولى فعل ذلك أسبوعيا، لأن المدة إذا طالت أصبح تلك المواضع من الجسد مجمعا للأوساخ والأقذار، فضلا عن منظرها القبيح.
    ولا يختلف في أمر قص الأظفار الفتيات عن الفتيان، ولا خصوصية للبنات فيه فليتنبه إلى هذا، ولا يغتر بالعادات الغربية الدخيلة، ويضاف إلى هذه السنن بالنسبة للفتيان قص شعر الرأس كلما طال، وتعهده بالنظافة والترجيل دون إفراط ولا تفريط.
   ومن مظاهر طهارة البدن التي ينبغي أن يعوّد عليها الأولاد الاغتسال أسبوعيا، ففضلا عن غسل الجنابة والحيض للبالغين، يُعوّد الأولاد على الغسل مرة في الأسبوع وليكن يوم الجمعة، وقد قال النبي  :« حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ » متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم : «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»متفق عليه.
    ومن أهم الأمور التي تحفظ صحة العبد اهتمامه بالنظافة قبل الطعام وبعده، وتعويده على ذلك، فقبل البدء بالطعام يتفقد يديه ويغسلهما، فقد تكون في يديه أوساخ تضر به من غبار أو حبر ونحو ذلك، ويداوم على ذلك حتى وإن لم يرى فيها أثرا؛ لأن بعض الأوضار قد لا يظهر أثرها. وأما غسل اليدين بعد الطعام فهو من السنن المستحبة، خاصة إذا أكل شيئا فيه دسم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ » رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني. والغمر ريح اللحم وما يعلق باليد من دسمه، "فأصابه شيء" أي من الهوام أو من الجان، بل إن من السنة أيضا أن يمضمض فمه وينقي أسنانه، فقد ثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ فَمَضْمَضَ وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَصَلَّى رواه ابن ماجة وصححه الألباني. وفي معنى هذا استعمال الفرشاة أو السواك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :« لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ»متفق عليه، ويعتبر السواك من أهم مظاهر الحفاظ على النظافة المتربطة بالصحة مباشرة، ففضلا عن نظافة الأسنان وصيانتها من التسوس والتساقط فهو يقوي اللثة ويطيب الفم .
   ومن الأمور التي لها تعلّق بالنظافة والأدب عموما تجنّب البصاق والتنخم دون سبب، وإذا تنخم الولد في الطريق فعليه أن يجتنب القِبلة، وليكن ذلك تحت قدمه أو من جهة يساره، أو في منديل خاص لئلا يؤذي بها أحدا.
     ومثل هذا تحويل الوجه أثناء العطاس عن وجوه الناس، وعن الطعام والشراب لئلا يصيبها رذاذ العطاس، ووضع اليد أو المنديل على الفم، وخفض الصوت بها إذا أمكن. وكل هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي« كَانَ إِذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِثَوْبِهِ وَغَضَّ بِهَا صَوْتَهُ» رواه أبو داود والترمذي وصححه.
ثانيا : طهارة الثياب
   أما طهارة الثوب فقد ورد الأمر بها في قوله تعالى: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر:5) والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم هو أمر لأمته، وأمرنا بها أيضا أمرا عاما يشملها مع غيرها في قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) (الأعراف:31) ففي هذه الآية الكريمة أمر بأخذ الزينة عند الصلاة، وذلك متضمن لستر العورة وما هو أكثر من العورة؛ لأن الرجل إذا اكتفى بستر عورته بالثياب لا يقال إنه تزين، وهو متضمن للأمر بنظافة الثوب الذي نستر به أنفسنا، لأن النظافة تعتبر أساس كل زينة حسنة، ومظهر جميل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحث على مشط الشعر وتنظيف الثياب، فقد روى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلْيِهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ» رواه أبو داود وصححه ابن حبان ، وقَالَ رَجُلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً أي فهل هذا من الكبر فقَالَ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ » رواه مسلم.
   والتجمّل مطلوب عموما، ويتأكد في مواطن اجتماع الناس وفي أوقات الجمعة والعيدين، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على جعل ثوب خاص للجمعة غير ثوب المهنة فقال: « مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ » رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني ، ومقصود ذلك هو التزين والتجمل ليوم الجمعة والحث على نظافة الملابس التي تؤم بها المساجد، لأن الثياب التي تلبس للعمل في الزراعة أو التجارة قد لا تكون لائقة لهذا الاجتماع، وتخصيص اللباس لا يختص بصلاة الجمعة بل يعم المناسبات العامة والزيارات كما ذكرناه أعلاه وقد صح  عمر رضي الله عنه أنه قال:« يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ »متفق عليه.
ثالثا : طهارة المحيط
   من معاني النظافة التي علينا أن نُربي عليها أولادنا الحفاظ على نظافة المحيط، ويدخل فيه نظافة البيوت والحي والمدرسة، والشوارع والأماكن العامة كالحدائق والشواطئ والغابات وغيرها، ولعل أكثرنا لا يغفل عن نظافة البيت، والمعلم أيضا لا يغفل على تربية الولد على المحافظة على نظافة المدرسة ، ولكن أكثرنا يهمل التربية على الحفاظ على نظافة الحي والشوارع والأماكن العامة، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد جعل تنظيف الطرقات من الإيمان فقال:«الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ» رواه مسلم ، ومن الأذى الأوساخُ والفضلات التي تشوه جمال الطريق، والأشواك والأحجار والمسامير التي تؤذي المؤمنين، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن إزالة هذه الأمور المؤذية من طريق المؤمنين يعد من أسباب المغفرة فقال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ »متفق عليه.
   فعلينا أن نعوِّد الأولاد أن يرموا الأوراق والأغلفة والقارورات في المزابل المخصصة لها، لا في وسط الطريق أو طرفه، ولا في الحدائق أو الشواطئ، فإن لم يجدوا مكانا مخصصا لها؛ فليتركوها في جيوبهم حتى يجدوا المكان المناسب لرميها، وإن مخالفة ذلك إفساد للمحيط وإذاية للناس وخلاف مقتضى الإيمان، وشدة الجرم والإثم تزيد مع شدة القذارة الملقاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قَالُوا وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» رواه مسلم ، المراد باللاعنين الأمرين الجالبين للعن الناس, ولا أقذر من قضاء الحاجة في طريق الناس أو أماكن جلوسهم.
  ومن معاني الحفاظ على نظافة المحيط النهي عن تلويث موارد الماء، وقد قال صلى الله عليه وسلم : « لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ»متفق عليه، ومثله النهي الوارد عن الانغماس فيها لما يؤدي إلى تلويثها واستقذارها، وكل هذا من محافظة الإسلام على البيئة والنظافة، وصيانة المرافق العامة التي ينتفع بها الناس.

السبت, 28 آب/أغسطس 2021 11:37

المبحث السابع : الزهد والقناعة

   من الأخلاق التي ينبغي أن يتربى عليها أبناء الإسلام الزهد والقناعة، الزهد بمعناه الخاص يراد به "خلو القلب مما خلت منه اليد، وترك الترف والإسراف في المباحات"، والقناعة تعني "الرضا بما قسم الله والاقتصار على الكفاف وما سنح من العيش"، فهما متقاربان في المعنى، وقد تسمى القناعة تعففا كما قال تعالى في حق الفقراء الذين لا يمدون أيديهم إلى الناس:  (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273) وضدهما الطمع والتطلع إلى ما في أيدي الناس، وحب الدنيا والتكاثر فيها التوسع في ملاذها وشهواتها.
    وتربية الأولاد على الزهد والقناعة أمر مهم جدا، إذا أردنا أن ينشأ أولادنا على طاعة الله ورسوله وعلى الاستقامة والأخلاق الحسنة، لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة وسبب عظيم من أسباب الانحراف عن الفطرة، فإن سعة الأطماع تفسد الطباع وتطعن في المروءة.
    وننبه في صدر هذا البحث أنه الزهد لا يعني الخروج من الدنيا بالكلية -كما قد يصوره بعض الناس المتصنعين-، لأن الله تعالى يقول : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) (القصص:77) ونحن مأمورون باتباع الفطرة السوية كما لا يجوز الخروج عليها بالإفراط لا يجوز الخروج عليها بالتفريط أيضا.
طرق تربية الأولاد على الزهد والقناعة
أولا : التذكير بحقيقة الغني وغاية وجود المال
   أول ما يجب على المربي تجاه أولاده أن يبين لهم حقيقة الغنى التي يجهلها كثير من الناس، كما بينها نبينا صلى الله عليه وسلم:« لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» مفق عليه، فثمرة الغنى عدم طلب المزيد ، وذلك يحصل لمن استغنت نفسه وإلا ففي الناس ما يملك أضعاف ما يكفيه ولكنه دائما يشعر بالحاجة ويطلب المزيد، وهذا رغم كل ما يملك ليس غنيا لأنه لم يصل إلى حقيقة الغنى وثمرته، وفي معنى ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:« تَعْلَمُونَ أَنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ، وَأَنَّ الْإِيَاسَ غِنًى، وَإِنَّهُ مَنْ أَيِسَ مِمَّا عِنْدَ النَّاسِ اسْتَغْنَى عَنْهُمْ»-الزهد لابن المبارك، فالغني الحقيقي هو غنى النفس والقناعة كنز لا يفنى، وقد قيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال:" قلّة تمنيك ورضاك بما يكفيك".
   وعلينا أن نغرس في قلوب الأولاد أن مال الدنيا ومتاعها وسيلة وليس غاية، إذ الغاية هي رضا الله تعالى ودخول الجنة، وعلينا أن نحذرهم من أن تشغلهم الوسيلة عن الغاية، وقد قال صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ»رواه أحمد. وعليما نذكر أنفسنا وإياهم دائما بقوله صلى الله عليه وسلم :« يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»متفق عليه، وقوله  :« يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي قَالَ وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ »رواه مسلم.
ثانيا : الترغيب
   من أهم طرق تربية الأولاد على هذين الخلقين ترغيبهم بما رغبنا به نبينا ، وما أكثر الأحاديث الواردة في القناعة والزهد؟ ومن ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم جعل القناعة من أعظم أسباب الفلاح بعد الإسلام فقال:« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ »رواه مسلم، وجعل القناعة أيضا موجبة لأعلى مراتب شكر نعم الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم :« يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ »رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
   ومن أعظم الأحاديث المرغبة في الزهد في الدنيا حديث ابن عمر قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ:« كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»رواه البخاري، ومعنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بمالا يتعلق به الغريب في غير وطنه بل أكثر من ذلك كن كعابر السبيل الذي يتخفف من الأحمال لعدم استقراره. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:« مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»رواه الترمذي وصححه الألباني. فمن فضائل الزهد والقناعة تحصيل راحة النفس وطمأنينتها وهذا معنى :« جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ»، وقد قيل في تفسير قوله تعالى : ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل:97) بأنها حياة القناعة، قال ابن عقيل:« لو علِمتَ قدر الراحة في القناعة والعز الذي في مدارجها علمت أنها العيشة الطيبة». وقد قيل:« ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبّوكَ»-روي مرفوعا ولا يصح-.
ثالثا : الترهيب
  من طرق التربية على هذه الخلقين الترهيب من الطمع والاسراف ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«  أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ »رواه الترمذي وابن ماجة. والمعنى أنها مبغوضة، ومبغوض كل ما يصد عن سبيل الله مما هو موجود فيها. وقد دعا نبينا صلى الله عليه وسلم بالتعاسة وهو دعاء بالشر والتعثر والشقاء لمن جعل الدنيا مطلبه حتى كأنه يعبدها فقال: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ »رواه البخاري، وننبه أن المدعو عليه هنا هو عبد الدينار لا مالكه، لأن مالك الدينار يجعله خادما له، وأما عبد الدينار فهو خادمه حرصا على جمعه وحفظه.
رابعا : القدوة والتعويد
   من طرق تعويد أولادنا على القناعة صفة معيشتنا من حيث المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب، ومن كان موسرا منا عليه أن يحاول الانتقال بالأولاد من حياة اليسر والدعة إلى غيرها بين الفينة والأخرى؛ وذلك بالخروج بهم إلى الأرياف والبوادي والصحاري والأماكن النائية، حتى يتعود الأولاد على بعض الخشونة وشظف العيش، وعساهم أن ينظروا إلى حال الناس هناك وقساوة معيشتهم؛ فيشكروا نعمة الله تعالى عليهم، مع ما في ذلك من الترويح على نفوسهم. وليجعل من هذا الصنيع تطبيقا عمليا لقول رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ»رواه مسلم.
خامسا: القصص
  ومما يعيننا على تربية الأولاد على الزهد والقناعة ذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان قدوة فيهما فلم يَعِبْ طعامًا قَطَّ، إذا أحبه أكله وإذا كرهه تركه، وكان يأكل الخبز بالخلِّ، والخبز بالزيت، وكان  يلبس ما تيسَّر من الثياب، فيرتدي الثوب من الصوف أو الكتَّان، وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلا ويعطيه ما طلب ولو كان في حاجة إليه، وكان يعطي بعض أكابر العرب كل واحد مائة من الإبل تأليفا لقلوبهم، ولا يدخر لنفسه من ذلك شيئا, ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من طعام، وقد كان بإمكانه أن يكون أغنى العرب في زمانه بعد أن فتح الله تعالى عليه.     ونقص عليهم أيضا شيئا من آثار السلف وأقوالهم المأثورة في هذا الباب، ومن ذلك سير الخلفاء الراشدين الذين أتتهم الدنيا وهي راغمة فأداروا لها ظهورهم ، واكتفوا بالقليل ولم يتوسعوا في ملذات الدنيا مع يسرها بين أيديهم. وقد سأل رجل عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:" فَأَنْتَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ الْمُلُوكِ رواه مسلم.
   ولنعلم إننا إذا ربينا أولادنا على الزهد والقناعة فإنما نعد لهم الطريق إلى الآخرة، يقول ابن القيم : «لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها؛ فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها، فهذا أحد النظرين، النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بُد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:17)» الفوائد ص94.

الجمعة, 27 آب/أغسطس 2021 14:09

تطرح أسئلة كثيرة هذه الأيام عن حكم الاشتراك في الأضحية، في صور متعددة ، وكثير من الناس مع علمهم أنه يجوز الاشتراك في البقر والإبل إلى سبعة نفر، ولا يجزئ الضأن إلا عن فرد واحد، إلا أنه ثمة أخطاء في التصور لدى البعض تؤدي إلى سوء التطبيق. ومن ذلك هاتان الصورتان :
الأولى : أن بعض الناس فهم من حديث "على أهل كل بيت في عام أضحية" (أبو داود والترمذي وهو حسن) أن أهل البيت يعتبرون كالفرد الواحد فيجوز لهم الاشتراك في الضأن وهذا فهم خطأ، وإنما المقصود إذا ضحى واحد من أهل البيت أجزأ عن الباقين، كما جاء مبينا في قول أبي أيوب رضي الله عنه :" كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ" (رواه الترمذي وابن ماجة وهو صحيح) ، والأضحية عبادة مالية فالاشتراك الممنوع هو الاشتراك في المال، لا الاشراك في الأجر، فقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بشاة عن أمته. والاشتراك في المال ممنوع لو كان بين إخوة يعيشون تحت سقف واحد مع والدهم ..وإذا ضحى واحد منهم أجزأ عن الباقين. وإذا وهب مال لأحدهم ليضحي جاز شريطة كونها هبة خالصة عن كل عوض.
الثانية : متعلقة بالاشتراك في البقر والبدن، فإن البقرة تجزئ إلى حد سبعة وكذلك البدنة كما جاء في صحيح مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، لكن يتنبه إلى أنه لا يجوز أن يقل نصيب كل واحد منهم عن سُبُع قيمة البقرة أو البدنة، سواء كان المشتركون سبعة أو ستة أو أقل، ومن قل نصيبه عن السبع لم تجزئه...فإذا اشترك أربعة في بقرة بالتساوي ثم أراد أحد الأربعة أن يشترك مع أخر بالسوية لم تجزئه هو وشريكه معا ، رغم كون مجموع المشتركين خمسة إلا أنهما لم يدفعا إلا ثُمُن الأضحية وهو أقل من السبع.

الجمعة, 27 آب/أغسطس 2021 08:40

المبحث السادس : التربية على العفة

   من أهم عناصر التربية الأخلاقية التربية على العفة، والعفة تطلق على معنى : "الكف عن مقتضى الشهوات"، أو "الانكفاف عن الفواحش وعن ما لا يليق"، وهو معنى واسع تدخل فيه خصال كثيرة؛ ولذلك نجد الماوردي قد قسم العفة إلى عفة عن المحارم وعفة عن المآثم، ثم قسم العفة عن المحارم إلى نوعين أحدهما ضبط الفرج عن الحرام، الثاني كف اللسان عن الأعراض، وقسم العفة عن المآثم أيضا إلى نوعين: الأول الكف عن المجاهرة بالظلم ، والثاني زجر النفس عن الإسرار بخيانة.
    والذي نريد أن نتحدث عنه هنا يتعلق بشهوة خاصة، وهو أحد تلك الأنواع والذي حده بضبط الفرج عن الحرام، الذي قد يخص بلفظ العفة كما يسمى أيضا طهرا وشرفا وفضيلة.
    وإن النشء إذا تربى على العفة سواء بالمعنى العام أو الخاص؛ فإنه يحقق المروءة  التي ينال بها الحمد في الدنيا والثواب الآخرة، ويرتقي بها في سماء الفضيلة، ويبتعد عن حضيض الرذيلة، بل إنه يحقق بذلك أسباب الفلاح ويستحق وصف الإيمان وقد قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ثم ذكر من جملة صفاتهم ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون:5-7).
   ولا ينبغي أن يستهان بخلق العفة الذي هو ثمرة خصال وأخلاق أخرى متعددة، وأثره في شخصية النشء عميق جدا؛ فهو يكسب النشء قوة القلب، ووفرة العقل، ونزاهة النفس وعزتها، وانشراح الصدر وقلة الهم والغم، كما أن انتشار هذا الخلق في المجتمع يطهره من أصناف من الفساد، كما يرفع عنه ألوانا من العقوبات الربانية، وينمي فيه روح الغيرة على الأعراض التي تعتبر سياجا منيعا يحميه من التردي في مهاوي الرذائل والفواحش والدياثة والتخنث والتبرج والتعري.
طرق تربية الأولاد على العفة
أولا : التربية الإيمانية
   إن خلق العفة كما أشرنا من قبل له معنى واسع وتثمره خصال أخرى، وهذه الخصال بعضها من نتاج التربية الإيمانية لذلك فإن أول وسائل تربية النشء على العفة التركيز على التربية الإيمانية الصحيحة, التي تقوي صلته بالله رب العالمين, وعلى رأسها صفة الرقابة وأن يعلَّم أن الله تعالى يراه في كل وقت وحيثما كان, قال تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) (الأنعام:3)، وقال سبحانه : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19) وقد فسر ابن عباس (خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) بقوله :« الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ فَتَمُرُّ بِهِمُ المرأة فَيُرِيهِمْ أَنَّهُ يَغُضُّ بَصَرَهُ، عَنْهَا وَإِذَا غَفِلُوا لَحَظَ إِلَيْهَا وَإِذَا نَظَرُوا غَضَّ بَصَرَهُ، عَنْهَا، وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ وَدَّ أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى عَوْرَتِهَا». وإن إحساس قلب المرء برقابة الله تعالى يقمع شهوته ويكفه عن كل ما يخدش في العفة والطهارة؛ وذلك حياء من الله تعالى أو خوفا منه، وقد قال يوسف عليه السلام لما دعي إلى الفاحشة ( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) (يوسف:23).
    وإن التربية الإيمانية الصحيحة تجعل المرء يحول معتقده في أسماء الله وصفاته إلى معاني عملية في حياته, فيعلم أن السميع يسمع كلماته, أن البصير يُبصر حركاته, كما قال الربيع بين خثيم رحمه الله:« إذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا هممت فاذكر علمه بك، وإذا نظرت فاذكر نظره إليك، وإذا تفكرت فاذكر اطلاعه عليك, فإنه يقول تعالى: ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36).
ثانيا : تنمية القيم الخلقية
   من وسائل التربية على العفة-بالمعنى العام أو الخاص- تنمية القيم الخلقية في قلوب الناشئة، وذلك أن مفهوم العفة الذي نتحدث عنه إذا تأملناه وجدناه ثمرة ناتجة عن اجتماع عدد من الأخلاق الرفيعة, إذ فيه معنى الصبر وكبح جماح الشهوة، ونجد فيه معنى الحياء من الله ومن خلقه، ونجد فيه معنى الأمانة وعدم الخيانة وقد سبق الحديث عن طرق اكتسابها، كما نجد في مفهوم العفة معاني المروءة والشهامة والغيرة، وهي  خصال تحصل بالتلقين والقدوة كما تحصل بتمكين الولد من مطالعة كتب الأدب العربي، لأنه سيجد فيها من أخلاق العرب ما يحمله عليها ويوقد في نفسه جذوة الاعتزاز بها، ومن ذلك أنه يجد في باب الغيرة على الأعراض المثل القائل: "كل ذات صِدار خالة" العقد الفريد (3/30) والذي معناه أن كل امرأة هي في حكم الخالة، يَحميها كما يحمي خالَته، والصدار: ثوب لا كُمين له تتبذل فيه المرأة في بيتها، ويقرأ في هذه الكتب نحو قول عنترة بن شداد في غص البصر:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها العقد الفريد (6/3).
    وغيرها من الآثار والمواقف التي يكون لها وقعها في نفس كل قارئ وشخصيته.
ثالثا : اتباع الوسائل تحد من الشهوة
    من وسائل التربية على العفة بالمعنى الخاص اتباع الوسائل التي تحد من الشهوة وتدفع الفتنة، ومن ذلك تربية الأطفال على ستر عوراتهم منذ نعومة أظفارهم وتعظيم أمر كشفها في أنفسهم حتى يتربوا على الحياء والحشمة.
     ومما له ارتباط بالتربية على الحياء، التفرقة بين البنين والبنات في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين، وهذا بأمر من النبي  الذي قال:« مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» رواه أبو داود.
   ومن وسائل دفع الفتنة أن نصونهم عن اختلاط الجنسين وأن نبعدهم قدر الاستطاعة عن مواطن اختلاط الرجال بالنساء؛ لأن هذا الاختلاط مما يؤجج نار الشهوة والفتنة في سن مبكر؛ ونحن في نعيش في مجتمعات وبأنماط حياة لا يتمكن الناس جميعهم فيها من الزواج وتحصين أنفسهم عند البلوغ وفي مرحلة الشباب.
   ومن الوسائل التي تحد من سلطان الشهوة تربية الأولاد على غض البصر عن الحرام ونحفظهم ذكورا وإناثا قول المولى عز وجل : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) (النور:31). ولابد أن نتذكر أنه إذا نزل هذا الأمر في تلك البيئة التي لم يكن فيها هذا التعري الذي نراه ولا كان فيها هذه الصور الثابتة والمتحركة التي ترى في الشوارع والقنوات والهواتف والأنترنت، فإننا مدعوون اليوم إلى ما هو أشد صرامة من مجرد الأمر والزجر وهو المراقبة .
   ومما له صلة بغض البصر تعليم الأولاد أدب الاستئذان في الدخول إلى البيوت والتسليم على أهلها ، والاستئذان في الدخول إلى الغرف داخل البيوت، ولو لم يكن في البيت إلا المحارم، وقد قال رجل لِعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا". وإذا كانت النصوص تتحدث عن الاستئذان عند دخول البيوت فإن ذلك يشمل كل مكان أو محل مغلق بدلالة تنبيه والفحوى.
    ومن وسائل الحد من الشهوة ودفع الفتنة حث الأولاد –بعد سن البلوغ-إذا لم يتيسر لهم الزواج على الإكثار من الصيام، وقد دلنا على ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بعبارة صريحة حين قال:« يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»متفق عليه.
رابعا : اختيار الصحبة الصالحة
   من الوسائل المهمة للتربية على العفة اختيار الصحبة الصالحة للأولاد ذكورا وإناثا، فإن الصحبة الصالحة تعينهم على التحلي بالفضائل وتجنب الرذائل، وعلى التزام غض البصر وما هو أكثر من ذلك، وإن من لم يستحي من الله تعالى لغفلته فربما سيستحي من أصحابه الذين هم حوله، والذين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا تذكر. على الخلاف من ذلك فإن اتخذ صحبه فاسدة فإنها هي من ستكون حتما سبب هلاكه وجره إلى مهاوي الرذيلة والفسق.
خامسا : توعية الأولاد بأهمية العفة
   من وسائل التربية على العفة توعية الأولاد بأهميتها وذلك ببيان فضائلها وآثارها ومنها ما ذكرناه في أول المبحث، ويركز على قضية الراحة النفسية التي يكتسبها من عاش عفيفا نزيها طاهرا كما قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) في مقابل العذاب النفسي الذي يعيشه كل من تنكب طريقها وأعرض عن أسبابها، قال تعالى: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124).
سادسا :  الاعتناء الخاص بالفتاة
    ويؤكد في الأخير على ضرورة العناية الخاصة بالفتاة في هذا الباب، فلابد أن تتربى على تعظيم شأن عورتها وقبح إبدائها، ويُعظَّم ذلك في نفسها؛ حتى يصبح مجرَّد انكشاف العورة ولو في حال الخلوة ممقوتاً في حسَّها، ولا بد أن تعلم أن أنوثتها موضع فتنة اجتماعية خطيرة؛ حتى أن الله تعالى قدَّمها على جميع الشهوات حين قال عز وجل: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ولذلك فرض عليها الحجاب صيانة لعرضها شرفها وحماية للمجتمع من الفتنة التي إن انتشرت فيه فتكت به، وقد قال النبي  :« مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ»متفق عليه.

الخميس, 26 آب/أغسطس 2021 10:27

المبحث الخامس : الحياء

   من أهم الأخلاق التي علينا أن نربي عليها أولادنا خلق الحياء، وقد ختم لقمان الحكيم وصيته الجامعة بما يدل عليه من خلال لوازمه حيث قال : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19) والقصد هو الوسط والعدل بين الطرفين، والغض هو الانقاص من قوة الشيء، المعنى كن معتدلا في مشيك وفي صوتك، كن معتدلا في هيئتك وأفعالك وأقوالك، فإن ذلك هو الخلق الحسن، وهذه المعاني تنطوي على معنى الحياء، إذ هو الباعث للإنسان أن يعتدل في مشيته وهيئته والباعث له إلى خفض صوته.
  وحقيقة الحياء "انقباض النفس من شيء وتركه حذرا عن اللوم أو خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في ذي الحق"، وقيل هو "ملكة راسخة للنفس توزعها تدفعها على إيفاء الحقوق وترك القطيعة والعقوق".
أهمية خلق الحياء
    إن خلق الحياء يعتبر ركيزة من ركائز الأخلاق الإسلامية، وقد جاء في الحديث: «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ » رواه ابن ماجة وحسنه الألباني. ومعناه شامل للحياء من الله تعالى وللحياء من الناس ، فأما الحياء من الله تعالى فهو عبادة من العبادات القلبية تمنع من معصيته وتحث على التوبة والاعتذار منه، وأما الحياء من الناس فهو يمنع من الظلم والرذائل وكل قبيح، ويحث على الإحسان والخير. وقد قيل في تعريف الحياء إنه "خلق يبعث على ترك القبيح من الأقوال والأفعال والأخلاق، ويمنع صاحبه من التقصير في حق ذي الحق". وقد اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان حيث مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ» متفق عليه، وقال في حديث آخر:« الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» متفق عليه.
طرق تربية الأولاد على خلق الحياء
أولا : الموعظة الحسنة
   من طرق تربية الأولاد على الحياء أمرهم به وتذكيرهم بأهميته وأنه خلق المسلمين، وعلى المربي أن يعلم هو أولا بأن الحياء من الأخلاق التي فطر عليه الإنسان فهو إذ يعظ أولاده لا يعلمهم شيئا غريبا عنهم وإنما يدعم الفطرة السليمة ويثبتها وينميها، وليذكر الأولاد بأن هذا الخلق كان ثابتا عند العرب حتى في جاهليتهم، كما تدل عليه قصة أبي سفيان مع هرقل وقد كان يومها كافرا ، حيث قال :« فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا علي كذبا لكذبت » أي لكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله هرقل عن أحواله ولكنه لم يفعل ذلك وما منعه إلا الحياء من الناس.
ثانيا : الترغيب والترهيب
   ومن طرق تربية الأولاد على الحياء الترغيب فيه ببيان فضائله وذكر الأحاديث المرغبة فيه كقول النبي صلى الله عليه وسلم « الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ » متفق عليه. ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:« إِنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ عَشَرَةٌ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَصِدْقُ الْبَأْسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ، وَمُكَافَأَةُ الصَّنِيعِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَالتَّذَمُّمُ لِلْجَارِ، وَالتَّذَمُّمُ لِلصَّاحِبِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَرَأْسُهُنَّ الْحَيَاءُ».
  ويربى النشء على الحياء بترهيبه من ضده ، وأن من نزع منه الحياء استباح كل شيء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» رواه البخاري. لأن مآله عدم الحياء من الله تعالى كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه:« مَنْ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ النَّاسِ، لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ». ومن لا يستحيي من ربه وخالقه والمنع عليه فلا إيمان له، وقد قال ابن عمر :« إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْإِيمَانَ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ».
  وإن أعظم عقوبة لترك الحياء هي موت القلب، قال عمر بن الخطاب: « مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ»، وقال ابن القيم رحمه الله :« الحياء من الحياة ومنه الحيا للمطر لكن هو مقصور، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، فكلما كان القلب أحيا كان الحياء أتم».
ثالثا : القدوة
   من أهم طرق تربية البنين والبنات على الحياء أن يرى في حياتهم اليومية في سلوك الوالد والوالدة ؛ أن يرى في لسانهما وما يتلفظان به، في تصرفاتهما وتعاملهما مع الناس، وفي لباسهما ويرتديانه، فلا يسمعون منهما كلاما بذيئا خادشا ولا سبا فاحشا، ولا يرون منهم رعونة ولا وقاحة، ولا تكشفا ولا نظرا في الصور العارية وشبه العارية.
رابعا : التعويد عليه والتحذير من نواقضه
   ومن طرق التربية على الحياء تعويد الأولاد ذكورا وإناثا على ستر عوراتهم منذ نعومة أظفارهم قبل سن تمييزهم، ولا يقتصر في الستر على العورة الواجبة فقهيا في تلك السن، لأنه مفهوم الحياء يشملها ويزيد عليها، ومن الأمور المرتبطة بالحياء والحاصلة بالتعويد تربية البنات على الحجاب قبل سن البلوغ؛ حتى إذا بلغت تحجبت الحجاب الشرعي الكامل، وكذا تعويدهم على خفض الصوت حين الكلام وعلى خفض البصر احتراما لكل من هو أكبر منهم.
   ومما نلحقه بمعنى التعويد تحذير الأولاد وعدم تمكينهم من مشاهدة المناظر التي تخدش في الحياء؛ سواء كان ذلك في الشارع أو التلفاز أو الأنترنت، وأن نحذرهم من اختلاط الجنسين، ومن الذهاب إلى أماكن العري والفساد، ولا ننسى أعظم شيء مذهب للحياء في عصرنا بعد اللباس الفاضح وهو سماع الغناء الماجن، فلا أذهب للحياء ولا أفسد للأخلاق منه.
خامسا : القصص الهادف
   ومن طرق التربية على الحياء القصص الهادف، وأول ذلك قصص قدوة الخلق وسيد العالمين  الذي كان "أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ" كما قال أبو سعيد متفق عليه. والذي قال عن عثمان:« أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ »رواه مسلم.
    ومن أشهر الحوادث الدالة على حيائه صلى الله عليه وسلم أنه لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ أمر أَنَسٌا أن يدعو من يلقى من الْمُسْلِمِينَ ليعطموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، وكان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وضع يَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَدَعَا ليبارك فيه، وَبَقِيَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَطَالُوا عَلَيْهِ الْحَدِيثَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحْيِي مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ شَيْئًا فَخَرَجَ وَتَرَكَهُمْ فِي الْبَيْتِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) (الأحزاب:53) رواه مسلم. وهذا الخلق هو خلق الأنبياء جميعا كما هو جلي في حديث الشفاعة حيث يذهب الناس إلى الأنبياء واحدا واحدا؛ فيعتذر كل واحد منهم بالحياء من الله عز وجل.
    ومن قصص الصحابة رضي الله عنهم قصص عثمان رضي الله عنه ومن ذلك أنه ذُكِرَ عُثْمَانُ وَشِدَّةُ حَيَائِهِ عند الحسن البصري فَقَالَ: «إِنْ كَانَ لَيَكُونُ فِي الْبَيْتِ وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ، فَمَا يَضَعُ عَنْهُ الثَّوْبَ لِيُفِيضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يُقِيمَ صُلْبَهُ».
    وقصة عائشة رضي الله عنها التي كانت تقول: :« كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي فَأَضَعُ ثَوْبِي فَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ » رواه أحمد
    ومن قصص التابعين قصة الأسود بن يزيد حيث بكى وهو يحتضر، فقيل له ما هذا الجزع ؟ قال: « مَا لِي لَا أَجْزَعُ؟ وَمَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِّي؟ وَاللهِ لَوْ أُتِيتُ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهَمَّنِي الْحَيَاءُ مِنْهُ مِمَّا قَدْ صَنَعْتُهُ، إِنَّ الرَّجُلَ لِيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ الذَّنْبُ الصَّغِيرُ فَيَعْفُو عَنْهُ فَلَا يَزَالُ مُسْتَحْيِيًا مِنْهُ».

الأربعاء, 25 آب/أغسطس 2021 13:02

المبحث الرابع : التواضع
 
   ومن أهم مضامين التربية الخلقية التربية على التواضع ولزوم خفض الجناح وعدم الترفع على عباد الله تعالى، ولقد كان من وصايا لقمان الجامعة الوصية بهذا الخلق، إذ قال تعالى : ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18). "لا تصعّر" و"لا تصاعر" أي لا تمل عنقك، وإمالة العنق أمام الناس من دلائل الكبر، وعلامة احتقار الناس، ثم قال: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً)، فنهاه عن مشية المرح وهي الاختيال وقلة المبالاة بالناس، وذلك من دلائل العجب والغرور والكبر، وكل ذلك يتنافى مع خلق التواضع.
     ثم قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )، أي أن الله تعالى يبغض المختال بأفعاله والفخور بكلامه، وإذا صرح بالنهي عن مظاهر التكبر بالحركات فمن باب أولى أن ينهاه التكبر بالكلام لأنه أعظم إيذاء.
   وقد خُص خلق التواضع بالذكر من بين أخلاق كثيرة تتعلق معاملة الناس، لأن التواضع يعتبر سببا لخير كثير، كما أن الكبر رأس كل شر، وقد قال تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83)، فجعل سبحانه الجنة لأهل التواضع؛ لأنّ من معانيه التواضع للشرع والتواضع للحق، ولأن الكبر كان سببا للكفر وردّ الحقّ والانحراف عن منهج الله تعالى.
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: « لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ » رواه مسلم. وذلك أن الكبر يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين التي تقود إلى الجنة، إذ المستكبر يرى نفسه كاملة فلا يسعى إلى علاجها من آفاتها ولا إلى تكميلها بالفضائل، والمستكبر يحتقر الناس؛ فلا يرى لهم حقا ولا يعتقد لهم حرمة، فيستبيح أعراضهم وأموالهم ودماءهم، وكذلك المستكبر يرى أنه أولى من الناس بكلّ خير فيقع في الحسد، والمستكبر أيضا لا يسمع النصيحة ولا يقبل الحق من قائله، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ(أي رده)، وَغَمْطُ النَّاسِ (أي احتقارهم)» رواه مسلم. والمستكبر أناني يحب نفسه ولا ينفع غيره ولا ينفع أمته ودينه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :« لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه.
كيف نربي أولادنا على التواضع
أولا : الوعظ والتذكير
   أول طريق لتربية الولد على خلق التواضع الإرشاد والوعظ والتذكير، ولا يشترط استحضار النصوص في ذلك وليس كل الآباء حافظ لها أو مستحضر لها عندما تدعو الحاجة، ومن ذلك أن يقول المربي :
-يا بني إن التواضع خلق المسلمين، والكبر خصلة ذميمة لا يحبها الله تعالى ولا يحب أهلها.
-يا بني إن المتكبر إنما يتكبر بقوته وصحته أو جماله أو علمه وممتلكاته وماله، وهذه نعم الله تعالى وفضله يؤتيها من يشاء وينزعها ممن يشاء.
-يا بني إنه لا يحق لأحد أن يتكبر لأنه مهما رآى نفسه كاملا فهو ناقص، إن أصله من التراب ومصيره إلى تراب، وإنّه مخلوق من ماء مهين، وخُلق ضعيفا وأخرجه الله سبحانه من بطن أمه وهو جاهل لا يعلم شيئا.
-يا بني إن الكبر حمق ودناءة، وإنك إذا تكبرت فلن يزيدك ذلك رفعة عند الله تعالى ولا عند الناس، قال تعالى : ( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الإسراء:37) .
ثانيا : التعويد والتكرار
   ومن طرق تعليم الولد خلق التواضع بتعويده على أعمال تورثه ذلك كمجالسة الفقراء وتلقينه العطف عليهم وعلى المرضى والزمنى، وتكليفه بأعمال تورث ذلك مثل كنس البيت أو الحي المجاور للبيت أو رعي الغنم إن أمكن ذلك، وكذا حمل المشتريات من السوق ولو كان فيها ثقل، ولا ننسى إجلاسه في حلق العلم فثني الركب عند المعلم من أعظم ما يعلم التواضع ، يروى مرفوعا ولعله من كلام بعض الصالحين :« مَا اسْتَكْبَرَ مَنْ أَكَلَ مَعَهُ خَادِمُهُ، وَرَكِبَ الْحِمَارُ بِالْأَسْوَاقِ، وَاعْتَقَلَ الشَّاةَ فَحَلَبَهَا »(روي مرفوعا وحسنه الألباني). وفي رواية :«مِنَ كُنَّ فِيهِ أَرْبَعٌ فَهُوَ مِنَ الْمُتَوَاضِعِينَ مَنْ أَكَلَ مِعَ خَادِمِهِ وَعَقَلَ شَاتَهُ وَرَكِبَ الْحِمَارَ وَحَمَلَ مَا ابْتَاعَ مِنَ السُّوقِ».
ثالثا : الترغيب في التواضع والترهيب من الكبر
   ومن طرق التربية على خلق التواضع الترغيب فيه ، ومن ذلك أن يعلم الولد:
-أن أول صفات عباد الرحمن الصالحين التواضع، قال تعالى : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63).
-وأن التواضع أول صفة المحبين لله تعالى الذين يحبهم، قال تعالى : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة:54).
-وأن التواضع هو من يورث الرفعة في الدنيا والآخر لا الكبر، كما قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» رواه مسلم.
   ومن الطرق أيضا الترهيب من الكبر الذي هو نقيض التواضع وناقضه :
-فيذكر له قول المولى عز وجل في الحديث القدسي:« اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ رواه مسلم وأبو داود واللفظ له.
-ويكرر له ذكر قصة إبليس اللعين الذي كفر بسبب كبره، كما قال تعالى : (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف:13).
رابعا : القدوة
   من طرق التربية على التواضع أن يرى الولد هذا الخلق في والديه، في كلامهم ولباسهم وحركاتهم، فليحذر الآباء كل الحذر من أن يرى منهم أولادهم شيئا من التكبر على خلق الله تعالى، أو التنقص منهم لشيء من صفاتهم الخلقية، أو أحوالهم الصحية أو الاجتماعية، وليحذر الآباء من أن يرى منهم أولادهم احتقار بعض الناس سواء بسبب لونهم أو جنسهم أو لغتهم أو مكان سكناهم أو حرفتهم، فإن ذلك من القدوة السيئة وسوء التربية.
خامسا : القصص
   من طرق التربية على القدوة القصص ، وأول ما يفيد في ذلك الروايات التي تبين تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق أجمعين، ولقد كان ذلك من أظهر الأخلاق في سيرته العطرة، فإنه كان يسلم على الصبيان ويداعبهم، ويأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم، ويأكل على الأرض ويركب الحمار ويمشي في الأسواق ويخالط العبيد والمساكين، ونهى صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في مدحه وإطرائه، وقال قولوا عبد الله ورسوله وزجر من قال له سيدنا.
     ومن القصص قصص الصحابة رضي الله عنهم، وأولهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقد كان يحلب لبعض الأيتام أغنامهم، فلمّا استخلف قالت جارية منهم الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر بل وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله، وسبب فعله ذلك أن العرب كانت تستقبح من النساء أن تحلب فإذا غاب الرجال احتاج النساء إلى من يحلب لهن .
   ومن ذلك قصة عمر رضي الله عنه فقد رآه بعض التابعين حاملا قربة ماء، فقال يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال عمر :" لما أتاني الوفود سامعين طائعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها".
   وكان رضي الله عنه يلبس ثوبا مرقعا وهو خليفة المسلمين، وكان  يتعاهد الأرامل يستقي لهن الماء بالليل ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة فدخل إليها طلحة نهارا فإذا هي عجوز عمياء مقعدة فسألها ما يصنع هذا الرجل عندك قالت هذا مذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى فقال طلحة:" ثكلتك أمك يا طلحة أعورات عمر تتبع".
   ومما يروى قول مجاهد صحبت ابن عمر رضي الله عنهما في السفر لأخدمه فكان يخدمني، وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه أن يخدمهم في السفر [جامع العلوم والحكم (2/ 295)].

الثلاثاء, 24 آب/أغسطس 2021 17:49

المبحث الثالث : الصبر والتضحية

   من الأخلاق المهمة التي ينبغي أن يتربى عليها أبناء الإسلام خلق الصبر، مفتاح الفرج وسلاح الحياة الذي لا تفنى ذخيرته ولا تنقطع الحاجة إليه، وإذا كانت مهمة المربي هي صناعة الأجيال، فإن مما يحرص عليه الصانع أن يجعل من صنعته دائمة النفع وأن يصونها من تسارع الفساد إليها؛ فإن مما يحمى الأجيال من الفساد والتفسخ والانحلال تربيتهم على خلق الصبر.
    وهذا الخلق أكثر من ضروري للمرء في حياته ويحتاج إليه الطفل في أكثر من جانب.
1-فهو يحتاج إليه للقيام بواجب العبادة والثبات عليها، قال تعالى : ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِه) (مريم:65) وذكر العلماء من الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية.
2-ويحتاج إلى الصبر في مواجهة الفتن -من ابتلاءات والشهوات -التي تعرض عليه وتغريه بالانحراف عن منهج الله تعالى، قال سبحانه : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35)، وقال تعالى: ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (الفرقان: 20)
3-ويحتاج إلى الصبر لمواجهة صعاب الحياة ونوائب الدهر التي قدرها الله تعالى عليه، فقد يكون مريضا فيصبر على مرضه، وقد يكون فقيرا فيصبر على فقره، وإذا ابتلى بفقد أحبابه وأقاربه فلابد أن يصبر على فراقهم، وإذا ابتلى بظلم الناس وتعديهم، فلابد أن يصبر ويحتمل ليصد ويقاوم.
4-ويحتاج الولد للصبر للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد عددناه من الأمور الأساسية في التربية العبادية، وكل من تصدى لهذا الواجب لابد أن يصبر على ما يصيبه في سبيل الله من ابتلاء، ولهذا قيل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى علم قبله وحلم معه وصبر بعده.
     ولشدة الحاجة لهذا الخلق وملازمته لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجد حاضرا في وصية لقمان الجامعة لابنه، حيث قال له : (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان:17)
وسائل التربية على الصبر
أولا : الموعظة الحسنة
   أول الوسائل يستعمل في تربية الطفل على الصبر الوعظ والتذكير كلما دعت مناسبة إلى ذلك، ومما ينبغي أو يوعظ به في مطلق الأحوال :
-يا بني إن الدنيا مهما طالت قصيرة، وإن الآخرة دائمة لا نهاية لها، فاصبر على الطاعة ساعة تنل ثوابا غير منقطع.
-يا بني إن الله تعالى خلق الملائكة وكلّفهم بالعبادة ليلا ونهارا، ونحن لم يكلّفنا إلا بما نقدر عليه؛ فلِمَ نستكثر العبادة ونستثقلها ولا نثبت عليها.
-يا بني لا تكن عجولا، فإن النصر مع الصبر وإن الفرج يأتي بعد الشدة، وإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ) (الأحقاف:35).
-يا بني لا معنى للجزع إذا حلّت بك المصائب ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما:« وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» رواه الترمذي وصححه.
-يا بني اعلم أن ما يصيبك إنما هو بما كسبت يداك، وأن هذه الدنيا دار الابتلاء والامتحان، قال الله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142). -يا بني لا تقل لو كان كذا لكان كذا ، ولكن قل "قدّر الله ما شاء فعل" أو قل "إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها" كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم.
-يا بني كن حليما صبورا واعف عن الناس، وإن الله تعالى يقول: ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى:43) .
ثانيا : الترغيب
   ومن الوسائل التي نستعملها لتنشئة الولد على خلق الصبر الترغيب فيه فيقال له:
-يا بني إن للصابر أجرا عظيما، وقد قال الله تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10).
-يا بني إن الله يحب الصابرين، قال الله سبحانه : ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146) ولا غاية أنبل للمرء في هذه الدنيا من أن يكون محبوبا عند الله تعالى.
-يا بني إن أدرت أن تنال تأييد الله تعالى وإعانته فتحلى بالصبر ، لأن الله جل جلاله يقول : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:46)
-يا بني لا يدخل الجنة إلا الصابرون، قال تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (المؤمنون:111) وتقول لهم الملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:24).
    والأحاديث في الترغيب في الصبر كثيرة جدا فينتقي منها ما يناسب الحال.
ثالثا : القدوة والتعويد
   من وسائل تربية الولد على الصبر القدوة الصالحة، فعليك أيها المربي أن تجعل ولدك لا يرى منك جزعا لحطام الدنيا وسرعة التأثر لشهوات الدنيا.
  ومنها التعويد ومن ذلك تعويده على الصوم وقد علمنا أن الصحابة كانوا يعودون أولادهم الصيام قبل أن يعقلوا.
  ومن الصبر الذي يحصل بالعادة تعويدهم على بعض الخشونة في العيش، وتجنيبهم الرفاهية المفرطة التي تغرس الوهن في قلوبهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:« الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ» رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني ، وقال عمر رضي الله عنه «اخشوشنوا وتمعددوا وإياكم وزي العجم فإن النعم لا تدوم ».
  ومما يدخل في هذا المعنى تعمد تحميل الأولاد بعض المشاق عن طريق ممارسة أنواع الرياضات البدنية أو غيرها.
رابعا : القصص الهادف
    من وسائل التربية على الصبر أيضا القصص الهادف، وذلك بأن يقص المربي على ولده قصص الصابرين التي تبين شدة تحملهم وأن العاقبة لهم، ومن ذلك قصة أيوب عليه السلام فقد ابتلاه المولى عز وجل في ولده وماله وجسمه فصبر ولم يشتك إلا الله واشتكى بأدب فلم ينسب الشر إلى الله تعالى، ولم يستعجل الإجابة، وقد عوضه الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة، قال: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:83-84) قال مسني أي مسا خفيفا ولم يعظّم الأمر مع أنّه ذهب ماله وولده وبلاءه في جسده كان سببا لهجران الناس له.
    ومن القصص العظيم قصة أصحاب الأخدود وخاصة أن من أبطلها غلام صغير، ومنها قصة إبراهيم الذي أمر بذبح ولده فصبر وامتثل أمر ربه ، وولده الذي امتثل لأمر الله ووالده دون أي تردد.
   ومن قصص النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه لما كذبه أهل الطائف وضربوه حتى أدموه جاءه ملك الجبال وقال:« يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»مفق عليه.
    من قصص الصحابة رضي الله عنهم قصة تعذيب عمار بن ياسر وأبيه وأمه سمية أول شهيدة في الإسلام ، وقصة ضرب مشركي قريش لأبي بكر قبل الهجرة، وقصة مصعب بن عمير أول سفير في الإسلام وغيرها من القصص الكثير الذي يربى الأولاد على الصبر وتحمل المشاق وعلى التضحية وعلى تعظيم من يستحق التعظيم من الأنبياء عليهم السلام والصحابة وسلف هذه الأمة رضي الله عنهم.
   وننبه في الختام أن بعض هذا القصص قد يكون مكتوبا بأسلوب ميسر يقبله الأطفال ويكون قد صور في أفلام ورسوم متحركة ، فلا نغفل عن استغلال ذلك وعن توجيه الأولاد فيما يقرأون وما يشاهدون إلى ما فيه صلاح عقائدهم وأخلاقهم.

الإثنين, 23 آب/أغسطس 2021 14:34

المبحث الثاني : الأمانة

   ومن الأخلاق المهمة التي ينبغي أن يُربى عليها النشء المسلم الأمانة؛ التي من معانيها الوفاء والصدق وحفظ الأسرار، ومن أضدادها الغش والسرقة والخيانة.
   ولخلق الأمانة أثر عظيم في تكوين شخصية سوية وقوية للطفل، وفي بناء مجتمع مسلم آمن ومتماسك، وله أثر في حماية الأجيال من أن يكون فيهم عملاء خائنين لدينهم وأوطانهم وأهليهم.
    وقد قال سيد المربين صلى الله عليه وسلم وهو يحث على هذا التزام هذا الخلق في كل حال :« أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني، وقد بين  أعظم آثار الاتصاف بالأمانة رابطا لمعناها بمفهوم الإيمان فقال :« الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ » رواه النسائي والترمذي وصححه.
طرق تربية الأولاد على الأمانة
    ومن طرق تربية الأولاد على الأمانة تحديثهم بمثل هذه الأحاديث التي تبين أهمية الأمانة وتحث عليها وترغب فيها، وتحفيظهم قول المولى عز وجل : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء:58) وقوله تعالى في صفات المؤمنين المفلحين : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8).
   ومن الطرق أيضا ترهيبهم من الخيانة وتضييع الأمانة، فقد نفى نبينا صلى الله عليه وسلم الإيمان عن فاقد الأمانة وقال: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ » رواه أحمد ، وجعل الخيانة من الصفات اللازمة للمنافقين حين قال صلى الله عليه وسلم:« أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه، كما أنه صلى الله عليه وسلم جعل تضييع الأمانة من علامات قرب الساعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ» رواه البخاري.
     وينبغي زجر الأولاد عن الغش بكل أنواعه، فيقال للولد إياك والغش في الامتحانات، ولا تكن كالبائع الغشاش والطبيب الغشاش والبناء الغشاش، لأن هؤلاء لا يفلحون أبدا وطريقهم قصير والفضيحة مصيرهم، وتقبح صورتهم بأن غشهم يحولهم إلى مجرمين في حق المجتمع، ومع كل ذلك يحفظون أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من الغشاشين وقرنهم بمن يحمل السلاح ضد الأمة حين قال :« مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» رواه مسلم.
   ومن أهم طرق تعليمهم الأمانة أن يكون المربي قدوة يظهر منه الحفاظ على ودائع الناس والحرص على أدائها، ورد الديون وما يستعار إلى أهله.
   ومن الطرق أن نقص عليهم بعض القصص المرغب في أداء الأمانة المبين لفضل هذا الخلق وأثره كقصة أصحاب الغار التي قض علينا نبينا صلى الله عليه وسلم، والتي جاء فيها: « قَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِي حَقِّي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا فَجَاءَنِي فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ فَقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرُعَاتِهَا فَخُذْ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي فَقُلْتُ إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَخُذْ فَأَخَذَهُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ اللَّهُ»متفق عليه.
     وإذا كان الطفل لا تودع عنده الأموال ولا الأشياء النفسية فإنه من غير شك يستعير من أصحابه في الدراسة أو الحي كتبا أو كراريس أو لعبا، فعلينا أن نعظم في نفسه هذه الأمانات وإن كانت قيمتها حقيرة، والطفل إذا عظم الأمانة اليسيرة الحقيرة كان لما سواها أشد تعظيما.
     ولا ننس تحذير الأولاد مما يضاد ذلك من تضيع للأمانة أو جحدها ومن كل الخصال المنافية للأمانة وعلى رأسها السرقة التي هي كبيرة من كبائر الذنوب ومرض اجتماعي خطير، وذلك بتقبيحها وتقبيح أهلها، وذكر مفاسدها والعقوبة التي يستحقها مرتكبها وهي القطع في الدنيا والقصاص منه يوم القيامة.
المسؤولية والمنصب أمانة
    من معاني الأمانة أمانة المسؤولية والمنصب، فعلينا أن تغرس في قلوب الناشئة منذ صغرهم تعظيم أمر المسؤولية حتى إذا كبر كان عنصرا خيرا مؤديا لواجبه في وظيفته وخيرا نافعا لنفسه ولأهله وللناس أجمعين، وعلينا أن نحفظ أولادنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه.
  ومن القصص المأثور والمؤثر في هذا الباب قصة عمر بن عبد العزيز مع أحد عماله لما جاءه ليلا فأشعل شمعة غليظة لتضيء المكان وأخذ يسأله عن أحوال المسلمين والبلاد وعن الفقراء وعن الأسعار وهل الناس تصلهم حقوقهم ؟ وهل هناك شكوى من أحد ؟ فأخذ يسأله عن كل كبيرة وصغيره والعامل يجيبه فلما فرغ قال العامل لعمر : يا أمير المؤمنين كيف حالك وحال عيالك وجميع أهلك ؟ فعد ذلك أطفأ عمر الشمعة الكبيرة وأشعل سراجا لا يكاد يضيء ثم التفت إليه وأجابه عما سأل ، ثم إن العامل تعجب مما صنع فسأله عن صنيعه فقال له عمر : «يا عبد الله إن الشمعة التي رأتني أطفأتها من مال المسلمين ، وكنت أسالك عن حوائجهم وأمرهم فكانت هذه الشمعة تنير بين يدي فيما يصلحهم وهي لهم، فلما صرت لشأني وأمر عيالي ونفسي أطفأت نار المسلمين ».
الأسرار أمانة
   من معاني الأمانة حفظ الأسرار، سواء الأسرار الشخصية أو أسرار الأسرة أو الجماعة والأمة ، وقد قال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:« إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ» رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني ، وتربية الطفل على هذا الخلق يسهم في تكوين إرادة واعية فاعلة لديه، لأن الطفل من طبعه محبة التكلم بما يملك من معارف أو إبراز ما لديه من معلومات، فعندما ندربه على حفظ الأسرار، فإننا ننمّي لديه سجايا أخرى، نحو قوة الإرادة وضبط النفس ورباطة الجأش، ولابد من تبصير الأولاد بأهمية حفظ الأسرار وأنها من ضمن الأمانة وأن يبصروا أيضا بخطر إفشاء الأسرار، وكما يجب علينا أن نمتحنهم في ذلك.
    وإن هذا الأمر كان هذا من الأخلاق التي تربى عليها الجيل الإسلام الأول، ولنتأمل هذه القصة التي قصتها علينا أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حين قَالَتْ :"أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ» متفق عليه.
  ومما ورد في هذا السياق هذا الخبر الذي حدثنا به خادم النبي صلى الله عليه وسلم أَنَس بن مالك حيث قَالَ:" أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ قُلْتُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَةٍ، قَالَتْ مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا ثم قَالَ أَنَسٌ لتلميذه ثابت البناني: وَاللَّهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ رواه مسلم. فلننظر إلى المنهج السليم والتربية القويمة التي رُبي عليها أبناء الصحابة رضي الله عنه، ولنتأمل جيدا أن أم أنس فرحت بجواب ولدها، وأيدته وشجعته على حفظ السر، ولم يغلبها الفضول على أن تطلب منه إخبارها وأن تتودد إليه بأنها أمه وأقرب الناس إليه، وإنها لو فعلت ذلك لكانت مفسدة لتربية ولدها ولخلقه وداعية له لإفشاء الأسرار، كم يفعل الآباء نحو هذا الذي وصفت في زماننا هذا، ولنتأمل كيف حافظ على ذلك السر على مر السنين، ولم يحدث به لأنه لم يكن فيه علم أو فائدة متعلقة بغير النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الخبر السابق الذي حدثت به فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.

الأحد, 22 آب/أغسطس 2021 20:52

الفصل السادس : التربية الأخلاقية
    من مضامين التربية الإسلامية الأساسية التربية الأخلاقية، حتى إن مفهوم التربية قد ينحصر عند بعض الناس في الجوانب الأخلاقية، فيحكمون على تربية المرء حسنا وسوءا من خلال أخلاقه فحسب، وتهذيب السلوك يعتبر من أهم المقاصد العامة للشريعة الإسلامية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» رواه أحمد وصححه الألباني في رواية "مكارم الأخلاق"، وإن لحسن الخلق منزلة عظيمة عند الله تعالى فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ رواه أحمد وصححه ابن حبان ، وجعله صفة خيار المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم : « أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» رواه أبو داود والترمذي وصححه, وقال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا» رواه الترمذي وصححه الألباني.
     والخلق هو سجية وهيئة راسخة في النفس يصدر عنها الأفعال من غير حاجة إلى فكر أو روية ، فإن كان ما يصدر عنها جميلا سميت هذه السجية خلقا حسنا، وإن كان ما يصدر عنها سيئا سميت خلقا سيئا ( التعريفات للجرجاني (104)، ويدخل في معنى الخلق كل سلوك يصدر من العبد في تعامله مع نفسه ومع الناس، في تعامله في نفسه كنظافته وهيئته وأدبه في الطعام والشراب والمشي، وفي تعامله مع الناس كالصدق والأمانة والتواضع وإفشاء السلام وغير ذلك. والأخلاق إنما تكتسب في الصغر ومدة طفولة المرء، والطفل ينشأ على ما عوده عليه أبواه، لذلك ينبغي للولدين أن يعتنيا بهذا الجانب الاعتناء اللازم، وسنذكر فيما يأتي أهم هذه الأخلاق التي يجب أن يربى عليها الطفل.
المبحث الأول : الصدق
   إن الصدق هو إلتزام الحقيقة قولاً وعملاً ( )، وهو أصل هام من أصول الأخلاق الإسلامية ودعامة الفضائل ودليل الكمال وعنوان الرقي، وضده الكذب وهو رأس الرذائل وعلامة أهل النفاق.
    وإن للصدق أثرا كبيرا في نفس المرء وفي محيطه، فالصدق يولِّد في النفوس الطمأنينة والسكينة، بينما يورّثها الكذب القلق والاضطراب، والصدق يغرس الثقة بين الأفراد والجماعات، ويحتاجه الكبير والصغير والذكر والأنثى والحاكم والمحكوم والعالم والمتعلم، والصدق أيضا يبعد صاحبه عن الرياء في العبادات، والفسق في المعاملات، وإخلاف الوعد وشهادة الزور، وخيانة الأمانات( )، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119) وقد قال عمر رضي الله عنه :« لا تجد المؤمن كذابا»، وقال سعد رضي الله عنه:« كُلُّ الْخِلَالِ يُطْبَعُ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» وروي نحوه عن ابن مسعود، ومصداق ذلك في قوله عز وجل: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل:105)
   وقد حرص السلف على تنشئة أولادهم على مكارم الأخلاق وعلى الصدق على وجه الخصوص، ومن الوصايا الحكيمة المأثورة عنهم وصية عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده قال:« عَلِّمْهُمُ الصِّدْقَ كَمَا تُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ وَجَالِسْ بِهِمُ الْعُلَمَاءَ وَالْأَشْرَافَ فَإِنَّهُمْ أَحْسَنُ شَيْءٍ أَدَبًا وَأَسْوَأُ شَيْءٍ رَغْبَةً وَجَنِّبْهُمُ الْحَشَمَ فَإِنَّهُمْ لَهُمْ مَفْسَدَةٌ».
طرق تربية الأولاد على الصدق
1-القدوة
   من أهم طرق تلقين الأولاد خلق الصدق القدوة، فلا يُعقل أن يتربى الولد على الصدق وهو يرى أمّه تكذب على والده أو على الجيران، ولا هو يرى والده يأمره بالكذب على معلمه في المدرسة، ويراه يكذب عليه فيما يعده به، وقد قال النبي : « مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ تَعَالَ هَاكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كَذْبَةٌ » رواه أحمد وصححه شعيب الأرناؤوط ، فعلى المربي أن لا يعد الولد إلا بما هو عازم على الوفاء به وقادر عليه، وعليه أن يلزم الصدق في حديثه حتى وهو يمزح فيه وهو موضع يتساهل فيه كثير من الناس، وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا (أي تمزح معنا) فقَالَ:« إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا » رواه الترمذي وصححه الألباني.
2-الترغيب في الصدق والترهيب من الكذب
     ومن طرق تربية الأولاد على الصدق الترغيب فيه بما ورد من نصوص وكذا بالترهيب من ضده وهو الكذب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدق طريق من طرق الجنة وأن الكذب طريق من طرق النار فقال:« إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عند الله كَذَّابًا» متفق عليه.
   والله تعالى يحب الصادقين ووعدهم بالجزاء وقابل صفة الصدق بالنفاق فقال: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 24) وذلك أن الكذب من أخص صفات المنافقين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :« أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه.
   ويضم إلى ذلك الأحاديث الواردة في خطر اللسان وهي تشمل الكذب إذ هو أظهر آفاته.
3-القصص
   ومن طرق تربية الأولاد على الصدق اعتماد القصص الهادف، وأول ذلك يؤخذ من سيرة المصطفى  الذي عرف بالصادق الأمين قبل البعثة فكان ذلك من أخص صفاته، وبعد السيرة تذكر آثار الصحابة والتابعين وهم أصدق الناس ، ومن الآثار الواردة في هذا قول عمر بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَا كَذَبْتُ كَذْبَةً مُنْذُ شَدَدْتُ عَلَيَّ إِزَارِي». ثم قصص العلماء والصالحين ومن أشهر القصص المأثور في بيان فضيلة الصدق ما حكاه الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه حيث قال :" بنيت أمري على الصدق وذلك أني خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم فأعطتني أمي أربعين دينارا، وعاهدتني على الصدق، فلما وصلنا أرض همدان خرج علينا عرب فأخذوا القافلة فمر واحد منهم، وقال ما معك قلت أربعون دينارا، فظن أني أهزأ به فتركني فرآني رجل آخر، فقال ما معك فأخبرته فأخذني إلى كبيرهم؛ فسألني فأخبرته فقال: ما حملك على الصدق؟ قلت: عاهدتني أمي على الصدق، فأخاف أن أخون عهدها، فصاح ومزق ثيابه، وقال أنت تخاف أن تخون عهد أمك، وأنا لا خاف أن أخون عهد الله، ثم أمر برد ما أخذوه من القافلة، وقال أنا تائب لله على يديك، فقال من معه: أنت كبيرنا في قطع الطريق وأنت اليوم كبيرنا في التوبة، فتابوا جميعا ببركة الصدق.
4-معالجة الأسباب التي تؤدي إلى الكذب
    وفي سياق الحديث عن تربية الأولاد على الصدق ننبه المربين إلى ضرورة معالجة الأسباب التي نعلم أنها تدفع بأولادنا إلى الكذب.
   ومن ذلك الخوف من العقاب، فعلينا أن نتجنب معاقبة الطفل إذا صدق واعترف بخطئه، مكافأة له على صدقه وتشجيعا له، وكذلك لأن الطفل ربما يتوهم أنه نال العقاب بسبب صدقه، وأنه لو كذب لسلم منه.
   في هذا السياق نذكر أن كثرة التخويف والضرب المفرط، يعتبران من أعظم الأسباب النفسية التي تدفع الأولاد الصغار على استباحة الكذب واختلاق المعاذير.
   ومن الأسباب الاستهانة الكذب إذا كان على سبيل الفكاهة والمزاح وإضحاك الجلساء، وقد جاء في الحديث :« إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ، يَهْوِي بِهَا مِنْ أَبْعَدِ مِنَ الثُّرَيَّا»( رواه أحمد وصححه ابن حبان)، وسبق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا صدقا فلابد من تربية أولادنا على ذلك، ومحل الكذب هنا في اختلاق حوادث وقصص متعلقة بالواقع ، أما إذا لم تكن كذلك فلا بأس لأنها ليست كذبا والكذب الإخبار بخلاف الواقع .
   ومما يهون الكذب تلك الكذبة التي يسمونها بيضاء وهي في الغالب في عالم الطفولة سوداء لا مصلحة فيها لا للأفراد ولا للأمة، وعلى رأس ذلك كذبة أفريل التي يمكن اعتبارها العيد السنوي لاستباحة الكذب الذي قد يضاف إليه ترويع الناس وإدخال الدهشة عليهم.

الإثنين, 16 آب/أغسطس 2021 22:28

الوقفة الخامسة
    من المشاهد التي ينبغي أن نقف معها؛ مشاهد فزع الناس من النار وهروبهم من ديارهم وقراهم؛ وتركهم وراءهم كل ما يملكون؛ تلك المشاهد التي تذكر بالساعة وأهوالها وبالنار التي تحشر الناس إلى أرض الميعاد، وهي وقفة يجب أن يقفها كل واحد منا مع نفسه؛ سواء الكبار والصغار، لكننا في هذا المقام نؤكد على أولادنا الذين تم إبعادهم عن تعلم العقيدة الإسلامية وتفاصيل الإيمان باليوم الآخر؛ فهم محتاجون منا إلى مثل هذا التذكير، وقد جاءت مناسبته، بل قد حان أنسب أوقاته؛ بالربط بين ما رآه من مشاهد ومشاهد قيام الساعة، وإن تلقينه للمعلومة أو تلقيه للموعظة بعد رؤية مثل تلك الصور المروعة- حين يكون القلب متأثرا- يجعل كل ما يقال له ثابتا في ذاكرته فلا ينسى أبدا، بل ربما إنه ينتقش في ذاكرته مقرونا بتلك الصور.
     هذا وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ» رواه البخاري، ومعناه أن هذه النار تحيط بالناس سواء كانوا في المشرق أو المغرب وتسوقهم إلى المحشر، ويحتمل أن يكون المراد أنها تجمع الناس في الشام التي كانت تعتبر مغربا بالنسبة للمشرق، وقد جاء في حديث آخر «سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَوْ مِنْ نَحْوِ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ تَحْشُرُ النَّاسَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» رواه الترمذي وصححه، وعندما تدنو النار من الناس حتى توشك أن تلتهمهم يشبه حالهم حال من قال فيهم ربنا عز وجل: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37).
الوقفة السادسة
   ومما يرتبط بهذه الوقفة المتعلقة بالتذكير بيوم القيامة الوقوف مع شدّة الحر التي تضاعفت في مختلف جهات البلاد بسبب النيران، وإنّ شدة حرّ الصيف وحدها داعية للتذكّر والاعتبار، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» متفق عليه، فهذا الحرّ يذكرنا بحرّ جهنم؛ لأنه من وهجه ونفسٌ منه وجزءٌ يسير منه، فعلى كل من اشتكى من حرّ هذه الأيام أن يتذكّر أولا ويُذكِّر غيره ثانيا بحرّ جنهم وشدته، وبقوله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81). وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النارِ صَبْغَةً ثمَّ يُقَال: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ وَهَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ. فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شدَّة قطّ » رواه مُسلم.
   وإن غفلة بعضنا عن هذا موجبة لغفلة من يستمع إليهم ويراقب أفعالهم، وكثير من الناس –مع الأسف- لا يعرف إلا الشكوى من الحر في الصيف، ومن البرد في الشتاء، وقد يتكلم بعضهم بكلام يحمل في طياته انتقاص الزمان وسبّ الدهر، ومآل ذلك انتقاص الله تعالى وسبّه والطعن في حكمته؛ لأنّه هو الفاعل في هذا الزمان وهو المدبر لأمر الأكوان لا مدبر غيره، فاحرص أيها المؤمن على أن لا تقول إلا خيرا، وعلى أن لا يَسمع منك أولادك ومن حولك إلا ما ينفعهم، ويربيهم على الاعتقاد السليم والسلوك القويم.
الوقفة السابعة:
   من الوقفات التي يجب أن نقفها مع هذه الحوادث، مشهد الانفاق في سبيل الله تعالى ونجدة المنكوبين وإغاثة الملهوفين؛ وذلك حتى نرسخ في نفوس أولادنا مبادئ التكافل والتعاون وخصال المروءة والإنسانية، وإن تمكينهم من مشاهدة مختلف المعونات وهي تجمع في المساجد أو في مقرات الجمعيات يُعدّ أبلغ من مواعظ الحث على الانفاق والإغاثة، ويزداد التأثير عندما يشاهدون الشاحنات الناقلة لتلك المعونات وهي تُستقبل في المناطق المنكوبة، ومما يعمّق الأثر أكثر رؤية المستقلبين للمعونات وفرحتَهم بها ودعائهم للمتبرّعين؛ وإن ذلك مما يبعث في النفوس رغبة جامحة في الإسهام في حملات النجدة والإغاثة، ولعلّ هذا الشعور قد يجده الكبار في نفوسهم، فكيف بالصغار الذين لا يوجد في قلوبهم إلا ما يُمثّل البراءة والصفاء والنقاء؛ ولا شك أنّ ذلك الشوق إلى البذل والانفاق سيرتسم في نفوسهم وينطبع في قلوبهم.
   إنّ هذه المشاهد فرصة ثمينة للمربين لتربية الأولاد على الجود والكرم والبذل والعطاء والنجدة والإغاثة؛ ولابد على الآباء المربين الذين هم القدوة الأولى لأولادهم أن يمكنوا فلذات أكبادهم من مشاهدة إسهاماتهم في هذا المجال، وليطلبوا منهم أن يعينوهم على حمل المعونات العينية إلى محال جمعها، وليكلّفوهم بوضع شيء من النقود في صناديق التبرعات أو في يد من يستلمها من الأئمة والنشطاء، ولِمَ لا يُدعى هؤلاء الأطفال للإسهام بقسط مما جمعوا في محصلات مدخراتهم إن كانت لهم، فإن لم تكن لهم محصلات فلِمَ لا تملك لهم أموال يخيرون بين صرفها فيما اعتادوا شراءه من حلويات أو لُعب أو فواكه وبين التصدق بها لصالح المنكوبين والمتضررين بهذه الحرائق، وإني على يقين أن الأطفال سيكونون سعداء جدا بالإسهام، بل سيكونون فخورين جدا بأنفسهم.
   إنّ هذه الأعمال التي ننبه الآباء إلى استثمارها في هذا المجال؛ ليست صعبة ولا مكلفة وأما آثارها فهي عظيمة، ثم إنها ليس خاصة بهذه المُلمة التي أصابت الأمة؛ لأنّ تربية الأولاد على حبّ الكرم وبغض البخل، وعلى الانفاق وعدم الشح، والزهد والايثار ومحبة الخير للناس ونبذ الطمع والأنانية؛ ليست من النوافل بل هي من واجبات كل المربين تجاه أولادهم.
   وإذا قلنا بأنّ الصورة الحية المشاهدة أو المسجلة تكون أبلغ من الوعظ، فهذا لا يعني أننا نستغني عن ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحثّ على هذه الأخلاق والمكارم المذكورة، وكذا النصوص التي تبيّن الأجر العظيم الذي يلقاه العبد في الآخرة نظير هذه الصدقات والتبرعات، بل إن ذلك يزيد من درجة حماس الأولاد إلى هذه الأعمال، ويجعلهم يتعلّمون الإخلاص الذي هو إرادة وجه الله تعالى.
الوقفة الثامنة
    وآخر وقفة نقفها في هذا المضمار وهي متصلة بما قبلها من مشاهد النجدة والإغاثة، هو التأكيد على أن هذه الصدقات والاعانات ستذهب ليستفيد منها أناس وأطفال ونساء وشيوخ لا يعرفونهم فلا هم من الأقارب أو العشيرة أو الجيران، وهم يقطنون في أماكن بعيدة عن بلدتهم شرقا أو غربا أو شمالا أو جنوبا، إلا أنهم إخوان لهم ربطتهم بهم العقيدة الواحدة ثم الانتماء إلى الوطن الواحد، ومما ينبغي أن يذكر للأولاد حتى يُحفظ؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم :«لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه، وقوله : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه، فيؤكد للأولاد في هذا المقام على معنى الأخوة الدينية ومعنى موالاة المؤمنين ونصرتهم والغيرة عليهم، وينبهون إلى أن الرابطة الإيمانية تجمع كل المسلمين في بقاع الأرض، وهي رابطة ينبغي أن تكون أمتن ما يكون بين من يقتسمون وطنا واحدا وتاريخا ومصيرا مشتركا.
    وهنا لابد أن نغتنم هذا الحدث لتقبيح دعوى الجاهلية النتنة في نفوس أولادنا، ولتنفيرهم من أشكال التفرقة الجهوية القديمة -التي هي من بقايا الجاهلية- والعنصرية الجديدة -التي بذرتها فينا فرنسا-، وهذا واجب على الجميع دون استثناء سواء من كان من المتبرعين أو من المتبرع لهم أو من غيرهم، وليُعلم أن محاربة أسباب التفرقة وتحصين الناشئة منها وبذر عوامل الوحدة والمحبة والتآلف؛ ليس أمرا أخلاقيا سلوكيا فحسب -كما يظهر بادي الرأي- ، وإنما هو مقتضيات الإيمان ولوازم العقيدة الإسلامية التي حددت قواعد الولاء والبراء.
    ولعل الوقفات لمن أراد يستقضي لن تكون محدودة فإن مع كل صورة أو موقف عبرة يمكن أن تعتبر، وبكن حسبي أني سجلت هذه الوقفات التي أحسبها مهمة جدا في تربية أولادنا وانشاء جيل لعله يكون خيرا وأفضل من الأجيال التي سبقته، وسبحانك اللهم وبحمدك وأشهد أن لا إله إلا أنت وأستغفرك وأتوب إليك.

   انتهى

الأحد, 15 آب/أغسطس 2021 17:09

وقفات تربوية مع مشاهد الحرائق (القسم الأول)
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد؛ فإن استثمار النوازل وحوادث الزمان سواء كانت وطنية أو عالمية يعتبر من آكد المناسبات التي ينبغي استغلالها لتربية الأولاد على العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة، ولعلّ من الهدي النبوي المندرج في هذا المضمار خطبته صلى الله عليه وسلم عقب خسوف الشمس، حيث استغل الحدث لتصحيح عقيدة فاسدة وتوجيه الناس إلى العمل الصحيح المفيد فقال: « إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ » (متفق عليه).
   وحياتنا هذه الأيام مليئة بالأحداث التي تستدعي من المربين الوقوف عندها، والنظر إليها من زاوية اختصاصهم، أو من زاوية واجبهم التربوي -وإن لم يكونوا مختصين في التربية-، فالمعنيون بهذا الاستثمار هم المعلمون والأئمة الخطباء أصحاب المنابر والكتاب أصحاب الأقلام، وكذلك الآباء الذي هم من مربين الميدانيين الدائمين.
   ولا شك أنّ الجزائر عاشت هذه الأيام حالات استنفار متتابعة؛ ربما جعلت بعضنا يشعر أنه يعيش حربا حقيقية، حيث تختلط مشاعر الذّعر والتأهّب، والقلق والنجدة، والغضب والأمل، والناس كلّها تتبع أخبار الحوادث مكتوبةً ومصورةً، وتصدر منها ردود أفعالٍ مترجمة في أقوال وأفعال تُسمع وتُرى، وممن يسمعها ويراها أولادنا الصغار الذين هم في مرحلة تكوين شخصيتهم وبناء عقيدتهم وسلوكهم، وقد تكون تلك الأقوال والأفعال صادرة من غيرنا مما نتابعه في وسائل الاعلام والتواصل المختلفة؛ وأولادنا يرمقونها وهم بالقرب منا.
     وإنّ تلك الأقوال والأفعال المذكورة وإن كانت صادرة من بعضنا بصفةٍ عفوية غير مقصودة ولا مدروسة؛ إلا أنّ لها آثارا على تربية أولادنا وعقليتهم وشخصيتهم، وتلك الآثار تابعةٌ لنوعية ما يُسمع ويُرى، فقد يكون منها السلبي الضار وقد يكون منها الإيجابي النافع.
    والآن تعالوا بنا ننظر في نازلة الحرائق التي ابتلي بها بلدنا الحبيب؛ نظرات تربوية لعلنا نكون قد طبقناها من غير شعور، أو نكون قد ضيعنا فرصا مهمة في توجيه فلذات أكبادنا، ولعل بعضنا يكون قد تسبب في إفساد أولاده من غير شعور.
الوقفة الأولى:  
   وأوّل وقفة تتعلّق بكون هذه الحرائق -في مظهرها وآثارها -من أدلّة قوة الرب سبحانه الخالق المالك الفعّال لما يريد، ومن أدلّة ضعف الإنسان وقلّة حيلته وعظيم حاجته إلى ربه، فهذه النار قد تبدأ بشرارة صغيرة –بغض النظر عن كونها مقصودة أو غير مقصودة –ثم تنمو وتنتشر وتغدوا وحشا لا يقدر الإنسان على مواجهته، وقد لا يتمكن من إخماد ألسنة هذا الوحش رغم ما يمتلك من آلات، وما بلغه من تقدُّم علمي، إلا بعد أن تُهلك النار مساحات شاسعة وتُزهق أرواحا كثيرة...فهل سمع منا أولادنا ومن هم تحت أيدينا؛ نتحدّث عن ضعف الإنسان وعظيم حاجته إلى ربه القهار؟ هل سمعَنا أولادنا ونحن نُترجم هذه الحاجة والضعف بأدعيتنا وابتهالاتنا وصلواتنا؟ هل سمِع منا أولادنا تعظيما أو دعاء أو تعليقا يصبُّ في هذا المعنى؛ ونحن نتابع معهم صور الحرائق المهولة؟ أم هو مجرد آهات التعجب والهلع، والتعليقات القليلة الجدوى التي لا داعي لقطع الأفكار بسردها؟ أم هي تعليقات سلبية تحمل في طياتها كلمات الضجر ورفض للقدر، أو عبارات السب والشتم والسهام ترمى يمينا وشمالا؟
الوقفة الثانية
    إن مشاهدة آثار الحرائق وما خلفته من خسائر في الأرواح والثروة الغابية والحيوانية والممتلكات، يجعلنا نرى عيانا أن هذه الدار هي دار الغرور، نعم نرى كيف صيّرت الحرائق أغنياءَ فقراء في لحظة، وجعلت من أصحاء مرضى وزمنى، وحوّلت حدائق غناء يُتباهى بها إلى حطام ورماد، واختطفت أرواحا كانت لأصحابها آمال ومشاريع كثيرة، وأخذت من جلّ الناس شعورهم بالسعادة والأمان والاطمئنان.
   لقد بيّنت لها هذه النيران -زيادة على ضعف الإنسان- أنّ ما نعيش فيه من نعيم آيل إلى الزوال، وأنّ ثباته وبقاءه متعلق بإرادة الله وقدرته، وأنّ هذه الدنيا إنما هي أحلام متسلسلة نعيشها، وكلّ يوم يستفيقُ منها قوم؛ فيدركون الحقيقة الناصعة التي لا مفر منها، وهي أن كل نعيم لا محالة زائل، وأن كل من عليها فان، ولا يبقى إلا الديان، لكن منهم من لا يستفيق إلا بعد فوات الأوان.
    فما كان تعليقك أنت أيها القارئ على تلك المناظر حين شاهدتها؟ وما هي العبارات التي استعملتها وأنت ترويها؟ وما قلت للأولاد ولكل من كان يسمعك؟ هل انتهبت ونبهت غيرك إلى هذه الحقائق؟ أم اكتفيت بالحوقلة وتتبع تفاصيل الأحداث والتدقيق في الأخبار والأرقام؟ وماذا استفاد من سمع كلامك؟ ومن قرأ مكتوبك؟ وماذا استفاد أيضا من رأى ردود أفعالك؟ يا ترى هل كنت حزينا أو باكيا حين المشاهدة والقراءة؟ أم أنك كنت تضحك وربما تنكت على تلك المناظر والأخبار؟ لا شك أنّ كل تصرّف من هذه التصرفات سيكون له آثاره في الناشئة، لكن في المستقبل وليس الآن.
الوقفة الثالثة:
      مما ينبغي الوقوف عنده أسباب هذه المصيبة التي حلت بنا، والبعض يستغرق كل نظره في البحث في الأسباب المباشرة، حتى ينسى الالتفات إلى الأسباب غير المباشرة، وهي أسباب نزول هذا القضاء وظهور هذا الفساد، وهذه الأسباب غيبية قدرية، إنما عرّفنا بها ربنا عز وجل إذ ربط كل مصيبة عامة أو فساد كبير بما كسبت أيدي الناس وبظلمهم وجورهم؛ قال ربنا عز وجل مخبرا أنه لا يزيل النعم العامة إلا غيّر الناس سلوكهم وبدّلوا : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 53) وقال سبحانه مقررا الحقيقة الكونية وحكمتها : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41) فالواجب علينا ونحن نسمع عن الفساد والخسائر أن نتذكّر ونُذكّر غيرنا أنّ ربنا الحكيم أراد تذكيرنا بالآيات الكونية لما اشتدت غفلتنا عن الآيات القرآنية، لنتوب ونرجع إليه، وأنه سبحانه مهما قضى من فساد؛ فإنّه يعفو عن كثير، فلو طبق العدالة دون تغليب الحلم والفضل والرحمة لما أبقى الله على هذه الأرض من أحد.
    ولا شك أن سامع هذا الكلام -وما في معناه من دعوة إلى التوبة الجماعية ومراجعة النفوس- يتساءل -سواء كان صغيرا أو كبيرا- وما الذي فعلته الأمة حتى تستحقّ كل ما نراه؟ وحتى يكون كل ما نراه من أهوال مجرّد تنبيه وعقوبة بالقليل؟
   وجواب هذا التساؤل : أنّ الله تعالى قد هدانا للإسلام وشرائع الإيمان ورزقنا من الطيبات وعافانا في أبداننا واسبغ علينا من النعم ما لا نحصيه، فبِمَ قابلنا كل هذا الإحسان؟ وإنه بعد أن أنعم علينا ربنا بكل هذه النعم؛ وُجد فينا من يريد بعث الوثنية بأصنامها وطقوسها وآلهتها الوهمية والمجسدة؛ التي يزعم أنها تجلب الخصب والأرزاق أو أنها تنزل الأمطار، ووُجد فينا من ارتد عن الإسلام صراحة فتنصّر أو ألحد أو صار يعبد الشيطان، وكثير منا يسبّ الله تعالى متعللا بالغضب، وفينا من صار يطعن في شعائر الإسلام جهارا نهارا، أو يصف دين رب العالمين بالتخلف والرجعية، وشبابنا ضيعته الخمور والمخدرات والجري وراء الشهوات المحرمة، ونساؤنا ترجلت وتعرّت وخلعت الحياء مع الحجاب، والأعظم من كل ذلك أن ينعدم أو يقلّ من ينكر هذه الأمور، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ» رواه ابن ماجة والترمذي وصححه وَفِي رِوَايَةِ لأبي دَاوُد: «إِذا رَأَوْا الظَّالِم فَم يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ».
   وقد يقول قائل: هل يمكن أن تصل هذه المعاني إلى عقول الناشئة وهل ستفيدها؟ فيقال نعم: يمكن أن تصل فهي معادلات منطقية بسيطة لا تعقيد فيها، وكيف نسأل عن فائدة سماع الناشئة عن عدالة الله وفضله ورحمته، والدعوة إلى التوبة ومحاسبة النفس، ولنعلم أنّ الناشئة إن لم تسمع ذلك؛ فستجد من يملي عليها ما يوجب اتهام العدالة الإلهية والطعن في الحكمة الربانية بشكل أو بآخر.
الوقفة الرابعة :
   من الوقفات التربوية المتعلقة بالحرائق موقف التربية على الرحمة، الرحمة بمعناها الواسع الذي يشمل البشر وغير البشر من حيوان وجماد يزيّن الطبيعة، أمّا الرحمة بالبشر فأمرها ظاهر وهي المقصودة أصالة؛ ولكن علينا أن نغوص في تربية النشء على الرحمة والشفقة إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو الرحمة بالحيوان، إنّنا ولا شك نتحدّث في هذه الظروف عمّن هلك حرقا من الناس، وعمّا أتلف من أشجار مثمرة، وأخرى تزين الطبيعة وتحفظ توازن الحياة فيها، لكننا في الغالب نغفل عن أنّ تلك الغابات والأحراش التي احترقت، كانت تُؤوي المئات من أنواع الحيوانات البرية والطيور والحشرات التي خلقها المولى عز وجل، ولا يخلو خلقها من فائدة وحكمة، نعم قد ننتبه ونتحدث عن الأنعام ونحوها من الحيوانات الأليفة؛ باعتبارها أموالا مملوكة فُقدت، ومصادرَ من مصادر الرزق أهدرت؛ لا باعتبارها أرواحا أزهقت هي الأخرى، وقد جاء في الأخبار الصحيحة حديث دخول امرأة النار بسبب تعذيبها هرّة حتى الموت، وحديث نجاة امرأة أخرى عاصية بسبب سقيها كلبا عطِشا، وقد جعل نبينا صلى الله عليه وسلم إطعام الحيوان وسقيه صدقة من الصدقات حيث قال: «فِي كُلِّ ذَاتِ كبد رطبَة أجر» متفق عليه.
   وإنّ الاطفال الصغار يحبون التسلي بالنظر إلى الحيوانات وخلقتها، وسماع أصواتها وتتبع حركاتها، ويستمتعون أكثر بمشاهدة صغار هذه الحيوانات، وإنّ هذه الحوادث فرصة لتأجيج تلك العاطفة وغرس خُلق الرحمة في قلوبهم، وذلك بإخبارهم بأنّ حرق غابة واحدة قد يؤدي إلى هلاك آلاف الحيوانات والطيور والهوام.
    لا يقال إننا أحوج إلى التربية على الرحمة بالبشر من هذا التذكير الآن؛ لأنّا نقول إنّ الحديث عن الرحمة بالبشر عموما وأهل الإيمان خصوصا هو الأصل، والحديث عنه طويل الذيول، وله أكثر من مناسبة، وليس هو مما يغفل عنه الناس، ولكن ننبّه أنّ تربية النشء على الرحمة بالحيوانات بما فيها صغار الحيوانات المفترسة؛ يُفيد في تربيته على الرحمة بالبشر من طريق أولى، ومما ذكرته وأنا أسطّر هذه الكلمات؛ أنه قبل عشرين سنة تقريبا عندما أعدّت جريدة أسبوعية -اسمها الجزيرة- ملفا حول متعقلي غوانتانامو التمس مني رئيس تحريرها أن أكتب شيئا متعلقا بحقوق الإنسان يناسب قضية المعتقلين هناك أو قضية الجزائريين الذي اختطفوا من البوسنة ونقلوا إلى هذا المعتقل، فكتبت موضوعا فقهيا حول أحكام الأسرى في الإسلام بطريقة السؤال والجواب، وأردفته بموضوع عن حقوق الحيوان في الإسلام، فلما رأى رئيس التحرير ذلك أعجبه جدا، لأنه كان دارسا لأصول الفقه مدركا لدلالة مفهوم الأولى -أو تنبيه الخطاب أو فحواه-، والمعنى أنّ الإسلام قد تجاوز مباحث حقوق الإنسان المعدودة والضئيلة التي يتغنى بها الغرب إلى ضمان حقوق الحيوان، وأنّه أيضا ضمن للإنسان حقوقه ولو كان عدوا مقاتلا وقع تحت الأسر، وكانت وجهة نظري -ولا زالت -أن كل مدونات الفقه الإسلامي هي كتبٌ في الحقوق، إلا أنها تضمّنت حقوق الإله أولا، وهي العبادات قبل أن تتطرق لتنظيم حقوق الإنسان في بقية الأبواب المختلفة.
   يا أيها الناس -أو يا أيها الأولاد- لقد كنا نذهب إلى غابة كذا وغابة كذا، وكنا نستمتع بتلك المناظر الخلابة وبسماع زقزقة العصافير، والنظر إلى الفراشات ومختلف الحشرات، لقد كنّا نستمتع بالنظر إلى فيديوهات تترصد حركة الحيوانات في الغابات وهي تجلب الطعام لأولادها ..وكنا.. وكنا.. والآن تلك المناظر التي أنعم بها الله تعالى على عباده في كل جهات الأرض قد أصبح كثير منها رمادا وحطاما، ولن تكون لكثير من الناس والأطفال مثلكم منتزهات يتنزهون فيها، وكثير من تلك العصافير والطيور قد هلكت حراقا أو اختناقا؛ إذ ما لم تقتله النار فقد قتله دخانها، لقد ماتت تلك الحيوانات البريئة، والتي كانت تضيف إلى جمال الطبيعة جمالا آخر بصورتها أو أصواتها.
   ولا شك أن الولد الذي كان يبكي من قبل على خروف العيد؛ إذ يذبح تقربا إلى الله تعالى، سيبكى على حيوانات أزهقت أرواحها بلا فائدة بطرق بشعة.
    وهنا نفتح قوسا للحديث عن الأسباب البشرية المباشرة للحرائق، عن ذاك الذي يلقي سيجارة، أو من يوقد نارا ثم يتركها من غير تأكد من إخمادها، وكذلك عن هؤلاء الذين يلقون القارورات الزجاجية، والمواد القابلة للالتهاب هنا وهناك، نتحدث عنهم باعتبارهم مجرمين في حق الطبيعة وفي حق تلك الحيوانات.
    ونفتح داخل هذا القوس قوسا آخر للحديث عن التعمد وعن وزره عند الله تعالى، فتلك المرأة التي حدثنا عنها نبينا صلى الله عليه وسلم قتلت قطة واحدة فدخلت النار، فكيف بمن يقتل كل حيوانات الغابة؟ فكيف بمن يقتل عبادا لله تعالى كانوا يسكنون وسط الغابة أو في أطرافها، أو كانوا من حراسها أو ممن هب إلى إطفاء لهيب النيران، أو الحيلولة دون وصولها إلى السكان.

يتبع بإذن الله

السبت, 14 آب/أغسطس 2021 15:19

شبهات الغلاة في التكفير حول العذر بالجهل

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أما بعد:
    فإن ظاهرة الغلو في التكفير من الظواهر الخطيرة التي ينبغي الاهتمام بعلاجها، وربما كانت أولى بالعناية من كثير من مظاهر الفساد الأخرى لما لها من آثار سيئة على المجتمع الإسلامي ومسيرة الدعوة إلى الله تعالى، لذلك رأيت أن أكتب مقالات موجزة أرد فيها بعض شبه الغلاة المضللة وأفكارهم الخاطئة وآرائهم الباطلة التي لا تزال تروج في العالم، وتستغل لإضلال الشباب وحمله على تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وقد سميت هذه المقالات بشبهات الغلاة في التكفير ليعلم أننا لسنا ننكر التكفير الذي هو حكم شرعي خاضع للنصوص الشرعية والضوابط الفقهية، لأن تكفير من كفره الله ورسوله واجب كل موحد يبرأ من الشرك ومظاهره، ولكننا ننكر الغلو فيه بحيث يحكم على المسلمين بالكفر أو الردة ظلما وعدوانا، وهذا الغلو والتجاوز للحدود الشرعية له مظاهر في الواقع خلاصتها :
-التكفير بما ليس مكفر من المعاصي وكبائر الذنوب.
-تكفير من لم يتحقق تلبسه بأسباب الكفر التي دلت النصوص على أنها كفر.
-عدم مراعاة شروط إيقاع حكم الكفر على الأعيان وموانعه.
     وسأقتصر في هذا الكتاب على مناقشة جزئية مندرجة في الحالة الثالثة، وهي زعمهم أنه لا يشترط إقامة الحجة على المعين لتكفيره، وأنه لا أثر لعارض الجهل في ذلك، وذلك بدحض شبهات المخالفين التي كثر تردادها وتكرارها، وقد كتب كثير من أهل الإنصاف والاعتدال في هذه المسألة وحققوا الحق فيها من خلال النصوص الشرعية، وبيان مواقف الأئمة الأعلام منها، ولا شك أن الجواب عن الشبهات مما يكمل المقصود، ويزيد الحق جلاء ويحمي من عرضت له من الإذعان لها.
     ومما لا بد من التنبيه عليه هنا أن بعض المتحمسين للرد على الغلاة في التكفير قد أخطأوا الوجهة في النصيحة للأمة في هذه القضية الخطيرة، وجعلوا كل همهم التحذير من بعض الأفراد أو الجماعات الذين تبنوا آراء فيها غلو في التكفير، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم في تصنيف الناس وتبديعهم حتى خرج كثير منهم عن الإنصاف والاعتدال، وصاروا يلمزون من زلَّ في هذه القضية –من المعاصرين-بصفة الخوارج، حتى اجترأ بعضهم على بعض العلماء الكبار فوصفوهم بذلك.
    وليس كل من اختُلف معه في مثل هذه القضايا-على عظمها- يُبدع، سواء كان من علماء العصر أو من علماء القرون الماضية، ولكن يُبدع في هذه القضايا وغيرها من ظهر إتباعه لهواه، وتبيَّن تلاعبه بالنصوص الشرعية أو تَحريفه لكلام العلماء، وهؤلاء الغلاة يظنون أنهم يحفظون الشباب بغلوهم في تبديع المخالفين، والذي نراه في الواقع عكس ذلك، فهم يبدعون الداعية المعاصر لتبنيه لآراء قال بها جمع غفير من أفاضل المتقدمين والمعاصرين ممن لا يجرؤ الغلاة على الجهر بتبديعهم، فإذا وقف الناس على هذه الحقيقة كذبوا هؤلاء المُبَدِّعين في رأيهم في المسألة وفي حكمهم على مخالفيهم، وانقلبوا من الغلو في التبديع إلى الغلو في التكفير.
     وليس مثل هذا مما ينصر به الحق ويحفظ شباب الأمة، لأن الناصح لا يمكنه أن يحصي أسماء المخالفين أجمعين ليحذر منهم مهما اجتهد في ذلك، ومن أصول السنة أن لا يرد الغلو بالجفاء ولا ترد البدعة بالبدعة، بل الواجب لنصرة الحق بيانه بحججه، لأن الناس إذا عرفوا الحق تمسكوا به وإن قل من قال به، وإذا عرفوا الباطل اجتنبوه وإن كثر من قال به؛ ومهما كانت صفة القائلين به، وكم رأينا من الشباب الملتزم بمنهج السلف إجمالا -والذي رُبِّي على التقليد بدل إتباع الدليل- قد غرَّته شبهات المخالفين -أو أسماؤهم- وجرَّته إلى الغلو في التكفير لعدم تلقيه الحصانة العلمية التي تقيه من مهاوي الانحراف ومن الاستجابة للشبهات.
     وكثير من هؤلاء المتحمسين المشار إليهم قد أهملوا الجانب العلمي التأصيلي؛ فتراهم يركزون على مناقشة بعض الكتابات الأدبية المستندة إلى العاطفة الدينية؛ التي لا تؤثر غالبا إلا في العوام وأشباه العوام، ويتركون نقد كتب التنظير العقدي التي تصطبغ بالصبغة العلمية، ويستند أصحابها إلى الأدلة الشرعية!! وأقوال العلماء الربانيين من السلف والخلف!! وما أكثر هذه الكتب وما أكثر القائلين بما فيها.
    فهذا الكتاب إسهامٌ بحسب الطاقة في بيان الحق ورد شبه المخالفين، وتكميلٌ لجهود من سبق إلى الكتابة في هذا الموضوع؛ من الناصحين لله ولدينه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأصله كما ذكر مقالات سبق لي نشرها عبر صفحات الأنترنت، وقد أعدت النظر في مضمونها وترتيبها؛ ملتزما المنهجية العلمية من تقسيم الكتاب إلى مباحث ومطالب وفروع، وتوثيق النصوص المنقولة في الهامش، وتخريج الأحاديث من مصادر السنة المعتمدة، والترجمة لغير المشهورين من الأعلام، كما أضفت إليه مبحثا خاصا بتحقيق مذهب الطبري رحمه الله تعالى في هذه القضية، نسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
المبحث الأول : تحكيم العقل في العقائد
المطلب الأول : تقرير الشبهة  
     من شبهات من يجنح إلى تكفير المسلمين الواقعين في الشرك من غير اشتراط إقامة الحجة وإزالة عارض الجهل والشبهة عنهم، أن حقيقة التوحيد مدركة بالعقل متوصل إليها بالنظر غير متوقفة على إرسال الرسل، وهذا الزعم مذهب قديم قد قال به المعتزلة والماتريدية، وقد تمسك به كثير من المعاصرين مع انتسابهم للسنة وبراءتهم من مذهب الاعتزال والماتريدية.
    يقول أبو منصور الماتريدي الحنفي -مؤسس المذهب- في تفسيره لقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (النساء:165):« نفيه الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبل معرفتها الرسل، أما معرفة الله فإن سبيل لزومها العقل، فلا يكون لهم ذلك على الله حجة»(1). وقد اعتمد هذا الرأي -كما ذكرنا- كثير من الغلاة مع زعمهم الانتساب إلى السنة.
     ولَمّا قال ابن تيمية:« وهذا مذهب المعتزلة ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة»(2)، _ وقد عنى بأصحاب أبي حنفية الماتريدية منهم_  نقل بعض المعاصرين المذهب عن المعتزلة وجمهور الحنفية(3)، ليُصَيّره قولا لبعض أهل السنة، ثم بعدها شكك في وجود من لم تبلغه دعوة التوحيد ليصير خلاف من نازع في تحكيم العقل -وهم جمهور أهل السنة عنده -خلافا لفظيا، لأن اشتراط بلوغ الحجة عن طريق الرسل يصبح أمرا لا معنى له، لأنه شرط متحقق في كل عصر وفي كل مكان.
    وهذه طريقة من يحكم على من وقع بالكفر بالعذاب في الدنيا والآخرة، ويحمل قول الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) على العذاب الدنيوي العام.
   ومن الغلاة من رام ربط عدم العذر بالجهل مع قضية تحكيم العقل؛ من جهة التحسين والتقبيح العقليين على مذهب أهل السنة لا على مذهب المعتزلة، ذلك أن الفرق الإسلامية في هذه القضية طرفان ووسط، فالأشعري ومن تبعه نفوا الحسن والقبح العقليين مطلقا عن أفعال العباد قبل الشرع، وبالتالي لا يترتب على ذلك تحسين ولا تقبيح ولا تكليف ولا ثواب ولا عقاب إلا بورود الشرع، والمعتزلة ومن تبعهم أثبتوا الحسن والقبح لأفعال العباد بمجرد العقل وقبل ورود الشرع ورتبوا على ذلك التكليف والثواب والعقاب، وأهل السنة المحضة قالوا:إن من أفعال العباد ما هو متصف بصفات حسنة أو سيئة تقتضي الحمد أو الذم قبل الشرع، ولكن لا يعاقب أحد إلا بعد بلوغ الرسالة كما دل عليه القرآن في قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15)، وفي قوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (الملك:8-9)(4).
    وقد استنتج بعض هؤلاء الغلاة من مذهب أهل السنة المذكور :« أن القوم قبل البعثة وإقامة الحجة معذورون في أحكام وغير معذورين في أحكام أخرى؛ معذورون في أنهم لا يعذبون في الدنيا والآخرة حتى تقام عليهم الحجة الرسالية، وهذا من رحمه الله وفضله، وغير معذورين في اقترافهم الشرك وما ينبني عليه من أحكام مثل عدم دفنهم في مقابر المسلمين ولا الصلاة عليهم وعدم القيام على قبورهم والاستغفار لهم ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ولا يدخلون الجنة وهو أعظمها»(5).
    وهذه طريقة من ينفي العذاب الدنيوي والأخروي عمن وقع الشرك مع الحكم عليه بالشرك تعيينا من غير إقامة حجة، والذي يجمع الفريقين هنا هو الاعتماد على حجة العقل.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    الجواب عن هذه الطريقة في الاستدلال كما يلي :
الفرع الأول : لا حجة في العقل عند أهل السنة
    إن هذه الطريقة في الاستدلال معلومة الفساد عند أهل السنة والجماعة، إذ مما هو متقرر عندهم أن العقل لا حكم له قبل الشرع ولا بعده، وأن مناط التكليف هو الشرع، وقد تواترت بذلك النصوص الشرعية وأجمع عليه السلف، وهو أمر لا يخفى على من كان له إلمام بقضايا التوحيد، قال تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (يوسف:40) وقال سبحانه : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:21).
    والمخالفون دفعهم هذا الاعتقاد الفاسد إلى تأويل النصوص التي تدل على معتقد أهل السنة بتأويلات متكلفة وتخرصات وظنون كاذبة، كتخصيص الحجة التي يقيمها الرسل بتفاصيل الشرائع دون أصل الدين وتوحيد رب العالمين، وحمل العذاب المنفي في قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) على عذاب الاستئصال في الدنيا فقط، وأعجب من كل ذلك أن يتأول الرسول المبعوث بالعقل المبثوث.
الفرع الثاني : ثبوت الحسن والقبح لا يستلزم التشريع
    وأما ثبوت الحسن والقبح لبعض الأفعال قبل الشرع عند أهل السنة فلا يستلزم إثما ولا تكفيرا، ولا علاقة له بإثبات الأحكام الشرعية مطلقا، فما زيَّن به ذلك المستدل قولَه آيل إلى قول المعتزلة وإن خالفهم في العذاب الأخروي، لأنه رتَّب على التحسين والتقبيح أحكاما شرعية وهذا قول المعتزلة لا قول أهل السنة، وإذا كانت الأحكام المذكورة صحيحة في حق من لم يعرف دين الإسلام ولم يلتزم به في الجاهلية أو بعدها؛ فليس مستندها هو التحسين والتقبيح، ولا يلزم أن تكون صحيحة في حق من عرف الإسلام والتزم به التزاما مجملا، ثم وقع في شيء من نواقضه جهلا.
الهوامش
 / انظر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الحربي (ص:147) ط1-1413 دار العاصمة، الرياض.
2/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/492) تحقيق محمد رشاد سالم ط2-1411 ، السعودية.
3/ الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد لعبد الرحمن بن عبد الحميد (ص: 336) وما بعدها، ضمن مجموعة عقائد الموحدين، ط 1411، نشر مكتبة الطرفين بالطائف.
4/ انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/492-493).
5/ العذر بالجهل تحت المجهر لمدحت بن حسن آل فراج (ص:53) ط1-1414، مكتبة دار الحميضي، الرياض، السعودية، ودار الكتاب والسنة، كراتشي، باكستان.
المبحث الثاني : ظن حجية الفطرة في العقائد
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    ومن الغلاة من يستدل على عدم العذر بالجهل بقيام الحجة بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقد قال رسول الله  :« ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»(6). وجه ذلك أن الفطرة هي دين الإسلام، وهي مقتضية لمعرفة الله تعالى ومحبته وإفراده بالعبادة، فكانت مغنية عن الحجة الرسالية، وقائمة مقامها.
   وقد يُجعل هذا الدليل مدعما لدليل العقل ومقويا له، وقد يُذكر دليلا مستقلا بذاته.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: نعم إن المقصود بالفطرة في الحديث فطرة الإسلام كما فسرها أبو هريرة راوي الحديث، وكما دل عليها الحديث القدسي :« وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم»(7). لكن لا تلازم بين ثبوت خلق الإنسان على الفطرة وبين قيام الحجة عليه بحال، إذ لا يزعم أحد أن هذه الفطرة مغنية عن التعلم، وأنها تقوم مقام إرسال الرسل وإنزال الكتب.
    وفي تقرير هذا يقول ابن تيمية رحمه الله:« وإذا قيل إنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفا ونحو ذلك، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده، فإن الله تعالى يقول: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (النحل:78)، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام لمعرفته ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه»(8).
      ثم قال :« إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته حصل المقصود بذلك، وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة كالتعليم والتخصيص، فإن الله قد بعث الرسل وأنزل الكتب ودعوا الناس إلى موجب الفطرة من معرفة الله وتوحيده، فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة وإلا استجابت لله ورسله لما فيها من المقتضي لذلك، ومعلوم أن قول كل مولود يولد على الفطرة؛ ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك، فإن الله يقول: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (النحل:78)، ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر، ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك وتستوجبه بحسبها، فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل من معرفتها بربها ومحبتها له ما يناسب ذلك »(9).
الهوامش
6/ رواه البخاري (رقم:1292) -ترقيم مصطفى البغا- ومسلم (رقم:2658)-ترقيم فؤاد عبد الباقي-.
7/ رواه مسلم (رقم:2865)-ترقيم فؤاد عبد الباقي-.
8/ درء تعارض العقل والنقل بن تيمية (8/383-384).
9/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/460-461).
المبحث الثالث : الاستدلال بآية الميثاق
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    وأشهر ما يلبس به الغلاة في نفي العذر بالجهل الاستدلال بقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف:172) ومع أن وجه الاحتجاج بها هو عين وجه الاحتجاج بالفطرة، إلا أن الغلاة يعتمدون عليها ويطيلون في شرحها ونقل كلام العلماء فيها، لما في ألفاظهم من عبارات متشابهة، ولما في كلام المفسرين فيها من إطلاقات موهمة.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
الفرع الأول : بيان معنى الآية وعدم منافاتها للعذر بالجهل
    وتمهيدا للجواب نلخص مذاهب أهل السنة في تفسيرها، إذ لهم فيها قولان مشهوران، أحدهما: أن معنى "الأخذ" في الآية هو إيجادهم قرنا بعد قرن، ومعنى "الإشهاد" نصب الأدلة القاطعة على ربوبيته واستحقاقه للعبادة، ومعنى "قالوا بلى" هو إقرارهم بربوبيته وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم في حياتهم بعد خلقهم، وهذا الإقرار خلقوا عليه وجبلوا لا يمكن لأحد جحده، وليس المراد أنه إشهاد لجميعهم في يوم واحد ولو كان ذلك مقصودا لما كان فيه حجة عليهم، لأنه لا يذكره أحد عند وجوده في الدنيا، وممن اختار هذا التفسير ابن تيمية وابن القيم(10).
    والقول الثاني: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر وأشهدهم على أنفسهم وأجابوه بلسان المقال ولا بلسان الحال، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل، وإخبار الرسل يحصل به اليقين بوجوده، وذهب إليه الشنقيطي رحمه الله(11).
    وبعد هذا التوضيح يتبين أنه لا حجة في الآية مطلقا على عدم العذر بالجهل؛ لا على القول الأول ولا على القول الثاني، لأن القول الأول راجع إلى معنى الفطرة وقد علم الجواب عنه، والقول الثاني اشترط فيه تذكير الرسل.
    قال الشنقيطي رحمه الله:« فمن ذلك قوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فإنه قال فيها حتى نبعث رسولا ولم يقل حتى تخلق عقولا وتنصب أدلة وتركز فطرة، ومن ذلك قوله تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: 165) فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة »(12).
    فإن قيل فكيف تفسرون الآية بعدها : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (الأعراف:173) قيل : ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد، إحداهما دعوى الغفلة وهي حجة المعطلين الحاجدين للفطرة لوجود الخالق، والثانية إتباع الآباء وهي حجة المشركين، وهذا يقتضي أن الفطرة وحدها حجة في بطلان الشرك، ومع ذلك فليس في ذلك نفي للعذر بالجهل، قال ابن تيمية رحمه الله :« وهذا لا يناقض قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) فإن الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذورا في التعطيل ولا الإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب، ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا (إلا) بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب »(13).
الفرع الثاني : تحريفات صاحب الجواب المفيد
      بعد أن بينا أن آية الميثاق تدل على ثبوت الفطرة، وأنها على قول أهل السنة لا تكون حجة موجبة للعذاب في الدنيا أو الآخرة؛ نأتي إلى كشف بعض تحريفات الغلاة لنصوص العلماء وتعمد البتر المغير للمعنى. ومنهم صاحب الجواب المفيد الذي نقل مجموعة من النصوص المنتقاة من كلام ابن القيم(14) ، ونحن نوردها في سياقها ليبين البتر وأثره.
     قال ابن القيم في كتاب الروح وهو يناقش قول من زعم خلق الأرواح قبل الأجساد:« وزاد الجرجاني(15) بيانا لهذا القول، فقال حاكيا عن أصحابه أن الله لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن، وما لم يكن بعد مما هو كائن كالكائن؛ إذ علمه بكونه مانعا من غير كونه شائع في مجاز العربية أن يوضع ما هو منتظر بعد مما لم يقع بعد موقع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله تعالى: (ونادى أصحاب النار) (ونادى أصحاب الجنة) (ونادى أصحاب الأعراف)، [قال: فيكون تأويل قوله وإذ أخذ ربك وإذ يأخذ ربك وكذلك قوله: وأشهدهم على أنفسهم  أي ويشهدهم مما ركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم، ويجب به الثواب والعقاب، وكل من ولد وبلغ الحنث وعقل الضر والنفع وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب، صار كأن الله تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل] على حدوثه، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره ليس كمثله»(16).
     فهذا الكلام الذي بين معكوفين هو ما نقله منسوبا لابن القيم، وهو من كلام الجرجاني المذكور، وإن فيه عقيدة اعتزالية حيث جعل العقل موجبا للثواب والعقاب، ومع كل ذلك فقد تكلم ابن القيم، في هذا الكتاب تعليقا على كلام الجرجاني، بما ينقض ما أراده الناقل من قيام الحجة بمجرد الميثاق والعقل، وهذا نصه كاملا :
     قال ابن القيم رحمه الله :« [ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين؛ ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة وينقطع به العذر وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك]، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم مما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم وأمره ونهيه ووعده ووعيده »(17).
    ومن هذا النص نقل صاحب الكتاب المذكور ما هو بين معكوفين وترك ما بعده ونرك من كلام ابن القيم أيضا قوله:
   « الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ  (النساء:165)».
   وقوله :« الثامن قوله تعالى: أفتهلكنا بما فعل المبطلون  أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار»(18).   
الفرع الثالث : تلبيس صاحب العذر بالجهل تحت المجهر
    وأما صاحب العذر بالجهل تحت المجهر فلنا مع كلامه في هذا الموضوع وقفات:
الأولى : بعد أن قرر أن من وقع في الشرك فهو مشرك باتفاق، لأن الخلاف واقع في العذاب لا في الاسم قال :« وهذا الموضع ضل فيه كثير من العقول والأفهام لظنها أن قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) حجة في إعذار من يقع في الشرك بالله، وأنه ما زال مسلما موحدا مع انغماسه في الشرك، وقطعوا بنجاته في الدارين إلا أن تقام عليه الحجة الرسالية، ويرد على الزعم الباطل هذا البحث الذي بين أيدينا الذي اتفق عليه العلماء: على أن من وقع في الشرك من أهل الفترات الذين هم في غياب عن الشرائع، وفي طموس من السبل فهو مشرك لنقضه حجية الميثاق والفطرة وأن العقل حجة على هذا »(19).
   وجوابه فيما يلي:
1-أن تسمية أهل الشرك الذين ليسوا بمسلمين بالمشركين، وملازمة وصف الشرك لهم فليست متوقفة على حجية الميثاق أو الفطرة والعقل، فنحن نسمي المشرك مشركا ونسمي اليهودي يهوديا والمجوسي مجوسيا لانتسابه لهذا الدين، ولعدم إقراره بالتوحيد الذي جاء به الرسول  .
2-وإذا أثبت بالحجج واتفاق العلماء أن المشركين مشركون! فلا يلزم من ذلك أن يحكم بالشرك على أعيان المسلمين المقرين بالشهادة والملتزمين بالإسلام وشعائره؛ إذا جهلوا بعض صور العبادة فأشركوا فيها مع الله غيره.
الثانية : مع قوله :« فلو لم تكن آية الميثاق حجة مستقلة في الإشراك فبأي حجة حكم العلماء بها عليهم بالشرك؟ »(20).
     والجواب واضح من أنهم يحكمون عليهم بالظاهر منهم، والذي يفهم من هذا التساؤل أنه لولا آية الميثاق لكان هؤلاء المشركين في عداد المسلمين!! لكن من يقول هذا؟ بل هم مشركون ونحن مستغنون عن الاستدلال على ذلك.
الثالثة : قال أيضا :« وما الحال فيمن وقع في الشرك بعد بعثة الرسول  وكل تراثه محفوظ وآيات الله وأحاديث نبيه تتلى عليهم ليل نهار، والموحدون في كل بيت من بيوتهم ». ومعنى كلامه أنا إذا حكمنا بالشرك على أصحاب الفترات فالحكم على هؤلاء (المسلمين) أولى .
    الجواب عن هذا أن يقال : نعم من كان في بيته موحدون يدعونه ويبينون له التوحيد فقد قامت عليه الحجة، أما مجرد تلاوة القرآن والحديث فلا تقوم بها حجة، لأنه يحتاج إلى تفسير وبيان وليس كل الناس يفهم القرآن.
    ولا بأس أن أنقل في ختام هذا البحث كلاما لسيد قطب رحمه الله يقرر فيه ما قاله علماء أهل السنة:« ولكن الله سبحانه رحمة منه بعباده، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف ـ كما قال  ـ بفعل شياطين الإنس والجن الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط ضعف. رحمة من الله بعباده قدَّر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا، كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف، واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات.
     ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات، ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها، ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة»(21).
الهوامش
10/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/482-491).
11/ أضواء البيان للشنقيطي (2/394-396) ط1-1426 دار عالم الفوائد، مكة المكرمة.
12/ أضواء البيان للشنقيطي (2/396).
13/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/490-492) الكلام نفسه ورد في أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/1011-1014) .
14/ الجواب المفيد (ص:330) .
15/ هو فيما يظهر أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني ويعرف بالجماجمي نسبة لحي بجرجان قال السهمي:« له من التصانيف عدة منها في نظم القرآن مجلدتان، وكان رحمه الله من أهل السنة، روى عن العباس بن يحيى العقيلي، روى عنه أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي» تاريخ جرجان للسهمي (ص:146) ط-1369 مجلس دائرة المعارف النعمانية. وكتاب نظم القرآن من مصادر الكشف والبيان للثعلبي (ت:427) وقد سمعه من الطوسي مباشرة كما في مقدمة الكتاب(1/84) ولمكي بن أبي طالب انتخاب كتاب نظم القرآن وإصلاح غلطه، ولم أظفر بسنة وفاته وتلميذه أبو النظر توفي سنة 344 كما في الوافي بالوافيات (1/210) تحقيق ريتر ط1381.
16/ الروح لابن القيم (2/549-550)، تحقيق بسام العموش ، ط1-1406، دار ابن تيمية الرياض .
17/ الروح لابن القيم (2/555).
18/ الروح لابن القيم (2/556).
19/ العذر بالجهل تحت المجهر لمدحت آل فراج (ص:42-43).
20/ العذر بالجهل تحت المجهر لمدحت آل فراج (ص:43).
21/ في ظلال القرآن لسيد قطب (3/1395-1396) ط32-1423، دار الشروق.
المبحث الرابع: عدم التفريق بين المسلمين والمشركين الأصليين
المطلب الأول : تقرير الشبهة
         ومن الشبه التي يتمسك بها المخالفون عدم التفريق بين المسلمين الواقعين في الشرك والمشركين الأصليين، وقياسهم عليهم في عدم العذر بالجهل، وخلاصة هذه الشبهة عندهم أن الله تعالى وصف المشركين بالشرك قبل قيام الحجة الرسالية في نصوص كثيرة كقوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6) فوصفه بالشرك قبل أن يسمع كلام الله تعالى الذي تقوم به الحجة ، وقال : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (البينة:1) فوصفهم بالشرك قبل أن تأتيهم البينة.
    ويعللون عدم قيام الحجة عليهم بظواهر هذه النصوص، إضافة إلى ما هو متقرر معروف من أن النبي  أرسله الله تعالى بعد فتور الرسالات قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:19).
   ثم انقسم هؤلاء الغلاة إلى فريقين منهم من قال بالتلازم بين الشرك والقتال إلا عذاب الآخرة فيحتاج إلى قيام الحجة، ومنهم من قال لا قتال في الدنيا ولا عذاب في الآخرة حتى تقام الحجة، إلا أنهم كفار لا يصلى عليهم ولا يصلى خلفهم ولا تناكح بينهم وبين المسلمين ولا توارث.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    والجواب عن هذا الاستدلال أن وصف الشرك الوارد في حق الكفار والمشركين الأصليين الذين لم يشهدوا لله تعالى بالوحدانية ولمحمد  بالرسالة، لا يجوز إيقاعه على المسلمين عينا، والتسوية بين المشركين والمسلمين في الاسم (الكفر) فضلا عن الحكم (القتال والعذاب الأخروي) ظلم وجور وخلاف الأدلة الشرعية، ويدل على ذلك ما يأتي:
الفرع الأول : دلالة النصوص على اختلاف الحكم الأخروي
     فأما المشركون الأصليون فالصواب الذي تؤيده النصوص الشرعية أنهم يستحقون وصف الشرك لعدم توحيدهم قبل قيام الحجة، ولا يحكم عليهم بالنار إلا بعدم قيامها، وذلك لصحة الحديث في امتحان أهل الفترة.
    وأما المسلمون الملتزمون بشريعة الإسلام إجمالا الواقعون في الشرك جهلا، فإنهم معذورون وخطأهم مغفور لهم، ولا يصح أن يقال إنهم يمتحنون بدليل النصوص الكثيرة الواردة في العذر في حقهم، كحديث صاحب الوصية الجائرة الذي غفر الله له، ومن كان مغفورا له في الآخرة فهو مسلم في الدنيا، ولا يمكن أن نصفه بالشرك في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة.
   قَالَ النبي « أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِى ثُمَّ اسْحَقُونِى ثُمَّ اذْرُونِى فِى الرِّيحِ فِى الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّى لَيُعَذِّبُنِى عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا. قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِلأَرْضِ أَدِّى مَا أَخَذْتِ. فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقَالَ خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ - أَوْ قَالَ - مَخَافَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ»(22).
    واختلاف الحكم الأخروي من أبين الحجج على اختلاف الأحكام الدنيوية، إذ لا يدخل الجنة في الآخرة إلا مسلم في الدنيا، ولا يمتحن أحد يوم القيامة إلا لأنه لم يكن مسلما في الدنيا.
الفرع الثاني : قيام الحجة على أهل الجاهلية
    ثم إننا لا نوافق على ما يزعمه المخالفون من أن أهل الجاهلية الذي وصفوا بالشرك لم تكن الحجة قائمة عليهم، إذ الصواب أن الحجة كانت قائمة عليهم كما ذهب إليه ابن عطية والنووي وغيرهما(23) ، وعلى ذلك دلائل منها:
    أن إقامة الحجة لا تحتاج إلى وجود رسول ضرورة، بل يكفى أن يوجد من يعلن بدعوته، قال الشوكاني في تفسير قوله: (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص:47): «ومعنى الآية أنا لو عذبناهم لقالوا طال العهد بالرسل ولم يرسل الله إلينا رسولا، ويظنون أن ذلك عذر لهم، ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد إليهم»(24).
    ومنها أنه قد كان في أهل الجاهلية من يعبد الله تعالى ولا يشرك به شيئا كزيد بن عمرو بن نفيل، فقد صح عن رسول الله  : أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل (بلدح) وذلك قبل أن ينزل على رسول الله  الوحي فقدم إليه رسول الله  سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منه وقال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه(25) ، وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:« رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معاشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري»(26).
    ومن الدلائل قول النبي  :«رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السُّيُوبَ»(27) ، وقوله:« أبي وأبوك في النار »(28) ، وقوله:« اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّى فَلَمْ يَأْذَنْ لِى وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِى»(29) ، ومعنى هذا أن والديه في النار، وهذا يدل على أهل الجاهلية ليسوا من أهل الفترات، لأنه قد ثبت أن أهل الفترة يمتحنون.
   ومنها قوله تعالى:  وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ  (آل عمران: 103). قال الطبري: «وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم بالإيمان الذي هداكم له»(30).
    وفي الصحيح أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال:«لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين »(31).
   ويلزم من يصر على قياس المسلم الذي عرضت له شبهة في مفهوم العبادة بالمشرك الأصلي ومشركي أهل الجاهلية أن يحكم على الجميع بالنار، وهذا ما التزمه بعضهم ممن لا يفرق بين أحكام الدنيا والآخرة، ولا يشترط إقامة الحجة بإطلاق، وهذا الرأي أقيس وإن كان أكثر بعدا عن الحق.
الفرع الثالث: محل الاستدلال بالآيات النازلة في أهل الشرك
     ولا يمنع أحد من الاستدلال بالآيات الواردة في الكفار الأصليين على فساد الشرك وبيان أسباب الكفر، فلا نزاع في إثبات كفر النوع (إلا نزاع القبوريين ولا عبرة به)، لكن النزاع في إيقاع اسم الشرك والكفر على المعين من المسلمين، لذلك فإن من لغو الكلام قول بعض الغلاة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، ومن التلبيس التمسك بأنه استدل بها العالم الفلاني والفلاني، لأنهم استدلوا بها على فساد الكفر لا على تكفير المعين.
   قال السعدي رحمه الله : « وما ذكرته من مساواة جهلة اليهود والنصارى وجميع الكفار الذين لا يؤمنون بالرسول ولا يصدقونه بجهلة من يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويعتقد صدق كل ما قاله في كل شيء ويلتزم طاعته، ثم يقع منه دعاء لغير الله وشرك به، وهو لا يدري ولا يشعر أنه من الشرك، بل يحسبه تعظيما لذلك المدعو مأمورا به، ما ذكرته من المساواة بين هذا وبين ذاك فإنه خطأ واضح، دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على التفريق بين الأمرين»(32).
   وبعد أن أطال الشيخ العثيمين في التفريق بين النوعين، قرر أن كل نوع يعامل في الدنيا بحسب الظاهر منه، فقال :" فالأصل فيمن ينتسب إلى الإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره»(33).
الهوامش
22/ رواه البخاري (3266) ومسلم (2756) واللفظ له.
23/ انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (4/72)ط1-1422، دار الكتب العلمية، وشرح صحيح مسلم للنووي (3/79) ط1-1347، المطبعة المصرية بالأزهر.
24/ فتح القدير للشوكاني (ص:1104) دار المعرفة بيروت.
25/ رواه أحمد (2/89) وقال الألباني في صحيح السيرة (1/34) وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
26/ رواه البخاري (رقم: 3616).
27/ رواه البخاري (رقم:3333) ومسلم (رقم: 2856).
28/ رواه مسلم (رقم: 203).
29/ رواه مسلم (رقم: 976).
30/ تفسير الطبري (5/657) تحقيق التركي ، ط1-1422، دار هجر، الجيزة مصر.
31/ رواه مسلم (رقم:214) وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (رقم:158).
32/ الفتاوى السعدية (ص:578)، ط2- 1402، مكتبة المعارف الرياض.
33/ مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمبن (2ـ/133)، جمع فهد السليمان، ط- 1413، دار الوطن الرياض.
المبحث الخامس: التشكيك في إسلام الناس
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    ولتأكيد عدم الفرق بين المشرك الأصلي وبين المسلم بحث كثير منهم حقيقة الإسلام وكيفية انتقال العبد من الشرك إلى التوحيد.
    فقرر كثير منهم أنه لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين للدخول في الإسلام، بل لابد من تحقق شروطها وعلى رأس هذه الشروط العلم بمعناها، وكذلك لابد من العمل بمقتضاها، وربما أوردوا كلاما لبعض أهل العلم يؤيدون به كلامهم كقول المودودي :« إذا كان الإنسان لا يعرف ما الإله، وما معنى الرب، وما العبادة، وما تطلق عليه كلمة الدين، فلا جرم أن القرآن يعود في نظره كلاما مهملا لا يفهم من معانيه شيئا، فلا يقدر أن يعرف حقيقة التوحيد أو يتفطن إلى ماهية الشرك، ولا يستطيع أن يخص عبادته بالله سبحانه أو يخلص دينه له »(34). وقرروا أنه لابد من الكفر بالطاغوت لصحة الإيمان، وبناء على ذلك يقولون إن هؤلاء الذين تدافعون عنهم ولا تريدون تكفيرهم ، ليسوا من المسلمين وأنه لا فرق بينهم وبين المشركين الأصليين واليهود والنصارى، لأن شهادتهم غير صحيحة لم تتوفر فيها شروط القبول.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الفرع الأول: عدم التسليم بجهل العامة للمعنى الإجمالي للشهادة
    إن اشتراط العلم بمدلول كلمة التوحيد أمر لا غبار عليه، لكن من قال إن المسلمين يجهلون معنى الشهادة جهلا تاما كما يجهلها الأعجمي الذي لا يفهم العربية، فإن فهم المعنى الإجمالي لهذه الكلمة موجود في المسلمين اليوم جميعا عربيهم وأعجميهم، من سلم من الوقوع في مظاهر الشرك ومن لم يسلم، كما أنهم ملتزمون الالتزام المجمل بالشريعة وهذا هو المطلوب للحكم عليهم بالإسلام.
الفرع الثاني: لا تلازم بين الجهل ببعض النواقض وبين العلم بمعنى الشهادة
   والوجه الثاني من جواب الشبهة أن يقال: إن جهل بعض المسلمين لبعض مظاهر الشرك أو بعض نواقض الإسلام؛ لا يعني أنهم يجهلون مدلول كلمة التوحيد بإطلاق وأنها لا تنفعهم، كما أنَّ عملهم بما يناقض الشريعة جهلا أو تأوُّلا لا يعني أنهم غير ملتزمين بها، فشرط العلم متحقق في الجملة، لكن يقع التقصير في بعض جزئياته، وقد تقع المخالفة العملية منهم دون شعور بمناقضة ذلك للتوحيد، لذلك يشترط أهل السنة إقامة الحجة على المعين قبل تكفيره.
الفرع الثالث: المطالبة ببيان حد العلم المجزئ
   ويقال لمن عاند في هذا ما هو حد العلم المطلوب؟ هل تقصدون أن يكون عالما بمعنى لا إله إلا الله معرفة مفصلة على نحو معرفة العلماء الربانيين، فهذا لا يقوله عاقل، ويلزم منه تكفير كثير من الغلاة في التكفير؛ لأنهم يخطئون في تفسير كلمة التوحيد حيث يخصونها بالحاكمية، ويلزم منه تكفير جميع علماء الأشعرية الذين يفسرون كلمة التوحيد بالقدرة على الاختراع ونحو ذلك، وهذا لا يقوله أحد له حظ من العلم أو يدري ما يقول.
   قال حافظ حكمي في شرحه لشروط لا إله إلا الله: «ومعنى استكمالها اجتماعها في العبد والتزامه إياها بدون مناقضة منه لشيء منها، وليس المراد من ذلك عدّ ألفاظها وحفظها، فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له اعددها لم يحسن ذلك، وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله والله المستعان»(35).
الفرع الرابع : لازم الشبهة تكفير المسلمين بالعموم
   لابد أن يتنبه من احتج بهذه الحجة (عدم فهم الناس لكلمة التوحيد وتحقيق شروطها) أن لازم كلامه ليس فقط تكفير من وقع في مظاهر الشرك جهلا، بل تكفير جميع المسلمين الذين لم يحققوا تلك الشروط على وفق ما يتخيله ونحو ما يتصوره، وهذا قد التزمه طوائف من الغلاة في التكفير كجماعة التكفير والهجرة وأهل التوقف والتبين، وهو لازم لغيرهم ممن قد يتبرأ منهم ويشاركهم في هذه الحجة.
الفرع الخامس: توجيه كلام العلماء المستند إليهم في تقرير الشبهة
    ومن الجواب أن يقال إن هؤلاء العلماء الذين أسندوا إليهم تلك المقدمات؛ التي بنوا عليها التسوية بين المشركين والمسلمين الذين لم يحققوا العلم المفصل بمعنى الشهادتين، هل كانوا يقولون بأقوال الغلاة في التكفير على اختلاف مراتبهم في الغلو؟ الجواب: لا، بلا مرية، فهذا المودودي يقول في الكتاب نفسه:« ومن الحق الذي لا مراء فيه أنه قد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن، بل غابت عنهم روحه السامية وفكرته المركزية لمجرد ما غشي هذه المصطلحات الأربعة من حجب الجهل، وذلك من أكبر الأسباب التي تطرق لأجلها الوهن والضعف إلى عقائدهم وأعمالهم على رغم قبولهم دين الإسلام وكونهم في عداد المسلمين»(36)، وقال في موضع آخر : «يجب ملاحظة قضية تكفير المسلم والاحتياط في هذه المسألة احتياطا كاملا يتساوى مع الاحتياط في إصدار فتوى بقتل شخص ما، وعلينا أن نلاحظ أن في قلب كل مسلم يؤمن بالتوحيد ولا إله إلا الله إيمانا، فإذا صدر منه شائبة من شوائب الكفر فيجب أن نحسن الظن ونعتبر هذا مجرد جهل منه وعدم فهم وأنه يقصد بهذا التحول من الإيمان على الكفر، لأنه لا يجب أن نصدر ضده فتوى بالكفر بمجرد أن نستمع إلى قوله ، بل يجب علينا أن نفهمه بطريقة طيبة ونشرح له ما أشكل عليه ونبين له الخطأ من الصواب»(37).
الفرع السادس : الهدف من إلقاء هذه الشبهة
   ومقصود كثير منهم من تقرير هذه المعاني اعتبار مناقشة شروط التكفير وموانعه لغوا لا معنى له، لأن بحثها إنما هو في حق المسلمين؛ وهؤلاء المختلف فيهم عندهم مشركون أصليون. ويصبح جوابهم عن قول ابن حزم مثلا: «إن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع»(38) هذا فيمن ثبت إسلامه وهؤلاء الذين تدافعون عنهم لم يثبت إسلامهم.
تطبيقات بعض الغلاة
   بعد أن قرَّر صاحب المجهر أن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان، وهذا لا خلاف فيه قال :« ويبقى سؤال أريد من أخي القارئ الإجابة عليه، وهو من لم يخلع الأنداد أو الأوثان أو عبادة الطواغيت أو ارتضى طاغوتا يسوس العباد ويحكم فيهم بما شاء من تشريعات وأحكام دون الله ورسوله  فهل هذا كفر بالطاغوت أم آمن به؟»(39).
   وينبغي التنبه إلى أنه قال هذا في بحث كيفية انتقال العبد من الشرك إلى الإسلام، لا في بحث نواقض الإسلام أو أسباب الردة، وأهل الغلو عموما يخلطون في هذا الباب خلطا عظيما، وعلى قول صاحب المجهر فإننا إذا دعونا نصرانيا أو وثنيا إلى الإسلام؛ فإنه لا يكون مسلما حتى يكفر بالأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية جميعا، فإن أبى لم تنفعه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لست ألزمه بهذا فقد صرح بنحوه في كتابه(40). والذي يدفعهم إلى مثل هذا الخلط والتزام هذه اللوازم، هو ذاك السؤال الذي لم يجدوا له جوابا مقنعا، كيف تجعلون من أتى بالشهادة ومن لم يأت بها من اليهود والنصارى والمشركين سواء؟
   وصاحب المجهر بحث في أحكام الردة وفاته من نصوص الفقهاء قولهم :« وَإِذَا صَلَّى الْكَافِرُ أَوْ أَذَّنَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ مُرْتَدًّا وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْحَرْبِ »(41).
   وكذلك زعم أنه حقق مذهب ابن عبد الوهاب في المسألة، وفاته قول عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ(42):« وإنما تكلم الناس في بلاد المشركين الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين، ويجعلونهم أندادا لله رب العالمين ، أو يسندون إليهم التصرف والتدبير كغلاة القبوريين، فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم، والمعروف المتفق عليه : أن من فعل ذلك ممن أتى بالشهادتين يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردة ولم يجعلوه كافرا أصليا، وما رأيت ذلك لأحد سوى محمد بن إسماعيل في رسالته تجريد التوحيد المسمى بتطهير الاعتقاد، وعلل هذا القول بأنهم لم يعرفوا ما دلت عليه كلمة الإخلاص، فلم يدخلوا بها في الإسلام مع عدم العلم بمدلولها وشيخنا لا يوافقه على ذلك »(43).
الهوامش
34/ المصطلحات الأربعة في القرآن (ص:7) تعريب محمد كاظم سباق، ط5-1391، دار القلم الكويت.
35/ معارج القبول لحافظ حكمي (2/418) تحقيق عمر بن محمود، ط3-1415، دار القيم الدمام السعودية.
36/ المصطلحات الأربعة في القرآن (ص:11).
37/ أبو الأعلى المودودي، فكره ودعوته لأسعد جيلاني (ص:274) نقلا عن ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله القرني (72) ط1-1413، مؤسسة الرسالة بيروت.
38/ الفصل في الملل والنحل لابن حزم (3/292) تحقيق محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرةن ط2-1416، دار الجيل، بيروت .
39/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:69).
40/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:72).
41/ انظر: كشاف القناع للبهوتي (5/156) تحقيق محمد الضناوي، ط1-1417، عالم الكتب، بيروت، والمحرر للمجد ابن تيمية (1/73) ت التركي، ط1-1428، مؤسسة الرسالة.
42/ هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية عام 1225، وأقام بمصر ابتداء من سن الثامنة وبها طلب العلم على يد مشايخ نجد ومصر، وفي سنة 1264 رجع إلى نجد، من مؤلفاته مصباح الظلام وتأسيس التقديس في الرد على ابن جرجيس، وتوفي رحمه الله عام 1293، انظر مشاهير علماء نجد لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (93-120)، ط3-1394، دار اليمامة.    
43/ مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإسلام والإيمان لعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص:52-53) تحقيق عبد العزيز آل حمد، ط1-1424، مطبوعات الشؤون الإسلامية والأوقاف بالسعودية.
المبحث السادس: زعم عدم تأثير الجهل في أحكام الردة
المطلب الأول: تقرير الشبهة
   من شبهات نفاة العذر بالجهل إيرادهم كلام بعض أهل العلم المتأخرين في باب الردة، حيث لم يذكروا إقامة الحجة، وذكروا الاستتابة بعد الحكم بالردة(44) ، ومن اعتمد الشبهة السابقة مع هذه متناقض، إلا أن يقول إنما نذكر هذا جدلا أي إذا سلمنا لكم أن هؤلاء الواقعين في الشرك كانوا مسلمين فهم واقعون في أسباب الردة وهذه لا يعتبر فيها عارض الجهل، لأنه لا معنى للحديث عن ردة من لم يثبت إسلامه عنده، وإني أعلم علم اليقين أن بعضهم إنما يتصيد أي كلام فيه نفي العذر بالجهل، ولا يشعر أن الكلام الذي ينقله يدفع بعضه بعضا.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
   والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الفرع الأول : لا حجة في كلام غير معصوم
    لا حجة في كلام فقهاء المذاهب إلا إذا كانوا مجتهدين ثم اتفقوا على رأي، لأنه يكون حينئذ إجماعا معتبرا، وأما نقل كلام أصحاب المتون والشراح من المقلدة المتأخرين وتكراره فلا يفيد حجية إلا على المقلدين لتلك المذاهب.
    وليس في ذلك اتفاق كما سيأتي إذ من الفقهاء المجتهدين من نص على اشتراط العلم في غير الأمور المشهورة، كابن قدامة في الكافي الذي قال بعد أن ذكر أسباب الردة:« فإن كان ذلك لجهل منه لحداثة عهده بالإسلام أو لإفاقة من جنون ونحوه، لم يكفر و عرف حكمه ودليله، فإن أصر عليه كفر لأن أدلة هذه الأمور الظاهرة في كتاب الله وسنة رسوله، فلا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله وسنة رسوله»(45).
الفرع الثاني: نوع المسائل المذكورة في كتب الفقه
    الكلام عن الردة في كتب الفقه إن كان كلاما في حكم الأفعال والأقوال؛ وهو كفر النوع فهذا لا مدخل للعوارض فيه لا نفيا ولا إثباتا، لأن الذي يحتاج فيه إلى تفصيل هو الحكم على المعين، وإن كان تعدادا لأمور لا يقبل فيها دعوى الجهل كالقول بقدم العالم وتناسخ الأرواح أو الحلول أو ادعاء النبوة أو تجويز اكتسابها؛ فهذا سواء سكتوا فيه عن نفي العذر أو صرحوا بنفيه أمر لا خلاف فيه.
الفرع الثالث : معنى نفي العذر في كلام الفقهاء
   من الفقهاء من يصرح بنفي العذر وهو يقصد نفي الاعتذار بالجهل في الأحكام القضائية، فمعنى كلامه نفي قبول العذر لنفي العقوبة عند القاضي خاصة فيما يستوجب إقامة الحد دون استتابة، وليس المقصود نفي العذر مطلقا. ولهذا نعد من الخطأ نقل بعض الفقهاء "إنه لا يعذر أحد بدعوى الجهل" في هذا الموضع، فالعذر بالجهل شيء والاعتذار عند القاضي بالجهل شيء آخر، وفي سب الله تعالى أو دينه أو رسوله نص كثير من العلماء على عدم قبول أي عذر ولو زعم أنه زل لسانه ففي المعيار المعرب:« سئل ابن أبي زيد القيرواني عن رجل لعن الله، فقال:" إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني"، فأجاب ابن أبي زيد : "يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره، وأما بينه وبين الله فمعذور»(46). ولأجل هذا النظر القضائي المبني على الحكم بالظاهر منهم من نص على صحة ردة السكران مع أن السكران مغلق على عقله.
الفرع الرابع : عدم تسليم دعوى عدم اشتراط قيام الحجة
ومع ذلك نقول إن اشتراط قيام الحجة موجود في كلام الفقهاء، فقد تكلم بعضهم عن حالات استثنوها كمن نشأ في بادية بعيدة أو حديث عهد بإسلام، ونصهم على هاتين الحالتين دليل على اعتبار عارض الجهل، لأنه المعنى المشترك الموجود فيهما، ومن الكلام الذي أورده بعضهم في دلالة على هذا المعنى –وهو حجة عليه- قول السيوطي في الأشباه والنظائر:« كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس اليوم لم يقبل منه إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك»(47).
    وقد رأيت من المقلدة المعاصرين من أخذ بنص الفقهاء دون علته، فزعم أنهما حالتان لا ثالث لهما، ومعنى البادية البعيدة عنده على ظاهره!! على أن معنى "البعد" أمر نسبي، ومقصود العلماء ضرب المثال لا الحصر؛ إذ منهم من زاد عليها كابن قدامة في الكافي، وليس مرادهم ما يفهمه هؤلاء المقلدة في أمر البعد، إذ مرادهم البعد عن أماكن وجود العلم والعلماء، ومن عبَّر بالبعد عن المسلمين أو قراهم فمقصوده بعد أسباب العلم، ونحن في زماننا توجد مدن كبرى خالية من العلماء أو من الكفاية التي يحصل بها انتشار العلم، فهذه النصوص التي يكثر تردادها في متون الفقه وشروحه ليست نصوصا شرعية، وقد عبَّر بها الفقهاء عن معان أرادوها يجب الوقوف عليها.     
   ومنهم من أورد قول الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي السعودية السابق:« قسم يجحد ما علم أن الرسول جاء به وخالف ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به؛ فهذا يكفر بمجرد ذلك، [سواء في الأصول أو الفروع]، ولا يحتاج إلى تعريف ما لم يكن حديث عهد بالإسلام ».
     وهذا كلام صحيح لا غبار عليه لأن الحجة قائمة عليه، وهذا نص كلامه كاملا من الفتاوى والرسائل:« تنقسم الأشياء التي يرتد بها إلى ثلاث أقسام :
قسم يجحد ما علم أن الرسول جاء به وخالف ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به؛ فهذا يكفر بمجرد ذلك، سواء في الأصول أو الفروع، ولا يحتاج إلى تعريف ما لم يكن حديث عهد بالإسلام.
والقسم الثاني : ما يخفي دليله ؛ فهذا لا يكفر حتى تقام عليه الحجة من حيث الثبوت ومن حيث الدلالة ، وبعدما تقام عليه الحجة يكفر سواء فهم أو قال ما فهمت أو فهم ووضحت له الحجة بالبيان الكافي ؛ ليس كفر الكفار كله عن عناد؛ بل العناد قسم من أقسامه ....
والقسم الثالث : أشياء تكون غامضة فهذه لا يكفر الشخص، ولو بعد ما أقيمت عليه الدلالة ، وسواء كانت في الفروع أو في الأصول،..
   فعرفنا من هذا أنه لا تكفير لأحد إلا بعد قيام الحجة عليه. فالقسم الأول ظاهر، والقسم الأوسط هو محل هذا في الغالب، لا الثالث »(48).
   ومن أسباب الردة المعلومة تعطيل صفات رب العالمين، ومع ذلك فالثابت عن العلماء عدم تكفير الجهمية بأعيانهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه. واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوا به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع »(49).
الهوامش
44/ انظر العذر بالجهل تحت المجهر (ص:203-207) .
45/ الكافي لابن قدامة (5/320) تحقيق التركي ، ط1-1418، دار هجر جيزة مصر .
46/ المعيار المعرب للونشريسي (2/543)ط1-1401 ، دار الغرب الإسلامي.
47/ الأشباه والنظائر للسيوطي (1/303)، ط2-1418، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة والرياض.
48/ الفتاوى والرسائل (12/190) جمع وتحقيق محمد بن عبد البرحمن بن قاسم، ط1-1399، مطبعة الحكومة مكة المكرمة.
49/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/488-489).
المبحث السابع : زعم قيام الحجة بسماع القرآن
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    يتحدث المخالفون عن قيام الحجة لا للتكفير، ولكن للحكم بالعذاب الأخروي عند فريق منهم، وللحكم بالعذاب الأخروي والدنيوي (ويقصدون بالعذاب الدنيوي القتل والقتال) عند فريق آخر، فهم يشترطون إقامة الحجة لذلك ويفسرونها بسماع القرآن وربما يبالغون ويقولون بسماع الأذان، ويستدلون بقول الله عز وجل: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) ويقولون : فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ويقولون: فمن بلغه القرآن ووقع في الشرك فإنه مشرك يستحق العذاب.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    والجواب عن هذه الشبهة من وجوه بيانها فيما يأتي:
الفرع الأول: تناقض بعض من اعتمد هذه الشبهة
   لا بد أن ننبه على أن بعضهم يتناقض في هذه المسألة، وذلك حين يقول في استدلاله:"فمن بلغه القرآن ووقع في الشرك فإنه مشرك"، ونسي أنه قرَّر قبل ذلك أن وصف الشرك يثبت عنده مع الجهل قبل قيام الحجة التي هي عنده سماع القرآن، وهذا مما يُبيِّن تهافتهم وعدم التأصيل العلمي لهذه المسألة عندهم.
    وكذلك يتناقض من يقول إن وصف الشرك يثبت قبل قيام الحجة، ثم لا يرضى بأن يحتج عليه بنحو قول الشيخ سليمان بن سحمان(50): «وأما التوسل على عرف غلاة عباد القبور واصطلاحهم الحادث، فهم (أي الوهابية) ينهون عنه ويكفرون من دعا القبور واستغاث بهم والتجأ إليهم بعد قيام الحجة عليهم»(51). ويقول إنما يقصد بقيام الحجة سماع القرآن (أو بعثة النبي  !!!). فيقال له: ما شأنك وتفسير كلام ابن سحمان وأنت تكفر من يستغيث بغير الله قبل سماع القرآن وقيام الحجة، ثم ندعو هذا القائل إلى تأمل قول ابن سحمان في كتابه منهاج أهل الحق والاتباع:« وأما قول السائل : هل كلٌّ تقوم به الحجة أم لا بد من إنسان يحسن إقامتها على من أقامها ؟ فالذي يظهر لي -والله أعلم-أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها، وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه، ولا ما ذكره العلماء في ذلك، فإنه لا تقوم به الحجة فيما أعلم»(52). وعند هؤلاء يكفي فيمن يقيم الحجة أن يحسن تلاوة القرآن.
الفرع الثاني: تحكم من خص هذه حجة ببعض الأحكام دون بعض
   وأما من جعل إقامة هذه الحجة الموصوفة للأحكام المذكورة أعلاه بعد ثبوت وصف الشرك والكفر عنده، فيقال لهم إن ظاهر الأدلة كقوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) نفي العذاب الدنيوي والأخروي، فما دليلكم على التفريق الذي أتيتم به، فإنَّ حمل العذاب المنفي على العذاب الأخروي دون الدنيوي تَحكُّم، وكذلك من حمل العذاب المنفي على العذاب الأخروي والدنيوي، ثم أثبت جميع أحكام الكفر الدنيوية من تفريق بين الأزواج وعدم توريث وعدم الدفن في مقابر المسلمين وتحريم الاستغفار إلا القتل؛ فقد أوغل في التحكم والتناقض.
الفرع الثالث: مقصد إرسال الرسل توضيح طريق الهداية
    ويقال بعد ذلك إن المقصود من إرسال الرسل توضيح طريق الهداية للناس،
وبيان التوحيد والتحذير من الشرك، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يرسل الرسل بألسنة أقوامهم ليحصل البيان قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم:4) ومقتضى هذا أن الحجة تقوم على من بُيِّنت له وفهمها، لا على من تليت عليه الآيات وهو لا يفهمها، ومنه فلا يجوز أن يقاس الأعاجم والمنتسبون إلى الشعوب العربية من أهل عصرنا على كفار العرب، أهل الفصاحة والبيان الذين خوطبوا بالقرآن.
     بل ثمة شرط آخر فوق مجرد الفهم؛ وهو زوال الشبه التي تحول بينه وبين الفهم الصحيح، قال ابن حزم رحمه الله:« وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه؛ فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئا، وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها »(53).
الفرع الرابع: إلزام تعميم هذه الحجة على الأعاجم
    من يقول: سماع القرآن أو بلوغ القرآن تقوم به الحجة، ويطلق الأمر كما هو موجود في كثير من الفتاوى والكتابات، يلزمه أن يعمم ذلك في الأعاجم الذين لا يفهمون العربية إطلاقا، فإن قال: لا بل هؤلاء لا بد أن تترجم لهم معانيه، قلنا: كذلك غيرهم من المنتسبين إلى الأمم العربية لا بد أن تشرح لهم معانيه اللغوية والشرعية التي خفيت عليهم.
   وقد يقال لنا هنا: إن هذا الذي حكيتموه عن المخالفين يقول به كثير من الفضلاء، فنقول: نحن نحب أهل العلم والفضل جميعا، لكن الحق أحب إلينا، وإن كان هؤلاء أهل علم وفضل؛ فمن خالفهم من أهل العلم والفضل أكثر منهم وأقدم، وكل يؤخذ من قوله ويرد، والعبرة بما صح في الدليل.
الهوامش :
50/ هو سليمان بن سحمان النجدي، ولد سنة 1266 بأبها ونشأ وتعلم العلوم الأولية ثم نزح به والده إلى الرياض عام 1280 ودرس على عبد الرحمن بن حسن وولده عبد اللطيف، وعاصر مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن ، ومن مؤلفاته الضياء الشارق والأسنة الحداد في الرد علوي الحداد، توفي بالرياض عام 1349، انظر مشاهير علماء نجد لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (290-317).
51/ الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق (ص:93) ط1-1433، مطبعة المنار بمصر .
52/ منهاج أهل الحق والاتباع لابن سحمان (ص:85) تحقيق عبد السلام بن برجس، ط1-1417، مكتبة الفرقان، عجمان، الإمارات العربية المتحدة.
53/ الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/74) تحقيق أحمد شاكر، منشورات دار الآفاق، بيروت.
المبحث الثامن : دعوى قيام الحجة ببلوغها دون فهمها
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    وتبعا للشبهة السابقة يقول بعضهم: إنه لا يشترط في إقامة الحجة فهمها، بل يكفي بلوغها، لأن الله تعالى أخبر أن المشركين قامت عليهم الحجة ومع أنهم لم يفهموها؛ نزل القرآن وسمعوه وجاءهم النذير صلى الله عليه وسلم وأنذرهم واستمروا على كفرهم فلم يعذروا، ولهذا قال :« والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار»(54) ، وقال تعالى في وصف الكفار : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(البقرة:171) ومع ذلك قامت عليهم الحجة فأخبر أن مثلهم مثلُ من يسمع الصوت ولا يفهم المعنى كمثل الغنم التي ينعق لها الراعي فتسمع الصوت ولا تفهم النداء، ومنهم من يؤيد مذهبه ببعض متشابه كلام ابن عبد الوهاب في هذه القضية حيث قال رحمه الله :« وقيام الحجة نوع وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها»(55).
المطلب الثاني : جواب الشبهة  
    والجواب عن هذه الشبهة من وجوه بيانها فيما يأتي:
الفرع الأول: المقصود ببلوغ الحجة فهمها
   إن فهم معاني الآيات والأحاديث ضروري لقيام الحجة كما سبق، أما بلوغها دون فهم فلا يعقل أن يكون لها أثر في قيام الحجة وتغير الأحكام، لذلك يعبر بعض العلماء بقولهم بلوغ الدعوة بدلا من بلوغ القرآن، ويقولون أما الذين لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة عليهم فأمرهم إلى الله عز وجل.
الفرع الثاني: الأدلة تدل على ضرورة الفهم
   أن الله تعالى قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) (التوبة:115) فقال:(حَتَّى يُبَيِّنَ) وهذا هو قيام الحجة لا مجرد قراءتها، فإن شوش بعضهم بقوله:" إنه قال "حتى يُبَيِّنَ "، ولم يقل حتى يتيبن"، فيقال له: بَيَّن فتبَيَّن، بدليل قوله تعالى : (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) (النساء:115).
الفرع الثالث: التفريق بين فهم المعنى وفهم الانتفاع
   ولا يصلح هنا التمسك بالآيات التي تنفي الفقه والفهم عن الكفار، لأن المقصود نفي الفقه والفهم المورِّث للانتفاع، لا نفي فهم المعنى المراد، مثله مثل نفي السماع عنهم، كقوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنفال:23) فهل يقال إن الحجة قامت عليهم من غير سماع. وهذا هو مراد ابن عبد الوهاب الذي قال في موضع:« فإذا كان المعين يكفَّر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر»(56).
    وهذا المنهج هو الطريق الذي ينبغي أن يسلك مع النصوص المتشابهة أو التي ظاهرها التعارض، وكذلك في شرح كلام العلماء وفهم مرادهم، وإلا كيف يصنع المخالف بقول ابن عبد الوهاب:« وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم ، فكيف نكفر من لم يشرك بالله ...» وفي بعض النسخ "لأجل جهلهم وعدم من يفهمهم"(57).
الفرع الرابع : توجيه حديث السماع بالرسول 
   أما الاحتجاج بقوله :" والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"(58) ، على أنه يكفي السماع به دون السماع بموضوع دعوته وفهم مراده فمن أبعد الأمور.
    قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ: «وإذا بلغ النصراني ما جاء به الرسول  ولم ينقد لظنه أنه رسول الأميين فقط، فهو كافر وإن لم يتبين له الصواب في نفس الأمر، كذلك كل من بلغته دعوة الرسول بلوغا يعرف فيه المراد والمقصود فرد ذلك لشبهة أو نحوها فهو كافر، وإن التبس عليه الأمر وهذا لا خلاف فيه»(59).
      وقال الألباني رحمه الله:« (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة) هذا كقول النبي  «من رآني في المنام فقد رآني»(60) ، ففي هذا الحديث المعنى من رآه على صورته التي خلقه الله جل وعلا عليها، وفي حديث (لا يسمع بي) المعنى سمع بي على ما بعثني الله جل وعلا عليه، فإذا كان هناك سماع محرّف، سماع ليس فيه وصف لما جاء به النبي على ما جاء به النبي فهو من جنس رؤية النبي - - على غير صورته، فلا يكفي ذلك في معرفة الحق، لأنه لابد أن يكون في إيضاح الحجة وإقامتها أن يكون الدين واضحا، لا يكفي أن يسمع ببعض الحجة ولا يفهم معناها»(61).
      وكذلك من وقع في الشرك من هذه الأمة إذا سمعوا شيئا من أخبار أهل السنة، فإن ذلك لا يكفي ما لم تقم عليهم الحجة؛ بمعنى بيان الدلائل.
الفرع الخامس: تناقض المستدل بهذه الشبهة
   عندما تناقش هؤلاء الغلاة تتيقن أن كل همهم هو الوصول إلى التكفير بأي طريق، وهذا ما يوقعهم في التناقضات الصريحة، ومن ذلك أنهم يقولون في ثبوت وصف الإسلام لا بد من الفهم المفصل للشهادتين ولا يكفي الفهم المجمل، وقد يكفرون من أخطأ في اللفظ ولو حقق المعنى، وأما في باب النواقض فيعكسون القضية تماما، فلا يشترطون لا الفهم المجمل ولا المفصل.
الفرع السادس: من كلام العلماء فيمن تقوم به الحجة
    ومما يبين لنا جليا مراد العلماء الذين فرقوا بين فهم الحجة وقيامها، وأنهم لا ينفون اشتراط مطلق الفهم، حديثهم عمن تقوم به الحجة من أهل العلم، وقد سبق أن نقلت كلام ابن سحمان في ذلك، وهذا كلام عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ:«تعريف أهل العلم للجهال بمباني الإسلام، وأصول الإيمان والنصوص القطعية والمسائل الإجماعية حجة عند أهل العلم، وتترتب عليه الأحكام، أحكام الردة وغيرها ....إذ النقل والتعريف يتوقف على أهل العلم، كما أن بيان المعاني المقصودة والتأويلات المرادة يتوقف على أهل العلم وتقوم الحجة بهم»(62).
الهوامش/
54/ رواه مسلم (رقم:153).
55/ الدرر السنية في الأجوبة النجدية جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (10/94) ط6-1417.
56/ مؤلفات ابن عبد الوهاب، الرسائل الشخصية (7/244).
57/ الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/104).
58/ رواه مسلم (رقم:153).
59/ مصباح الظلام لعبد اللطيف آل الشيخ (ص: 326).
60/ رواه البخاري (رقم:6593) ومسلم (رقم:2266).
61/ نقلا عن شرح مسائل الجاهلية لصالح آل الشيخ (ص:118) تفريغ أشرطة موجود في برنامج الشاملة.
62/ مصباح الظلام لعبد اللطيف آل الشيخ (ص: 207).
المبحث التاسع: التفريق بين أصول الدين وفروعه
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    تبعا للشبهة السابعة أيضا منهم من يقول إنما نقصد أن الحجة تقوم ببعثة الرسول  وإنزال القرآن أو سماع القرآن في أصول الدين لا فروعه، ثم يحملون كلام العلماء الوارد في إثبات العذر بالجهل على ما يعتبرونه فروعا دون المسائل التي هي من أصول الدين.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
   والجواب عن هذه الشبهة فيما يأتي:
الفرع الأول: ما هو ضابط الفرق بين الأصول والفروع
   لا بد لمن يتمسك بهذه الشبهة أن يشرح لنا ضابط التفريق بين الأصول والفروع، لنشاركهم في النظر في آحاد المسائل هل فيها العذر بالجهل أم لا، ولنتمكن نحن أيضا من فهم كلام العلماء على وجهه.
   فإذا قالوا نحن نريد المصطلح المشهور بين أهل الكلام كالمعتزلة ومن تابعهم، من أن الأصول هي العقائد والفروع هي الفقه، قيل ليس هذا التفريق معتمدا عند أهل السنة ولا يجوز أن يحمل كلامهم على معان قد أنكروها وزيفوها.
   وإن قالوا الأصول هي الأمور المعلومة من الدين بالضرورة سواء من العقائد أو الفقه، والفروع هي ما دون ذلك من المسائل الاجتهادية والخفية، قيل الظهور والخفاء من الأمور النسبية التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فما كان ظاهرا في زمان قد يخفى في آخر، وما كان ظاهرا في مكان قد يخفى في مكان آخر، وهذه النكتة تحل عقدا كثيرة عند المخالفين لو فقهوها.
الفرع الثاني: لا أثر للتقسيم في قضية العذر مهما كان ضابطه
    ومما يرد به أيضا أن هذا التقسيم لا أصل له عند علماء السلف، وهو باطل بدلالة الأدلة الشرعية العامة في إثبات العذر بالجهل، التي توضح أن الجهل حيثما وجد ولا يمكن دفعه يكون سببا لرفع المؤاخذة في الدنيا والآخرة، ولا تفريق فيها بين مسائل الأصول والفروع بأي تفسير من التفسيرات، بل أكثر الأدلة واردة في أصل الدين وفي الأمور الاعتقادية، فكيف لا تكون شاملة لها.
الفرع الثالث : الإلزام بتكفير الفرق الإسلامية
   ومما نطرحه إلزاما للمخالفين المتمسكين بهذه الشبهة، ما تقولون في الفرق الإسلامية المعتزلة والمرجئة والشيعة والأشاعرة والقدرية والخوارج، هل خلافهم في الأصول أم الفروع؟ وإذا كان خلافهم في الأصول - وهو الحق - فهل تكفرونهم أم لا؟
   أما من يحمل كلام ابن تيمية في التفريق بين التكفير المطلق والتكفير للمعين -الوارد أكثره في الفرق الإسلامية- على المسائل الفرعية، فيلزمه أن يعد مسائل الصفات والإيمان والقدر مسائل فرعية ولا قائل بهذا، فإن هذه المسائل أصلية في الدين مشهورة وأدلتها متواترة.
   وأما من فرَّ من هذا اللازم فصرح بتكفير الفرق الإسلامية؛ فكذلك لازم قوله رد كلام ابن تيمية جملة وتفصيلا، لا حمله على المسائل الخفية، لأن أكثره وارد كما ذكرنا في الفرق الإسلامية، وإذا كان المخالف يصف من يأبى تكفير الفرق إلا من أقيمت عليه الحجة بالإرجاء فيلزمه أن يصرح برمي ابن تيمية بذلك.
الفرع الرابع: عدم التفرق لا يلزم منه المساواة بين مسائل الدين
   بعض الغلاة أراد أن يلزم من أنكر أثر التقسيم المذكور في العذر بالجهل بالتسوية بين مسائل الشرك والمعاصي، وبين التوحيد وإماطة الأذى عن الطريق(63) .
    وليس ذلك بلازم فإننا لا ننكر أن مسائل الدين ليست في رتبة واحدة، إذ منها ما هو اعتقدي ومنها ما هو عملي، ومنها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني، وأن خصال الإيمان متفاوتة، فمنها ما هو من أصله ومنها مل هو ما كماله الواجب، ومنها ما هو من كماله المستحب، ولكن الذي ننكره هو تخصيص العذر ببعض المسائل دون بعض.
    والذي لم يستطع المخالفون فهمه في هذا الأمر: أن قضية القطعية والظنية قضية نسبية، تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص. وفي تقرير هذا يقول ابن تيمية:« وأيضا فكون الشيء معلوما من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية؛ فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة، وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي  سجد للسهو وقضى بالدية على العاقلة وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة وأكثر الناس لا يعلمه ألبتة»(64).
    وتأمل مثلا قول ابن عبد الوهاب:« فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي كان حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة أو يكون في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف»(65) والصرف والعطف من أنواع السحر؛ فالصرف يُقصد به صرف الزوجين بعضهما عن بعض والعطف ضده، فهل هذه المسألة مسألة خفية في زماننا هذا في بلاد نجد والحرمين !!!
    والتفريق الصحيح المقبول هو المبني على اعتبار استفاضة العلم بالمسألة وسهولة طلبها، وليس على اعتبار التفريق بين مسائل معينة ومسائل أخرى، حتى إذا قيل لا يعذر في المسألة الفلانية، فذلك لأنها مسألة قد استفاض العلم بها استفاضةً تغلب على الظن عدم الجهل بها إلا من معرض مفرط.
   ونذكِّر في هذا المقام بما صنعه بعض الجهلة الأغبياء الذين وجدوا في كلام ابن عبد الوهاب تكفير بعض البدو في زمانه(66) ، فجاءوا إلى البدو في زمانهم بعد مرور قرنين من الزمان، يقولون لهم:" أنتم كفار، وعندنا أدلة من كلام ابن عبد الوهاب"(67).
   وفي بيان اختلاف العذر بالجهل باختلاف الأمكنة باعتبار شيوع العلم الصحيح من عدمه يقول الألباني رحمه الله :« هناك ثلاث مجتمعات :
الأول : الإسلامي الذي فهم العقيدة الصحيحة، فمن عاش في هذا المجتمع لا يعذر بجهله .
الثاني : المجتمع الكافر الذي قد يسلم بعض أفراده، فمن أين له أن يعرف العقيدة الصحيحة ؟ فهو معذور بجهله .
الثالث : مجتمع بينهما، فهو في الظاهر مسلم وعلامات الإسلام ظاهرة، لكن كبار أهله منحرفون عن العقيدة الصحيحة، فمن يتلقى أفراد هذا الشعب العقيدة الصحيحة ؟ فيكونون والحال هذه معذورين»(68).
الفرع الخامس: ابن تيمية لا يفرق بين الأصول والفروع في العذر
   كثير من المخالفين لا يعجبهم كلام ابن تيمية رحمه الله في إثبات العذر بالجهل، ومنهم من يزعم أن أصحاب الرسائل الجامعية شوشوا على الأمة عقائدها بإخراجهم لكلام ابن تيمية في هذه القضية، فإذا قيل لهم : هل ابن تيمية مخطئ؟ قالوا :" لا، لكن هم لم يفهموا كلامه"، فإذا قيل لهم: ما مراده عندكم؟ قالوا: "هو يعذر في الفروع دون الأصول"، وهذا الزعم يدفعه كلام ابن تيمية الذي يبطل التفريق بين الأصول الفروع، والذي ينص فيه على العذر بالجهل فيما هو عندهم من الأصول.
     أما التقسيم فقال فيه رحمه الله :« أما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد  هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق.
    وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من رسول الله ، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه. أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته ، وقد ثبت في الصحاح عن النبي  حديث الذي قال لأهله : " إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين . فأمر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال : ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب فغفر الله له"(69) ، فهذا شك في قدرة الله. وفي المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك وغفر الله له»(70).
    وأما نصه على إثبات العذر فيما هو من العقائد التي هي أصول عندنا وعندهم(الشرك الأكبر)، فموجود في المثال الذي ضربه في آخر كلامه السابق، وإن كان الغلاة لهم فيه تأويلات سنجيب عنها فيما يأتي، ومن نصوصه التي لا يقدرون على تأويلها قوله:« فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام.
      وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينته لنا لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم؛ لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم الله تعالى ودعائهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف»(71).
الهوامش:
63/ انظر العذر بالجهل تحت المجهر (ص:259).
64/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/118).
65/ الدرر السنية (10/93).
66/ انظر: الدرر السنية (10/82 ،113).
67/ انظر: كتاب منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع لابن سحمان (ص:14).
68/ فتاوى جدة (الشريط العاشر).
69/ رواه البخاري (3294) ومسلم (2756).
70/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/346).
71/ الرد على البكري لابن تيمية (2/731-732).
المبحث العاشر: الطعن في دليل عدم المؤاخذة بالخطأ
المطلب الأول : تقرير الدليل
     من الأدلة التي استدل بها العلماء على عقيدة العذر بالجهل دليل عموم رخصة الخطأ، الذي ثبت بنصوص جزئية كثيرة ومجموعها يورث القطع.
     قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تقريره:« فيقال : من كفَّره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفِّره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم. والدليل على هذا الأصل : الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، أما الكتاب : فقوله سبحانه وتعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ) (الأحزاب:5) وقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة:286)، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي : "أن الله تعالى قال:" قد فعلت" لما دعا النبي  والمؤمنون بهذا الدعاء"(72) ، .... و"أنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيه"(73) ، وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله تعالى قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان؛ فهذا عام عموما محفوظا، وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله تعالى يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه، وإن عذب المخطئ من غير هذه الأمة »(74).
   في هذا النص المنقول عن ابن تيمية رحمه الله توضيح لوجه دلالة هذه الأدلة على مسألة التكفير، لا يحتاج إلى أكثر من نقله، كما أن دلالته على مذهب ابن تيمية بَيِّن أيضا.
المطلب الثاني : اعتراضات المخالفين وجوابها
الفرع الأول : اعتراضات المخالفين
   اعترض المخالفون على من استدل بهذا الدليل بأن هذا العموم ليس محفوظا؛ بل هو عموم مخصوص فلا يدخل فيه الوقوع في نواقض الإيمان، واستندوا إلى كلمات للعلماء في تخصص هذه الرخصة بالمؤمنين دون غيرهم كقول ابن تيمية بأن هذه الرخصة للمؤمنين دون من كان مسلما في الظاهر وهو منافق في الباطن، أو من لم يكن مسلما أصلا(75).
    وقال صاحب المجهر وهو يستدل على تخصيص هذه الأدلة :« الدليل الثاني : قوله تعالى :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (التوبة:65) فهؤلاء القوم كما رجح ابن تيمية قالوا : هذا القول الذي علموا حرمته ولم يقصدوا الكفر ...فهؤلاء مع جهلهم بكفرهم لم يعذروا برخصة الخطأ»(76).
الفرع الثاني : جواب الاعتراضات
   أما الاعتراض الأول فجوابه أنا نقول بموجب الكلام المنقول عن ابن تيمية رحمه الله، فإن الكافر والمنافق كلاهما عمله حابط ولا حسنة له، وقد أشار إلى ذلك في قوله في النص المنقول:"وإن عذب المخطئ من غير هذه الأمة". والذي يدل على عدم الأمانة عند بعض المخالفين أنهم لا يشيرون إلى أن المردود عليه هو ابن تيمية رحمه الله إذ هو من استدل بهذه الآيات في قضايا التكفير كما نقلناه عنه بصريح العبارة.
    وأما الاعتراض الثاني فجوابه : أن نقول نعم هؤلاء لم يجهلوا الحكم وعلموه كما بينه ابن تيمية، فإذا لم يكونوا جهالا ولا مخطئين فما وجه إيراد الآية لتخصيص عموم العذر بالخطأ والجهل، والآية إنما تدل على عدم عذر المستهزئ وليس هذا موضوع بحثنا، وربما تدل أيضا على أنه يكفي في قيام الحجة العلم بتحريم القول أو العمل ولا يشترط العلم بأنه مكفِّر.
     ومن كلام ابن تيمية الواضح في العموم أيضا قوله وقد سئل عمن يزعم سقوط التكاليف الشرعية عنه :« لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شر من قول اليهود والنصارى»(77) وذكر رحمه الله تعالى ألوانا من الموبقات التي يستبيحها هؤلاء الناس ثم قال:« لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء/165] وقال تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء/15] ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه ؛ أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا ؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية».
     ثم قال بعدها:« لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، فإذا كان هذا في التأثيم فكيف في التكفير، وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرا مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك ومثل هذا لا يكفر؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول ؛ ولهذا جاء في الحديث:" يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقول أدركنا آباءنا وهم يقولون : لا إله إلا الله وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا ولا صوم. فقال : ينجيهم من النار»(78). ثم ذكر حديث صاحب الوصية الجائرة، وهو موضوع المبحث التالي .
الهوامش:
72/ انظر: صحيح مسلم (رقم:126).
73/ انظر: صحيح مسلم (رقم:806).
74/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/489-490).
75/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/760، 768).
76/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:213).
77/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/401).
78/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/406-407).
المبحث الحادي عشر: شبهات حول حديث الوصية الجائرة
   ومن أدلة العذر بالجهل البينة حديث صاحب الوصية الجائرة، ولا يزال علماء السنة يعتمدون عليه، ولا يزال المخالفون القدامي من الفرق الإسلامية والمتأخرون من المنتسبين للسنة يردون دلالته ويعتذرون عن الأخذ به، وفيما يأتي بيانه مع وجه دلالته ثم بيان أجوبة المخالفين عنه.
المطلب الأول : تقرير دلالة الحديث على العذر بالجهل
   روى أبو هريرة أن النبي  قال :«كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ فَغَفَرَ لَه»(79).
    ومن العلماء الذين اعتمدوا على الحديث في تقرير عقيدة العذر بالجهل ابن تيمية رحمه الله، وقد قرر وجه دلالته في مواضع منها قوله:« فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالا في هذا الظن مخطئا، فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد وذلك كفر - إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره -»(80).
    وقال رحمه الله في موضع آخر:« والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة . ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال:" إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ففعلوا به ذلك فقال الله له : ما حملك على ما فعلت . قال خشيتك : فغفر له". فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك"(81). وكرر الاستدلال به في عدة مواضع من كتبه وفتاويه(82).
المطلب الثاني : رد أجوبة المخالفين عن الاستدلال بالحديث
   وقد أجاب المخالفون عن هذا الحديث بأجوبة كثيرة نذكر منها ما يأتي:
الفرع الأول : حمل لفظ "قَدِرَ" على معنى ضيق أو قضى
    من أشهر تلك الأجوبة وأقدمها قولهم بأن "قدر" في الحديث بمعنى ضيق أو بمعنى قضى، فيكون معنى الحديث والله لئن ضيَّق علي أو لئن قدَّر علي العذاب، وهذا التأويل جعله ابن تيمية من تحريف الكلم عن مواضعه وقال رحمه الله: « ...فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا. فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها وأنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك فلو كان مقرا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له؛ لأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب وهو قد جعل تعذيبه مغايرا لأن يقدر الرب. قال : فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين . فلا يكون الشرط هو الجزاء؛ ولأنه لو كان مراده ذلك لقال : فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذابا كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك : ولأن لفظ " قدر " بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة . ومن استشهد على ذلك بقوله :"وقدر في السرد" وقوله :"ومن قدر عليه رزقه" فقد استشهد بما لا يشهد له. فإن اللفظ كان بقوله:" وقدر في السرد" أي اجعل ذلك بقدر ولا تزد ولا تنقص وقوله:"ومن قدر عليه رزقه" أي جعل رزقه قدر ما يغنيه»(83).
    قال ابن حزم في الفصل:«وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه لو كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيق علي، وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله»(84).
الفرع الثاني : الزعم أنه محمول على حالة الذهول المذهب للعقل
    وقد ارتضى كثير من المعاصرين تأويل الحديث بأنه قاله في حالة الذهول والدهشة وشدة الفزع، فكان بمثابة الغافل الذي لا يدري ما يقول، وقد اختاره من شراح الحديث الحافظ ابن حجر(85). ومن العجب كيف ينقل صاحب عارض الجهل هذا المذهب عن النووي(86) بواسطة صاحب الأحاديث القدسية عن القسطلاني في إرشاد الساري، وكتاب النووي عنده وقد نقل منه هذا المذهب منسوبا إلى طائفة لم يبينها، ثم قال أيضا:« وقد اعتمده الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب». واستند إلى ما جاء في الدرر السنية (10/ 245-246) :"فهذا الرجل قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة من فعل به ما أمر أهله أن يفعلوه، فهذا الرجل لما كان مؤمنا بالله في الجملة، ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة، وهو: أن الله يثيب، ويعاقب بعد الموت، فهذا عمل صالح، فغفر الله له بما كان معه، من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإنما أخطأ من شدة خوفه».
    لكنه بتر أول الكلام وعزاه إلى الدرر السنية(1/246) وهذا صنيع غير مرضي، ولعله لم يقف عليه وإنما نقله عن غيره من غير تثبت؟
    وهذا الكلام برمته منقول مختصرا من كلام ابن تيمية(87) ، وهذا يبين أنه لم يفهم كلامه إذ لا تنافي بين كونه قال ذلك جاهلا، وبين كون دافعه هو شدة الخوف.
   ومن قال إنه كان بمثابة الغافل الذي لا يدري ما يقول فجوابه أنه تأويل بلا سند فليس في متن الحديث ما يعضده، بل فيه ما يرده وهو قوله :"فغفر الله له"، لأن المغفرة تكون لمن كان عاقلا قاصدا للفعل مختارا لا لمن ارتفع عنه التكليف، ثم إنه لما اعتذر قال:"خشيتك" ولم يقل :" ذهلت، ولم أكن أدري ما أقول" والذي يفهم من هذا التأويل أنها زلة لسان حدثت في حال قوة الخوف، وهي حال لا تدوم ولو كان ذلك لاستدرك ولفهم ذلك أولاده ولما نفذوا وصيته.
   ومن كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة قوله:« إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله، ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله ، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها، فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول ، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر، وذلك لأن الكفر: إما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله ، وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة، واستدلوا بقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، وبقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) إلى قوله: (بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
    واستدلوا أيضا: بما ثبت في الصحيحين والسنن، وغيرها من كتب الإسلام، من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله  قال: "إن رجلا ممن كان قبلكم، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا الرجل قائم. قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال خشيتك ومخافتك، فما تلافاه أن رحمه". فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل به ذلك، لا يقدر الله على بعثه، جهلا منه لا كفرا ولا عنادا، فشك في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه، وكل من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى من يعرفه بذلك من أهل العلم، والله أعلم»(88). فصرح باعتماد الحديث دليلا على العذر بأن وجه دلالته هي وقوعه في الشك جهلا لا عنادا .
الفرع الثالث: تخصيص دلالته بالعذر في باب الصفات   
     ومنهم من قال بأن هذا كان موحدا كما جاء في بعض الروايات، وأن خطأه كان في الصفات، والخلاف في تكفير منكر الصفات ثابت والعذر فيها جائز.
     فنقول له نعم كان موحدا لذلك كان من مقتضى عذره دخول الجنة لا الامتحان، لكن لا نسلم أن خطأه كان متعلقا بصفة القدرة فحسب؛ بل كان متعلقا بأصل من أصول الاعتقاد؛ وهو الإيمان باليوم الآخر والقدرة على البعث، والكفر لا يكون فقط بالوقوع في الشرك بالله تعالى؛ بل يكون بالقول والعمل والاعتقاد والشك، وهذا شك في البعث وفي قدرة الله تعالى، وأي فرق بين الشرك بالله والشك في المعاد.
الفرع الرابع : لما تطرق إليه الاحتمال بطَلَ به الاستدلال
     ومنهم من أكثر من تعداد الأقوال في تأويله عمن يعرف وعمن لا يعرف، وقد أبلغها بعضهم إلى سبعة أقوال، ليبين أن حمل الحديث على ظاهره كما هو فهم ابن تيمية وابن حزم من قبله ومن تبعهما ليس فهما متفقا عليه، ولبيان أن العلماء قد استشكلوا لفظ الحديث لمعارضته للقواطع عندهم، فدل على سقوط الاستدلال به.
   والجواب أنه ليس من شرط صحة الاحتجاج بالحديث أن يتفق الناس أولهم وآخرهم، سلفيهم وخلفيهم على معناه، والأصل إعمال الحديث وحمله على ظاهره، وأما الاستشكال فيكون مقبولا إذا ما عورض الحديث بأدلة نقلية أخرى، أما إذا كان مصدره ما يسميه الخلف معقولات قطعية فإنه لا عبرة به.
    قال صاحب المجهر:« إن تأويل العلماء لهذا الحديث وصرفه عن معناه الظاهري لخير بيان أن ظاهر الحديث غير مراد، وأنه معارض لأصولهم الكلية، وهم ينزلون قضايا الأعيان على مقتضى القواعد الكلية، فإن كان من أصولهم : إعذار الجاهل لقالوا جميعا: أن هذا الرجل جهل قدرة الله وكان جاهلا وعذر بجهله، وكفوا أنفسهم مؤنة التأويل، لأن التأويل عندهم شر لا يذهبون له إلا في حالة الضرورة، عندما تصطدم قضية من قضايا الأعيان أو دليل جزئي مع القواعد والأصول الكلية»(89).
     من الجواب على هذا الكلام أن يقال: من هم هؤلاء العلماء الذين تأولوا الحديث!؟ وهل صحيح أنهم يعدون التأويل شرا لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة؟ أليس أكثرهم يتأولون آيات الصفات وأحاديث لمجرد ما يتوهمونه من قطعيات المعقول؟
   نعم لو أجمع العلماء على التأويل وبطلان الظاهر؟ لكان قوله سديدا لأن الإجماع دليل شرعي معتبر، فأما والخلاف ثابت فلا حجة في كلامهم، لأنا نقول لصاحب المجهر لماذا لا يكون قول ابن قتيبة والخطابي الذي نقله هو الصواب، وقد حملا الحديث على ظاهره، لكني على يقين أنه نقل كلامهما ولم يفهمه.
الهوامش:
79/ رواه البخاري (رقم:3294) ومسلم (رقم:2756).
80/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/409).
81/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/231).
82/ انظر: مجموع الفتاوى (7/619) و(8/12) و(12/490) و(23/347) ومنهاج السنة النبوية (5/337) والاستقامة (1/164) والرد على البكري (2/394) والصفدية (1/233) وبغية المرتاد (1/308-310) و(1/342)..
83/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/410).
84/ الفصل في الملل والنحل لابن حزم (3/296).
85/ فتح الباري لابن حجر (6/523) إشراف ابن باز ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، بدون.
86/ عارض الجهل (ص:429).
87/ وهو في مجموع الفتاوى (12/491).
88/ الدرر السنية (10/ 239-240).
89/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:251).
المبحث الثاني عشر : المنازعة في دليل الإجماع على العذر بالجهل
    من الأدلة المعتمدة في إثبات العذر بالجهل في العقائد دليل الإجماع، والمقصود به إجماع السلف وعلماء أهل السنة المتقدمين، ولأن خلاف المعتزلة ومن يحكم العقل في التوحيد حادث منذ ظهورهم، وقد اعترض عليه المخالفون بادعاء إجماع آخر على خلافه، وفيما يأتي نقل الإجماع وبيان اعتراض المخالفين ورده .
المطلب الأول : نقل إجماع السلف على العذر بالجهل
    وممن نقل هذا الاتفاق شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال:« ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول»(90). وسبق نقل قوله: « فيقال : من كفَّره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفِّره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم. والدليل على هذا الأصل : الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار»(91).
    ومن أقدم من نقل الإجماع ابن حزم رحمه الله :« وبرهان ضروري لا خلاف فيه؛ وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم، وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامدا، وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عمدا كذلك أو زاد فيها كلمة عمدا، فإنه كافر بإجماع الأمة كلها، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى ، ويبدل كلامه جاهلا مقدرا أنه مصيب، ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق، ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافرا ولا فاسقا ولا آثما، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من تقوم الحجة بخبره ، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كافر بذلك لا محالة، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة»(92).
    وممن نص على هذا الاجماع أبو بكر ابن العربي في شرحه للبخاري، وهذا نصه : «الجاهل والمخطئ من هذه الأمة، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً، فإنّه يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبيّن له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، مما أجمعوا عليه إجماعاً قطعيّاً يعرفه كلّ المسلمين من غير نظرٍ وتأمّلٍ .. ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع»(93).
المطلب الثاني : دعوى الإجماع على عدم العذر بالجهل
     قد اعترض المخالفون على دليل الإجماع المنقول بادعاء إجماع على حلافه وقد نقلوا لإثبات ذلك عدة نصوص عن العلماء ، ويلاحظ أن المخالفين على اختلاف مذاهبهم قد اعمدوا دليل الإجماع -إلا من قال منهم بكفر من يُحَكِّم الإجماع في دين الله تعالى، لأنه من تحكيم الرجال(94) -، فالذين يقولون: بكفر من وقع في الكفر جهلا ويستبيحون قتله ويشهدون له بالنار يدعون الإجماع على قولهم، والذين يكفرونه ويستبيحون قتله ولا يشهدون له بالنار يحتجون بالإجماع، وكذلك الذين يكفرونه ويقولون لا قتال ولا عذاب في الآخرة حتى تقام عليه الحجة.
    وفيما يأتي نقل تلك النصوص المعتمدة عندهم مع مناقشة الاستدلال بها واحدا واحدا:
الفرع الأول : نص ابن القيم رحمه الله تعالى
   ومن أقدم النصوص التي اعتمد عليها نفاة العذر في دعوى الإجماع نص لابن القيم في طريق الهجرتين يقول فيه رحمه الله:« اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام»(95) ، ثم قال :« والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل »(96).
    والجواب عن هذه الشبهة على النحو الآتي:
أولا : إن كلام ابن القيم وارد في المشركين لا في من وقع في الشرك وأسباب الردة من المسلمين، وهو أيضا في من بلغته دعوة الإسلام منهم، بدليل قوله :« إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة»، وكلامنا هو في من لم تبلغه حقيقة الدعوة من المسلمين، إذن هذا الاتفاق خارج عن محل النزاع من وجهين، أحدهما : أنه في الكفار لا في المسلمين ، والثاني أنه في الذين بلغتهم الحجة منهم لا فيمن لم تبلغه الحجة، وكلامنا في المسلم الذي لم تبلغه الحجة.
   أما حكم من لم تبلغه الدعوة من الكفار عند ابن القيم فقد صرح أنه لا يعذب، قال رحمه الله في المصدر نفسه: « وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عليه حتى تقوم حجته بالرسل»(97).
ثانيا : أكثر المستندين إلى هذا الإجماع واقعون في التناقض؛ لأنهم ينقلون عن بعض المتأخرين إجماعين أحدهما على تكفير الجاهل، والآخر على حمل العذر على عذاب الآخرة، مع إثبات الامتحان، وكلام ابن القيم المنقول صريح بأنهم كفار وفي النار، وهذا لا يقول به إلا الصنف الأكثر غلوا من المخالفين، وإن كان مذهبهم أقيس من غيره كما ذكرنا قبل.
ثالثا : مما يؤكد لنا أن كلام ابن القيم السابق في الكفار الذين لم يدخلوا في الإسلام أصلا، هذا الكلام الذي يفرق فيه بين أحوال أهل البدع، وينص فيه على عدم تكفير الجاهل المقلد الذي عجز عن العلم، قال ابن القيم:« من كفر بمذهبه كمن ينكر حدوث العالم وحشر الأجساد، وعلم الرب بجميع الكائنات، وأنه فاعل بمشيئته وإرادته، فلا تقبل شهادته؛ لأنه على غير الإسلام، فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم؛ فهؤلاء أقسام:
أحدها ؛ الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى وحكمه حكم "المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ".
القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذته ومعاشه وغير ذلك فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته.
القسم الثالث : أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليدا وتعصبا أو بغضا أو معاداة لأصحابه؛ فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل»(98).
رابعا : إن هذا الإجماع المتوهم معارض بإجماع قديم منقول على عذر المسلمين الواقعين في الشرك جهلا نقله ابن حزم وابن العربي وابن تيمية رحمهم الله.
الفرع الثاني : نص القرافي
     منهم من نقل عن القرافي أنه قال في شرح التنقيح:« ولذلك لم يَعْذر اللهُ بالجهل في أصول الدين إجماعاً»(99). وجوابه من وجوه:
الأول: أنه قال ذلك في بحث حكم الاجتهاد في العقائد أو التصويب والتخطئة فيها، في معرض رده على الجاحظ والعنبري إذا قالا بالتصويب، ومن الأصوليين من فهم من ذلك تصويب اليهود والنصارى أو عدم تأثيمهم إذا اجتهدوا، وهذا ما فهمه القرافي وتمام كلامه يدل على ذلك حيث قال:« فكذلك إذا حصل الكفر مع بذل الجهد يؤاخذ الله تعالى به، ولا ينفعه بذل جهده؛ لعظم خطر الباب وجلالة رتبته، وظواهر النصوص تقتضي أنه من لم يؤمن بالله ورسوله ويعمل صالحاً فإن له نار جهنَّم خالداً فيها، وقياسُ الخصمِ الأصولَ على الفروع غَلَطٌ لعظم التفاوت بينهما». وعلى هذا فلا خلاف فيما قال وهو خارج عن محل النزاع.
الثاني: عندما تكلم القرافي في الفروق عن المسلم المخطئ في أصول الدين لم يدع الإجماع بل جعل عدم العذر هو المشهور من المذاهب، وهو المشهور عند الأشعرية لأن حقيقة الكفر عندهم هي الجهل والإيمان هو المعرفة. وهذه عبارته: «ومن أقدم مع الجهل فقد أثم خصوصا في الاعتقادات فإن صاحب الشرع قد شدد في عقائد أصول الدين تشديدا عظيما بحيث إن الإنسان لو بذل جهده واستفرغ وسعه في رفع الجهل عنه في صفة من صفات الله تعالى أو في شيء يجب اعتقاده من أصول الدياناتولم يرتفع ذلك الجهل فإنه آثم كافر بترك ذلك الاعتقاد الذي هو من جملة الإيمان، ويخلد في النيران على المشهور من المذاهب»(100) ، وقد نقل هذا النص بعضهم ليبين أن القول المشهور عدم عذر الجاهل ونسي مذهبه في المسألة وهو أنه لا يحكم له بالنار وإنما بالامتحان !!
الثالث: لا يصلح نقل المتأخر الإجماع على خلاف إجماع المتقدم، وخاصة إذا لم يكن المتأخر من أهل الخبرة بمذاهب السلف والأئمة المتقدمين، ومن خَبَرَ كتب الأصوليين المتأخرين علم أن لا قيمة للإجماعات المنقولة فيها، خاصة ما يورد منها في محل الاحتجاج على الخصوم.
الرابع: قال الشافعي:« لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته لا يسع أحدا قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله  القول بها فيما روى عنه العدل فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو بالله كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل والروية والفكر»(101).
    وهذا النص يبين لنا أن ابن حزم ليس أول من قال بالعذر بالجهل، وأنه ليس ثمة إجماع على نفيه كما يزعمه المخالفون.
الفرع الثالث : نص عبد الله أبا بطين
    ومنهم من أورد في دعوى الإجماع قول عبد الله بن عبد الرحمن أبا بُطين النجدي(102):« فالمدعي أن مرتكب الكفر متأولا أو مجتهدا مخطئا أو مقلدا أو جاهلا معذور، مخالف للكتاب والسنة والإجماع بلا شك»(103).
   وهذه دعوى عريضة فيها نفي جملة من الأعذار، ومن جوابه أن ممن نص على العذر شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب النجدي كما سيأتي نقله، فهل خرق الإجماع هو أيضا، ثم إن المتأخرين من النجديين قصارى أمرهم الاجتهاد في تفسير كلام الشيخ ابن عبد الوهاب، فمن أراد تحقيق المذهب الصحيح لمؤسس الدعوة النجدية فعليه أن يعلو في السند ويطلبه من كلام ابن عبد الوهاب نفسه، لأن من جاؤوا بعده قد اختلفوا اختلافا كبيرا:
1-فأبناء الشيخ عبد الله وحسين وحمد بن ناصر لهم رأي آخر، وهو أن من وقع في الكفر والشرك جهلا لا يُكفَّر لعذره بالجهل ولا يحكم له بالإسلام، ويوم القيامة يمتحن؟(104).
2-وعبد الله أبا بُطين المذكور ينفي العذر بالجهل ويصرح بالتكفير والحكم بالنار لمن وقع في الكفر جهلا، وهذا مناقض للقول الأول في الاسم والحكم الأخروي(105).
3- وكثير من المعاصرين يقول من وقع في الكفر والشرك جهلا يكفر عينا بظاهر حاله ويوم القيامة يمتحن. وهذا مخالف للقول الأول في الاسم وموافق له في الحكم الأخروي، وموافق للقول الثاني في الاسم مخالف له في الحكم الأخروي، ومع ذلك فالمؤلفون منهم ينقلون من كلام أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب وأبي بطين ما يوافق اختيارهم.
4-ويفرق بعضهم بين الكفر والشرك فيحكمون بالشرك على الجاهل وتنزل عليه أحكام الكفر في الدنيا دون الآخرة ويقولون بالامتحان، ولا يحكمون بالكفر إلا بعد قيام الحجة، ومقتضى ذلك أن تنزل عليه أحكام الكفر في الدنيا والآخرة ومنها الخلود في جهنم.
    فأين هو إجماع أبا بطين المدعى؟ والمستدل به؟
الفرع الرابع : آراء الفقهاء المتأخرين
   ومن طريقة بعض القاصرين في الاعتراض على الإجماع الذي نقله ابن حزم وابن تيمية نقل خلاف المتأخرين من المتمذهبين وغيرهم، ولا أدري ما فائدة نقل إجماع المتقدمين؟ إذا كان يفسد بمجرد خلاف المتأخرين والمعاصرين؟
    إن الإجماع إذا صح بنقل إمام معتمد يكون حجة على كل من جاء بعده، ولا يكون خلافهم دليلا على عدم صحة الإجماع، ولو جاز ذلك لم يتم إجماع إلى يوم القيامة.
    ثم إن ما ينقلونه من إجماعات على لسان المتأخرين يفسد بإثبات خلاف واحد ممن تقدمهم كابن حزم وابن تيمية، فكيف وهما ينقلان إجماعا، فإن قيل إن المتأخرين إنما ينقلون إجماع السلف قبل ابن حزم وابن تيمية، قيل وكذلك ابن حزم وابن تيمية ينقلون إجماع السلف وهما أعلم وأخبر بالمنقول عن السلف من هؤلاء المتأخرين المتمذهبين الذين أكثر عنايتهم بكتب أصحاب مذاهبهم، والطريقة المعروفة في نقد الإجماع أن ينقل خلاف عن إمام أقدم من الناقل، وأنى لهم ذلك إلا أن يكون معتزليا أو ماتريديا أو أشعريا جهميا يحد الإيمان بالمعرفة والكفر بالجهل بالله تعالى.
الفرع الخامس: دعوى إحداث الخلاف في عصر الرسائل الجامعية
     ومن أغرب ما قرأته لبعض الغلاة في تقرير هذا الإجماع أن الخلاف إنما أحدثه بعض المعاصرين من خريجي الكليات الشرعية وأصحاب الرسائل الجامعية، وأنهم لبسوا على الناس هذا الأمر بكلام ابن تيمية، وزعم صاحب "المجهر" أن أصحاب هذه الرسائل انحرفوا عن المنهج العلمي وجعلوا النصوص محكومة بآراء العلماء(106).
   والحقيقة أن من أهم الفروق بين أصحاب الدراسات الجامعية وأصحاب الكتابات الأخرى، أن أصحاب الدراسات الجامعية معروفة أعيانهم ويتمتعون باستقلالية في الفكر، ويكتبون بطريقة منهجية تعصمهم من التناقض، وأصحاب الكتابات الأخرى مجهولون أو يكتبون بأسماء مستعارة، وكتاباتهم متسمة بالتقليد وتسير على منهج "اعتقد ثم استدل"، ولذلك يظهر الانحراف والتناقض فيها جليا، وربما التزم أصحابها لوازم شنيعة تبرأ منها الشريعة، ومنها ما سبق بيانه في الشبهات السابقة.
   ولو كنت بصدد نقد كتاب معين لبينت من تلك التناقضات والانحرافات المنهجية الشيء الكثير، وقد سبق بيان تحريفات صاحب الجواب المفيد، وسأبين في هذا المقام بعضا منها، زعم صاحب المجهر في مقدمته(107) أنه لا ينقل إلا عن أهل السنة، ثم نقل في باب "الردة من كتب السلف"(108) عن أبي بكر الحصني الشافعي صاحب كفاية الأخيار المشهور بعدائه للسنة وأهلها(109) ، ولا أدري لو اطلع على ترجمته وكتاباته في العقيدة هل كان يعذره أم يكفره؟
    وفي الباب الرابع : قسم الفصل الأول : الذي خصصه لرد الشبه المستدل بها خطأ من القرآن إلى ثلاث شبهات، وإلى ثلاثة مباحث على النحو الآتي : الشبهة الأولى، المبحث الأول، المبحث الثاني، الشبهة الثانية، الشبهة الثالثة، المبحث الثالث!! فلا الشبهات اندرجت تحت المباحث، ولا المباحث اندرجت تحت الشبهات. والأمر نفسه كرره في الفصل الثاني(110).
    وجعل فصلا لتحقيق مذهب ابن تيمية وابن عبد الوهاب في العذر بالجهل، ولم يذكر من كلام ابن عبد الوهاب شيئا من نصوصه الآتي ذكرها إلا نصا واحدا هو حجة عليه(111) ، ومهمة من يزعم القيام بدراسة مجهرية، وأنه يحقق كلام عالم من العلماء في المسألة أن يستوعب نصوصه فيها، أو على الأقل تلك التي يتمسك بها من يوافقه في نفي العذر بالجهل.
   وذكر صاحب "عارض الجهل" فصلا عنوانه:" أدلة القرآن الكريم على عدم اعتبار الجهل والتقليد عذرا في مسائل التوحيد لمن بلغه القرآن "، وذكر أدلة كلها فيها نظر، وجلها لا تنطبق على عنوان الفصل لأنه خص عدم العذر في العنوان بمن بلغه القرآن، ثم أورد الأدلة التي يذكرها غيره لإثبات كفر المشركين قبل بعثة النبي !!! وأن ثبوت وصف الكفر لا يحتاج إلى إقامة حجة (أي لا يحتاج إلى بلوغ القرآن)، ومن تلك الأدلة قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:137)(112).
   وعندما أراد أن ينقل كلام محمد بن عبد الوهاب في القضية نقل كلاما من الدرر السنية وعزاه إلى (1/142) ، وذلك الكلام موجود في (10/142) وليس هو من كلام ابن عبد الوهاب بل هو من كلام حسين وعبد الله(115) ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأخطأ في العزو وفي المعزو إليه، مما يبين عدم رجوعه إلى المصدر المحال إليه.
   ونقل عن ابن عبد الوهاب كلاما آخر عزاه إلى الدرر السنية (10/333)، وذلك الكلام موجود في (10/336) لكنه من كلام حمد بن ناصر بن معمر(116) ، مع أنه نقل في موضع آخر من كتابه النص ذاته منسوبا إلى حمد بن ناصر ومعزوا إلى الموضع الصحيح من الكتاب!!!(117).
    ومما يشيعه بعض الناس في بعض البلاد أن العقيدة لا بد أن تتلقى بالإسناد المتصل؛ في إشارة منهم إلى إسناد معين في منطقة محددة ليست أرض الحجاز منها ولا الشام ولا مصر ولا العراق.
     وحقيقة هذا الزعم الدعوة إلى التقليد المحض لبعض المشايخ، والتحجير على الطلبة من أن تعلو همتهم في البحث في كتب العلماء المتقدمين، ومن الجواب عن هذا أن يقال : إذا كان الإسناد المطلوب إلى النبي  فنعم المطلوب، وأما إذا كان إلى غيره فإنا نقول إن محمد بن عبد الله  هو خاتم النبيين، وإن الله تعالى لم يبعث نبيا بعده، والعلماء المجددون للملة لا يختصون بعصر من العصور أو بلد من البلدان، وإن من أعظم الجهالة أن يفرض على أهل الدنيا أن يأخذوا العقيدة من أهل قرية واحدة سندهم ينتهي إلى القرن الثاني عشر وأهلها مختلفون.
   ومما يُرَد به على هؤلاء الذين يفرضون على الناس النزول في أخذ العلم بدل العلو فيه، ويفرضون التقليد على من أمكنه النظر والاجتهاد؛ أن هذا ليس من منهج أهل العلم وهذا من تحجير الواسع، وقد قال الشافعي رحمه الله :« وإنما يؤخذ العلم من أعلى »(118). وقال الشاطبي وهو يبين شرط الانتفاع بالكتب :« أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين»(119).
الهوامش:
90/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/407).
91/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/489).
92/ الفصل في الملل والنحل لابن حزم (3/296-297).
93/ محاسن التأويل للقاسمي (5/ 1307-1308).
94/ وهم جماعة التكفير والهجرة ومنظر فكرهم مصطفى شكري.
95/ طريق الهجرتين لابن القيم (ص:897) تحقيق محمد أجمل الإصلاحي، ط1-1429، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة.
96/ طريق الهجرتين لابن القيم (ص:897-898).
97/ طريق الهجرتين لابن القيم (902).
98/ الطرق الحكمية لابن القيم (1/464-465) تحقيق نايف بن حمد الحمد، ط1-1428، دار عالم الفوائد.
99/ شرح التنقيح للقرافي (345) ط-1424، دار الفكر، بيروت.
100/ الفروق للقرافي (2/261)، ط1-1418، دار الكتب العلمية بيروت..
101/ طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/283-284).
102/ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بُطين النجدي الفقيه المتفنن ، ولي قضاء الطائف سنة 1220 ، ثم قضاء القصيم عام 1248، من مؤلفاته الانتصار لحزب الله الموحدين وتأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس، وتوفي سنة 1282 بمدينة شقراء، انظر مشاهير علماء نجد (ص:235-238).
103/ الانتصار لحزب الله الموحدين لعبد الله أبا بطين (ص:46) نقلا عن عارض الجهل (ص:574).
104/ الدرر السنية (10/136-137).
105/ الدرر السنية (10/352).
106/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:11).
107/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:11).
108/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:205).
109/ هو أبو بكر بن محمد الحسيني الحصني، الدمشقي تقي الدين: فقيه شافعي وصوفي وصف بالتعصب للأشاعرة وبالحط من الحنابلة وكان يجهر بتكفير ابن تيمية رحمه الله تعالى في الجوامع والمجامع وحدثت بسببه فتن في دمشق، ومن مؤلفاته كفاية الأخيار شرح غاية الاختصار في الفقه الشافعي و"دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الامام أحمد" توفي سنة 829 انظر الضوء اللامع للسخاوي (11/81-82)، دار الجيل بيروت، والأعلام للزركلي (2/69)، ط15-2002م، دار العلم للملايين بيروت.
110/ انظر : العذر بالجهل تحت المجهر (ص:213-238) (239-258).
111/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:286).
112/ عارض الجهل (ص:233).
113/ انظر: عارض الجهل (ص:294) وكرر الخطأ (ص:591).
114/ حسين بن محمد بن عبد الوهاب تولى القضاء والإمامة بالجامع الكبير بالدرعية في عهد عبد العزيز بن محمد بن سعود ، وتوفي عام 1224، انظر مشاهير علماء نجد (ص:43).
115/ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عالم نجد بعد أبيه، برز في علوم شتى ، وله فتاوى وردود عديد توفي عام  1242 بمصر، انظر مشاهير علماء نجد (48-68).
116/ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر من أهل العيينة بنجد، نزل الدرعية وأخذ بها العلم عن محمد بن عبد الوهاب والحسين بن غنام، ومن تلاميذه سليمان بن عبد الله آل الشيخ وعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ وابنه عبد العزيز وعبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين ، توفي سنة 1225 بمكة المكرمة، انظر مشاهير علماء نجد (202-204).
117/ انظر: عارض الجهل (ص:294) وكرر الخطأ (ص:593-594).
118/ اختلاف مالك والشافعي -ضمن مجموعة الأم- (7/452) تحقيق محمود مطرجي، ط1-1413، دار الكتب العلمية، بيروت.
119/ الموافقات للشاطبي (1/148) تحقيق مشهور حسن آل سلمان، ط1-1417، دار ابن عفان، الخبر السعودية .
المبحث الثالث عشر: نسبة عدم العذر بالجهل إلى الطبري
     هناك عبارة لابن جرير وردت في كتابه التبصير في معالم الدين، وعبارات أخرى في التفسير، توهَّم المخالفون دلالتها على مذهبهم، وربما تمسكوا بها لنقض الإجماع المنقول على العذر بالجهل، وقد أشكلت هذه العبارات على كثير من الباحثين، حتى سلم بعض من يرى العذر بالجهل دلالتها على عدم العذر، وفيما يأتي بيان حقيقتها. وعدم دلالتها على مذهب المخالفين في كل الأحوال.
المطلب الأول : كلام الطبري في التفسير وتوجيهه
الفرع الأول : كلامه في التفسير
    أما نصوص الطبري في التفسير فكثيرة، منها ما ورد في تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأعراف: 30) حيث قال رحمه الله:«وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعمَ أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسَبُ أنه هادٍ وفريق الهدى فَرْقٌ، وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية»(120).
الفرع الثاني : توجيه النص
   وجواب من تمسك بها النص: أن هذا الكلام في ظاهره مشكل، لكن إذا ما تدبر معناه ووضع في سياقه صار لا إشكال فيه لأنه متفق مع عقيدة السلف، وذلك أن مراده أن الكفر لا يختص بمن تبين له الحق على وجهه ثم عانده، بل يتعدى إلى من أعرض عنه فلم يرد سماعه أو لم يرد تفهمه، فبقي في الجهالة وهو يحسب أنه على الهدى، وهذا المعنى متفق عليه ولا علاقة له بقضية العذر بالجهل التي تختص بمن لم تبلغه دعوة الحق أصلا.
   ويؤكد هذا الفهم ما يلي :
أولا : سياق الآيات، فسياق الآيات في الكفار الأصليين من مشركي العرب الذين كانوا ينكرون البعث ويطوفون عراة ويزعمون أن الله أمرهم بذلك، وقد قامت عليهم الحجة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى في الآية المذكورة (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)  [الأعراف : 30] وإنما حقت عليهم الضلالة بقيام الحجة عليهم وإعراضهم عنها.
ثانيا : الآيات الموافقة لها في المعنى، وهذا المعنى المذكور مقرر في مواضع أخرى في القرآن الكريم، حيث ذكر الكفار الذين قامت عليهم الحجة وأنهم يحسبون أنهم مهتدون ومصلحون ويحسنون صنعا، فقال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) (الزخرف: 36-37) وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) (البقرة:11-13) وقال سبحانه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) (الكهف:103- 106).
   فهذه الآيات متفقة على أن ظن الكافر أنه على هدى لا ينفعه، وهي واضحة في سياقاتها أنها فيمن جاءته الحجة فأعرض عنها.
   وقد استدل بعضهم بآية سورة الكهف على تكفير المتأويلين فرد عليهم ابن حزم بتأمل سياقها وأنها ورادة في الكفار المخالفين لدين الإسلام وقال :«وآخر الآية مبطل لتأويلهم»(121).
ثالثا : موقف الطبري من الآيات الدالة على العذر بالجهل
  ومما يحتم علينا حمل كلام الطبري على المعنى المذكور دون غيره: الرجوع إلى تفسيره للآيات الدالة على العذر بالجهل، حيث حملها جميعا على ظاهرها دون تأويل لمعناها أو اعتراض على مدلولها، ومن ذلك:
1ـ ففي تفسير قوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء:15) قال: «وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم»(122).
2ـ وفي تفسير قوله تعالى: ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (النساء:115) قال رحمه الله:«يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يشاقق الرسول"، ومن يباين الرسولَ محمدًا صلى الله عليه وسلم، معاديًا له، فيفارقه على العداوة له"من بعد ما تبين له الهدى"، يعني: من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم»(123).
3ـ ومن أوضح نصوصه ما ذكره في تفسير قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (التوبة: 115) حيث قال: « يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم، في استغفاركم لموتاكم المشركين، بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهيّ، فأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائنٍ مطيعًا أو عاصيًا فيما لم يؤمَرْ به ولم ينه عنه »(124).
رابعا : مقارنة كلامه بكلام غيره من أهل العلم
   وكلام الطبري رحمه الله تعالى متفق مع كلام غيره من علماء أهل السنة الذين حملوا دلالة الآية على الإعراض، وقد قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة:« فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: (ويحسبون أنهم مهتدون)، قيل لا عذر لهذا وأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ظن أنه مهتد فإنه مفرط بإعراضه عن إتباع داعي الهدى، فإذا ضل فإنما أتي من تفريطه وإعراضه، وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها فذاك له حكم آخر، والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه»(125).
    وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان:« هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى؛ لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار لجاجاً في الباطل وعناداً، فلذلك كان غير معذور»(126).
خامسا : لوازم باطلة لمن يحمل كلامه على نفي العذر بالجهل
   إن من حمل كلام الطبري رحمه على نفي العذر بالجهل في التوحيد دون حالة الإعراض؛ تلزمه لوازم باطلة تظهر من تحليل عبارات الطبري، وهذا توضيحها :
1- أنه أثبت العذاب على المعاصي والضلال وسوى بينهما ولم يفرق، فهل للمعاصي حكم العقائد عند هذا المستدل؟ وإذا دخلت المعاصي فدخول القضايا الخفية المتعلقة بالتوحيد من باب أولى، فهل للمسائل الخفية حكم المسائل الظاهرة عند هذا المستدل؟
2- أنه أثبت العذاب مطلقا دون التفريق بين الدنيوي والأخروي ، فهل هذا المستدل النافي للعذر يقول بإثبات العذاب الأخروي في حق الجاهل الذي لا يعذره ؟ والطبري في آخر كلامه أكد على التفريق بين الفريقين في الأسماء والأحكام، أي فريق مؤمن مهتدي ناج وفريق كافر ضال معذب، فهل هذا المستدل يوافق على ذلك؟ أم يقول إنه كافر في الدنيا وأمره إلى الله في الآخرة أو يمتحن، أو يقول هو مشرك لا كافر لينفي أحكام الآخرة؟
3- أنه سوى بين المعاند وغيره فإن لم يكن ذلك الغير المعاند لزم أن يكون كل من ضل لجهل أو تأويل، فيلزم المستدل أن يكفر كل من المتأويلين من الفرق الإسلامية، وربما يلزمه تكفير الفقهاء المخطئين لأن الكلام شامل للمعاصي.
المطلب الثاني : كلام الطبري في التبصير في الدين وتوجيهه
الفرع الأول : نص كلام الطبري
  أما كلام الطبري في كتاب التبصير فطويل جدا ننقل منه الجزء الذي يستند إليه المخالفون، قال رحمه الله: « فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقةً في الدلالة عليه غير مختلفةٍ، ظاهرةً للحس غير خفية، فتوحيد الله تعالى ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله، وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة، فلن يعدم دليلاً دالاً وبرهاناً واضحاً يدله على وحدانية ربه جل ثناؤه، ويوضح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر الله جل ذكره أحداً كان بالصفة التي وصفت بالجهل [به](127) وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه -تعالى ذكره- والخلاف عليه بعد العلم به، وبربوبيته في أحكام الدنيا وعذاب الآخرة فقال –جل ثناؤه-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف:103-105)، فسوى –جل ثناؤه- بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عاملٌ بما يرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له، الجاحدين ربوبيته مع علمهم بأنه ربهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب»(128).
الفرع الثاني : توجيه النص
    وهذا النص لا يختلف في مدلوله ومعناه عن نصوص التفسير، المحمولة على أهل الإعراض عن تفهم حجج الدين الحق من أهل الكفر المباينين لملة الإسلام، فقد حكم عليهم في هذا الكتاب بالكفر وما يتبعه من أحكام الدنيا والآخرة بعد البلوغ؛ لأن حجج إثبات الخالق والصفات الواجبة له والملازمة لإثبات وجوده كالقدرة والعلم والخلق واضحة ومتفقة وغير مختلفة؛ فهي مفيدة للقطع وقاطعة لكل عذر في حق من بلغته على وجهها.
   وظاهر كلام الطبري رحمه الله في هذا الكتاب اعتبار حجية العقل في هذه القضية، أي في حق الكفار الذين جهلوا دين الله تعالى، وذلك أنه قال في موضع بعدها: « أما ما لا يصح عقد الإيمان لأحد، ولا يزول حكم الكفر عنه إلا معرفته فهو ما قدمنا ذكره، وذلك أن الذي ذكرنا قبل لا يعذر بالجهل به أحد بلغ حد التكليف، كان ممن أتاه الله تعالى ذكره رسول أو لم يأته رسول، عاين من الخلق غيره، أو لم يعاين إلا نفسه»(129).
   ورغم أننا لا نوافق الطبري على قيام الحجة بالعقل بمجرده على من لم يعرف الإسلام ولم يأته نذير(130) ، فإننا نقول ليس في كلام الطبري أن المسلم المقر بدين الله تعالى وبشرائعه إذا جهل أمرا يتعلق بالتوحيد أو الصفات أنه يكفر بجهله.
    ويؤكد هذا التخصيص أي بالكفار الأصليين ما يأتي :
أولا : أنه حكم بإلحاق هذا الجاهل بأهل العناد في عدم الاستجابة للحجج، ولا يصح ذلك إلا في حق المعرض من أهل الأديان غير الإسلام، قال في آخر الكلام المنقول:«وذلك لما وصفنا من استواء حال المجتهد المخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله، وحال المعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المتفقة غير المفترقة لحواسهما، فلما استويا في قطع الله –جل وعز- عذرهما بما أظهر لحواسهما من الأدلة والحجج، وجبت التسوية بينهما في العذاب والعقاب».
ثانيا: يؤكد إرادته أهل الملل الأخرى غير الإسلام وصفه لهذا الجاهل بالمجتهد المخطئ، ولا أتصور المخالف في المسألة يعتقد كفر المجتهد المخطئ من أهل الإسلام، ولا أظنه ينسب ذلك للطبري وإلا كفر كثيرا من أهل السنة فضلا عن جميع أعيان الفرق الإسلامية، والطبري لا يُكفِّر المنتسبين إلى الفرق وإن كان يصف أقوالهم بالكفر، ودليل عدم تكفيرهم نسبته إياهم إلى أمة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا : استدلال الطبري بالآيات من سورة الكهف كذلك يبين مراده، حيث قال رحمه الله في تفسيرها في جامع البيان:« والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ عنى بقوله( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) كلّ عامل عملا يحسبه فيه مصيبا، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الإجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أيّ دين كانوا»(131).
   وتمثيله في التفسير بالرهبان والشمامسة تأكيد على ما ذكرنا، ثم قرر في تمام تفسيره نحوا مما ذكر في تفسير آية الأعراف وفي كتاب التبصير، وقد ظهر لي أنه يناقش مذهب الجاحظ الذي نفى الإثم والمؤاخذة عن المجتهد من أهل الملل الأخرى.
رابعا: أنه فرَّع على التأصيل بعد الفراغ منه فقال:«وإذا كان صحيحاً ما قلنا بالذي عليه استشهدنا، فواجبٌ أن يكون كل من بلغ حد التكليف من الذكور والإناث وذلك قبل أن يحتلم الغلام أو يبلغ حد الاحتلام، وأن تحيض الجارية أو تبلغ حد المحيض - فلم يعرف صانعه بأسمائه وصفاته التي تدرك بالأدلة بعد بلوغه الحد الذي حددت، فهو كافرٌ حلال الدم والمال، إلا أن يكون من أهل العهد الذين صولح سلفهم على الجزية، وأقهروا فمن عليهم ووصف عليهم خراجٌ يؤدونه إلى المسلمين، فيكون من أجل ذلك محقون الدم والمال وإن كان كافراً»(132).
   أما ما هو داخل في محل نزاع فقد نص الطبري في هذا الكتاب على اعتبار العذر فيه، فقال: « ولله تعالى ذكره أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسع أحد من خلق الله قامت عليه الحجة بأن القرآن نزل به، وصح عنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه به الخبر منه (خلافه)، فإن خالف بعد ثبوت الحجة عليه به من جهة الخبر؛ على ما بينت فيما لا سبيل إلى إدراك حقيقة علمه إلا حسا فمعذور بالجهل به الجاهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والفكر، وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره أنه سميع بصير...»(133).
    وقال قبل هذا:«وأما ما أدركت حقيقة علمه منه حساً، فغير لازمٍ فرضه أحداً إلا بعد وقوعه تحت حسه، فأما وهو واقعٌ تحت حسه فلا سبيل له إلى العلم به، وإذا لم تكن له إلى العلم به سبيلٌ، لم يجز تكلفيه فرض العمل به، مع ارتفاع العلم به؛ وذلك أنه من لم ينته إليه الخبر بأن الله تعالى ذكره بعث رسولاً يأمر الناس بإقامة خمس صلواتٍ كل يومٍ وليلةٍ، لم يجز أن يكون معذباً على تركه إقامة الصلوات الخمس. لأن ذلك من الأمر الذي لا يدرك إلا بالسماع، ومن لم يسمع ذلك ولم يبلغه؛ فلم تلزمه الحجة به، وإنما يلزم فرضه من ثبتت عليه به الحجة»(134).
الفرع الثالث : نص لابن تيمية موافق لكلام الطبري
   ولابن تيمية رحمه الله كلام بين في هذا السياق يتفق مع موقف الطبري رحمه الله، حيث حكم بالتسوية بين الكفار المعاندين والجاهلين، وفي الوقت نفسه فرَّق بينهم وبين الجاهلين من المسلمين، فقال رحمه الله: « وهذا مما يظهر به الفرق بين المجتهد المخطئ والناسي من هذه الأمة في المسائل الخبرية والعملية، وبين المخطئ من الكفار والمشركين وأهل الكتاب الذي بلغته الرسالة، إذا قيل إنه غير معاند للحق؛ فإن ذاك لا يكون خطؤه إلا لتفريطه وعدوانه لا يتصور أن يجتهد فيكون مخطئا في الإيمان بالرسول، بل متى اجتهد -والاجتهاد استفراغ الوسع في طلب العلم بذلك- كان مصيبا للعلم به بلا ريب.
      فإن دلائل ما جاء به الرسول ودواعيه في نهاية الكمال والتمام، الذي يشمل كل من بلغته، ولا يترك أحد قط إتباع الرسول إلا لتفريط وعدوان فيستحق العقاب، بخلاف كثير من تفصيل ما جاء به، فإنه قد يعزب علمه عن كثير من خواص الأمة وعوامها؛ بحيث لا يكونون في ترك معرفته لا مقصرين ولا مفرطين فلا يعاقبون بتركه، مع أنهم قد آمنوا به إيمانا محملا في إيمانهم بما جاء به الرسل، فهم آمنوا به مجملا ومعهم أصول الإيمان به ....
    فلهذا كان المخطئ بالتأويل من هذه الأمة والفاسق بالفعل مع صحة الاعتقاد، كل منهما محسنا من وجه مسيئا من وجه، وليس واحد منهما كالكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن كانوا في ذلك على درجات متفاوتة، بل كل منهما ليس تاركا لما أمر به من الاعتقاد والعمل مطلقا ولا فاعلا لضده مطلقا؛ بل المتأول قد آمن إيمانا عاما بكل ما جاء به الرسول واستسلم لكل ما أمره به، وهذا الإيمان والإسلام يتناول ما جهله، ويدعوه إلى الإيمان والإسلام المفصل إذا علمه، لكن عارض ذلك من جهله وظلمه لنفسه ما قد يكون مغفورا له وقد يكون معذبا به»(135).
   وينقل هذا الكلام أيضا في الرد على من سوى بين المشركين ومن وقع في الشرك من هذه الأمة.
الهوامش:
120/ تفسير الطبري (10/149).
121/ انظر الفصل لابن حزم (3/141).
122/ تفسير الطبري (14/526).
123/ تفسير الطبري (7/483-484).
124/ تفسير الطبري (12/47).
125/ مفتاح دار السعادة (1/208) تحقيق علي حسن عبد الحميد، ط1-1416، دار ابن عفان، السعودية.
126/ أضواء البيان للشنقيطي (2/352).
127/ زيادة يدل عليها السياق وبها يستقيم، وليست في المطبوع وأثبتها بعض الباحثين من المخطوط، انظر أصول الدين عند الطبري لطه محمد رمضان (ص:83) ط1- 1426، دار الكيان، الرياض.
128/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:116-118) تحقيق علي بن عبد العزيز الشبل، ط1-1416، دار العاصمة، الرياض.
129/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:132).
130/ وله نصوص أخرى في التفسير مقتضاها عدم حجية العقل، ولذلك توقف طه محمد رمضان في وجه التوفيق بينها في كتابه أصول الدين عند الطبري (ص:92-93).
131/ تفسير الطبري (15/428).
132/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:121).
133/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:132-133).
134/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:115-116).
135/ جامع الرسائل لابن تيمية (1/244-245) تحقيق محمد رشاد سالم، دار المدني جدة.
المبحث الرابع عشر: نسبة عدم العذر بالجهل إلى ابن تيمية
     من الشبهات التي يلبَّس بها على كثير من الناس نسبة القول بالتكفير إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، الإمام الثقة المحقق الذي كتب الله تعالى لكلامه القبول عبر العصور، وذكرنا من قبل أن بعض الغلاة اضطربوا لظهور الرسائل الجامعية التي جمعت شتات كلام ابن تيمية ووضحت منهجه بجلاء، وقد اضطربوا أيضا في تأويل كلامه وصرفه عن ظاهره، وقبل بيان فساد تلك التأويلات ننقل شيئا من كلامه في إثبات العذر بالجهل.
المطلب الأول : من نصوص ابن تيمية في العذر بالجهل
  ينبغي أن يعلم أن كلام ابن تيمية في بيان العذر بالجهل ودلائله وأحواله كثير جدا، لا يسعه مثل هذا الذي توخينا فيه الاختصار، لكن نذكر ما يفهم به موقفه ويحصل به اليقين بإذن الله تعالى.
الفرع الأول : نص في حق الجهمية
    قال ابن تيمية :«ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا، فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله»(136).
الفرع الثاني: اختلاف الحكم باختلاف الأزمنة والأمكنة
   قال ابن تيمية:« وبينا أن المؤمن الذي لا ريب في إيمانه قد يخطئ في بعض الأمور العلمية الاعتقادية؛ فيغفر له كما يغفر له ما يخطئ فيه من الأمور العملية، وأن حكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حق الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله، كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وأن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة»(137).
الفرع الثالث: نص في حق الباطنية
   قال بعد أن ذكر مقالات الباطنية :« فهذه المقالات هي كفر لكن ثبوت التكفير في حق الشخص المعين موقوف على قيام الحجة التي يكفر تاركها، وإن أطلق القول بتكفير من يقول ذلك فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد مع أن ثبوت حكم الوعيد في حق الشخص المعين موقوف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه، ولهذا أطلق الأئمة القول بالتكفير مع أنهم لم يحكموا في عين كل قائل بحكم الكفار بل الذين استمحنوهم وأمروهم بالقول بخلق القرآن وعاقبوا من لم يقل بذلك إما بالحبس والضرب والإخافة وقطع الرزق بل بالتكفير أيضا، لم يكفروا كل واحد منهم وأشهر الأئمة بذلك الإمام أحمد، وكلامه في تكفير الجهمية مع معاملته مع الذين امتحنوه وحبسوه وضربوه مشهور معروف»(138).
الفرع الرابع: نص في حق من زعم سقوط التكاليف
    وسئل عمن يزعم سقوط التكاليف الشرعية عنه، فقال:« لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه. وهو شر من قول اليهود والنصارى»(139) ، وذكر رحمه الله ألوانا من الموبقات التي يستبيحها هؤلاء الناس ثم قال:«لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه؛ أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية»(140).
الفرع الخامس: نص فيه تمثيل بمن جحد الشرائع الظاهرة
   قال ابن تيمية:« أما كونه عند المستمع معلوما أو مظنونا أو مجهولا أو قطعيا أو ظنيا أو يجب قبوله أو يحرم أو يكفر جاحده أو لا يكفر ؛ فهذه أحكام عملية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فيها فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له ؛ فإن من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة وكان حديث العهد بالإسلام أو ناشئا ببلد جهل لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية. وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له؛ فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم؛ فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع»(141).
الفرع السادس: حكم الإسلام لا يزول إلا بعد إقامة الحجة
    قال رحمه الله:« وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة»(142).
الفرع السابع: نص فيه عدم التفريق بين الكفر والحكم بالنار
   قال ابن تيمية :« فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين: "أحدهما " أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق فنفي الصفات كفر والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة أو أنه على العرش أو أن القرآن كلامه أو أنه كلم موسى أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث. و" الأصل الثاني " أن التكفير العام - كالوعيد العام - يجب القول بإطلاقه وعمومه. وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه »(143).
الفرع الثامن: نص في منكر المتواتر والمجمع عليه
   وقال رحمه الله :« ومن أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة عليه»(144).
الفرع التاسع : نص في حق من وقع في الشرك الأكبر
   قال رحمه الله :« فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام»(145).
المطلب الثاني: تأويلات المخالفين لكلام ابن تيمية ودفعها
  وللمخالفين عدة تأويلات أشهروها في وجه هذه النصوص البينة وغيرها(146)، ومن تلك التأويلات ما يأتي:
التأويل الأول : حمل كلامه على المسائل الخفية دون الظاهرة
    ومن بين تلك التأويلات المعتمدة عند كثير من المخالفين حمل كلام العلماء عموما وشيخ الإسلام ابن تيمية خصوصا على العذر بالجهل في المسائل الخفية دون الظاهرة، ومنهم من يعبر بالعذر في الفروع دون الأصول، وقد بينا في المبحث التاسع بطلان هذا التأويل، وأن هؤلاء المخالفين قد غفلوا عن أن الخفاء والظهور أمران نسبيان يختلفان باختلاف الزمان والمكان، وأوردنا هناك من نصوص ابن تيمية كلامه في الرد على البكري الذي يقضي على هذا الاحتمال، لأنه في الشرك الأكبر، ولا أظهر من مسائل التوحيد والشرك –وأعدت بعضه في الفرع التاسع-.
   ومما يردها أيضا من النصوص المذكورة سابقا النص الثالث -المذكور أعلاه-الذي ورد في معرض ذكر مقالات الباطنية التي هي كفر ظاهر بلا شك، والنص الرابع أيضا الوارد في الجواب عمن يعتقد سقوط الواجبات وعدم تحريم المحرمات البينة، والنص الثامن أيضا فيه إشارة إلى ذلك؛ لأن القطع إنما يستفاد من الإجماع والتواتر(147).
التأويل الثاني: حمل كلامه على باب الصفات دون غيرها
   ومن تلك التأويلات حمل مذهب ابن تيمية على العذر بالجهل في مسائل الصفات أو القضايا العلمية دون مسائل الشرك في العبادة أو القضايا العملية، وكأن صاحب هذا التأويل شعر بأن التفريق بين الأصول والفروع أو المسائل الظاهرة والخفية سيلزم منه تكفير المخالفين في الصفات والقدر والوعد والوعيد، وكلام ابن تيمية في الحكم على الفرق الإسلامية بين واضح، وأنه لم يكفر الجهمية والمعتزلة والخوارج ونحوهم، والجواب عن هذا كالجواب عن سابقه بأن من نصوص ابن تيمية ما هو شامل لقضايا توحيد العبادة؛ فلا مجال لحمل كلامه على غيرها من القضايا.  
التأويل الثالث: أن ابن تيمية قال ذلك لمصلحة الدعوة
    ومن التأويلات الباردة التي أشهرت في وجه هذه النصوص المستشهد بها من كلام ابن تيمية الزعم أن ابن تيمية قال هذا:"سياسة" لا اعتقادا، بمعنى مراعاة لمصلحة الدعوة، لأنه كان مستضعفا وكان لابد له من مداراة حتى يزول الاستضعاف.
     ويكفي لرد هذا الزعم أنه تخرص لا دليل عليه ولا موجب له، بل هو افتراء على ابن تيمية رحمه الله(149)، ومع ذلك نقول : لا ندري أكان من طريقة ابن تيمية المداهنة في أصل الدين؟ وما الذي يدفعه إلى مثل هذا هو الذي لم يداهن في قضايا أسهل من هذه، دخل بسببها إلى السجن كمسألة الطلاق الثلاث ومسألة شد الرحال. وهو الذي يقول:" فإن الشرك والقول على الله بلا علم والفواحش ما ظهر منها وما بطن والظلم : لا يكون فيها شيء من المصلحة"(149). ويقول رحمه الله : «ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة، ... ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره، كان مستحقا لعذاب الله...»(150).
    ولو فرضنا أنه كان مُكرها في حال لبين الحق في حال أخرى، وصرح بأنه يحكم بالكفر على من لم تقم عليه الحجة ولو مرة في حياته، ولا حجة لمن تمسك بقوله في الرد على البكري :" لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله " للتدليل على هذا التأويل، لأن معنى كلامه أنه لم يقابل الجهل بالجهل والافتراء بالافتراء، ومما يفند على الزعم أيضا أن المكره والمداري لا يجوز له أن يطنب في الاستدلال لمسألة لا يعتقدها.
التأويل الرابع: أنه يعذر فيما يوجب للعذاب الأخروي دون غيره
      ومن التأويلات المذكورة زعمهم أن الكفر الذي ينفيه؛ هو الكفر الذي يستحق صاحبه العقوبة في الدارين القتل في الدنيا والخلود في النيران في الآخرة دون اسم الكفر الذي تجري عليه بقية أحكام الدنيا(151).
     وهذا الزعم لا مستند له في كلام ابن تيمية، بل فيه ما يدل على ضده كقوله:« ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه؛ أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية»(152)، وقوله:"وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار : فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه»(153).
    وأصحاب هذا التأويل دائما يرجعون إلى كلام ابن تيمية في الكفار الذين لم تبلغهم الحجة، ويتركون كلامه في أهل الإسلام الذين وقعوا في الكفر، وهذا تضليل وتحريف لا يجوز، وذلك كقوله وهو يتحدث عن عدم توقف قبح الأفعال على الشريعة –كما يزعمه الأشاعرة-:« واسم المشرك ثبت قبل الرسالة»(154) فلا يُرى من تمسك بهذه الجملة وترك عشرات النصوص التي ربما استغرق بعضها الصفحات تفصيلا واستدلالا إلا متبعا لهواه.
التأويل الخامس : تخصيص كلامه بمن كان حديث عهد بالإسلام
     ومن التأويلات تخصيص كلامه بمن كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة.
   والجواب أن ذلك يذكر على سبيل المثال لا التقييد، والمقصود هو بيان أحوال مظنة الجهل هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تمثيله بالبادية البعيدة ليس المقصود به البعيدة المكان حصرا، بل البعيدة عن العلم، قال رحمه الله:« ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول »(155). وقال رحمه الله:«وأيضا فكون الشيء معلوما من الدين ضرورة أمر إضافي فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة»(156)، وقال:« ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئا عند الجهال لكلام أهل العلم والسنة؛ حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء، فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة»(157).
    وممن صرح بأن ذكر هذه الأحوال المراد به التمثيل لا الحصر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن:« وقد مثَّل العلماء هذا الصنف بمن نشأ ببادية أو ولد في بلاد الكفار ولم تبلغه الحجة الرسالية، ولذلك قال الشيخ: لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، وقد صنف رسالة مستقلة في أن الشرائع لا تلزم قبل بلوغها»(158).
الهوامش:
136/ تلخيص كتاب الاستغاثة لمعروف بالرد على البكري لابن تيمية (2 /494) تحقيق محمد بن علي عجال، طبعة مكتبة الغرباء الأثرية.
137/ بغية المرتاد لابن تيمية (ص:311) تحقيق موسى بن سليمان الدويش، ط3-1422، مكتبة العلوم الحكم، المدينة النبوية.
138/ بغية المرتاد لابن تيمية (ص: 353-354).
139/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/401).
140/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/406).
141/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (6 /60-61).
142/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/466) وكرر هذا المعنى (12/501).
143/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/497).
144/ تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري لابن تيمية (1/413).
145/ الرد على البكري لابن تيمية (2/731-732).
146/ وليس لابن تيمية نص متشابه قد يفهم منه عدم العذر بالجهل إلا بعض الكلمات المبتورة عن سياقها أو الخارجة عن محل النزاع، وقد أجبت عن بعضها في مواضع متفرقة من البحث، وأثناء مراجعة الكتاب قبل طبعه ورد إلي سؤال يتضمن طلب الرد على دعوى أحد الغلاة الإجماع على عدم العذر واعتمد في نقل رأي ابن تيمية على نص مبتور من الدرء في قضية الفطرة نقلناه كاملا فيما مضي، وبعض النصوص التي ظاهرها تكفير ابن تيمية للمعينين، وهذا المستدل ما زال يعيش في القرن الماضي والذي قبله يناقش ابن جرجيس وأمثاله؛ ممن كان يمنع تكفير المعين بإطلاق ولو بعد إقامة الحجة، لذلك لم أر فائدة زائدة في الجواب عن نقوله ودعاويه.
147/ ينظر أيضا في نقد نسبة هذا التفريق إلى ابن تيمية كتاب "إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي" (ص:330-341)، وهذا الكتاب من أجمع الكتب في هذا الموضوع ومن أحسنها ترتيبا وتنظيما، وقد شرفني مصنفه حفظه الله بمراجعته وتصحيحه قبل طباعته، ومن أراد الإحاطة بأدلة الفريقين في المسألة ومناقشاتها فليراجعه، وهو صادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات ط1-2012م.
148/ انظر : ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني (ص:230) ط1-1413، مؤسسة الرسالة، بيروت، وهذا الكتاب من أقدم الرسائل الجامعية التي لم ترق لبعض هؤلاء الغلاة؛ لما فيها من بحث علمي رصين ومتحرر من كل آثار التقليد وتقديس الأشخاص.
149/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (14/476).
150/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (35/372-374).
151/ انظر العذر بالجهل تحت المجهر (ص:278).
152/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/406).
153/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/497).
154/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/38).
155/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/407).
156/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/118).
157/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/204).
158/ مصباح الظلام لعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص:498).
المبحث الخامس عشر: نسبة عدم العذر بالجهل إلى الشيخ ابن عبد الوهاب
    ومن الشبهات أيضا الاستدلال بعبارات لابن عبد الوهاب ظاهرها عدم العذر بالجهل، وقبل التعرض لهذه العبارات وتوجيه العلماء لها أو ردهم عليها، نسرد كلام ابن عبد الوهاب المتكرر في نفي التكفير بالعموم ونفي تكفير من لم تقم عليه الحجة الرسالية منقولا من "الدرر السنية في الأجوبة النجدية ".
المطلب الأول : نصوص ابن عبد الوهاب في إثبات العذر
1-قال رحمه الله :«فإن قال قائلهم : إنهم يكفرون بالعموم فنقول : سبحانك هذا بهتان عظيم ؛ الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله، ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج»(159).
2-وقال:«وأما التكفير : فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا : هو الذي أكفر، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك»(160).
3-وقال أيضا:«فمنها : إشاعة البهتان، بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلاً عن أن يفتريه ومنها : ما ذكرتم : أني أكفر جميع الناس، إلا من اتبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، فيا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل ؟! وهل يقول هذا مسلم إني أبرأ إلى الله من هذا القول، الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراك ؛ فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة»(161).
4-وقال:« وأما القول : أنا نكفر بالعموم ؟ فذلك من بهتان الأعداء، الذين يصدون به عن هذا الدين؛ ونقول : (سبحانك هذا بهتان عظيم) [النور:16]»(162).
5-سئل الشيخ عما يقاتل عليه وعما يكفر الرجل به فأجاب بجواب مفصل جاء في أوله :« ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان، وأيضا نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر» ..
    وجاء في آخره:« وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه؛ فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا: لا نكفر من عبد الصنم، الذي على عبد القادر؛ والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله ؟! إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) [النور:16]»(163).
6-وقال:« وأما ما ذكر الأعداء عني، أني أُكَفِّر بالظن وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله»(164).
7-وقال:« وكذلك تمويه الطغام بأن ابن عبد الوهاب يقول : الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله فهو مسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفّر من أشرك بالله في إلهيته، بعدما نبين له الحجة، على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه، دون هذه المشاهد، التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها، وسعى في إزالتها؛ والله المستعان»(165).
8-وقال:«ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله، ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان، بعدما عرف أنها دين المشركين، وزينه للناس ، فهذا الذي أكفره، وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء إلا رجل معاند أو جاهل»(166).
9-قال وهو يعد مسائل البهتان التي نسبها ابن سحيم إليه: «وقوله أني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق »(167). وقد قال:"واعلم أن أشياء من الشرك الأكبر وقع فيه بعض المصنفين على جهالة لم يفطن له من ذلك قوله في البردة :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به     سواك عند حلول الحادث العمم"(168).
المطلب الثاني : النصوص التي يتمسك بها المخالفون
1-وقال ابن عبد الوهاب رحمه الله :« فمنهم من كذب النبي  ورجعوا إلى عبادة الأوثان، وقالوا: لو كان نبياً ما مات; ومنهم من ثبت على الشهادتين، ولكن أقر بنبوة مسيلمة، ظناً أن النبي  أشركه في النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا له بذلك، فصدقهم كثير من الناس; ومع هذا، أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك، ومن شك في ردتهم فهو كافر»(169).
2-وقال في رسالة اشتهرت بكشف الشبهات:« وأفادك أيضا الخوف العظيم فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل»(170).
3-وذكر في كتاب التوحيد حديث الذي وضع حلقة فقال  :« انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا »(171) وقال فيه مسائل : «الثالثة: أنه لم يعذره بالجهالة»(172).
4-وقال :« واجتهدوا في تعلم ما علمه الله لرسوله، وما علمه الرسول لأمته من التوحيد، ومن أعرض عن هذا فطبع الله على قلبه، وآثار الدنيا على الدين، لم يعذره الله بالجهالة»(173).
المطلب الثالث : تحقيق مذهب الشيخ والتوفيق بين النصوص
الفرع الأول : تأويلات المخالفين
   إن القائلين بعدم العذر بالجهل كثير منهم يتجاهل فيما يكتب أقوال ابن عبد الوهاب التي تدل على العذر ولا يسرد إلا ما ظاهره تأييد مذهبه، ومنهم من يشير إلى الاختلاف الظاهر، ثم يحاول دفع تلك النصوص بضرب من التأويل وهي في الغالب عين التأويلات التي تأول بها كلام ابن تيمية.
أولا : زعمهم أنه قال بالعذر من باب مصلحة  الدعوة
   فمنهم من يزعم أن ابن عبد الوهاب كان يداهن المخالفين في أول دعوته لمصلحة الدعوة، وهذا افتراء عليه كالافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية السابق ذكره، ونحن ندفع هذا التأويل بعد حسن الظن بهذا الإمام المصلح الناصح بأن أكثر فتاويه التي اعتمدنا مقرونة بذكر القتال، وذلك لم يحدث في أول دعوته، ومنها ما يصرح فيه بمضي عقود من الزمان على اشتهار دعوته كقوله: « إذا كانوا أكثر من عشرين سنة يقرون ليلا ونهارا سرا وجهارا : أن التوحيد الذي أظهر هذا الرجل هو دين الله ورسوله، لكن الناس لا يطيعوننا وأن الذي أنكره هو الشرك ، وهو صادق في إنكاره»(174) وقوله "هذا الرجل" إشارة إلى نفسه.
ثانيا : زعمهم أنه قال بالعذر لنفي القتال لا للتكفير
   ويزعم آخرون أنه يشترط إقامة الحجة للكفر المعذب عليه (القتال في الدنيا والخلود في النار يوم القيامة )، ولعلهم يؤيدون هذا التأويل بما ورد في النص السابع فيما نقلنا، ويزعمون أنه لم يحكم بإسلام من وقع في الشرك ولم تقم عليه الحجة.
   وجوابه أنه أيضا لم يحكم بكفره إذ خص الكفر بمن بينت له الحجة، وكلمة الكفر لها مدلول شرعي يتضمن أحكام الدنيا والآخرة، وليس في كلام ابن عبد الوهاب ما يوحي بأنه ثمة كفر معذب عليه، وكفر غير معذب عليه، وفي النص الخامس المنقول قد جمع ابن عبد الوهاب في كلامه بين من يكفر ومن يقاتل وصنفهم إلى أصناف ولم يذكر صنفا يكفره ولا يقاتله.
ثالثا : زعمهم أنه قال بالعذر في المسائل الخفية
    ومنهم من يحاول حمل كلامه في العذر على المسائل الخفية دون الظاهرة كالشرك الأكبر، وكلام ابن عبد الوهاب واضح في شموله لما يعتبرونه ظاهرا من المسائل، ومن ذلك تمثيله بمن يعبد الصنم الذي على قبر البدوي، وقد سبق أن ناقشنا قضية الظهور والخفاء وأنها أمور إضافية نسبية تختلف بالزمان والمكان.  
الفرع الثاني : التوجيهات المقبولة لكلام ابن عبد الوهاب   
   وهناك طرق أخرى سلكها بعض أهل العلم للجمع بين هذه النصوص هي في حيز المقبول وبعضها أمتن من بعض نذكرها فيما يأتي :
أولا : حمل كلامه في كتاب التوحيد وكشف الشبهات على كفر النوع، وحمل كلامه في المواضع الأخرى المذكورة في المطلب الأول على تكفير المعين(175).
   لكن هذا التوجيه قد يعترض عليه بأنه جمع لم يراع فيه إلا بعض نصوص ابن عبد الوهاب دون بقية النصوص، وأن حمل نص كشف الشبهات على كفر النوع فيه عسر. وقد يلزمنا المخالفون بمذهب من ينفي التكفير بإطلاق إلا كفر النوع كما كان حال كثير من خصوم أئمة الدعوة النجدية.
ثانيا : حمل كلامه في العذر على ما قبل قيام الحجة وعدم العذر على ما بعد قيام الحجة، وقد أشار إلى هذا بعض أئمة الدعوة النجدية، ومن ذلك ما جاء في الدرر السنية :« فإن الشيخ محمدا رحمه الله لم يكفر الناس ابتداء إلا بعد قيام الحجة والدعوة ، لأنهم إذ ذاك في زمن فترة، وعدم علم بآثار الرسالة، ولذلك قال لجهلهم وعدم من ينبههم، فأما إذا قامت الحجة، فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها»(176).
   وهذا تأويل جيد وخاصة بالنسبة لنص رسالة كشف الشبهات التي هي في أصلها خطاب موجه لأحد إخوانه الموافقين، أما بالنسبة لنص كتاب التوحيد الموضوع لتأصيل العقيدة ابتداء فهذا التأويل يبعد.
ثالثا : حمل كلامه في العذر على من لم تقم عليه الحجة وكلامه في عدم العذر على المفرط والمعرض عن سماع الحجة، وهذا أمتن توجيه لكلام ابن عبد الوهاب وقفت عليه، ولأنه تأويل شامل لجميع نصوصه المذكورة في المطلب الثاني وغيرها –على أن النص الأول فيمن ارتد ردة صريحة عن الإسلام-
   وقد سلك هذه الطريقة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله إذا قال معلقا على نص كشف الشبهات:« لا أظن الشيخ رحمه الله لا يرى العذر بالجهل، اللهم إلا أن يكون منه تفريط بترك التعلم مثل أن يسمع بالحق فلا يلتفت إليه ولا يتعلم، فهذا لا يعذر بالجهل، وإنما لا أظن ذلك من الشيخ لأن له كلاما آخر يدل على العذر بالجهل فقد سئل عما يقاتل عليه وعما يكفر الرجل به فأجاب ....» وذكر الشيخ رسالة ابن عبد الوهاب كاملة الذي يصرح فيها بالعذر بالجهل وأنه لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية(177).
    وعلق الشيخ العثيمين رحمه الله على نص كتاب التوحيد:« هذا فيه نظر لأن قوله  :"لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا" ليست بصريح أنه لو مات قبل العلم، بل ظاهره :"لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "أي بعدما علمت وأمرت بنزعها، وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، فنقول الجهل نوعان : جهل يعذر فيه الإنسان وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئا عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئا عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط، ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه ، فإن كان منتسبا للإسلام لم يضره، وإن كان منتسبا إلى الكفر فهو كافر في الدنيا لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح يمتحن فإن أطاع دخل الجنة وإن عصى دخل النار»(178).
   وكذلك النص الآخر –برقم 4- الذي يقول فيه :« ومن أعرض عن هذا فطبع الله على قلبه، وآثار الدنيا على الدين، لم يعذره الله بالجهالة» فهذا واضح انطباقه على المعرض عن سماع الحجة دون غيره.
    وإذا أصر المخالف على أن للشيخ ابن عبد الوهاب قولين مختلفين، قلنا إن قوله في موافقة الجماعة والدليل أولى من قوله في خلاف الجماعة والدليل، والله الموفق وهو يهدي السبيل.
خاتمة
     هذا آخر ما أردنا بحثه من شبهات مثارة حول قضية العذر بالجهل، وإن كانت ثمة شبهات أخرى فهي أقل شهرة وانتشارا من هذه فيما أحسب، ونسأل الله تعالى أن يهدينا ويهدي بنا ويجعلنا هداه مهتدين وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
159/ الدرر السنية (1/63).
160/ الدرر السنية (1/73)و(1/82).
161/ الدرر السنية (1/80).
162/ الدرر السنية (1/100).
163/ الدرر السنية (1/102-104).
164/ الدرر السنية (10/113).
165/ الدرر السنية (10/128).
166/ الدرر السنية (10/131).
167/ الدرر السنية (1/34) (10/14).
168/ الدرر السنية (12/111).
169/ الدرر السنية (8/118).
170/ الدرر السنية (1/71).
171/ رواه ابن ماجة (3531) وأحمد (4/445) واللفظ له، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1029).
172/ كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب (ص:30) تحقيق أبي مالك الرياشي، ط1-1429، مكتبة العلوم والحكم ومكتبة عباد الرحمن، مصر.
173/ نقلا عن ضوابط تكفير المعين عند شيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب لأبي العلا بن راشد بن أبي العلا الراشد (ص:161) ط1-1425، مكتبة الرشد، الرياض.
174/ الدرر السنية (10/115).
175/ ضوابط التكفير لعبد الله القرني (ص:231).
176/ الدرر السنية (10/434-435) نقلنا لهذا النص المقصود منه بيان موقف هؤلاء الأئمة النجديين من كلام ابن عبد الوهاب الذي ظاهره التعارض، أما تشبيه المسلمين قبل ظهور دعوة ابن عبد الوهاب بالفترة في الأسماء والأحكام فهذا مما لا يوافقون عليه .
177/ شرح كشف الشبهات للعثيمين (46-47) إعداد فهد بن ناصر السليمان، دار الثريا للنشر .
178/ القول المفيد شرح كتاب التوحيد للعثيمين (1/173) ط دار ابن الجوزي .

الخميس, 12 آب/أغسطس 2021 19:25

في مواجهة التنصير

    إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده رسوله .
      أما بعد: فإن دعاة التنصير قد عادوا إلى بلادنا الجزائر في هذه السنوات الأخيرة بعدد كبير وعُدَّة أكبر، وقد تمكنوا من تحقيق جملة من أهدافهم في وقت وجيز، وذلك لمجموعة من العوامل تظافرت وتآلفت، وفي مقدمتها غفلة الناس عن أعمال المنصرين ومخططاتهم، ومنها تضييع الأمة لواجب الدعوة إلى الله تعالى وانشغالها بالدنيا وزخارفها، وإن من واجب المسلمين عموما أن يصدوا هذا الزحف الصيليبي الجديد كلٌ حسب قدرته وحسب موقعه، وأن يحافظوا على دينهم وأخلاق مجتمعهم، وهذه المقالات التي نُقدم جهد مقل من عبد ضعيف نسأل الله تعالى أن ينفع بها، وقد قيل في بعض الأمثال القديمة " أشعل شمعة ولا تلعن الظلام"، وقد سبق نشر بعضها في مطويات دعوية وبعضها الآخر على صفحات الجرائد، أو المواقع الإلكترونية، وقد رأيت أن أودعها في كتاب ينتظمها جميعا عسى أن ينفع الله بها والله عز وجل الموفق.
التحذير من وسائل التنصير
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والعاقبة للمتقين ، أما بعد : فإننا نقول هذا الكلام لأنهم قادمون… لأنهم آتون … بل قد جاءوا وحلوا بيننا. نقول هذا الكلام لا لنعلن عن انهزام المسلمين، أو لنضخم قدرات عدوهم أو نبث الحزن والفشل في قلوبهم، بل نقول هذا الكلام لتحذير من غفل منهم من خطر يداهمهم، ولينتبهوا إلى عدوٍّ يهددهم في أنفسهم وأهليهم، ولنُذكرهم جميعا بأسباب النصر المهملة وبوسائله المعطلة.
    أيها المسلمون! إن خطر التنصير قد عاد ليداهم بلادنا الجزائر في هذه الأيام. وإن الله تعالى يقول –وصدق-: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (البقرة120) وإن النصارى في كل وقت وفي كل زمان يتحركون ويعملون لنشر دينهم ومحاربة دين الإسلام، وهم الآن يتقدمون في دعوتهم وقد اخترقوا بلادنا وسائر بلاد الإسلام، وهم يستعملون وسائل مختلفة وطرقا متنوعة وأساليب ماكرة لاستمالة الناس إليهم، ونشر ملتهم ولخداع المغفلين من أبناء المسلمين.
    انتبه أيها المسلم، فإن حرب التنصير قد قامت على حين غفلة منك في بلادك.. انتبه أيها المسلم إلى وسائلهم وحذر منها أبناءك وإخوانك …. ثم اعتبر بعد ذلك بحالهم كيف يخدمون دينهم، فماذا قدمت أنت للإسلام ؟! وانظر إلى ما ينفقون في سبيل نصرة دينهم فماذا أنفقت في سبيل الإسلام ؟
   وعليك –أيها المسلم –أن تعلم أولا أن حركة التنصير الجديدة حركة دينية وسياسية استعمارية في آن واحد، ظهرت بعد فشل الحروب الصليبية في مهمتها المتمثلة في نشر النصرانية والقضاء على الإسلام، وإنه وإن كان هدفهم الأسمى هو تنصير العالم كله إلا أن هذا الهدف قد تحول في العصر الحاضر بفعل أسباب سياسية وتاريخية وواقعية إلى تنصير العالم الإسلامي، لأنهم تبينوا أن الإسلام هو العقبة الحقيقية أمام المد التنصيري في العالم، فالإسلام دين الله الحق وهو الدين الذي من اعتقده عن علم لم يتحول عنه أبدا بخلاف أهل الديانات الوثنية، وهو الدين الذي يدين به أكثر من مليار نسمة ولا يزال في توسع مستمر، وفي أيام الاستعمار في القرن التاسع عشر الميلادي صرح أحد قساوستهم بهذه الحقيقة وقال :« إن الدين الإسلامي هو العقبة في طريق تقدم التبشير بالنصرانية في إفريقيا»، وفي سنة 1978م عقدوا مؤتمرا عالميا لدراسة حالة التنصير في البلاد الإسلامية ولتطوير أساليبه فيها، وقد طبعت جلسات المؤتمر باسم" التنصير خطة لغزو العالم الإسلامي"، وفي سنة 1982 عقدوا مؤتمرا آخر وجعلوا شعاره : «الإسلام دين الشيطان»، وقد وضعوا في هذه المؤتمرات خططا وأهدافا وأوصوا باستعمال وسائل وأساليب تمكنهم من بلوغ أمانيهم، وقد ساروا عليها وعملوا بها، وما باحوا بها إلا بعد أن نجحوا فيها نجاحا غير معهود، لكنه إن شاء الله تعالى نجاح مؤقت لأن المعركة لم تنته بعد. فما هي هذه الأساليب؟ وكيف نواجهها ؟ نقتصر في هذا المقال على ذكر أهم هذه الوسائل المعتمدة ، ونرجئ سبل المواجهة إلى مقال لاحق بإذن الله.
1-نشر فكرة التعايش والتسامح بين الأديان
    فهم يعملون جاهدين على إقناع المسلمين أن النصارى ليسوا أعداء لهم وأنهم محبون للسلام والتعايش ، كما أنهم يدعونهم إلى نسيان الماضي ومخلفاته من حروب صليبية واستعمار وتخلف وغير ذلك مما يعيشه المسلمون اليوم، ومما يندرج في خدمة هذا المشروع استعمال الأخلاق الحسنة والتصنع في المعاملة لكسب قلوب ضعفاء الإيمان، والزعم بأن دينهم هو دين التسامح والسلام، ونشر فكرة تقارب الأديان وحوار الحضارات، ومع الأسف الشديد قد صدقهم كثير من المسلمين ، وما ذلك إلا لجهلهم بدينهم وغفلتهم الشديدة عن مكائد أعدائهم، ولجهلهم بالتاريخ (ولأهواء كامنة في النفوس أيضا)، كيف نصدقهم؟ ونحن لم ننس أحداث الحروب الصليبية وأخبار محاكم التفتيش التي أنشئت في إسبانيا قبل قرون، كيف نصدقهم؟ ونحن لا زلنا نذكر أيام الاستعمار الفرنسي وما زلنا نشاهد آثاره ومخلفاته على أمتنا، كيف نصدقهم وأمتنا الإسلامية ما زالت تعاني من ظلمهم في شتى بقاع الأرض، بل كيف نصدقهم في مزاعمهم، والله تعالى يقول : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء:89) ويقول: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة:120) وكيف نقبل ودهم وولاءهم والله سبحانه يقول: ( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة :1).
2- تجنيد المتنصرين الجدد
   ومن خططهم الجديدة العمل على تجنيد النصارى العرب (كالفلسطنيين واللبنانيين والمصريين) والمتنصرين الجدد (المرتدين عن الإسلام) للقيام بالدعوة، وعدم الاقتصار على القساوسة الأوروبيين كما كانوا عليه في القديم، بل أجازوا حيازة رتبة قس لهؤلاء المتنصرين مع أن تعاليمهم تنص على خلاف ذلك، وما ذلك إلا لأنهم عاينوا الفشل الذريع فيما مضى في بلاد المسلمين لما كان التنصير قائما على قساوسة البلاد المستعمِرة(1)، لقد لجأوا إلى اعتماد قساوسة من المتنصرين الجدد -كما ذكرنا- رغم منعه في أصل دينهم لأن المهم عندهم إخراج المسلمين عن دينهم ولا يهمهم أن تصح نصرانيتهم أم لا، وهم يجهدون لتوسيع دائرة نشاط المتنصرين إلى أماكن عملهم ويحرصون على التوغل خاصة في المدارس والمستشفيات، وبهذا الاستثمار الجديد للطاقات البشرية صار عدد المنصرين المتطوعين في إفريقيا في بداية التسعينيات نحو ستة ملايين منصر.
3- إقامة الندوات والدورات التعليمية
    ومن وسائلهم إقامة الندوات والدورات التعليمية لهؤلاء المتنصرين الجدد(المرتدين)، بل وتوصلوا إلى إقامة مؤتمرات علنية مع الأسف الشديد في بلاد المسلمين، وليس المقصود منها تعليم النصرانية لهؤلاء المتنصرين، فحسب بل تقام لتعليمهم أساليب التنصير ومناهج التأثير، ولتعليمهم اللسان العربي الفصيح، ولإيقافهم على نقاط الضعف الموجودة فينا -والإسلام بريء منها-، وإرشادهم إلى نوعية الشبهات التي ينبغي استغلالها لتصيد ضعفاء المسلمين، وإلى الشهوات التي يُستمال بها الشباب خاصة، وإلى الفئات التي ينبغي التركيز عليها.
4-الحث على اختلاط النصارى بالمسلمين
    ومن الخطط التي يعتمدون حثهم على اختلاط النصارى بالمسلمين وتشجيعهم على الهجرة إلى أوروبا وأمريكا، وكذا تحريضهم على السفر السياحي إليها. وفي بعض البلاد الإسلامية عرضوا على الطلاب أن يقضوا عطلهم الصيفية في بريطانيا وغيرها بين عائلات نصرانية، ويندرج في هذا السياق تشجيع ما يسمى بالتعارف عبر المجلات وغيرها.
    وقد أسسوا لأنفسهم في بلاد الإسلام جمعيات ثقافية وأخرى لرعاية الشباب -في زعمهم- من أبرز نشاطاتها نقل أبناء المسلمين إلى البلاد الكافرة في العطل الربيعية أو الصيفية(2)، ومن سلم من كل ذلك فقد جاءوه إلى بلده وقعر بيته عن طريق الغزو الفضائي بالهوائيات المقعرة.
5-الاعتماد على جميع وسائل الإعلام الحديثة
    ومن خططهم الاعتماد على جميع وسائل الإعلام الحديثة (المقروءة والمسموعة والمرئية) ، وذلك حرصا منهم على نشر ضلالهم وإيصاله إلى جميع بلاد المسلمين وبأيسر السبل، وإيمانا منهم بأن الإعلام هو وسيلة التغيير والدعاية الأكثر تأثيرا في الشعوب والأمم، فمنظمات التنصير العالمية تمتلك أكثر من خمسة عشر ألف محطة راديو وتلفزيون ناطقة بمختلف اللغات واللهجات المحلية (ومنها الدارجة الجزائرية والقبائلية)، وتمتلك أيضا -إلى عهد قريب- أكثر من عشرين ألف جريدة ومجلة مخرجة إخراجا أنيقا ومطبوعة في غالبها على الورق الممتاز.
6- التوزيع المجاني للأشرطة والأناجيل
    ومن وسائل الإعلام المستغلة أيضا الأشرطة السمعية والأشرطة السمعية البصرية (الفيديو ) فهم يقومون بتوزيعها في بلاد المسلمين بمختلف اللغات واللهجات، ولقد وجدنا نماذج من هذه الأشرطة في المدارس الجزائرية يتناقلها الشباب على أنها أشرطة دينية (ومنها شريط حياة عيسى عليه السلام)!!!ومع غياب التعليم الديني والإعلام الإسلامي الموازي، فإن من هؤلاء الشباب من أصبح يعتقد أن عيسى عليه السلام قد صلب فعلا. ومن أعمالهم التوزيع المجاني للإنجيل وكتيبات الدعاية للتنصير ولقد كُشِف سنة 2000م في ميناء الجزائر عن حاوية كاملة معبأة بالأناجيل، كما تحدثت بعض المصادر الإعلامية عن توزيع ثلاثين ألف نسخة منه على مستوى القطر كله في السنة نفسها.
     وبعد أن كانت وسيلة إيصال هذه المواد المعدة للتوزيع في زمن مضى التهريب واستغلال السياح والمغتربين، فقد صاروا يصدِرونها في بلداننا الإسلامية لما وجدوا وسائل مادية وبشرية تدعم هذه المشاريع(3).
7-القيام بالأعمال الخيرية
    ومن وسائلهم القديمة القيام بالأعمال الخيرية والمساعدات الاجتماعية، وذلك بمساعدة الفقراء والمرضى ماديا ومعنويا وتوفير العمل لمن يلجأ إليهم، وإقامة دور الحضانة ورعاية الأيتام والعجزة ومدارس التعليم الليلي المجاني، ومن السفه واللامبالاة بل من أعظم الجرم ما نراه من المسلمين الذين يسلمون أبناءهم وفلذات أكبادهم بأيديهم إلى الدور التي قد تكون تابعة للكنيسة صراحة .
    ولا يزال المنصرون يستغلون الحالات الصعبة التي تمر بها البلدان الإسلامية كالحروب والكوارث العامة من زلازل وفيضانات، وكذلك الفقر والحرمان اللذين لا يزالان ملازمان لكثير من الشعوب الإسلامية، وهم في الأصل لا يقدمون شيئا إلا باسم المسيح المخلص أو باسم الكنيسة أو جمعية يعلم كل أحد أنها نصرانية، ولكنهم في بعض المناطق لمصلحة التستر والاختفاء عن أنظار المسلمين الغيورين على دينهم يتخلون عن ذلك في الظاهر، بينما وصل بهم الأمر في مناطق أخرى إلى استعمال الإغراء الصريح فيقال للشخص تنصر ولك كذا، احضر صلاة الأحد ولك كذا (كإعطاء الأموال والتأشيرات إلى الخارج).
8-إعادة فتح الكنائس
    ومن أهدافهم العاجلة إعادة فتح الكنائس وإعادة نشاطها ؛ من استقبال التائبين!! وإبرام عقود الزواج وتقديم الأعمال الخيرية باسمها وممارسة النشاطات الترفيهية والثقافية، وحيث لا توجد كنائس قديمة فهم يكثرون سوادهم وتجمعاتهم من أجل تكوين جالية تطالب بحقها في ممارسة دينها الجديد بحرية فتحصل على رخص لبناء الكنائس، وفي مناطق متفرقة من بلادنا وَهَب كثير من المرتدين بيوتهم لتكون كنائس تقام فيها صلاتهم، وتسمية المتنصرين مرتدين هي التسمية الصحيحة لهم ، إذ للمرتد في الشرع أحكام غير أحكام النصراني الأصلي.
9- إثارة الفتن وتشجيع الحروب في بلاد الإسلام
    ومن أساليبهم الخفية الماكرة تشجيع الحروب وإضرام نيران الفتن في بلاد المسلمين؛ بغية إضعافهم وإثارة للاضطراب في صفوفهم، وخلقا للثغرة التي يتسللون من خلالها، وإيجادا للأجواء التي تسمح لهم بالنشاط الحر، إذ هم بعد ذلك يلعبون دور المغيث والمنقذ إذا ما انطفأت نيران تلك الحروب، كما وقع في الصومال والبوسنة وكسوفو وغيرها. ومما يندرج في هذا السياق إحياء النزعات العرقية القبطية بمصر والكردية بالعراق والبربرية بالجزائر، ولا ننسى استغلالهم لبعض الفئات المظلومة الحاقدة على بعض المسلمين، وتحويل حقدها ضد الإسلام نفسه ، كضحايا الفتن التي تحدث باسم الإسلام .
    وفي الختام نقول : أيها المسلمون مع كل هذا فإن الغلبة لنا بإذن الأحد الصمد إن اتخذنا أسباب النصر وحققنا شروط التأييد، يقول الرب سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال:36)، أيها المسلمون لا يزال الأمل قائما لأن الله تعالى يقول: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:32-33)، ولكن إنما يظهر الله من نصر دين الله ومن قدم الأسباب : ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) (الحج:40). ولقد حان الوقت أيها المسلمون أن تستيقظوا من سباتكم وتنتبهوا من غفلتكم … فاحذروهم إنهم قادمون… احذروهم وكونوا أنصارا لله تعالى على عدوه وعدوكم. وفي المقالة الآتية إن شاء الله سنوضح السبل الشرعية التي تقي المسلمين من هذا السرطان القادم والطوفان العارم.
كيف نواجه خطر التنصير؟
     الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ، أما بعد: فإن الله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)(الأنفال:36) إن النصارى ينفقون الأموال الطائلة لمحاربة الإسلام والصد عن سبيل الله، فسوف ينفقون هذه الأموال بل والأوقات والجهود ثم يتحسرون عليها في الدنيا حين يرون خيبتهم في ديار المسلمين بإذن الله تعالى (ذلك أننا موعودون بالغلبة إذا حققنا شروط النصر)، ويتحسرون كذلك ومن غير شك يوم القيامة يوم يلقون جزاء أعمالهم. وإننا ما ذكرنا الذي ذكرنا إلا لإيقاظ الهمم وبعث روح المسلمين وتحريك غيرتهم على دينهم، فيا أيها المسلمون هل ترضون بانتشار الردة في بلادكم؟ هل ترضون بفشو أنواع الكفر في أرضكم؟ هل تسكتون على نشر ملة غير ملة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟
     وبعد أن شعرنا بالداء الخطير سرطان التنصير تعالوا نبحث عن الوسائل الشرعية التي تقينا من شره المستطير، ونقصد بالوسائل الشرعية تلك التي دل عليها الكتاب والسنة، وهي لا تتغير بتبدل الزمان والمكان والحال (ويمكن أن تسمى بالوسائل الوقائية)، وأما الأمور العملية فهي كثيرة تختلف باختلاف مجال عمل الإنسان وتخصصه، وكل واحد له دوره في مجابهة المنصرين، (الجمركي والشرطي والدركي والعامل في البريد والمعلم والصحفي والطبيب ..الخ)، وليس هي المقصودة بكلامنا هنا ، أما الوسائل الشرعية المشار إليها فأهمها:
1- نشر العلم الشرعي وعقيدة التوحيد
    أول وسيلة ينبغي استعمالها في مواجهة هذا الداء تعَلُّم مهمات الدين (عقيدة التوحيد وسائر أركان العقيدة الإسلامية)، وتعليمها للأولاد الصغار، فإن ذلك من أعظم وسائل الوقاية من داء التنصير، ويجب أن نعلم أن تعَلُّم العقيدة وتعليمها لأولادنا واجب علينا أصالة، ولو من دون وجود داء التنصير لأن هذا العلم هو طريق الإيمان وشرط صحته، ويجب أن نتأكد بأن تغلب عدونا علينا ليس راجعا إلى قوته لأنه ي الحقيقة ضعيف والله تعالى هو القوي العزيز، بل سبب تغلبه ونجاحه في خططه في هذه الأيام هو ضعفنا نحن؛ ضعف إيماننا وضعف علمنا بالله تعالى، وضعف توكلنا عليه والتزامنا بشرعه، وإن مَن تعلم عقيدة الإسلام ووجد حلاوة الإيمان في قلبه يستحيل أن يتركه وأن يبدل غيره به، بل إنه ليكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار، ولكن من جهل أمر دينه ومن فهم الإسلام فهما خاطئا مشوها أو مقلوبا هو من يمكن أن يتنصَّر، مثال ذلك أن من يرى المنتسبين إلى الإسلام يعبدون الآلاف من الآلهة في الأرض يسمونهم أولياء وأقطاب وشفعاء وغير ذلك، ما الذي يمنعه أن يختصر هذا العدد الهائل في ثلاثة آلهة أليس هذا أقرب إلى المعقول؟ يقول البشير الإبراهيمي وهو يعدد أسباب نجاح التنصير في بلدنا بالنسبة إلى غيره في تلك الحقبة الزمنية: «انتشار الطرقية التي هي ظئر التبشير وكافلته والممهدة له حسا ومعنى، وإن جهل هذا قوم فعدوا من حسناتها مقاومة التبشير ». وكذلك ذاك الجاهل بدينه الذي قهره الفقر والظلم واستسلم للجيش الإعلامي العميل للنصارى ما أسهل أن يعتنق النصرانية لا اقتناعا بها ولكن فرارا من هذا الإسلام المشوه الذي عرف.
2-تحصين الأبناء  
    أيها المسلمون إن أولادكم اليوم بين أيديكم صفحات بيضاء تكتبون عليها ما شئتم، وإن مثل قلوبهم كمثل الزجاجة الفارغة إن لم تعمروها أنتم بحب الله ورسوله ودينه ملأها غيركم بضد ذلك، وإن الشرور كثيرة والفساد لا يتناهى، ولا أحفظ لهم من هذه الشرور ومظاهر الفساد إلا تربيتهم على العقيدة الإسلامية والالتزام بشعائر الدين، فالله الله في أولادكم أيها المسلمون، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ والْحجَارَةُ ) (التحريم:6) ومن أعظم الجرم أن يسمح الآباء لأبنائهم أن يلتحقوا ببعض الجمعيات الثقافية والترفيهية التي يعلمون أنها تابعة للنصارى ، وتدعو إلى النصرانية(4)، معرضين أبناءهم للكفر من أجل شيء من متاع الدنيا، وجهلوا أن الرضا بالكفر كفر.
3-الحذر من النظر في كتبهم والسماع لأشرطتهم
   ومن الأمور الشرعية الوقائية الحذر والتحذير من النظر في كتبهم ومن السماع لأشرطتهم، لأن الشبه خطافة والقلوب ضعيفة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى عند عمر صحيفة من التوراة فغضب وزجره وقال:« لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي»(5). وكثير من الشباب اليوم قد يأخذه الفضول وحب الاطلاع فيراسل مجلاتهم فيقع في فتنة محبتهم أو في فتنة الإغراء بأنواع الشهوات، ومنهم من يأخذه الفضول لمتابعة برامج إذاعاتهم وقنواتهم الفضائية ، أو يسعى إليهم لمناظرتهم وهو جاهل بعقيدته فيشككونه في بديهيات دينه. فنقول ناصحين لهؤلاء الفضوليين: لو كان فضولكم يدفعكم إلى تعلم ما جهلتم من عقائد الإسلام لكان خيرا لكم ، وأما مهمة الرد على النصارى والمنصرين فهي مهمة العلماء الراسخين وطلبة العلم النابهين وليست لكم، وأما أنتم يكفيكم أن تحافظوا على عقيدتكم وعلى إسلامكم.
4- إحياء عقيدة الولاء والبراء
   ومن الوسائل الوقائية الأصلية إحياء عقيدة الولاء والبراء في نفوس المسلمين، هذه العقيدة التي أصلها الحب في الله والبغض في الله، قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (الممتحنة:1)، وقال سبحانه: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (المجادلة:22). إنه بغضٌ بل عداوة وليست بالعداوة العرقية أو الدنيوية، بل هي عداوة تفرضها محبة الله تعالى التي هي أصلُ أصلِ الإيمان. فهؤلاء النصارى يحاربون دين الله ويسبون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجعلون لله الولد ويقتلون المؤمنين لأجل إيمانهم، فكيف تجتمع في قلوبنا محبة الله ورسوله والمؤمنين مع محبة النصارى وموالاتهم ونُصرتهم؟! قِس ذلك بمن يكره والدك ويسبه ويعتدي عليه أوَ تكون محبا لوالدك راض عن عدوه في آن واحد؟ وإن الغاية التي يرمي إليها أدعياء التقارب والتسامح وحوار الحضارات هي هدم هذه العقيدة الحامية لقلوب المسلمين من الارتداد عن دينهم، فهم الآن يريدون منا أن نتخلى عن هذا الدرع الواقي، والأمة في هذه الأيام –مع الأسف – أكثرها متخل عنه وجاهل به جهلا تاما، فإننا نرى فيها من يسبِّح بحمد حضارة الغربيين، ومن هو أسير أفكارهم وأفلامهم، وفيها من يعظم عظماءهم من ساسة ومفكرين بل وسفهاءهم من مغنين وممثلين ولاعبين، وإننا نعتبر أول نجاح حققه النصارى في حرب المسلمين هو كسر هذا الدرع الذي يسمى البراءة من الشرك وأهله.
5- الحرص على مخالفة النصارى
     ومن الطرق الوقائية الشرعية الحرص على مخالفة النصارى وعدم التشبه بهم، يقول الرب سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:10) قد فرغنا من المشابهة لهم في الباطن فتعالوا نحمي الباطن بالغلاف الظاهر ولنجعل هذا الغلاف من حديد ونحاس، خالفوا اليهود! خالفوا النصارى! خالفوا المشركين! هكذا كان يقول ويوصى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاعفوا اللحى وتكلموا بلغتكم ولا تتخلوا عن لباسكم الذي يميزكم(6)، واحرصوا على كل ما يميزكم عن النصارى في السلوك والأخلاق والمظهر، وإياكم ومشاركتهم في أعيادهم، وإياكم ثم إياكم وتعليق الصليب ولباس ما فيه الصليب (مهما كان شكله وهندسته) واحذروا من لباس فيه أعلام الدول الكافرة، بل وحتى ألبسة الأندية الرياضية لأنها لا تخلو من أعلام ومن صلبان.
6-ضرورة اقتلاع مخلفات الاستعمار
    ونرد هنا على بعض من ركن إلى الدّعة (من الجزائريين) وجلس يطمئن نفسه بقوله إن فرنسا لم تُنَصِّر شعبنا خلال قرن وثلث قرن، فكيف يمكن أن تفلح الآن؟(7) فنقول له بل قد أثرت فرنسا فينا تأثيرا كبيرا وإن لم تصب الهدف الأساس هو تنصير الجزائريين، ولكنها اخترقت هذا الحاجز (حاجز البراء من الكفار وبغضهم) وكسرته، ألم يصبح كثير منا يعيش عيشة فرنسية؟ لباسه لباس فرنسي! ولسانه لسان فرنسي! ويحلف أحدنا فيشير بإشارة الصليب! أليس أكثر الناس يقول الإيمان في القلب؟ ألم ننقسم إلى مسلمين ملتزمين وغير ملتزمين ؟(8).. ثم إنه ليس من هدف المنصرين اليوم أن يصيروا الأمة نصرانية بالضرورة، ولكن هدفهم هو إبعاد المسلمين عن الإسلام، وهذا ما نجح فيه الفرنسيون إلى حد كبير، يقول القس صمؤيل زويمر أحد واضعي أسس التنصير العالمي الحديث:« لكن مهمة التبشير التي ندبتكم إليها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية ليست إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريما لهم، وإنما مهمتكم في أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها ».
7-منع الاختلاط بهم والهجرة إلى بلادهم
    ومن الوسائل الوقائية الشرعية منع الاختلاط بالنصارى ومن الإقامة بين أظهرهم في بلادهم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: « أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ »(9)، وموضوع السفر إلى بلاد الكفر بقصد الإقامة فيها موضوع طويل يحتاج إلى شرح وتفصيل، والذي نكتفي بذكره هنا وهو الذي يهمنا أنه ينبغي أن يتعلم المسلم أن أكله من حشائش الأرض، بل موته جوعا خير له من مد يد الذل والصغار للنصارى، وأن يتذكر قصة الأمير ابن عباد الأندلسي الذي قال: «لأن أرعى الإبل (عند ابن تاشفين) أحب إلي من أن أرعى الخنازير (عند ملك الإسبان)» (10). لأن أكثر من يذهب إلى بلادهم إنما يحتج بأنه ثمة الرزق والرخاء ، والمسلم الذي يختلط بالنصارى عرضة لأن يتشبه بهم في الظاهر ولأن يحبهم في الباطن، والمسلم الذي يعيش بينهم يعيش وسط الشبهات والشهوات التي لا تنقضي، وقد بين لنا الواقع كيف صار كثير من المغتربين في فرنسا من أدوات التنصير ونشر الفساد في الجزائر، كما بين لنا أن أبناء كثير من المغتربين أصبحوا لا دين لهم ولا ملة، ومنهم من يقول أنا مسلم ولكنه لا يعرف لا الإسلام ولا لغته ولا شعائره ولا القرآن ولا غيره...
8-المواجهة الإعلامية
    ومما يندرج في أساليب مواجهة التنصير الوقائية المواجهة الإعلامية ، بنشر الكتب والأشرطة والمطويات والمقالات، وإقامة المحاضرات والندوات والملتقيات التي تفضح خططهم ، وتكشف بطلان عقائدهم ، وتوضح للأمة خطر انتشار هذه الملة في بلداننا الإسلامية ، وتحث فئات الشعب على مقاطعة جمعياتهم ومؤسساتهم، وتحرك همم الغيورين على دينهم لمواجهة هذا التحدي، وتبين مسؤولية رجال الإعلام والثقافة والأمن ، فضلا عن الأئمة والدعاة في هذا المجال.
    وفي الختام نطرح هذا الأسئلة: هل شعرتم بخطر التنصير وشره المستطير ؟ هل استيقظت هممكم لتندفع إلى خدمة الإسلام والدعوة إليه ؟ وماذا بإمكانكم أن تقدموا لنصرة هذا الدين؟ يقول المولى عز وجل: ( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) (محمد:38)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رحلة البحث عن الدين الحق وسبيل الخلاص
(قصة إسلام القس رحمت بورنومو)
     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمي الأمين، أما بعد: فهذه قصة رائعة من قصص القساوسة الذين رجعوا إلى الإسلام دين الفطرة والذين أصبحوا من الشاهدين على بطلان ما كانوا فيه من ضلال النصرانية المحرفة، وقبل أن نسرد تفاصيل الرحلة التي رحلها السيد رحمت بورنومو في بحثه عن الدين الحق، نُذكر بفرق عظيم من أعظم الفروق بين النصرانية والإسلام، ولهذا الفرق علاقة كبيرة بقصة هذا الرجل ، ذلك أن النصرانية دين مبني على إلغاء العقل ومنع التفكير في قضايا العقيدة ، والبحث عن الحقيقة بالأدلة المقنعة ، دين مبني على التصديق والعاطفة من غير اقتناع بحجة أو برهان . أما الإسلام فدين أعطى للعقل مكانته ، وحث على التفكير والبحث عن الحقيقة ، وذم التقليد الأعمى واتباع سيرة الآباء والأجداد من غير دليل، فالإسلام دين مبني على الإقناع بالبرهان الواضح والحجة الدامغة. وليس هذا افتراء على النصرانية ، فهذه بعض النصوص الشاهدة على ذلك من الكتاب المقدس عندهم، قال بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس (إصحاح:1/21):« فلما كان العالم بحكمته لم يعرف الله في حكمة الله ، حسن لدى الله أن يخلص المؤمنين بحماقة التبشير » ، وقال بعدها: «لأن الحماقة من الله أكثر حكمة من الناس، والضعف من الله  أوفر قوة من الناس» وقال (إصحاح:3/18):« فلا يخدعن أحد نفسه ، فإن عد أحد منكم نفسه حكيما من حكماء هذه الدنيا ، فليصر أحمق ليصير حكيما».
     وليس هذا مدحا للإسلام بما ليس فيه ، بل هذه نصوص من القرآن الكريم شاهدة على ما ذكرناه، قال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)  (الحج:46) وقال سبحانه عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك:10) وقال جل جلاله عن المهتدين : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:18) والدعوة إلى التفكير والتعقل في القرآن لا يجهلها قارئ له، فعبارة : ( أفلا تعقلون) وحدها وردت في ثلاثة عشر موضعا. وهذا الفرق الواضح هو السر في كون الذين ينتقلون من الإسلام إلى النصرانية هم الجاهلون بحقيقة الدين الإسلامي الجاهلون بأدلته وبراهينه، وكون الذين ينتقلون من النصرانية إلى الإسلام عالمين بالنصرانية وتعاليمها، وانتقال النصراني إلى الإسلام أمر منوط طبعا بالبحث والتفكير، فمن بحث وفكر، وأراد الحق تحرر من القيود ووصل إلى الحق بإذن الله تعالى، أما من بقي منهم مع موروثه فرحا به فإنه يكون يوم القيامة من الذين يقولون: ( لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك:10).
من هو صاحب الرحلة؟
    صاحب الرحلة هو السيد رحمت بورنومو الأندونيسي المنتسب إلى عائلة نصرانية ورثت النصرانية أبا عن جد، كان أبوه قسيسا على مذهب بانتي كوستا وجده أيضا كان قسيسا على مذهب البروتستانت، وكانت والدته معلمة الإنجيل للنساء، وأما هو فكان قسا ورئيسا للتنصير في كنيسة « بيتل أنجيل سيبنوا».
لم يكن يتصور أنه سيكون مسلما في يوم ما …لماذا؟
    يقول رحمه الله تعالى :« لم يخطر ببالي ولو للحظة واحدة أن أكون من المسلمين إذ أنني منذ نعومة أظفاري تلقيت التعليم من والدي الذي كان يقول لي دائما إن محمدا رجل بدوي صحراوي ليس له علم أو دراية ولا يقرأ وأنه أمي ..بل أكثر من ذلك فقد قرأت للبروفيسور ريكولدي ..« بأن محمدا رجل دجال يسكن الدرك التاسع من النار».ومنذ ذلك الحين تكونت لدي فكرة مغلوطة راسخة تدفعني إلى رفض الإسلام وعدم التفكير في اتخاذه دينا لي».
كيف بدأت القصة؟
    قال رحمه الله :« في يوم من الأيام أرسلتني قيادة الكنيسة للقيام بأعمال تبشيرية لمدة ثلاثة أيام ولياليها في منطقة "دايري " ..في شمال جزيرة سومطرة ……ولما انتهيت من أعمال التنصير والدعوة أويت إلى دار مسؤول الكنيسة في تلك المنطقة، وكنت في انتظار سيارة تقلني إلى موضع عملي ، وإذا برجل نحيف يطلع علينا فجأة ، ولقد كان معلما للقرآن ..اقترب مني الرجل وبعد أن بادلني التحية ، بادرني بالسؤال التالي – وكان سؤالا غريبا من نوعه -  قال: لقد ذكرت في حديثك أن عيسى المسيح إله فأين دليل ألوهيته ؟ فقلت له: سواء أكان هناك دليل أم لا فالأمر لا يهمك، إن شئت فلتكفر . وهنا أدار الرجل ظهره وانصرف، لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد فقد أخذت أفكر في قرارة نفسي وأقول : هيهات هيهات أن يدخل هذا الرجل الجنة ، لأنها مخصصة فقط لمن يؤمن بألوهية المسيح».
كلمة كان لها أثرها
     قال :« لكن عندما عدت إلى بيتي وجدت أن صوت الرجل يجلجل في روعي ويدق بقوة في أسماعي مما دفعني إلى الرجوع إلى كتب الإنجيل بحثا عن الجواب الصحيح على سؤاله، ومعلوم أن هناك أربعة أناجيل مختلفة أحدها بقلم متى والآخر مارك والثالث لوقا والرابع إنجيل يوحنا، هذه التسميات أخذت لمؤلف كل منها أي أن الأناجيل الأربعة المشهورة هي من صنع البشر !!ثم سألت نفسي هل هناك قرآن بنسخ كثيرة من صنع البشر ؟»
بداية البحث والتفكير واكتشاف أول تناقض
    ثم يواصل سرد أحداث قصته :« وأخذت أدرس الأناجيل الأربعة فماذا وجدت؟ هذا إنجيل متى يقول عن عيسى عليه السلام ما يلي: إن عيسى المسيح ينتسب إلى إبراهيم وإلى داود (إصحاح:1/1). وهذا إنجيل لوقا يقول: يملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية (إصحاح:1/33). وهذا إنجيل مارك يقول: هذه السلسلة من نسب عيسى المسيح ابن الله (إصحاح:1/1). وأخيرا يقول يوحنا: في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله (إصحاح:1/1). فقلت في نفسي: إذن هناك خلاف بارز بين هذه الكتب الأربعة حول ذات المسيح عليه السلام، أهو إنسان؟ أم ابن الله؟ أم ملك ؟ أم هو الله؟ لقد أشكل علي ذلك، ولم أعثر على جواب».
اكتشاف حقيقة واتضاح حماقة
    قال رحمه الله :« ولنا أن نتساءل، ترى ما هو المبدأ الأساسي الذي كان يدعو إليه عيسى عليه السلام ؟ هذا إنجيل مرقس يقول: فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله أية وصية هي الأولى؟ فأجابه يسوع قائلا: إن أولى الوصايا هي اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا إله واحد(إصحاح:2/28-29) وهذا اعتراف صريح من عيسى عليه السلام أنه ليس إلها ..ولو كان هو الله أيضا فلن تكون لله وحدانية أليس كذلك ؟ ثم واصلت البحث فوجدت في إنجيل يوحنا نصوصا تشير إلى دعاء المسيح عليه السلام وتضرعه إلى الله سبحانه، فقلت في نفسي : لو كان عيسى هو القادر على كل شيء فهل يحتاج إلى هذا التضرع والدعاء ؟ طبعا لا ..هذا هو نص الدعاء : هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض ، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته (إصحاح:17/3-4) وهو دعاء طويل …وهذا الدعاء يمثل اعترافا من عيسى عليه السلام بأن الله هو الواحد الأحد، وأن عيسى هو رسول الله المبعوث إلى قوم معينين ، وليس إلى جميع الناس ، أي قوم هؤلاء يا ترى ؟ نقرأ جواب ذلك في إنجيل متى (إصحاح:15/24) حيث يقول :"لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة". إذن لو ضممنا هذه الاعترافات إلى بعضها لأمكننا أن نقول : إن الله هو الواحد الأحد وإن عيسى عليه السلام هو رسول الله إلى بني إسرائيل.
بديهيات تنقلب بعد التفكير حماقات
     قال رحمه الله:« ثم واصلت البحث فتذكرت أنني أكون في صلاتي أقرأ دائما العبارات التالية « الله الأب، الله الابن، الله روح القدس ثلاثة في أقنوم واحد » قلت لنفسي أمر غريب حقا فلو سألنا طالبا في الصف الأول الابتدائي (1+1+1=3) لقال نعم ثم لو قلنا لكن الثلاثة تساوي واحد لما وافق على ذلك ... لقد حدث تناقض صريح بين العقيدة التي كانت راسخة في نفسي منذ أن كنت طفلا صغيرا وهي ثلاثة في واحد ، وبين ما يعترف به المسيح عيسى نفسه في كتب الإنجيل الموجودة الآن ، وهي أن الله واحد لا شريك له ، فأيهما هو الحق ؟
   لم يكن بوسعي أن أقرر آنذاك …فأخذت أبحث من جديد لعلي أقع على ما أريد ، لقد وجدت في سفر أشعيا النص التالي :« اذكروا الأوليات منذ القديم لأني أنا الله وليس الآخر وليس مثلي » (إصحاح:9/عدد:46) ولأشد ما كانت دهشتي عظيمة حين اعتنقت الإسلام فوجدت سورة الإخلاص: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا ).
   أما البديهية الثانية في الديانة المسيحية فتقول بأن هناك ما يسمى بالذنب الوراثي أو الخطيئة الأولى ، ويقصد بها أن الذنب الذي اقترفه آدم عليه السلام عندما أكل من الثمرة المحرمة عليه من الشجرة في الجنة، هذا الذنب سوف يرثه جميع بني البشر، فالجنين في رحم أمه يتحمل هذا الإثم ويولد آثما، فهل هذا صحيح؟
    لقد أخذت أبحث عن حقيقة ذلك فلجأت إلى العهد القديم ، فوجدت في سفر حزقيال ما يلي: « الابن لا يحمل من إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الابن بر البار عليه شر الشرير عليه يكون » (إصحاح:12/عدد:20) لعل من المناسب هنا أن نذكر ما ينص عليه القرآن في هذا المقام : (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (فاطر:18) فكيف يقال إن خطيئة آدم تنتقل من جيل إلى جيل ، وأن الإنسان يولد آثما ..إذن هذه التعاليم المسيحية قد اتضح بطلانها بنص صريح من الكتاب الموصوف بالمقدس نفسه.
    وهناك البديهية الثالثة في التعاليم النصرانية التي تقول : إن ذنوب بني البشر لا تغفر حتى يصلب عيسى عليه السلام، لقد أخذت أفكر في هذه البديهية وأتساءل: هل هذا صحيح ؟ وكان الجواب الذي لا مفر منه بالطبع لا، لأن النص الآنف الذكر من العهد القديم ينفي مثل هذا الاعتقاد بقوله:« فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي وفعل حقا وعدلا، فحياة يحيى لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه » أي أن الله يغفر ذنوبه دون حاجة إلى أية واسطة من أحد.
توسيع دائرة البحث ومصادره
    قال :« لقد واصلت البحث في عدد من القضايا الاعتقادية الأخرى ، لقد وضعت يوما من الأيام كلا من الإنجيل والقرآن أمامي على المنضدة ، ووجهت السؤال التالي إلى الإنجيل ، وقلت له : ماذا تعرف عن محمد ؟ فقال : لا شيء لأن اسم محمد غير مذكور في الإنجيل ، ثم وجهت السؤال التالي إلى عيسى كما تحدث عنه القرآن، يا عيسى ماذا تعرف عن محمد ؟ فقال : لقد ذكر القرآن بما لا يدع مجالا للشك أن رسولا لابد أن يأتي بعدي اسمه أحمد،  وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (الصف:6) فأي ذلك حق يا ترى؟
    هناك إنجيل واحد هو إنجيل برنابا وهو غير الأناجيل الأربعة التي ذكرناها من قبل ، وهذا الإنجيل للأسف حرم رجال الدين النصارى على أتباعهم الاطلاع عليه ….جاء في إنجيل برنابا (الإصحاح:163):  « وقتئذ يسأل التلاميذ المسيح يا معلم من يأتي بعدك ؟ فقال المسيح بكل سرور وفرح محمد رسول الله سوف يأتي من بعدي كالسحاب الأبيض يظل المؤمنين جميعا … ولقد تردد ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل برنابا عدة مرات أحصيتها فوجدت أن فيه خمسا وأربعين موضعا(11)».
بديهية أخرى تناقض صريح المعقول
   قال :« ومن التعاليم البديهية في الديانة المسيحية أن عيسى عليه السلام هو المنقذ المخلص للعالم أي أنك يمكنك أن تغفل ما تشاء غير آبه بالذنوب والمعاصي … فقلت في نفسي :« لابد أن أبحث في الإنجيل وأعرف الحق من الباطل في ذلك» فوجدت في سفر أعمال الرسل رسالة بولس الأولى إلى أهل كورونتس يقول (إصحاح:1/64):« الله قد أقام الرب وسيقيمنا نحن أيضا بقوته »     …لقد تأملت هذه الآية طويلا. ثم قلت: لو لم يتدخل الله في إقامة المسيح من القبر لبقي مدفونا تحت التراب إلى يوم القيامة، إذن ما دام المسيح لم يستطع إنقاذ نفسه فكيف يكون بوسعه إنقاذ الآخرين ؟
بداية التحول
    عند ذلك عزمت على الخروج من الكنيسة وعدم الذهاب إليها، كان ذلك عام 1969م وليس معنى ذلك أنني خرجت من ذلك الحين من الديانة النصرانية نفسها، لأنه كما هو معلوم هناك كنائس ومذاهب شتى في الديانة النصرانية فهناك الكاثوليك والبروتستانت والميثيوديست والبلاي كسلامتن واليونيتاريان وغيرها كثير..وذات يوم لقيت صديقا لي فدعاني إلى الكاثوليكية، وأخذ يعدد مميزات لهذا المذهب لم أجد مثلها في المذهب البروتستانتي، قال صديقي: في هذا المذهب توجد حجرة الغفران وهي غرفة في الكنيسة يجلس فيها قس..ويقعد على كرسي عال ، ومن طلب العفو والغفران ذهب إليه وردد بعض الألفاظ…وما إن يكاد يفرغ من قراءتها حتى يقال له أنه طهر من ذنوبه ويرجع كيوم ولدته أمه ..لقد رأيت الداخلين إلى حجرة الغفران في الكنيسة عليهم أمارات الحزن والكآبة لثقل الذنوب، بينما رأيت من يخرج منها وقد علت وجهه ابتسامة الفرح لاعتقاده بأن ذنوبه قد غفرت له . أما أنا فحين جربت تلك الغرفة دخلتها حزينا وخرجت منها حزينا ، لماذا يا ترى ؟ لأنني كنت أفكر وأتساءل ..هذه ذنوبنا يتحملها القس، ولكن من يتحمل ذنوبه هو؟ وهكذا لم أقتنع بالكاثوليكية فتركتها وبحثت عن دين آخر.
القرار بترك النصرانية نهائيا
    بعد ذلك تعرفت على طائفة نصرانية أخرى تسمى « شهود يهوه» لقيت رئيسهم وسألته ..من تعبدون؟ قال: الله، قلت ومن المسيح ؟ فقال عيسى هو رسول الله، فصادف ذلك موافقة لما كنت أومن به وأميل إليه، ودخلت كنيستهم فلم أجد فيها صليبا واحدا فسألت عن سر ذلك فقال : الصليب علامة الكفر لذلك لا نعلقه في كنائسنا . لقد أمضيت ثلاثة أشهر كاملة أتلقى تعاليم ذلك المذهب وفي نهايتها كان لي هذا الحوار التالي مع رئيس الكنيسة وكان هولنديا . قلت له يا سيدي : إذا توفيت على غير هذا المذهب فأين مصيري قال : كالدخان الذي يزول في الهواء، فقلت متعجبا : ولكني لست سيجارة بل أنا إنسان ذو عقل وضمير …قلت: يا سيدي إذا كنت عبدا مطيعا ملتزما بهذا المذهب، فهل أدخل الجنة . قال : لا . قلت: فإلى أين أذهب ؟ قال: الذين يدخلون الجنة عددهم مائة وأربعة وأربعون ألف فقط أما أنت فسوف تسكن الأرض مرة أخرى…وهنا أعملت فكري جيدا ودرست الأمر وقلبته حتى اتخذت القرار الأخير بترك النصرانية بجميع مذاهبها رسميا، وكان ذلك عام 1970م.
تجريب البوذية والهندوسية
     لقد جربت الديانة البوذية فترة من الزمن ولكن سرعان ما تركتها لإحساسي بأنني لم أجد الحق الذي أنشده ، ثم اتصلت بالديانة الهندوسية ….ومكثت معهم فترة من الزمن تعلمت فيها الكثير ..وذات يوم سألت رئيس المعبد الهندوسي ..ماذا تعبدون ؟ قال : نعبد برهاما ويشنو وشيو، برهاما إله الخلق ويشنو إله الخير وشيو إله الشر ، ثلاثة آلهة تجلت في جسد إنسان واحد اسمه كريشنا الذي يعتبر المنقذ للعالم عند الهندوس . قلت في نفسي : إذن فلا فرق في أمر الألوهية بين الهندوسية والنصرانية ، ولو اختلفت الأسماء فهما يناديان ثلاثة في واحد… ولقد واصلت حواري مع الكاهن الهندوسي فقلت له يا سيدي إذا توفيت وأنا على دينكم فإلى أين مصيري ؟ قال : لا أعلم ولكن عليك أن تمتنع عن قتل الحشرات من أمثال النمل والبعوض وغيرها وقال : قد تكون الحشرات آباؤك وأجدادك الموتى … وفي النهاية قررت أن أترك كل تلك الديانات ولم يكن أمامي إلا الإسلام الذي لم أكن أعلم عنه إلا الشبهات التي تشوهه.
المحطة الأخيرة
    وذات يوم قلت لزوجتي اعتبارا من هذه الليلة لا أريد أن يزعجني أحد، أريد أن أصلي وأتضرع إلى الله ، وهكذا قفلت باب حجرتي ورفعت يدي إلى الله خاشعا متضرعا قائلا : يا رب إذا كنت موجودا حقا فخذ بناصيتي إلى الهدى والنور، واهدني إلى دينك الحق الذي ارتضيته للناس ..واستمر ذلك زمنا طويلا .. حوالي ثمانية أشهر. وفي ليلة 13 أكتوبر من عام 1971م …وبعد أن فرغت من دعائي المعتاد رحت في نوم عميق ، وعندما جاء نور الهدى من الله عز وجل إذ رأيت العالم حولي في ظلام دامس ولم يكن بوسعي أن أرى شيئا ، وإذا بجسم شخص يظهر أمامي فأمعنت النظر فيه فإذا بنور حبيب يشع منه يبدد الظلمة من حولي ، لقد تقدم الرجل المبارك نحوي …قائلا: ردد الشهادتين وما كنت حينئذ أعلم شيئا اسمه الشهادتين فقلت مستفسرا وما الشهادتان ؟ فقال : قل أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله فكررتها وراءه ثلاث مرات ، ثم ذهب عني الرجل. ولما استيقظت من نومي وجدت جسمي مبللا بالعرق وسألت أول مسلم قابلته ما هي الشهادتان ؟ وما قيمتهما في الإسلام ؟ فقال : الشهادتان هما الركن الأول في الإسلام ، ما إن ينطق بهما الرجل حتى يصبح مسلما ، فاستفسرت عن معناها فشرح لي المعنى … فالحمد لله الذي هداني أخيرا إلى ما كنت أبحث عنه منذ سنتين …»(12).
خاتمة
    وختاما نُذكر بأمر اعتقادي مهم، وهو أن الهداية والتوفيق بيد الله سبحانه . قال الله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (النحل:36)، ولذلك كان من دعاء المسلمين : (اهدنا الصراط المستقيم )، وكان من كلام أهل الجنة : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف:43).  فمن علم الله منه حب الخير والبحث عن الحق والصدق والإخلاص في ذلك، هداه سبحانه ووفقه ولم يخذله، قال الله تعالى : (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً ) (الأنفال:70).
    فالإنسان كما هو مكلف باتباع طريق الحق والسماع إلى دعاته وتعقل براهينه وحججه كذلك مطلوب منه طلب الهداية من الله تعالى والاستعانة به على فهم الأشياء وعلى التثبيت على الحق ، ونحن جميعا ضعفاء فقراء إلى الله تعالى ، قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر:15). وهذه القصة المسطورة تبين لنا بجلاء هذه الحقيقة ، إضافة إلى ما ذكرناه في المقدمة، وإن فيها أيضا موعظة حية لأنها متضمنة لشهادة واحد كان من دعاة التنصير، والحق ما شهد به الخصوم، فليعتبر بذلك كل قارئ لها فإن فيها عبرة لأولى الألباب.
من تناقضات الإنجيـــل المحرف
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين أما بعد: فهذه مقالة من المقالات المعدة لمواجهة التنصير رأينا أن نجعلها في بيان زيف الكتاب المقدس الذي يعتمده المنصرون في إضلالهم للمسلمين، وإنه من المسلَّمات عند كل مسلم أن التوراة والإنجيل الموجودان الآن كلاهما مبدل محرف، كما أخبر الله تعالى: (  يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (المائدة:13)، وقال سبحانه : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة:79)، وإننا مع اعتقادنا هذا قد نحتاج إلى البرهان المادي على التحريف لإقناع هؤلاء الضالين الذي يعتقدون أن الإنجيل الموجود الآن كله من كلام الله تعالى ، ومن أقوى الأدلة المادية على ما نعتقده وجود التناقض فيه وقد قال الله سبحانه عن القرآن: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82) ، وقد أحببنا أن نبرز في هذه العجالة أوضح التناقضات الواردة في الأناجيل الأربعة القانونية دون تعرض لغيرها من العهد القديم أو توابعها من العهد الجديد لأن تتبع كل ذلك أمر يطول ولا يسعه حجم مثل هذه المقالة.
التناقض الأول : من هو عيسى المسيح عند النصارى ؟
   أول تناقض يصادف قارئ الإنجيل متعلق بحقيقة عيسى عليه السلام ونسبه عندهم وبعبارة أخرى هو متعلق بأصل عقيدتهم، فقال مرقس في فاتحة إنجيله :«هذه بداية إنجيل يسوع المسيح ابن الله ». فجعل المسيح عليه السلام ابنا لله، وقال يوحنا في أول إنجيله:« في البدء كان الكلمة والكلمة كان مع الله وكان الكلمة هو الله». وهذا تصريح من يوحنا الكاتب بأن عيسى (أو الكلمة ) هو الله ، بينما نجد الإنجيلين الآخرين يقرران بشريته وأنه ابن يوسف النجار (الذي يقولون إنه كان خطيب مريم عليها السلام )، إذ جاء في أول إنجيل متى :« هذا سجل نسب يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم …ومتان أنجب يعقوب ويعقوب أنجب يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح». ويوافقه لوقا في قوله أنه ابن يوسف ويخالفه في سلسلة النسب إلى داود إذ قال (في الإصحاح:3/23): «وكان معروفا أنه ابن يوسف بن هالي بن متثان بن لاوي» وذكر النسب إلى قال: « ابن آدم ابن الله ». وقد ذكر قبل ذلك (في الإصحاح:1/33) ما يؤكد بشريته فقال : «إنه يكون عظيما وابن العلي يدعى، ويمنحه الرب الإله عرش داود أبيه فيملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولن يكون لملكه نهاية»، إذن ليس هو الإله ولا ابن الإله وهو في نظره ملكا من ملوك اليهود ، وهذه مخالفة للواقع وبرهان آخر على تحريف الإنجيل لأن عيسى عليه السلام لم يجلس على كرسي الملك ولو لحظة واحدة كما زعمه لوقا.
التناقض الثاني : من هو إيليا ؟
    من التناقضات الصريحة في الإنجيل بيان من هو إيليا هل هو يحيى عليه السلام أم غيره ، ذلك أن من العقائد المقررة في التوراة أن إيليا أو إلياس عليه السلام لم يمت وأنه رفع إلى السماء (كما في سفر الملوك الثاني الإصحاح:2/11)، وبناء على ذلك فاليهود كانوا ينتظرون رجوعه قبل يوم القيامة (وقد نص على ذلك في سفر ملاخي الإصحاح:4/5)، وقد اضطرب كُتَّاب الأناجيل في تحديده وتعيين شخصه، فقال متى في إنجيله في موضع (الإصحاح:11/15) أن المسيح عليه السلام قال بعبارة صريحة:« فإن يوحنا هذا هو إيليا الذي كان رجوعه منتظرا ». ويوحنا المشار إليه هو يحيى عليه السلام ، وذكر في موضع بعده أن عيسى لم يصرح بذلك ولكن التلاميذ فهموا من كلامه فنقل عنه أنه قال ( في الإصحاح:17/12-14):« على أني أقول لكم قد جاء إيليا ولم يعرفوه، بل فعلوا به كل ما شاءوا…عندئذ فهم التلاميذ أنه كلمهم عن يوحنا المعمدان». وهذا هو التناقض الأول أعني: هل صرح بأنه يحيى أم أن التلاميذ فهموا أنه قد عاد. وفي إنجيل يوحنا ما ينفى كونه يحيى عليه السلام إذ قال كاتبه في (الإصحاح:1/19-21) :« وهذه شهادة يوحنا(وهو يحيى) حين أرسل اليهود من أورشليم بعض الكهنة واللاويين يسألونه من أنت ؟ فاعترف ولم ينكر بل أكد قائلا لست أنا المسيح؟ فسألوه ماذا إذن هل أنت إيليا ؟ قال : لست إياه. أو أنت النبي ؟ فأجاب : لا ». فهذا يحيى ينفي أن يكون هو إلياس فأي الأمرين هو الصواب عند النصارى وأيهما يصدق عندهم؟ وعلى كلٍّ فيحيى عليه السلام في معتقد المسلمين هو ابن زكريا عليه السلام فلا يجوز بتاتا أن يكون هو شخص آخر إلا على عقيدة تناسخ الأرواح الوثنية. وقد زعم بعض المعاصرين أن إيليا المبشر برجوعه هو محمد صلى الله عليه وسلم ولكن لما علمنا أن المقصود بهذا الاسم هو إلياس عليه السلام لم يجز اعتبار هذا من البشارات، بل نص إنجيل يوحنا السابق فيه إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما أنه ينفي أن يكون هو إيليا، ذلك أن هؤلاء اليهود سألوا يحيى عن ثلاثة أشخاص منتظرين إيليا والمسيح والنبي والذي لا شك فيه أن هذا العطف يدل على التغاير والنبي المسؤول عنه هو النبي المنتظر في آخر الزمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم وإلا فيحيى عليه السلام كان نبيا أيضا .
التناقض الثالث: هل جاءت النصرانية للسلام! أم للإرهاب!؟
    من الأمور التي يستغلها المنصرون في هذه الأيام لنشر ديانتهم ما يشيعونه عن الإسلام اليوم من أنه دين إرهاب، فهم في مقابل ذلك ينشرون نصوص الإنجيل التي تبين أن دينهم دين تسامح ورحمه ليقنعوا الضعفاء والمرهبين بأن يقبلوا النصرانية دينا بديلا عن الإسلام ؟ ومن نصوص الإنجيل التي يحبون إذاعتها ما نقله لوقا عن المسيح (إصحاح:6/27-29):« أيها السامعون فأقول لكم أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضكم وباركوا لاعنيكم وصلوا من أجل المفترين الكذب عليكم من ضربك على خدك فاعرض له الآخر، من انتزع منك رداءك فلا تمنعه قميصك، كل من اغتصب مالك فلا تطالبه به». وقريب من معناه ورد في متى (إصحاح:5/38-48)، وهذه المقاطع لا تدل فقط على التسامح بل تدل على غاية الذل والهوان ، ولا يوجد أحد في الدنيا يعمل بها، وإن كان من يزعم أن ذلك هو دينه.
   ومهما كان فهمهم لتلك النصوص فإن في الإنجيل نفسه ما يدل على نفي التسامح والدعوة إلى الشقاق والافتراق حتى بين أهل البيت الواحد ، بل والتصريح برفض السلام رأسا، فقد نقل "متى" عن المسيح أنه قال (إصحاح:10/34-37): «لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا، جئت لأفرق بين المرء وأبيه والبنت وأمها والكنة وحماتها فيكون أعداء الإنسان أهل بيته». ونقل لوقا عنه أيضا (إصحاح:12/51-52): «أتظنون أني جئت لأحل السلام في الأرض ؟ أقول لكم لا بل الانقسام فيكون بعد اليوم خمسة في بيت واحد منقسمين …».
    ثم إن في تلك المثالية الغالية مناقضة للفطرة ولشريعة القصاص، وقد نصت عليها التوراة في سفر الخروج (الإصحاح:21/23-27).
التناقض الرابع: ما موقف المسيح من بطرس(أحد تلاميذه)؟
    بعد أن قرأنا تلك الدعوى تعالوا ننظر إلى معاملة المسيح في زعمهم لأحد الحواريين، فقد جاء في إنجيل متى (إصحاح:16/23):« فالتفت وقال لبطرس اذهب عني يا شيطان فأنت لي حجر عثرة لأن أفكارك ليست أفكار الله بل أفكار البشر ». فانظروا كيف غابت تلك المثالية العالية وذلك العفو والصفح ؟ وكيف يصف أحد حوارييه ومحبيه بأنه شيطان؟ وهذا النص الوارد في حق بطرس يسوقنا إلى إيراد نص آخر يناقض تماما ما ورد في هذه الفقرة حيث جاء في متى (إصحاح:16/16-18): «فأجاب سمعان بطرس : أنت المسيح ابن الله الحي فأجابه يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا فليس اللحم والدم كشفا لك هذا بل أبي الذي في السماوات وأنا أقول لك أنت صخر وعلى الصخر سأبني كنيستي فلن يقوى عليها سلطان الموت وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات فما ربطته في الأرض ربط في السماء وما حللته في الأرض حل في السماوات ». فليتأمل العقلاء كيف جعله شيطانا يحمل أفكارا بشرية وأنه حجر عثرة في موضع، ويصفه في موضع آخر قريب منه بالعمدة في الدين وأنه أفكاره مستمدة من وحي الله تعالى، بل وما حلله يكون حلالا عند الله وما حرمه يكون حراما عنده، والربط والحل هو التحريم والتحليل باسم الله في العقيدة والأخلاق كما في هامش الإنجيل طبعة دار المشرق بيروت.
التناقض الخامس : هل كان صلب المسيح برضاه أم رغما عنه ؟
    من أصول عقيدتهم أن الإله حل في الجسد البشري من أجل أن يصلب ويكون ذلك كفارة لخطايا البشر، وهذا يعني أن المسيح كان سيصلب عن رضا وطواعية وهو ما جاء منصوصا في متى (إصحاح:26/45-46):« ها قد اقتربت الساعة التي فيها يسلم ابن الإنسان إلى أيدي الخاطئين قوموا ننطلق ها قد اقترب الذي يسلمني »، وقد نقل ابن القيم من نسخة قديمة أنه جاء في الإنجيل:« لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول؟ يا أبتاه سلمني من هذا الوقت». ولم أجد معنى هذا –مع تغاير طفيف- إلا عند يوحنا (إصحاح:12/27): «الآن نفسي مضطربة فماذا أقول؟ يا أبت نجني من تلك الساعة وما أتيت إلا لتلك الساعة». ولكن "متى" نقل بعد ذلك ما يفيد أن صلبه كان دون رضاه ورغما عنه حيث قال (إصحاح:27/46): «ونحو الساعة الثالثة صرخ يسوع صرخة شديدة قال :إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟».
التناقض السادس : هل شهادة المسيح لنفسه حجة على صدقه؟
   وهذا من أعجب التناقضات الواضحات ، حيث جاء في إنجيل يوحنا (إصحاح:5/31) عن المسيح أنه قال:« لو كنت أشهد أنا لنفسي لما صحت شهادتي هناك آخر يشهد لي». فهذا تصريح بأنه لو شهد لنفسه لم تصح شهادته، ثم إنه نقل عنه بعد ذلك أنه قال (إصحاح:8/14) :« إني وإن شهدت لنفسي فشهادتي تصح ». فأي تناقض أصرح من هذا.
التناقض السابع : هل عرف يحيى عيسى عليهما السلام؟
    مما هو معلوم أن يحيى عليه السلام وعيسى عليه السلام كانا في زمن واحد ، فهل التقيا وهل تعرف يحيى على عيسى؟ يقول "متى" في (الإصحاح:3/13-15): «في ذلك الوقت ظهر يسوع وقد أتى من الجليل إلى الأردن قاصدا يوحنا ليعتمد عن يده فجعل يوحنا يمانعه فيقول أنا احتاج إلى الاعتماد عن يدك أو أنت تأتي إلي؟ فأجابه يسوع: دعني الآن وما أريد فهكذا يحسن بنا أن نتم كل بر فتركه وما أراد». ومقتضى هذا أنه لقيه وعرفه ويقاربه في المعنى ما جاء في  إنجيل يوحنا (إصحاح:1/32-33). ثم قال "متى" بعدها في موضع آخر (إصحاح:11/2-4):« وسمع يوحنا وهو في السجن بأعمال المسيح فأرسل تلاميذه يسأله بلسانهم أأنت الآتي أم آخر ننتظر؟». وفي هذا النص أنه لم يعرفه ولم يلقه.
التناقض الثامن : كيف أُسِر المسيح عندهم ؟
    قد ذكر "متى" القصة المخترعة لكيفية أسر المسيح عليه السلام، وفيها أن الحواري الخائن يهوذا الإسخريوطي جعل للجنود علامة ليعرفوا شخص المسيح المطلوب؛ وهي أنه يقبله دون غيره وهذا نصه (إصحاح:26/48):« وكان الذي أسلمه قد جعل لهم علامة قال : هو ذا الذي أقبله فأمسكوه ودنا من وقته إلى يسوع وقال السلام عليك سيدي وقبله، فقال له يسوع يا صديقي افعل ما جئت له فدنوا وبسطوا أيديهم إلى يسوع فأمسكوه ». ووافقه على ذكر علامة التقبيل مرقس (إصحاح:14/44) ولوقا (إصحاح:22/47). ويخالفهم في كل هذا يوحنا في إنجيله وهذا نص حكايته (إصحاح:18/4-12):« وكان يسوع يعلم جميع ما سيحدث له فخرج وقال لهم من تطلبون؟ أجابوه يسوع الناصري، قال : أنا هو، وكان يهوذا الذي أسلمه واقفا معهم فلما قال لهم : أنا هو رجعوا إلى الوراء ووقعوا إلى الأرض فسألهم ثانية من تطلبون ؟ قالوا يسوع الناصري أجاب يسوع قلت لكم إني أنا هو… ». فلم يذكر يوحنا علامة ولا تقبيلا.
التناقض التاسع: حال اللصين اللذين صلبا مع المسيح
    قد زعم الإنجيليون أن المسيح لم يصلب وحده يوم صلب بل صلب معه لصان، وقد ذكر "متى" أن اللصين كانا يسخران من المسيح عليه السلام حيث قال (إصحاح:27/44):«وكان اللصان المصلوبان معه هما أيضا يعيرانه مثل ذلك». أي أنهما كانا يقولان له : تريد أن تخلص غيرك ولا تقدر أن تخلص نفسك ، ومثله في مرقس (إصحاح:15/32).
    وفي إنجيل لوقا أن واحدا سخر منه فوعظه الثاني ونهاه، قال لوقا (إصحاح: 23/39-43): « وأخذ أحد المجرمين المعلقين على الصليب يشتمه فيقول ألست المسيح؟ فخلص نفسك وخلصنا ! فانتهره الآخر قال : أوَ ما تخاف الله وأنت تعاني العقاب نفسه! أما نحن فعقابنا عدل لأننا نلقى ما تستوجبه أعمالنا. أما هو فلم يعمل سوءا ثم قال اذكرني يا يسوع إذا ما جئت في ملكوتك فقال : الحق أقول لك ستكون اليوم معي في الفردوس». وهذا تناقض ظاهر جعل بعض النصارى المعاصرين يزيدون الإنجيل تحريفا، قال رحمة الله الهندي :« ومترجمو التراجم الهندية المطبوعة سنة 1839م وسنة 1840م وسنة 1844م وسنة 1846م حرفوا عبارة متى ومرقس، وبدلوا المثنى بالمفرد لرفع الاختلاف».
عاشرا : تناقضات في قصة اكتشاف إحياء المسيح
    تذكر الأناجيل المحرفة أن المسيح بعد موته ودفنه قد رجع إلى السماء في قصة عجيبة مملوءة بالاضطراب والاختلاف، وهذا جزء منها كما كتبه متى (إصحاح:28/1-7):« وطلع فجر يوم الأحد جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى تنظران القبر، فإذا زلزال شديد قد حدث ذلك بأن ملاك الرب نزل من السماء، وجاء إلى الحجر فدحرجه وجلس عليه … فارتعد الحرس خوفا منه وصاروا كالأموات فقال الملاك للمرأتين : لا تخافا أنتما أنا أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب . إنه ليس ههنا فقد قام كما قال تعاليا فانظروا الموضع الذي كان قد وضع فيه . وأسرعا في الذهاب إلى تلاميذه وقولا لهم إنه قام من بين الأموات وهاهو يتقدم إلى الجليل فهناك ترونه». وقد اختلف"متى"مع مرقس(إصحاح:16/1-7) ولوقا(إصحاح:24/2-5) ويوحنا(إصحاح:20/1-2)في أربعة أشياء هذا بيانها:
1- ذكر "متى" ومثله لوقا أن وقت مجيء المرأتين كان بعد طلوع الفجر، وقال يوحنا عند طلوع الفجر والظلام لم يزل مخيما ، بينما زعم مرقس أن ذلك كان بعد طلوع الشمس.
2-ذكر "متى" أنه مجيء امرأتين اثنتين بينما ذكر مرقس أنهن كن ثلاثة بإضافة سالومة، وذكر يوحنا أن التي جاءت هي مريم المجدلية وحدها.
3-ذكر "متى" أن الحجر دُحرج وقت حضور المرأتين، بينما يحكي لوقا ومرقس أن النساء وجدن الحجر قد دحرج فدخلن، وحكى يوحنا أن المجدلية لما جاءت ورأت الحجر قد أزيل فرَّت وذهبت إلى تلاميذ المسيح لتخبرهم.
4-ذكر "متى" أن الملاك الذي دحرج الحجر خاطب المرأتين وذكر مرقس أنهن وجدنه داخل القبر، وعند لوقا أنه فاجأهما رجلان وليس واحدا ، أما يوحنا فذكر أن المجدلية قد لقيت المسيح نفسه بعد فرارها وهو قال لها (إصحاح:20/17): « لا تمسكيني إني لم أصعد بعد إلى أبي بل اذهبي إلى إخوتي فقولي لهم إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم». وفي هذه العبارة دلائل على نفي ألوهية المسيح فلتتأمل.
خاتمة
    نظن أنه في هذا القدر كفاية لكل من له مسكة من عقل من المسلمين وغيرهم ليعلم أن هذا الكتاب الذي يوصف بأنه مقدس ليس كله كلام الله تعالى، وأنه قد قام البرهان الواقعي الذي لا مدفع له بأنه قد بدِّل وأنه لا يزال يُبدَّل ، فإنه لو كان من عند الله لما وجد فيه مثل هذه التناقضات، وليس ما ذكر كل التناقضات بل هو منتقى من الواضحات كما سبق، ومن أراد الاستزادة فليراجع كتاب إظهار الحق لرحمة الله الهندي، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الدليل إلى  بشـارات الإنجيل
( بنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم )
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين أما بعد ؛ فإنه رغم إخفاء النصارى للإنجيل الحق وكتمانه، ورغم التحريف والتبديل الذي ألحقوه بما أظهروا منه، فإن الله تعالى قد أعمى بصائرهم وأبصارهم فأبقوا فيما تركوا للناس إشارات كثيرة إلى مبعث النبي محمد  . وما سينقل في هذه الصفحات هو في الحقيقة صفعات للنصارى ولدعاة التنصير، وحجج دامغة يواجه بها المنصرون وينصح بها المتنصرون المغرر بهم(13). وقبل سرد هذه البشارات نذكر أن معنى كلمة الإنجيل التي هي موضوع الكتاب المقدس عندهم وعنوانه هو البشارة، جاء في مرقس (إصحاح:1/14-15): «وبعد اعتقال يوحنا جاء عيسى إلى البرية يعلن بشارة الله فيقول:"جاء الوقت واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالبشارة" ». والذي بشر به عيسى  هو مبعث النبي محمد ، قال الله تعالى : وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ  (الصف:6)، والنصارى يزعمون أن البشارة صلب المسيح (أو مقتل الإله!!) الذي يعتبرونه كفارة لذنوب البشر! وفيما يلي النصوص التي تصدّق المعنى الصحيح، وتكذّب ما زعموه، مرتبة حسب معناها المشترك.
المطلب الأول: الإخبار بانتزاع النبوة من بني إسرائيل
    أول البشارات بنبينا محمد  تلك النصوص التي تؤكد على انتزاع النبوة من بني إسرائيل ، وإن لم تكن النبوة خاصة بهم ، لكنها تدل على أن خاتم الأنبياء والمرسلين يكون من غيرهم ، وقد وردت في مواضع منها :
الموضع الأول : متى الإصحاح (21/44-42)
    « قال لهم يسوع أما قرأتم في الكتب الحجر الذي أخَّره البناءون، هو الذي صار رأس الزاوية من عند الرب فكان ذلك هو عجب في أعيننا لذلك أقول لكم إن ملكوت الله سينزع منكم ويعطى أمة تثمر ثمره،من وقع على هذا الحجر تهشم ومن وقع عليه حطمه ».
     فهذا النص نص صريح في انتزاع النبوة من بني إسرائيل وجعلها في أمة أخرى غيرهم وهي الأمة العربية، والذي عناه عيسى عليه السلام بالحجر في هذا المثل هو محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن النصارى تكلفوا تحريف المعنى فقالوا: إن الحجر هو عيسى عليه السلام نفسه والأمة الأخرى هي الكنيسة! وهذا تأويل باطل لأن الأمة شعب آخر من نسل آخر والكنيسة ليست شعبا، ولأن الكنيسة لم تؤت النبوة. والمسيح عليه السلام في معتقد أغلب النصارى اليوم قد صلب وقتل فداء لذنوب البشر ، فأين هو ذاك التحطيم والتهشيم المخبر به؟
   ومما يؤكد لنا أن هذا النص مما لم يدخله التحريف اللفظي قول النبي صلى الله عليه وسلم:« إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون ويعجبون ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة. قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين »(14).
الموضع الثاني : متى الإصحاح (8/12-11):
    « أقول لكم سوف يأتي أناس كثيرون من المشرق والمغرب فيجالسون إسحاق ويعقوب على المائدة في ملكوت السماوات ، أما بَنُو الملكوت فيلقون في الظلمة البرانية، وهنالك البكاء وصريف الأسنان ».
    وهذا كناية صريحة عن انتزاع النبوة من بني إسرائيل لأن المائدة التي جمعت إسحاق ويعقوب هي مائدة النبوة، واليهود الذين كذب أجدادهم الأنبياء وقتلوهم قد غاضهم جدا انتقال النبوة إلى العرب فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم حسدا من عند أنفسهم، ومعنى البرانية الخارجية.
الموضع الثالث : يوحنا الإصحاح (4/21):
    « قال لها يسوع صديقيني أيتها المرأة تأتي ساعة فيها تعبدون الأب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم». وفي نسخة قديمة(15): «تسجدون لله». وهذا أيضا إخبار واضح بانتقال قبلة الصلاة إلى مكان آخر غير بيت المقدس ، وهو ما حدث ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
 المطلب الثاني : البشارة بالإسلام وبأحمد
   وقد ورد ذلك في عدة مواضع من الإنجيل أبينها ما يأتي :
الموضع الأول : لوقا الإصحاح (2/14-13):
    « وانضم إلى الملاك بغتة جمهور الجند السماويين يسبحون الله ، فيقولون المجد لله في العلى والسلام في الأرض وللناس أهل رضاه ». وفي ترجمة أخرى « وبالناس مسرة ». يقول عبد الأحد داود (قس كاثوليكي أسلم):« إن الترجمة الصحيحة للنص من السريانية إلى العربية هي : المجد والحمد لله في الأعالي ، أوشك أن يجيء الإسلام للأرض، يقدمه للناس أحمد »(16).
الموضع الثاني : يوحنا الإصحاح (14/16-15):
    « إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب يعطيكم معزيا آخر يكون معكم إلى الأبد». وفي طبعة أخرى: «يعطيكم مؤيدا آخر » . وفي أخرى : « مخلصا » ، وفي ترجمة قديمة « فارقليطا آخر ».
    والأصل في هذا الموضع كلمة « فارقليط» وهي غير عربية، وتفسيرها بالعربية «أحمد »، لأن معاني هذه الكلمة بالعبرية تدور حول معاني الحمد، ويدل على هذا تفسيرهم لقول يوشع في العهد القديم :« من عمل حسنة تكون له فارقليطا جيدا». بالحمد الجيد . ومن يقول هو في الترجمة المعزي فاعتماده على اليونانية، ومن يقول هو المخلص فاعتماده على السريانية، والمسيح إنما تكلم بالعبرية لا غير. ولو سلمنا صحة هذه الترجمات فإن وصف المعز والمخلص لم يتحقق بصورة واضحة إلا في محمد صلى الله عليه وسلم الذي خلص البشرية من الشرك وأعز أهل التوحيد ، ثم إنهم اختلفوا في تعيينه ، فمنهم من يقول هو روح القدس، ومنهم من يقول هو المسيح نفسه، ويبطل هذين التأويلين جميعا ما يأتي من أخبار هذا الفارقليط في الإنجيل نفسه من أنه يخبر الناس بما يسمع؛ وذلك لا يكون إلا من بشر مرئي فبطل كونه روح القدس، وكذلك قد أخبر عنه المسيح بأنه يشهد له فتبين أنه غيره(17).
المطلب الثالث : صفات الفارقليط
     ومما يؤكد الدلالة على نبينا  تلك الصفات التي وُصِف بها الفارقليط أو المعزي المنتظر مجيئه ، فإنها صفات لم تتحقق إلا في نبينا  .
الموضع الأول : يوحنا الإصحاح (16/8-7،13-12):
    « لكن أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أذهب ،فإن لم أمض لا يأتيكم المعزي (المؤيد)، أما إذا ذهبت فأرسله إليكم وهو متى جاء أخزى العالم على الخطيئة والبر والدينونة ……لا يزال عندي أشياء كثيرة أقولها لكم لكنكم لا تطيقون حملها الآن ، فمتى جاء روح الحق أرشدكم إلى الحق كله لأنه لن يتكلم من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بما سيحدث».
    والمقصود أنه يخبر بأشراط الساعة وأهوال القيامة وأحوال الآخرة، وهو ما أخبر به النبي  وفصَّله بعد أن كان مجملا في الشرائع السابقة(18).
الموضع الثاني : يوحنا الإصحاح (14/26):
    « ولكن المؤيد (المعزي)روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء ويذكركم ما قلت لكم » . وفي ترجمة قديمة: « والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم ما قلت لكم ».
    ودلالة هذا الموضع ظاهرة على أن الفارقليط ليس هو المسيح عليه السلام، ونقلت هنا الترجمتين قصدا للمقارنة بينهما، حيث دست في الترجمة الحديثة لفظة «باسمي» حتى لا يكون هناك تناقض مع الموضع السابق الذي قال فيه :« فأرسله إليكم». وكذا الموضع الآتي. وكذلك أبدلت كلمة روح الحق بروح القدس ربما لتأييد تفسير الفارقليط بروح القدس والموضع السابق يبطل ذلك، لأنه يخبر الناس ولإخبارهم لابد أن يكون مرئيا.
الموضع الثالث : يوحنا الإصحاح (16/27-26):
    « متى جاء المؤيد الذي أرسله إليكم من لدن الأب روح الحق المنبثق من الأب فهو يشهد لي و أنتم أيضا تشهدون لأنكم معي منذ البدء ». وفي ترجمة قديمة : «إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله روح الحق الذي من أبي هو يشهد لي، قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به و لا تشكوا فيه»(19). وقد اتفقت الترجمتان على أن الفارقليط يشهد له فدل أن الفارقليط ليس هو المسيح عليه السلام، وفي الترجمة القديمة زيادة قصد حذفها لأنها قاضية على كل مزاعم النصارى وهي قوله:« حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه ». ولفظه في طبعة قديمة أخرى كالآتي :« فلو جاء المنحمنا الذي يرسله الله إليكم » ومعنى المنحمنا بالسريانية محمد(20).
المطلب الرابع: النبي الذي سئل عنه يحيى عليه السلام
   وكذلك وردت البشارة بمحمد  باسم النبي وذلك في موضعين اثنين:
الموضع الأول : يوحنا الإصحاح (1/20-19):
     « وهذه شهادة يوحنا (أي يحي عليه السلام)إذ أرسل إليه اليهود من أورشليم بعض الكهنة واللاويين يسألونه من أنت؟ فاعترف ولم ينكر؛ اعترف: لست المسيح. فسألوه: من أنت إذا؟ أأنت إيليا؟ قال: لست إياه . أ أنت النبي؟ أجاب: لا». ثم قيل له كما في العدد (25):« إذا لم تكن المسيح ولا إيليا ولا النبي، فلما تعمد؟».   
    وموضع الدلالة أنهم كانوا ينتظرون ثلاثة: المسيح ، وإيليا الذي هو عند اليهود والنصارى إلياس يعتقدون أنه لم يمت وأنه رفع إلى السماء، والنبي المعرف بلام العهد والمشار إليه على أنه معروف ومنتظر ، لا شك أنه النبي محمد   . وفي تحديد هوية إيليا راجع ما سطرناه في التناقضات. وقد ذهب بعض المسلمين إلى أن المقصود به محمد  وليس على ذلك دليل معقول من اللغات أو الأناجيل ، وهذا النص يرده أيضا .
الموضع الثاني : متى الإصحاح (3/11):
    عن يحيى عليه السلام قال:« أنا أعمدكم في الماء من التوبة ، وأما الذي يأتي بعدي فهو أقوى مني، من لست أهلا لأن أخلع نعليه.إنه سيعمدكم في الروح القدس والنار» . ونحوه عند مرقس (إصحاح:1/7-8).
     والنبي الذي يأتي بعده هو محمد وليس هو المسيح لأنه كان في زمانه بل يقال إنهما ولدا في سنة واحدة، وقد أشار قبل هذا إلى أنه من ولد إبراهيم ، وما علا في النسب في هذا الموضع إلا للدلالة على أنه في ولد إبراهيم من هو خير من اليهود.
    هذا ما أمكن الوقوف عليه من البشارات في الأناجيل الأربعة القانونية عند النصارى، وصح اعتباره، وبالنسبة للمسلمين فإن القرآن المحفوظ قد أخبر بوجود هذه البشارات في الإنجيل المنزل، بل وأيضا في التوراة . قال المولى عز وجل: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الأعراف:157) والحمد لله وحده ولا رب سواه.
التنصير والإرهاب
     الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين ولا عدوان إلا على الظالمين ، أما بعد : فإنه لما كان مما يعتمده دعاة التنصير في هذه الأيام لتنفير المسلمين عن دينهم والدعاية لملتهم، الترويج لما يسميه الغرب الصليبي اليوم "إرهابا"، رأينا أن نكتب مقالا نكشف فيه للناس حقيقة دعاة التنصير، وأنهم هم الإرهابيون حقا، وأن ما يفعله بعض جهال المسلمين اليوم، قد فعل أضعاف أضعافه رهبان النصارى وقساوستهم بالأمس، وذلك بنقل شيء من أخبار محاكم التفتيش في الأندلس.
لماذا الحديث عن الأندلس ؟
    وقد اخترنا الحديث عن الأندلس لنذكِّر أبناء الإسلام أن تلك البلاد (إسبانيا والبرتغال) قد كانت في يوم من الأيام بلادا إسلامية، كانت تنجب العلماء والمجاهدين طوال ثمانية قرون، اخترنا الحديث عن الأندلس لأن الإبادة بلغت فيها منتهاها حيث كان فيها عام سقطت آخر ممالكها الإسلامية سنة (1492م) ما بين ستة ملايين وثمانية ملايين مسلم، وكان في غرناطة وحدها نحو المليون مسلم، فجاء زمان لم يعد يوجد فيها من يقول لا إله إلا الله، لأنها حرب شنت على أهل دين ضمن لهؤلاء النصارى حقهم في البقاء وفي أداء شعائر دينهم طوال تلك القرون، فلما تغلبوا عليهم لم يرقبوا فيهم قرابة ولا ذمة، ولأنها حرب دامت أكثر من ثلاثمائة عام، ولقد كانت حربا استئصالية فعلا، حرب تنصير قهري وتهجير وطرد، إنها حرب قذرة لم يعرف التاريخ لها نظيرا، حرب اقتلعت أمة بأسرها فلم يبق في الأرض ما يدل عليها إلا بعض القصور والمساجد التي حولت إلى كنائس أو متاحف، وحق لنا التساؤل اليوم: من هم الإرهابيون حقا وأي دين هو دين الإرهاب فعلا ؟
قرارات كنسية غاشمة وأعمال ظالمة
-في سنة 1499م صدر قرار بتعميد أبناء المسلمين في جميع أنحاء غرناطة . وفيها أحرق ما يقرب من المليون كتاب إسلامي في يوم واحد في حفل حضره الملك ورئيس الرهبان. وحكت بعض المصادر أنه قدمت رشاوي لبعض الوزراء والفقهاء ليتنصروا فيقتدي بهم الناس، ومن رفض منهم تعرض للتصفية الجسدية.
-في سنة 1501م صدر أمر بطرد المسلمين من مدينة غرناطة ، وبمنع ممارسة شعائر الإسلام وتعلم العربية.
-في سنة 1502م صدر قرار يخير المسلمين بين الرحيل وبين التنصر، فاختار نحو من ثلاثمائة ألف مسلم الرحيل إلى المغرب ومصر والشام، واختار أكثرهم إظهار النصرانية تقية حفاظا على سلامتهم وسلامة أبنائهم. وقد عرفوا باسم المورسكيين « أي المسلمين الصغار»، ولم يدر هؤلاء عن أن محاكم التفتيش ستعمل فيهم عملها. وقد حكى من أرخ لأحداث تلك الحقبة ممن عاصرها أنه صدرت قوانين عقابية ضد المورسكيين، ومن جملة المخالفات التي ذكروا: اللباس النظيف يوم الجمعة، ذكر اسم محمد، ختان الأولاد وتسميتهم بأسماء عربية، وتغسيل الموتى ورفض الأكل في رمضان ورفض شرب الخمر ، وغيرها من الأمور التي تدل أنهم رجعوا إلى الإسلام أو أنهم ما زالوا مسلمين.
 -في سنة 1511م تمت مصادرة الكتب الإسلامية من أصحابها، وذلك بقصد تجهيل الناشئة بدينهم.
-في سنة 1512م صدر أمر جديد بتخيير المسلمين بين الرحيل أو التنصر.
-في سنة 1518م صدر أمر بمنع اللباس العربي (الإسلامي)، وذلك سعيا لطمس كل ما يذكر الناس بتاريخهم أو دينهم.
-في سنة 1524م صدر قرار يؤكد على إجبار كل مسلم أن يختار الرحيل أو التنصر وإلا كان مصيره الاسترقاق مدى الحياة ، وفيها تم تحويل جميع المساجد المتبقية إلى كنائس وحرم التكلم والتكاتب باللغة العربية ، كما منعت كل عادة عرف بها المسلمون دينية كانت أو غير دينية .
-في سنة 1525م صدر قرار يمنع من جملة من الحقوق المدنية ويجبر المسلمين على ملابس معينة، وفيها أعيد فرض التعميد على أبناء المسلمين ، كما أمر بإخلاء مدينة بلنسية من المسلمين .
-في سنة 1579م صدر أمر بمنع المسلمين في المناطق الشمالية من إسبانيا من الاتصال بالعالم الخارجي، وكذا القبض على كل الفقهاء لأنهم وسيله نقل للإسلام والحفاظ عليه وكذا الرؤساء والوجهاء.
متى تأسست محاكم التفتيش ولماذا ؟
   لقد تأسست هذه المحاكم الكنسية في الوقت الذي دب الضعف في دويلات الإسلام في الأندلس، فبدأت بالسقوط واحدة فواحدة ، فعهد تأسيسها يرجع إلى ما قبل سقوط غرناطة؛ لكن بسقوطها خرجت تلك المحاكم إلى العمل العلني الواسع، وكان هدفها تنصير المسلمين أو تصفيتهم، بعد سقوط جميع الدول التي كانت تحمي بيضتهم، ولقد جهزوا أول الأمر جيشا من الرهبان والراهبات بقصد الدعاية للنصرانية، لكن سرعان ما رجعوا يجرون أذيال الخيبة، وأيقنوا أن من عرف الإسلام لا يمكن أن يتركه لأي دين آخر، وكانوا قد علموا أن المسلمين مهما انهزموا فإنهم إن لم يخرجوهم عن دينهم ويبعدوهم منه ، فإنهم سيعودون أقوياء كما كانوا وسيتغلبون عليهم طال الزمن أم قصر، لذلك عزموا على خوض حرب استئصالية ضد الملايين من المسلمين، ضد ذلك العدد الضخم جدا (ستة ملايين على الأقل)، ولا شك أنكم تعلمون أن سكان الجزائر كلها لم يبلغ هذا العدد إلا في منتصف القرن العشرين، فشرعوا في الاضطهاد والتعذيب والقتل، وكل ما يتصوره العقل من ألوان العنف، في حق من يثبت عنه أنه يقوم بالعبادات الإسلامية التي منعتها الكنيسة ووصفت فاعليها بالمرتدين ومن يقومون بأعمال الكفر . فكان من قبض عليه فاعترف بذلك قتل مباشرة: شنقا أو حرقا، أو رميا من علو حتى يكون عبرة لغيره ، ومن أنكر فإنه يتعرض للتعذيب الشديد ليعترف بما فعل ومن اعترف يواصلون تعذيبه ليدل على غيره، ولا يفرج إلا عمن اعترف وكانت تهمته لا تصل إلى حد الكفر -عندهم -!! وهو مع ذلك معرض للعقوبة المالية ولدفع تكاليف إقامته في سجن الكنيسة!!
فضيحة على يد نابليون
    لقد استمروا على مثل هذا زمنا طويلا، ومما نقله المؤرخون مثلا أنه في سنة 1769م اكتشفت الكنيسة مسجدا صغيرا للمسلمين في قرطاجنة، فنالهم بذلك العقاب الشديد، وهذا الأمر الظاهر الذي بلغنا، وأما ما كان يجري في دهاليز الكنائس فلا يعلمه إلا الله تعالى، وقد سخر الرب جل شأنه من يكشف للأجيال ما كان يجري فيها ، فكان بعض ذلك على يد جنود نابليون حيث أنه أصدر مرسومه بإلغاء محاكم التفتيش سنة 1808م(21)، فاقتحم بعض جنوده إحدى الكنائس في مدريد بعد بلاغ وصلهم بعدم انصياع الرهبان للمرسوم، ورغم إنكار الرهبان أصر أحد ضباط الحملة الفرنسية على مدريد على البحث، فاكتشف بعد ذلك دهاليز مظلمة تحت الأرض لا يُعلم ما فيها، فلما دخلوها وجدوا ما لا ينقضي منه العجب، وجدوا سجناء أحياء من النساء والرجال حفاة عراة تتراوح أعمارهم ما بين أربع عشرة سنة إلى أربع وسبعين سنة، وكان بعضهم قد أصيب بالجنون من التعذيب أو الخوف ، ووجدوا جثثا لآخرين في غرف على حجم الإنسان أفقية وأخرى عمودية، وكانوا يتركون تلك الجثث على حالها حتى يبلى اللحم ولا يبقى منها إلا العظم. كما اطلعوا على آلات التعذيب في غرف خاصة بها ، منها آلات خاصة بتكسير العظام وسحق الجسم تأتي على جسم الإنسان ابتداء من قدميه إلى رأسه وتخرجه من الجهة الأخرى كتلة واحدة ، ووجدوا صناديق على حجم رأس الإنسان تماما فيه ثقب من أعلاه توضع على رأس المعذب ويقطر عليه ماء بارد بانتظام حتى يجن ثم يموت، كما عثروا على آلة تسمى السيدة الجميلة وهي تابوت تنام فيه صورة امرأة مصنوعة على هيئة الاستعداد لعناق من ينام معها، وفي جوانب التابوت سكاكين حادة بارزة، يطرحون الشاب فوق هذه الصورة فتنطبق عليه تلك السكاكين فيتقطع ويموت ببطء، وعثروا على آلات لسل اللسان وأخرى لتمزيق أثداء النساء وآلات جلد تجعل الجلد يتناثر عن العظم. ولم تكن نهاية المحاكم بحكم نابليون ولا بعده فقد عادت للعمل العلني سنة 1814م ليكون آخر أخبارها يرجع إلى سنة 1835م. أما في غير إسبانيا فلا تزال موجودة إلى يوم الناس هذا(22).
شهادة مورسكية
    هذه شهادة محمد بن عبد الرفيع الجياني الأندلسي المتوفى بمكة سنة 1642م في كتابه الأنوار النبوية يحكي فيه شيئا من أحواله في صغره، فيذكر أنه كان يحمل ليعلم في مكتب النصارى ابتداء من سن الرابعة، ولما بلغ السادسة شرع والده في تعليمه العربية وعلوم الشريعة، وأوصاه بالكتمان وشدد عليه في الوصية ألا يخبر بذلك أحدا حتى أمه وعمه، ذلك أن الكنيسة كانت تتابع كل من يعلم أبناءه أي شيء عن الإسلام، وكان أبوه إذا أراد أن يمتحن كتمانه يرسل إليه أمه لتسأله عن ذلك فكان ينكر، وكذلك يفعل مع عمه فكان دائما ينكر، فلما اطمأن إلى كتمانه سمح له أن يخبر أمه وعمه وبعض أصحابه الذين كانوا يأتون إلى دارهم ويتحدثون في أمر الدين سرا …وكان ابن عبد الرفيع ممن خرج من الأندلس فارا بدينه سنة 1609م(أو ممن أخرج منها قهرا كما سيأتي)، فاستقر في تونس وفيها ألف كتابه المذكور.
مأساة التهجير القسري
    يعتبر بعضهم التهجير الذي فرضه الملك فيليب الثالث سنة 1609م نهاية مأساة، ولكنه عند آخرين هو في حد ذاته مأساة ، إذ كيف يرحل هؤلاء عن أرض ليس لهم سواها ولم يعرفوا هم ولا آباؤهم غيرها ؟ إنها مأساة حركت مؤرخي النصارى بل وحتى شعراءهم في ذلك الوقت الذين ألفوا في وصفها ملاحم شعرية (ومنهم جاسبير أجيلار، وخوان منديز، وبريز دي كولا)، ويقول عبد الله حمادي : «هكذا يلاحظ أن غالبية المؤرخين الذين عاصروا الأحداث، وكذلك الشعراء يقرون ضمنيا بانتماء هؤلاء إلى الأرض الإسبانية، كما يعترفون بمواطنتهم وأنه لا أرض لهم سواها ». ولكن الحفاظ على الوحدة الدينية والسياسية في زعمهم كان فوق كل اعتبار، فإن عرقهم لم يكن ليجمعهم وقد اختلفت عقائدهم، نعم لم يكن ذلك نهاية مأساة بل هو بدايتها لأن من رفض القرار ناله القتل والتحريق، والذين سلموا منه فقد بقوا منذ ذلك العصر أقلية لا يمكنها أن تجهر بشيء من دينها حتى انمحت ولم يبق لها أي أثر.  
نتائج الإرهاب النصراني
     لقد كان من نتائج هذا الإرهاب والتعذيب والتقتيل أن فني ستة ملايين -على أقل تقدير -من أرض إسبانيا والبرتغال ، وما دام الحال قد استمر قرونا فمن الخطأ أن نتساءل عن مصير هذا العدد بل التساؤل يكون عن ضعفه أو أضعافه –ربما - لأن عدد المسلمين لا يمكن أن يبقى ثابتا طيلة هذه المدد، ومع ذلك ننقل ما ذكره بعض المؤرخين من أن عدد من رحل وطرد ثلاثة ملايين وأن عدد من قتل مليونان، والآخرون تنصروا أو تظاهروا بالتنصر فعملت فيهم يد محاكم التفتيش عملها.
   ولقد بقي كثير منهم لا مسلمين ولا نصارى ومن هؤلاء بعض الناس في طليطلة التي سقطت في يد النصارى سنة (1085) فبقي فيها مسلمون إلى غاية سنة 1329م، واستدل بعض المؤرخين على ذلك بمحافظتهم على التضحية يوم العيد ، وقد ذكر شكيب أرسلان أنهم لم يزالوا يذبحون الأكباش يوم الأضحى إلى غاية عصر قريب لكن يعتبرون ذلك من عادات آبائهم .
   ونقل بعضهم أنه لما صدر قرار إباحة ممارسة الديانات الأخرى في إسبانيا قبل عقود قلائل أعلنت ست مائة (600) أسرة إسبانية أنها ما تزال مسلمة ونشر ذلك في صحيفة أمريكية، مسلمة (إن صح هذا) انتماء وولاء بالقلب ليس إلا، لكن في هذا دلالة على الجبر والقهر الذي تلقاه آباؤهم لا لشيء إلا لكونهم مسلمين.
   وقد كشف في النصف الثاني من القرن الماضي مقابر جماعية في مناطق متفرقة من إسبانيا ، منها تلك التي كشف أمرها سنة 1979م جنوب إسبانيا بالقرب من الحدود الإسبانية البرتغالية في كنيسة مدينة «يرينا»، فقد نشرت الصحافة الإسبانية صورا عنها تعبر عن بشاعة وعدوانية ووحشية محاكم التفتيش الإسبانية الصليبية ضد المسلمين الإسبان ، حيث وجدت بقايا الجثث في دهليز تحت الكنيسة، وجدت العظام مشوهة أو مهشمة أو مقطعة، ومهما ستروا ومهما أنكروا فإن الحق واضح وعليه أكثر من دليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
مصادر المقالة :
1-محاكم التفتيش الغاشمة وأساليبها لعبد الرحمن علي الحجي طبع شركة الشهاب
2-المورسكيون ومحاكم التفتيش في الأندلس لعبد الله حمادي طبع المؤسسة الوطنية للكتاب
3-وتذكروا من الأندلس الإبادة بقلم أحمد رائف طبع ديوان المطبوعات الجامعية.
من شبهات النصارى
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإننا رأينا أن نبين في هذه المقالة فساد بعض عقائد النصارى والرد على شيء من الشبهات التي يوردون على أبناء المسلمين ليردوهم ويلبسوا عليهم أمر دينهم، وذلك تثبيتا لعقائد الإسلام اليقينية ودفعا لبعض التشكيكات التي انتشرت في بعض الأوساط في بلادنا، وقد اخترنا من مجموع تلك العقائد والشبه أخطرها وأكثرها انتشارا.
الشبهة الأولى : حرية العقيدة
    مما يلبس به دعاة التنصير على من ذكرت كمرحلة أولى -وقد يقتصرون على هذا التلبيس ابتداء- قولهم إن الإنسان حر في اختيار عقيدته سواء كان مسلما أو نصرانيا أو يهوديا المهم أنه يكون مخلصا في عبادته.
    وهذا القول باطل عند أهل الديانات جميعا ، يقول الله تعالى في كتابه العزيز : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلام (آل عمران:19) وقال سبحانه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران:85)، فالله تعالى لا يقبل من أحد أي دين بعد بعثة محمد   إلا أن يكون مسلما. وقال تعالى مخبرا عن عقيدة اليهود والنصارى : وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ (البقرة:113)، بل النصارى فيما بينهم يكفر بعضهم بعضا، فالبروتستانت يكفرون الكاثوليك والأرثودكس، والكاثوليك كذلك يكفرون غيرهم والأرثوذكس أيضا. بل هذا القول باطل عند جميع العقلاء، فلو أن إنسانا تائها سأل عن الاتجاه الموصل إلى المخرج الوحيد فقال له شخص اتجه شمالا وقال آخر: اتجه جنوبا، فهل يعقل أن يكون كلاهما صادقا؟ يستحيل أن يُصدَّقا جميعا كما يستحيل اجتماع النقيضين، وكيف يصح قول من زعم أن الإله واحد مع من قال إنه ثلاثة في آن واحد؟ وكيف يصح ذلك والمسلمون يعتقدون أن من لم يؤمن بوحدانية الإله وبرسالة محمد  كافر من أهل النار ، والنصارى يقولون أن من لم يؤمن بألوهية عيسى عليه السلام كافر من أهل النار؟
    ثم نقول لهم ما دام هذا هو زعمكم وأنتم تدعون الصدق في ذلك فدعونا وديننا، فلم أزعجتم أنفسكم وأنفقتم أموالكم في تغيير عقائد المسلمين ودعوتهم إلى النصرانية ، ولماذا حارب أجدادكم أسلافنا وأرهبوهم من أجل العقيدة؟! وبالنسبة للمسلمين فإنهم يقولون إن اعتقاد صحة دين النصارى كفر مخرج من الإسلام ولو لم يعتنق صاحب هذا الاعتقاد النصرانية فالحذر الحذر.
الشبهة الثانية : أن محمدا  نبي العرب خاصة
    ومما يصرح به المنصرون للأجناس غير العربية من المسلمين أن محمدا  نبي ولكنه أرسل إلى العرب خاصة، وهذا تضليل منهم للناس واستغلال للنـزعات العرقية والشعوبية، وإلا فهم في الواقع لا يؤمنون به لا نبيا للعرب ولا لغيرهم، وإلا فلماذا هم يسعون جاهدين في محاربة دينه؟ وينفقون ملايير الدولارات من أجل تنصير العرب المسلمين في الجزيرة العربية وغيرها؟ ولماذا لم يأذنوا لنصارى المشرق العرب أن يسلموا، وإذا كان الإسلام دين العرب، فأين دليل عالمية النصرانية دون غيرها ؟ فلماذا تريدون من الهندي والزنجي والقبطي والكردي والبربري أن يكون نصرانيا متبعا لنبي إسرائيلي(عيسى عليه السلام) ، وهم ليسوا من بني إسرائيل ؟
    والذي نعتقده نحن المسلمون أن الأنبياء كانوا يبعثون إلى أممهم خاصة وبعث النبي محمد  إلى الناس كافة ، قال تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً  (الأعراف:158)، وبينما قال في حق عيسى عليه السلام: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ  (الصف:6)، وفي هذا أن عيسى أرسل إلى بني إسرائيل خاصة، وأنهم معنيون بدعوة محمد  (وهو أحمد)، ورغم ما لحق الإنجيل من تحريف فقد بقي فيه نص يبين أن المسيح عليه السلام أرسل إلى بني إسرائيل الضُلَّال دون من سواهم، وقد جاء في إنجيل متى (إصحاح:14/24):« لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة »، وفي ترجمة أخرى:«ما أرسلت إلا إلى الخراف الضالة إلى بيت إسرائيل».
الشبهة الثالثة : هل الإسلام هو سبب تخلف المسلمين ؟
    ومن الأمور التي يشوش بها المنصرون-ويشاركهم في ذلك العلمانيون – على أبناء المسلمين أن سبب تخلف المسلمين هو تمسكهم بهذا الدين ، وكأن النصرانية هي سلم الرقي وطريق الحضارة ، ونحن نجيب عن هذا بالإحالة إلى ما كتبه العلمانيون والشيوعيون عن النصرانية حيث تتفق كلمتهم على أن النصرانية هي أفيون الشعوب ، ولنلق نظرة خاطفة في تاريخ أوروبا متى كانت في الظلمات، ومتى عرفت النهضة المادية والحضارية؟ وكيف كانت الكنيسة في القرون الوسطى تعامل العلماء؟ وما هو موقفها من العلم؟ لنتبين صدق ما قالوا، وهذا نص من الكتاب المقدس (المحرف طبعا) فيه تأكيد على تزهيد النصرانية في العلم والمعرفة حيث يزعم كاتبه أن الله تعالى قال لآدم :« ولكن إياك أن تأكل من شجرة معرفة الخير والشر لأنك حين تأكل منها حتما تموت» سفر التكوين (إصحاح:2/17)، فانظروا كيف جعلوا الأكل من شجر المعرفة محرما وموجبا للهلاك ، وهكذا كانوا يصنعون بالعلماء حتى انتفض عليهم العلمانيون . ومن جهة أخرى نقول إن المسلمين يوم كانوا متمسكين بدينهم كانوا هم قادة العالم، وكانوا يعيشون في الأنوار بينما كانت أوروبا تتخبط في الظلمات ، ولكنهم لما تخلوا عن تعاليم دينهم وفسدت أخلاقهم وضعف إيمانهم بالله، وأصبحوا ماديين متنافسين على الدنيا سلط الله تعالى عليهم أعداءهم (النصارى) فاستعمروا أراضيهم ونهبوا خيراتهم ودمروا منشآتهم العلمية والتعليمية وحرموهم من العلم والمعرفة، فصاروا إلى ما صاروا إليه، فسبب تخلف المسلمين هو تخليهم عن دينهم من جهة ، وتسلط الاستعمار الصليبي عليهم من جهة أخرى وليس هو الإسلام .
الشبهة الرابعة : عقيدة الخطيئة المتوارثة
    إن النصارى يزعمون أن كل واحد منا يولد مذنبا وارثا لذنب آدم عليه السلام، هذا الذنب الذي صلب الإله ابنه لأجله- أو صلب نفسه أو جزئا منه على خلاف بينهم -لأجل محوه وعدم مؤاخذة الناس به.
    الجواب: أن من عقيدة المسلمين ما قاله الله تعالى:  وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الزمر:7) فكل واحد يؤاخذ بصنيعه لا بصنيع غيره مهما كانت العلاقة بينهما، ومن عقيدتهم أيضا (المسلمين) أن آدم عليه السلام تاب فتاب الله عليه وجعله نبيا بعد ذلك، قال سبحانه: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (طـه:121-122). ثم يقال كيف صح في أذهان العقلاء أن يجعل الإلهُ الناسَ مذنبين من غير فعل اجترحوه ولا ذنب اقترفوه؟ ولازم قولهم أنه من يموت قبل أن يعقل يموت مذنبا كافرا من أهل النار، وهذا بخلاف عقيدة المسلمين أن المولود يولد صفحة بيضاء قابلة للحق مائلة إلى الحق والخير كما قال الرسول  :« كل مولود يولد على الفطرة»(23) -وقيل الفطرة هي الإسلام -.
الشبهة الخامسة : عقيدة الصلب والفداء
    وذلك أنهم يقولون إن صُلب المسيح كان تكفيرا لهذه الخطيئة ولخطايا الناس التي يقترفون فمهما عصى الناس فسيغفر لهم لأن المسيح صلب؛ وذلك بشرط أن يؤمنوا بأنه فعل ذلك من أجلهم .
    الجواب عن هذا بأن صلب المسيح عليه السلام أصلا لم يحدث، لكن صُلب غيره، قال الله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ (النساء:157) وقال: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه (النساء:158)، في إنجيل "برنابا" أن الذي صلب هو يهوذا الإسخريوطي الحواري الخائن. ثم يقال كيف قبلت عقولهم أن الذنوب تمحى بتضحية غير فاعلها؟ فلو لطخ أحدنا ثوبه فهل ينفعه أن يغسل غيره ثوبا غير الثوب الملطخ ، إذن فليكن إيمان القساوسة نائبا عن إيماننا ومغنيا عنه ، وكيف استقام في عقولهم أن الإله الذي سيحاسب الناس يوم القيامة يُقدر عليه ويُقتل صلبا، ألا يمكن أن يصلبوه مرة أخرى يوم القيامة ، ويا ترى من كان يسير الكون بالنيابة عنه في الأيام الثلاثة التي كان فيها مصلوبا ميتا؟ فإن قيل هو الأب قيل سيأتي نقض هذا الزعم في العقيدة التالية.
الشبهة السادسة : ألوهية المسيح
     لقد قالوا المسيح هو ابن الله، وقالوا ثالث ثلاثة وأكثرهم يصرح الآن بأنه هو الله، ويستدلون بفاتحة إنجيل يوحنا:«في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله »، ومع ذلك يقولون إنه حل في جسد ابن مريم (الذي هو ولده عندهم) وهو ما يعبرون عنه باختلاط اللاهوت بالناسوت.
   والجواب عن هذه الترهات بأننا معاشر المسلمين نعتقد أن الله واحد وأنه الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء لم يلد ولم يولد، وتعالى وتنـزه عن أن يكون له ولد، وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل ليعبدوا الله وحده ، قال تعالى :قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا وقال سبحانه : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المائدة:72-73).
    وعقيدة التثليث عقيدة وثنية تبناها النصارى رسميا في القرن الثالث للميلاد، وقد اقتبسوها من ديانات قديمة يمكن أن تكون أحد هذه الديانات :
1-الهنود البراهميون فالإله عندهم متكون من ثلاثة أقانيم (براهما ، فشنو أو كرشنا وسيفا ) الأول هو الأب ويمثل مبادئ الخلق والتكوين والثاني هو الابن ويمثل مبادئ الحماية والحفظ، ويقولون إنه ولد من العذراء العفيفة ديفاكي وتجسد فيه الأب لتخليص العالم من الخطايا، ويقولون عنه إنه مات مصلوبا ثم قام من بين الأموات تماما كما يزعم النصارى، والثالث هو المبدئ المهلك والمبيد والمعيد ويرمزون له كما يرمز له النصارى بصورة حمامة.
2-البوذيون إلا أنهم يجعلون بوذا هو الابن المولود من العذراء مايا ، ويقولون إنه قام وصعد إلى السماء بعد أن مات، وهم يعتقدون أن بوذا تحمل الذنوب التي ارتكبت في الدنيا.
3-قدماء المصريين (700 سنة قبل الميلاد ) وأسماء الأقانيم الثلاثة عندهم (آمون وهو الأب وكونس الابن وموث الأم ، وصورة الثلاثة عندهم –في رسوماتهم-شيخ هرم وشاب يحمل صليبا وجناحي صقر.
    وهذه العقيدة باطلة تردها الفطرة والعقل .
-وقال:مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (المؤمنون91). وقال سبحانه : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا (الأنبياء:22) لأن تعدد الآلهة يؤدي إلى الاختلاف والتنازع وذلك يؤدي حتما إلى فساد نظام العالم. -وقال عز وجل : بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (الأنعام:101) . فإثبات الولد لله تعالى يستلزم إثبات الزوجة وهو أمر محال تعالى الله عنه علوا كبيرا.
-وقال سبحانه : وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (البقرة:117) فالله تعالى لا يعجزه شيء وهو الملك الغني الذي لا يحتاج إلى شريك ولا ولد .      ومن نظر أيضا في هذه الأناجيل المحرفة وجد فيها من الأدلة التي تنفي ألوهية المسيح الشيء الكثير ، خاصة المواضع التي يوصف فيها بالعبد المطيع لله تعالى فالمسيح كان يصلي كما في متى (إصحاح:26/36) وكان يصوم كما في متى (إصحاح:4/4)، وكان يدعو الله سبحانه وهذا في مواضع كثيرة وهذا يدل على أنه كان مكلفا بالعبادة والإله يُعبَد ولا يكلف بالعبادة، ومنها المواضع التي يصرح فيها بأنه نبي وأن الله أرسله وغير ذلك ، وهذه الأدلة تحتاج إلى جمع وتصنيف لكثرتها وتنوعها.
    وربما يطرح بعض الناس هنا سؤالا وجيها فيقول إذا كان المسيح إلها وثالث ثلاثة فما مصير بني آدم الذين ماتوا قبل ميلاد المسيح ؟ وما مصير من كان من أتباع الرسل خاصة ؟ فيجيبه النصارى بأن المسيح بعد أن صلب دخل جهنم وبقي فيها ثلاثة أيام قبل أن يصعد إلى السماء– وذلك تكفيرا للخطيئة –فاستغل فرصة وجوده فيها ليدعو الذين ماتوا قبله ولم يتمكنوا من الإيمان به !!! إله يدخل النار!! وأناس يؤمنون وهم في النار !! ما هذه الخرافات ، وهل يمكن لمسلم عرف الإسلام أن يرجع عنه ليعتقد مثل هذه الترهات . هذا آخر ما أردنا تسطيره في هذه المقالة ، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
حقيقة المسيح في نظر الإنجيل
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فهذه مقالة أخرى في مواجهة المد التنصيري، نحاول أن نبين فيها حقيقة من الحقائق التي يجهلها كثير من النصارى والمتنصرين المرتدين عن الإسلام، وهي أن الإنجيل يبطل ألوهية المسيح ويؤكد على بشريته، وأن المسيح عليه السلام ما هو إلا بشر رسول من عند الله تعالى إلى بني إسرائيل، ونظهر في آخرها أيضا حقيقة تاريخية يجهلها كثير من النصارى وهي قصة بداية عقيدة التثليث وألوهية المسيح .
أولا : عيسى يدعو إلى عبادة الله وحده
    إن الذي لا شك فيه أن دعوة عيسى عليه السلام لا تختلف عن دعوة الأنبياء قبله وهي الدعوة إلى عبادة الله وحده، لم يأت عيسى عليه السلام ليكذب التوراة أو ينقضها ، بل ليصدقها ويدعو للعمل بها، ففي مرقس (إصحاح:12/28-34) : «ودنا إليه أحد الكتبة، وكان قد سمعهم يجادلونه ورأى أنه أحسن الرد عليهم، فسأله ما الوصية الأولى من الوصايا كلها ؟ فأجاب يسوع:" الوصية الأولى هي اسمع يا إسرائيل إن الرب إلهنا هو الرب الأحد ، فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وبكل نفسك وكل ذهنك وكل قوتك، والثانية هي أحبب قريبك حبك لنفسك ولا وصية أخرى أكبر من هاتين ". فقال الكاتب أحسنت يا معلم لقد أصبت إذ قلت أنه الأحد وليس من دونه آخر، وأن يحبه الإنسان بكل قلبه وكل عقله وكل قوته ، وأن يحب قريبه حبه لنفسه أفضل من كل محرقة وذبيحة . فلما رأى يسوع أنه أجاب بفطنة قال له : لست بعيدا من ملكوت الله ».
   والنص المشار إليه في العهد القديم في سفر التثنية (إصحاح6/4-8):« اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد فتحب الرب إلهك من كل قلبك ، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك، ولتكن هذه الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك ، وقصها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق، وحين تقوم واربطها علامة على يدك ، ولتكن عصائب بين عينيك ، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك ». وفي متى (إصحاح:4/8-10):« وأخذه إبليس إلى جبل عال جدا ، فأراه جميع ممالك الدنيا ومجدها وقال له : أعطيك هذا كله إن سجدت لي وعبدتني، فأجابه يسوع : ابتعد عني يا شيطان ! لأن الكتاب يقول للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ». ونحوه في لوقا (إصحاح:4/6-8). وإلى هذا كان يدعو المسيح إلى آخر لحظة قبل أن يرفعه الله إلى السماء. في متى (إصحاح:23/8-10):« أما أنتم فلا تسمحوا بأن يدعوكم أحد يا معلم ، لأنكم كلكم إخوة، ولكم معلم واحد هو المسيح ، ولا تدعوا أحدا على الأرض يا أبانا ، لأن لكم أبا واحدا هو الأب السماوي».
   وقد جاء في آخر إنجيل يوحنا (إصحاح:20/17)أنه قال :« لا تمسكيني إني لم أصعد بعد إلى أبي، بل اذهبي إلى إخوتي فقولي لهم إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم». فبين أنه مألوه كما أن الحواريين إخوانه مألوهين لم يقل إني إلههم، وقوله "أبي وأبيكم" يبين أيضا أن الأب كان يطلق على الرب في شريعتهم.
ثانيا : المسيح يشهد أنه رسول
   إنه ليس في الأناجيل الأربعة نص صريح على ألوهية المسيح على لسان عيسى عليه السلام ، رغم ما فيها من تحريف وتبديل ، بل فيها النص على أنه رسول من عند الله تعالى ، وهذه بعض المواضع: جاء في يوحنا (إصحاح6/14):« فلما رأى الناس هذه الآية التي صنعها يسوع قالوا بالحقيقة هذا هو النبي الآتي إلى العالم». وفيه أيضا (إصحاح17/3):« والحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ، ويعرفوا يسوع المسيح الذي أرسلته ». وفيه (إصحاح17/8): «بلغتهم الكلام الذي بلغتني فقبلوه وعرفوه حق المعرفة أني جئت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني». وجاء في متى (إصحاح21/10-11):« ولما دخل يسوع أورشليم ضجت المدينة كلها وسألت من هذا ؟ فأجابت الجموع : هذا هو النبي يسوع من ناصرة الجليل ». وفيه (إصحاح:15/24):« فأجبهم يسوع ما أرسلني الله إلا إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل ». وجاء في لوقا (إصحاح3/23):« وكان يسوع في نحو الثلاثين من العمر عندما بدأ رسالته ».
ثالثا : المسيح ينفي الألوهية عن نفسه
   عندما قال عيسى لليهود :« أنا والله واحد » بمعنى طاعة عيسى هي طاعة الله ولا يحق لكم أن تفرقوا بين الله ورسله أراد اليهود قتله ونسبوه إلى ادعاء الألوهية فنفى ذلك عنه وصوب فهمهم الخاطئ ، قال يوحنا (إصحاح10/31-36): «وجاء اليهود بحجارة ليرجموه فقال لهم يسوع أرأيتم كثيرا من الأعمال الصالحة من عند أبي ، فلأي عمل منها ترجموني ؟ أجابه اليهود لا نرجمك لأي عمل صالح عملت بل لكفرك ، فما أنت إلا إنسان لكنك جعلت نفسك الله. فقال يسوع: أما جاء في الشريعة أن الله قال : أنتم آلهة فإذا كان الذين تكلموا بوحي من الله يدعوهم الله آلهة على حد قول الشريعة التي لم ينقضها أحد ، فكيف تقولون لي أنا الذي قدسه الأب وأرسله إلى العالم أنت تكفر لأني قلت أنا ابن الله »، فلو كان هو الله لما أنكر التهمة وقال نعم أنا هو جئتكم في هذا الجسد فلم تعرفوني ولكنه بين لهم أنه مرسل من عند الله واستدل بنص من العهد القديم وهو المزمور (إصحاح:82/6) يبين إطلاق الألوهية على الرسل التي تدعو إلى عبادة الله . وفي سفر الخروج (إصحاح7/1):« أنا جعلتك إلها لفرعون». لكن النصارى كاليهود لم يفهموا كلام المسيح عليه السلام!!
رابعا : عبادة المسيح لله تعالى
       ومن أظهر الدلائل الإنجيلية على نفي ألوهية المسيح عليه السلام عبادته لله تعالى ، فالإله لا يعبد نفسه بل غيره يعبده ، ونحن نجد في الإنجيل أنه عمد على يد يحيى عليه السلام ليتأهل لعبادة الله ففي لوقا (إصحاح3/21):« ولما تعمد الشعب كله وتعمد يسوع أيضا، بينما هو يصلي انفتحت السماء ». فالمسيح كان يصلي ومما ورد في ذلك قول متى (إصحاح:26/36) أنه قال للتلاميذ :« أقعدوا هنا حتى أذهب وأصلي هناك». وفي متى (إصحاح:14/23):« ولما صرفهم صعد إلى الجبل ليصلي في العزلة »، بل كان ربما أجهد نفسه في الصلاة ففي لوقا (إصحاح:22/44):« ووقع في ضيق فأجهد نفسه في الصلاة » وكان أيضا يصوم كما في متى (إصحاح:4/1-2):« وقاد الروح القدس يسوع إلى البرية ليجربه إبليس ،فصام أربعين يوما وأربعين ليلة حتى جاع ». والعبادة دليل التكليف ، والتكليف يعقبه الثواب والعقاب الثواب لمن أطاع والعقاب لمن عصى ، فعيسى عليه السلام كان مكلفا وكان يرجو بعبادته الثواب من الله تعالى، كما كان يخشى عذابه .
خامسا : دعاء المسيح واستغاثته بالله تعالى
    ومما يدل على بشريته وعبوديته دعاؤه الله تعالى والاستغاثة به وشكره، فإن ذلك كله من العبادات وهو أيضا دليل الحاجة والضعف والافتقار ، والنصوص الواردة في هذا المعنى ما جاء في يوحنا (إصحاح:11/41-43):« أشكرك يا أبي لأنك استجبت لي وأنا أعرف أنك تستجيب لي في كل حين ، ولكني أقول هذا من أجل هؤلاء الناس حولي حتى يؤمنوا أنك أنت أرسلتني ».
   وفي يوحنا (إصحاح:17/1-3):« رفع يسوع عينيه إلى السماء وقال: يا أبي جاءت الساعة مجد ابنك ليمجد ابنك بما أعطيته من سلطان على جميع البشر».
  وقول متى (إصحاح:27/46):« ونحو الساعة الثالثة صرخ يسوع بصوت عظيم إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني ».
سادسا : المسيح يأكل ويشرب وينمو
    ومن دلائل بطلان الألوهية الأكل والشرب والنمو ، فإن الإله كامل في صفاته غني غير محتاج إلى الطعام ولا إلى غيره ، عيسى عليه السلام كان يأكل ويشرب وينمو كما ينمو البشر ففي لوقا (إصحاح:2/52):« وكان يسوع ينمو في القامة والحكمة»، وجاء في متى (إصحاح:4/2)« فصام أربعين يوما وأربعين ليلة حتى جاع». وفي يوحنا (إصحاح:19/28):« ورأى يسوع أن كل شيء قد تم فقال : أنا عطشان ». وقال مرقس (إصحاح:11/12-14):« ولما خرجوا في الغد من بيت عنيا أحس بالجوع، ورأى عن بعد شجرة تين مورقة فقصدها راجيا أن يجد عليها بعض الثمر، فلما وصل إليها ما وجد عليها غير الورق ، لأن وقت التين ما حان بعد ».
سابعا : اسم المسيح في الإنجيل ابن الإنسان
    من أظهر دلائل بطلان ألوهية المسيح في الأناجيل تسميته بابن الإنسان ، وقد ورد وصفه بذلك نحوا من سبعين مرة ، منها ما جاء في متى (إصحاح:11/18-19): « جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فقالوا فيه شيطان ، وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فقالوا هذا رجل أكول وسكير وصديق لجباة الضرائب والخاطئين ولكن الحكمة تبررها أعمالها ». وفي مرقس (إصحاح:14/41):« جاءت الساعة ، ها هو ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخاطئين ».
ثامنا : علم المسيح محدود
   ومما يدل على بطلان ألوهية المسيح أن علمه محدود غير شامل ، لأن الإله عليم بكل شيء وعيسى عليه السلام لم يكن كذلك جاء في مرقس (إصحاح:13/32): «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعرفها أحد لا الملائكة في السماء ولا الابن إلا الأب». وما كان يخبر به من الغيب ومن الحكم والحكام فهو وحي من الله تعالى، في يوحنا (إصحاح:5/30):« أنا لا أقدر أن أعمل شيئا من عندي ، فكما أسمع من الأب أحكم ، وحكمي عادل لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة التي أرسلني ».   
    بل المسيح –حسب الإنجيل المحرف- لا يعلم أشياء يعلمها الصبيان الصغار في فلسطين وحوض المتوسط، متى تثمر شجرة التين ، وقد نقلت النص في الفقرة السابقة .
تاسعا : من صفة المسيح النوم والعجز
    إن الإله لا يكون إلا قادرا على كل شيء حيا قائما على كل شيء لا يتصور الإله إلا كذلك ، وعيسى عليه السلام يصرح بأن لا قدرة له مستقلة ولا مشيئة كما في نص يوحنا في الفقرة السابقة، ومن ضعفه أنه يحتاج إلى النوم ففي متى (إصحاح:8/23-24):« وركب يسوع القارب فتبعه تلاميذه ، وهبت عاصفة شديدة في البحر حتى غمرت الأمواج القارب وكان يسوع نائما ، فدنا منه تلاميذه وأيقظوه ». ومن ضعفه أنه يبكي جاء في يوحنا (إصحاح:11/35):« وبكى يسوع ». ومن ضعفه أنه كان محل ابتلاء وتجربة من الشيطان جاء في لوقا (إصحاح:4/13):« وبعدما جربه الشيطان بكل الوسائل فارقه إلى حين ».
عاشرا : الأناجيل تنسب المسيح إلى البشرية
    ففي أول إنجيل "متى" ينسب عيسى عليه السلام إلى يوسف النجار خطيب مريم ثم يسوق نسبه إلى داود، وهذا يعني أن متى كان يعتبر عيسى ابن زنى كما كانت تقول اليهود-لعنهم الله على افترائهم-، ويتفق لوقا معه في نسبته إلى يوسف (إصحاح:3/23) ويخالفه في أسماء أجداده وفي عددهم بينه وبين داود، ولا يقال بأنه يعبر عما زعمته اليهود لأنه كرر المعنى في عدة مواضع منها قوله (إصحاح:2/41):« وكان والداه يذهبان كل سنة إلى أورشليم ». وكيف يعبر عما زعمته اليهود وهو كتب الإنجيل بالوحي الإلهي كما يزعم النصارى.
   بل وتصف الأناجيل عيسى بأنه ملك -كما زعمت اليهود بأنه كان يريد الملك- فهذا لوقا يقول (إصحاح:1/33):« ويمنحه الرب الإله عرش داود أبيه فيملك على بيت يعقوب إلى الأبد »، وفي(إصحاح23/3):« فسأله بيلاطس أأنت ملك اليهود فأجاب هو ما تقول». وهذا يعنى أنه كان بشرا يعد نفسه ملكا. وفي يوحنا أيضا إقرار ببشريته وملكه في مواضع منها قوله (إصحاح12/12-15):« وفي الغد سمعت الجموع التي جاءت إلى العيد أن يسوع قادم إلى أورشليم فحملوا أغصان النخل وخرجوا لاستقباله وهم يهتفون :" المجد لله تبارك الآتي باسم بالرب تبارك ملك إسرائيل ، ووجد يسوع جحشا فركب عليه كما جاء في الكتاب :" لا تخافي يا بنت صهيون ها هو ملكك قادم إليك راكبا على جحش ابن أتان"».
   ومما جاء في الأناجيل مما نجزم ببطلانه وهو دال على عدم ألوهية المسيح وصفه بالعنصرية المقيتة ولا يعقل أن يكون إله البشر جميعا عنصريا يميز بين خلقه بالعرق والنسب ، ففي متى (إصحاح15/26) أنه قال للمرأة الكنعانية :« لا يجوز أن يؤخذ خبز البنين ويرمى إلى الكلاب ». فتأملوا كيف جعل الكاتب –لا المسيح-اليهود أبناء الله وجعل غيرهم كلابا .
متى أصبح عيسى عليه السلام إلها عند النصارى
   في مدينة نيقيا سنة 325 للميلاد اجتمع 2048 من بطارقة وأساقفة النصارى لينظروا في الأناجيل المختلفة التي يزيد عددها عن المائة أيها هو الصحيح المعتمد، وما هو الإنجيل القريب إلى الصحة الذي يمكن أن يوحدهم ، فدخلوا في نقاش حول حقيقة المسيح فقالت طائفة هو عبد الله ورسوله وكان يقودها آريوس وكانوا أزيد من 700، وقالت طائفة أخرى إنه إله وكانوا 308، وقيلت أقوال أخرى، فلما اشتد الخلاف والتنازع تدخل الملك الروماني الوثني قسطنطين وانحاز إلى الفريق القائل بألوهية المسيح، لأن قولهم أقرب إلى عقائده الوثنية، فأسند إليهم مهمة إصدار قرارات عرفت بالأمانة، فأعلنوا وجوب الإيمان بألوهية المسيح وأمروا بتحريق كل الكتب التي تخالف هذه العقيدة ، وقتل كل من يجهر بمخالفتها، وكان أول من قتل آريوس ، إذن عيسى عليه السلام إنما أصبح إلها بصفة رسمية عند النصارى بعد هذا الاجتماع الذي رجحت فيه كفة الأقلية على الأغلبية بالقوة الديكتاتورية والإرهاب الفكري. وتحققت نبوءة عيسى عليه السلام حسب يوحنا (إصحاح16/عدد:2):« سيخرجونكم من المجامع ، بل ستأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله ، وسيفعلون هذا لكم ، لأنهم لم يعرفوا الأب ولا عرفوني ».
   وفي هذا المجمع تم اختيار الكتب التي يتكون منها العهد الجديد الذي أرادوا من خلاله تأكيد تلك العقيدة الوثنية عقيدة التثليث ، فاختاروا الأناجيل الأربعة دون غيرها، وزادوا رسائل بولس مدعي النبوة والمبتدع الفعلي لعقيدة التثليث ، والمؤسس الأول لحركة التنصير في العالم، وأضافوا رسائل أخرى زعموا أنها كلها كلام الله تعالى، ومع ذلك فإن في هذه الأناجيل -وأيضا في ملحقاتها- ما يدل على بطلان ألوهية المسيح -كما بينا -، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
 / ولما كانت قوانين بعض الدول الإسلامية تمنع التنصير ، كان من حكمة هؤلاء القساوسة أن يمتنعوا عن النشاطات التنصيرية الظاهرة، وأن يكتفوا بالنشاط الخيري والدعم المادي للمتنصرين الجدد .
2/ قد آوت جمعية ثقافية جمعا من الشباب المراهقين في قلب العاصمة، وذلك برضا أوليائهم الذين أغرتهم المادة (الدروس المجانية والرحلات إلى أوروبا) مع علمهم بأنها جمعية تنصيرية، وكيف يخفى عليهم ذلك وهي تلقى الدعم من الكنيسة مباشرة، ودشنها يوم افتتاحها القس بنفسه جهارا نهارا، وبعد مرور سنة جاء بعض هؤلاء الأولياء يشتكون:" أبناؤنا أصبحوا لا يطيعوننا" لقد لقنوهم أنهم إذا بلغوا سن الرشد فلا سلطان لأحد عليهم، وهذه أول خطوة لانتزاع هؤلاء الشباب من أمتهم.
3/ لما تبينوا من ضعف الرقابة أو غيابها صاروا يبثون عقائدهم حتى في لعب الأطفال الصغار ، كالبالونات ولعب الورق ونحو ذلك وقد نشرت الصحافة الجزائرية نماذج من ذلك .
4/ اكتشفت امرأة أن ابنها الصغير يصلى صلاة النصارى، ذهبت إلى دار الحضانة التابعة للكنيسة لتدخل مع أصحابها في خصومة كلامية لا فائدة منها، وهؤلاء المرتدون لا لوم عليهم لأنهم قاموا بعملهم، ولكن اللوم على من يسمح لولده أن يتربى تحت سقف الكنيسة في أيدي من لا دين له ولا أخلاق.
5/ رواه أحمد (3/387) وحسنه الألباني في الإرواء (1589).
6/ من العجب أن يرى في مجتمعنا من يتكلف الرطانة ، ويستعمل الكلمات والعبارات الفرنسية مع وجود ما هو أفصح وأبين منها في لغتنا العربية بل وفي اللهجات العامية وغيرها ، وأعجب من ذلك أن يتسابق أصحاب المحلات التجارية في كتابة لافتاتهم باللغات الأجنبية ، حتى يخيل إلى الناظر في بعض الشوارع أنه في بلد أوربي ، وبلد ليس فيه من يحمي اللغة العربية ويدافع عنها.
7/ إن أجدادنا مع جهلهم كانوا متمسكين بدينهم معظمين لأهله، محبين لوطنهم زاهدين في الدنيا التي كانت بعيدة عنهم، أما اليوم فنحن أقل تمسكا بالدين منهم، ومحبة الوطن أصبحت محل سخرية عند أكثر الشباب، وحب الدنيا وزخارفها هو السمة الغالبة علينا مع الأسف الشديد ، فمن نظر في هذه العوامل وقارن بينها رآنا اليوم مؤهلين لقبول التنصير وكل الأفكار الوافدة علينا أكثر من أجدادنا.
8/ (pratiquant et non pratiquant ).
9/ رواه الترمذي (1604) أبو داود (2645) النسائي (4780) وصححه الألباني في الإرواء (1207).
10/ قال ذلك لما قرر الاستعانة بابن تاشفين على ملك قشتالة الصيليبي، فحذره بعض ملوك الطوائف من غدر ابن تاشفين ، انظر أحداث سبعة وسبعين وأربعمائة من تاريخ الإسلام للذهبي وغيره.
11/ إنجيل برنابا وجدت منه نسخة في فيينا (عاصمة النمسا) عام 1709 مكتوبة باللغة الإيطالية ، وترجمه إلى العربية خليل سعادة عام 1908 ونشره في مصر محمد رشيد رضا في السنة نفسها.
12/ انظر كتاب "لماذا أسلم هؤلاء القساوسة".
13/ وقد اقتصرت على الأناجيل طلبا للاختصار، ولأن أكثر ما يوزعه المنصرون كتاب العهد الجديد.
14/ البخاري (3535) مسلم (2286).
15/ كل ما أنقله عن الترجمة القديمة فهو بواسطة الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية .
16/ في كتابه "محمد    كما ورد في كتاب اليهود والنصارى"(ص:148).
17/ انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (4/8).
18/ انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (4/12).
19/ انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (4/6).
20/ انظر الرسل والرسالات لعمر سليمان الأشقر (177).
21/ لم يأمر بإلغائها دفاعا عن المسلمين !! ولكن نشاطها توسع فشمل اليهود وكل من تحكم عليه الكنيسة بالكفر والزندقة من النصارى
22/ حكى أحد قساوسة الأقباط -بعد إسلامه وهروبه إلى السعودية -، في شريط مسجل أنهم في مصر يختطفون بعض من يعارض نشاطتهم أو يفضح أسرارهم أو يعلن ترك النصرانية ، ويقدمونه طعاما لأسود يربونها في دهاليز الكنائس!!
23/ البخاري (1385) مسلم (2658).

الأربعاء, 11 آب/أغسطس 2021 20:00

الشيخ العربي التبسي وأصول دعوته الإصلاحية السلفية
 
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
    أما بعد: فإنه من العلوم التي ينبغي على طلاب العلم وعموم المسلمين الاعتناء بها علم التاريخ والسير، هذا العلم الذي فيه الذكرى والعبر، والذي فيه محصلة تجارب الرجال وخلاصة أعمال الأبطال، وقد كان بعض السلف يقول:" لقصص الصالحين أحب إلى من كثير من الفقه"، وصدق! فإن في تراجم الصالحين من الفوائد ما لا يوجد في غيرها، ففيها تجد العقيدة مواقف عملية، وفيها ترى الأخلاق مناقب مثالية.
    ثم إنه وإن كانت للعلم الصحيح مصادره وللمنهج القويم مناهله، فإنه ليس لفقه الدعوة والواقع مصدر أصفى وأصح من التاريخ وسير الأعلام، يقول الفقيه ابن أبي الدم:« إنما الفائدة في التاريخ الإسلامي مع قربه من الصحة ذكره لعلماء هذه الأمة المحمدية، وذكر محاسنهم وعلومهم ومواعظهم وحكمهم وسيرهم التي يستدل بها العامل في أموره ويتدبرها ويتفكر فيها فينتفع بما قالوه وعانوه، وما ينقل عنهم من المحاسن دنيا وأخرى»(1) وربما يتساءل بعض الناس عن أسباب الخلل الموجود في كثير من حملة الدين في هذا الزمان، وأسبابه عند العارفين كثيرة، ومن أهمها انقطاع كثير منهم عن دراسة سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وسير العلماء والأعلام السابقين من حملة همِّ وأعباء هذا الدين، الأمر الذي أفقدهم القدوة وأبرد فيهم العزيمة.
    قال ابن الأثير وهو يعدد فائدة التاريخ :« ومنها ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها ، فإنه لا يحدث أمر إلا قد تقدم هو أو نظيره ، فيزداد بذلك عقلا ، ويصبح لأن يقتدى به أهلا … ومنها التخلق بالصبر والتأسي وهما من محاسن الأخلاق، فإن العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرم وملِك معظم بل لا أحد من البشر؛ عَلِم أنه يصيبه ما أصابهم وينوبه ما نابهم » (2).
    ولقد أيقن الدعاة المصلحون أن سبيل نجاح الدعوة هو العلم قال تعالى : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (يوسف:108)، وأيقنوا أيضا أن العلم دون منهج صحيح في تحصيله وتطبيقه لا يؤتي ثماره- وإن كانت معالم المنهج جزء من العلم-، وإن مما يلزم الدعاة أيضا للقيام بأعباء الدعوة بالعلم الصحيح ووفق المنهج السليم قوة الشخصية وسداد المواقف، وفقه الدعوة والواقع والثبات على الحق والتضحية في سبيله، ومن أين لنا تحصيل هذه الخصال من غير طريق مجالسة هؤلاء الصالحين المصلحين أو مدارسة سيرهم!  
    ومن أجل هذه المعاني رأيت أن أخط هذه الترجمة التي أعرف فيها بأحد أعلام الجزائر وأبطالها ورواد الدعوة السلفية فيها، "الشيخ العربي التبسي" الإمام صاحب الصبر والصمود، الفقيه الأصولي المتحرر من الجمود، عالم القطر ومفتيه وداعي الرشد ومؤتيه، ورمز من رموز التضحية، وشهيد من شهداء الحرب التحريرية، والمجاهد المهتم بأمر المسلمين، وأحد مؤسسي جمعية العلماء الجزائريين، وكاتبها العام ورئيس لجنة الفتوى فيها، ثم نائب رئيسها إلى يوم تعطيلها .
المبحث الأول : نشأة الشيخ التبسي وطلبه للعلم
     ونبين في هذا المبحث مولده وأسرته وطلبه للعلم، ثم نترجم لأبرز الشيوخ الذين تتلمذ عليهم الشيخ رحمه الله تعالى.
المطلب الأول: مولده وأسرته
    ولد العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات الجدري التبسي بقرية " ايسطح " التي تقع جنوب غرب " تبسة "، وتبعد عنها بنحو مائة وسبعة عشرة كيلو متر (117 كم)، والتابعة إداريا حاليا إلى بلدية العقلة دائرة الشريعة، وذلك في عام 1305هـ الموافق لـ (1888م)(3).
    ولقب أسرته الجدري نسبة إلى الجدور، هو اسم أكبر عشيرة من عشائر قبيلة النمامشة الأمازيغية، وأصل كلمة "الجدور" في العربية : الجذور بمعنى الأصول(4) ، أي أن قبيلته كانت هي القبيلة الأصلية التي يتفرع عنها بقية القبائل المنتشرة حولها والمنتمين إلى "عرش" واحد.
    وكانت أسرة الشيخ العربي رحمه الله أسرة فلاحية فقيرة، كما كان حال أغلب الجزائريين في تلك الحقبة الزمنية، وكانت أسرة محافظة متدينة فقد كان والده إلى جانب عمله في الزراعة يتولى تحفيظ القرآن لأبناء القرية في الكتاب(5) ، وقد عُرف جده مبارك بالعلم أيضا فقد كان معلما في الكتاب قبل أن يتولى ذلك والد الشيخ، وذُكر بالمشاركة في مختلف العلوم الشرعية، ورزق مبارك بثمانية أبناء منهم والد العربي التبسي كلهم كان من حفظة كتاب الله تعالى(6). ولا شك أن نشأة العربي في هذا الوسط مما ساعده على التوجه نحو العلم، رغم ما كانت تعرفه البلاد من فقر وحاجة، وزهد في العلم وأهله.

المطلب الثاني : طلبه للعلم(7)
     إن رحلة الشيخ في طلب العلم رحلة طويلة ، تقلب فيها بين زوايا العلم والقرآن والمعاهد الشرعية أكثر من عقدين من الزمن ، تعلم وحصل وحفظ واستزاد فلم يشبع ، وقد قال ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما :« مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا»(8). ولطول هذه الرحلة نقسمها إلى مرحلتين في الفرعين الآتيين :
الفرع الأول : طلبه للعلم في الجزائر
    التحق العربي التبسي -كغيره من أبناء القرية- بالكُتَّاب، الذي كان بمثابة المدرسة الابتدائية في ذلك الزمان ، كُتَّاب (أو مكتب التعليم العربي) فيه تُعلم مبادئ العلم من الكتابة والخط والحساب ويحفظ الناشئة القرآن الكريم، شرع العربي في حفظ القرآن على يد والده(9) ، فلما توفي والده – وكان عمره ست سنوات-واصل حفظه على يد عمه "عمار" الذي خلف أخاه بلقاسم في التعليم، وتزوج بأرملته والدة العربي التبسي.
    ولما أتم العربي حفظ كتاب الله تعالى عام 1322هـ (1904م) (وقيل عام1325هـ الموافق لـ 1907م) التحق بزاوية(10) أولاد رشاش، ليكرره ويصححه على يد الشيخ الطيب بن الحفناوي (المتوفي عام: 1941م) ، وقد رأى هذا الشيخ نقل العربي إلى زاوية سيدي ناجي بـ"الخنقة" الواقعة بين خنشلة وبسكرة ، وذلك لما رأى فيه من فطنة ونجابة وجودة حفظ، الأمر الذي يؤهله إلى تحصيل العلوم الشرعية، ولم يكن في زاوية هذا الشيخ من يدرس تلك العلوم، وفي زواية "سيدي ناجي" تعلم العربي مبادئ العلوم العربية من نحو وصرف، وبعض العلوم الشرعية كالتجويد والفقه والتوحيد.
الفرع الثاني : طلبه للعلم خارج الجزائر
    وفي عام 1328هـ (1910م) رحل إلى زاوية مصطفى بن عزوز بـ" نفطة " جنوب غرب تونس (منطقة الجريد) وفيها أتقن رسم القرآن وتجويده وحفظ متونا(11) كثيرة في شتى الفنون؛ في النحو والصرف والفقه والتوحيد والمنطق والبلاغة والأدب، اعتكف هناك على التحصيل سنتين كاملتين ولم يرجع إلى مسقط رأسه إلا في صيف 1330هـ (1912م).
    وقد ظهرت لمشايخه في زاوية ابن عزوز نجابة الشيخ العربي، ورأوا منه حرصه على العلم وتفوقه فيه، فأرشدوه إلى مواصلة التعليم العالي في الزيتونة ، فالتحق بجامع الزيتونة بتونس العاصمة في عام 1331هـ ( 1913م) فجالس علماءه وتقلب في حلقاته وتدرج في تحصليه ونال شهادة الأهلية عام 1333 هـ (1915م)، ثم حاز شهادة التحصيل عام 1335 هـ (1917م) واستمر في الدراسة لينال شهادة التطويع، ولكنه لم يتقدم للامتحان، بسبب رحلته إلى القاهرة عام 1337 (1919م).
    رحل الشيخ إلى القاهرة ليواصل طلب العلم ، فقد رأى أنه وصل إلى مرحلة التخرج النهائي ونيل أعلى شهادة علمية: شهادة التطويع (وهي تعادل شهادة العالمية العالية أو الدكتوراه)، مع أن غليله لم يرو بعد، ورغبته في الاستزادة من العلم ما زالت جامحة(12) ، فاستوطن القاهرة طالبا للعلم في جامع الأزهر متقلبا بين حلقاته ومجالسا لعلمائه ، ومستفيدا من مكتبته الغنية العامرة ، كما اتصل بالسيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، وقد بقي صديقا لمجلته إلى حين توقفها بوفاة الشيخ رشيد رضا رحمه الله عام 1345هـ (1935م)(13).
     حصل الشيخ العربي على عالمية الأزهر الخاصة بالغرباء عام1343 هـ (1925م) ثم على عالمية الأزهر الكبرى عام 1345 (1927م)، وفي العام نفسه رجع الشيخ إلى جامع الزيتونة، وتقدم للامتحان الذي كان قد رحل قبل حلول موعده، فحصل على شهادة التطويع قبل أن يرجع إلى أرض الوطن، أرض الجزائر(14).
     وأتقن الشيخ العربي رحمه الله تعالى في هذه المدة التي ليست بوجيزة- ثلاثا وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة تقريبا خارج الوطن – أكثر الفنون الشرعية والعلوم الإسلامية، إلا أنه قد ظهر اعتناؤه وتميزه في بعض الفنون أكثر من غيرها ، فإضافة إلى الفقه الذي هو أهم العلوم الشرعية بعد التوحيد، ولا يستحق اسم العالم إلا من تمكن منه وأتقنه، وإضافة إلى علم أصول الفقه الذي يعتبر مفتاح الاجتهاد وآلته، فقد اعتنى الشيخ بعلم التفسير اعتناء بالغا، فدرس فيه كتبا كثيرة، وحضر فيه مجالس متعددة، ولعل الدافع إلى ذلك اقتناع رواد الإصلاح الأولين في ذلك الزمان بأن ما حل بالأمة من ذل وهوان وابتعاد عن الشرع وتحريف لحقائق الدين، سببه الرئيس هو بعدها عن كتاب ربها؛ عن فهمه والعمل به، ولاعتقادهم بأن القرآن الكريم هو كتاب الهداية المحفوظ والمعصوم، والحجة الدائمة والقائمة.
   وقد ورد في دفتر الإجازات الزيتوني(15) أن الشيخ أجيز بتفسير ابن عطية والبيضاوي وابن كثير من طرف الشيخ محمد النخلي القيرواني، كما أجيز بتفسير الكشاف والقرطبي من طرف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وبمصر حضر مجالس التفسير لمحمد مصطفى المراغي والسيد محمد رشيد رضا.
   وأجيز أيضا رحمه الله بكتب: الحديث الموطأ وصحيحي البخاري ومسلم(16)، وكان أيضا شغوفا بالأدب العربي فحفظ شيئا كثيرا من آثار الأقدمين نثرا وشعرا وما طالعه أكثر، وكان شديد الإعجاب بأبي تمام والمتنبي والبحتري وأضرابهم من فحول الشعراء(17).
المطلب الثالث : أبرز شيوخه
    إن الشيوخ الذين درس عليهم الشيخ التبسي رحمه الله تعالى في كل تلك السنوات في زوايا الجزائر وتونس وفي الزيتونة والأزهر كثيرون، وهكذا كانت عادة النابغين أن يتعدد شيوخهم، ونحن إذ أردنا أن نعرف ببعض شيوخه نقتصر على أشهرهم، ومن لهم الأثر الأكبر في تكوين شخصيته، وأما الاستقصاء فلو رمناه لم نقدر عليه.
أولا : محمد أمين النخلي القيرواني
    هو أبو عبد الله محمد النخلي القيرواني، ولد عام 1278 هـ (1862م) بالقيروان، قال في شجرة النور الزكية:« العلامة الذي ليس له في عصره ثاني ، كان نقادا خبيرا أستاذا كبيرا ميالا لتحقيق المباحث، نابغة شعلة في الذكاء وفي المحاضرة، آية بالغة مع فصاحة في التعبير والإجهار بما في الضمير، ذا همة عاصمية ونفس أبية»، انضم إلى جامع الزيتونة عام 1304هـ وأخذ عن مشايخه وعرف بشدة تأثره بالشيخ محمد عبده، وكان عمدة النهضة العلمية الإصلاحية في تونس وعلى يديه تخرج أكابر من العلماء كالشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي لازمه ملازمة طويلة، والشيخ ابن باديس والعربي التبسي وغيرهم، وقال فيه ابن باديس :« لا أكتمكم أني أخذت شهادتي في جامع الزيتونة في العشرين من عمري، وأنا لا أعرف للقرآن أنه كتاب حياة، وكتاب نهضة، وكتاب مدنية وعمران، وكتاب هداية للسعادتين، لأنني ما سمعتُ ذلك من شيوخي عليهم الرحمة ولهم الكرامة، وإنما بدأت أسمع هذا يوم جلست إلى العلامة الأستاذ محمد النخلي»(18)، توفي في رجب 1342هـ (فبراير 1924م)(18).
ثانيا : عثمان بن مكي التوزري
    هو الشيخ المجدد عثمان بن بلقاسم بن مكي التوزري ولد عام 1266هـ (1850م) بتوزر جنوب تونس ، تخرج من الزيتونة واشتغل قاضيا بمسقط رأسه ثم مدرسا في جامع الزيتونة ابتداء من عام 1298هـ (1881م)، كان من أوائل العلماء الذين تبنوا الحركة الإصلاحية في تونس ، وقد ألف كتابه "المرآة لإظهار الضلالات" في الرد على بدع الصوفية عام 1330هـ(1912م)(20) ، قال محمد علي دبوز:« وكان العربي وزملاؤه النجباء الصالحون شديدي الصلة به خارج الدرس ، يجتمعون به كثيرا ، فيوجههم في التعلم ، ويغرس فيهم عقيدة الإصلاح ويربيهم على ما يجب عليهم في المستقبل من جهاد طويل مرير في إصلاح المغرب وتحريره ، وقد نال العربي من مجالسه فوائد عظيمة، وهو يعده صديقه وأحسن من غرس فيه العقيدة الإصلاحية في تونس»(21). له مؤلفات كثيرة منها المرآة السالف الذكر والقلائد العنبرية على المنظومة البيقونية ومعالم الاهتداء شرح قطر الندى وشرح تحفة الحكام لابن عاصم وغيرها، توفي الشيخ في سنة 1350هـ (1931م) رحمه الله رحمة واسعة.
ثالثا : محمد رشيد رضا
   هو محمد رشيد بن علي رضا ولد في قرية قلمون جنوب طرابلس الشام عام 1282هـ (1865م) وبها تعلم ثم بالمدرسة الرشيدية بطرابلس ثم بالمدرسة الوطنية حيث تتلمذ فيها على الشيخ حسين الجسر وأجازه، ورحل إلى مصر سنة 1314 ودخل القاهرة 1315هـ وبها درس على الشيخ محمد عبده ، أسس مجلة المنار ومطبعة المنار وألف مجموعة من الكتب أشهرها الوحي المحمدي وتفسير القرآن الحكيم، وتوفي رحمه الله عام 1345هـ (1935م)، قال في تفسيره (1/253): «ولا نعرف في كتب علماء السنة أنفع في الجمع بين النقل والعقل من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وإنني أقول عن نفسي إنني لم يطمئن قلبي بمذهب السلف تفصيلا إلا بممارسة هذه الكتب» (22).
رابعا : محمد مصطفى المراغي
   هو محمد بن مصطفى المراغي، فقيه حنفي غير متعصب، ومفسر من دعاة التجديد والإصلاح بمصر، ولد بمراغة بصعيد مصر عام 1298هـ (1881) تلقى تعليمه بالقاهرة ودرس على الشيخ محمد عبده، وعين شيخا للأزهر عام 1347هـ(1928) لمدة سنة، ثم أعيد تعيينه عام 1354هـ (1935) وبقي في هذا المنصب حتى مات عام 1364هـ (1945م)، من مؤلفاته « بحث في حكم ترجمة القرآن» « بحوث في تاريخ التشريع الإسلامي»، وأجزاء متفرقة من التفسير: «الحجرات ، الحديد ، لقمان، العصر »(23).
خامسا : محمد الطاهر بن عاشور
    هو محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور الفقيه والأصولي المالكي والمفسر اللغوي الأديب ، ولد عام 1296هـ (1879م) تخرج من الزيتونة عام 1317هـ (1900)، كان أحد أعمدة الإصلاح في الزيتونة ، وتقلد عدة مناصب علمية منها قاضي القضاة ومشيخة جامع الزيتونة ومفتي المالكية بتونس، له عدة مؤلفات منها التحرير والتنوير في التفسير ، ومقاصد الشريعة الإسلامية وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، أليس الصبح بقريب وتوفي عام 1373هـ (1954)(24).
المبحث الثاني : حياة الشيخ العربي التبسي الدعوية
    عاد الشيخ العربي التبسي إلى أرض الجزائر ، واختار سبيل الدعوة إلى الله تعالى على البقاء في مصر، رغم أنه عرض عليه منصب تدريس الفقه وأصوله على مذهب مالك في جامع الأزهر(25)، ولقد كان موفقا في اختياره هذا حيث فضل مصلحة الأمة على مصلحته الشخصية، لو بحث لنفسه عن التأويلات التي تجعله يبقى هناك لما عجز عن ذلك، كما فعل كثيرون في زمن الاستعمار -ولا زالوا يفعلون في أيام الاستقلال-، فضل حياة النَّصَب والجهاد على الحياة السهلة والهنيئة، لقد كان الشيخ مغتربا في مصر مدة طويلة، لكنه لم يكن منقطعا عن وطنه متناسيا لهمومه، فإنه كان متابعا للأحداث التي تجري فيه ومتتبعا لأخباره، بل بقي هناك طول تلك المدة يتزود، وكله شوق ليرجع إليه، ليقدم ما يستطيع تقديمه، ولا أدل على ذلك من تلك المقالات التي أرسل إلى الشهاب، قبل رجوعه إلى الجزائر، في عام (1345هـ) أو (1346هـ) الموافق لـ (1927م).
المطلب الأول : نشاطه التعليمي
    أول شيء نتعرض إليه في حياة الشيخ الدعوية نشاطه التعليمي ، ونقسم هذا النشاط حسب الزمان والمناطق التي اشتغل فيها بالتعليم رحمه الله تعالى.
أولا : البداية في تبسة
    عاد الشيخ العربي التبسي إلى أرض الوطن ليبدأ نشاطه الدعوي في مدينة " تبسة" التي أصبح ينسب إليها فيما بعد، وذلك في مسجد صغير يدعى :"مسجد ابن سعيد"، فبدأ الناس يستجيبون لدعوته ويلتفون حوله ويزدادون يوما بعد يوم، حتى ضاق بهم هذا المسجد، فاضطر الشيخ إلى الانتقال إلى الجامع الكبير "العتيق" الذي تشرف عليه الإدارة (الاستعمارية)، لكن سرعان ما جاءه التوقيف عن النشاط من الإدارة، وذلك بإيعاز ووشاية من الطرقيين، الذين ضاقوا ذرعا بدعوته وبانتشار الوعي بين الناس، واستشعروا أن وقت زوال دولتهم قد اقترب .
    فعاد الشيخ إلى مسجده الأول "مسجد ابن سعيد" ليواصل نشاطه فيه، بالرغم من ضيقه بالناس الذين استجابوا لدعوة الإصلاح واقتنعوا بها، ولم يزالوا في تزايد مستمر، وفي أثناء عام 1929م نقل الشيخ نشاطه التعليمي من مسجد ابن سعيد الصغير إلى مكان آخر أوسع يسمى معمل حواس(26).
   وظل تأثيره يمتد ويتوسع حتى شمل مقدم الطريقة الرحمانية(27) في زاوية تبسة الذي أغلق باب زاويته، وأصبح طالبا من طلاب الشيخ ، ولما فتحت مدرسة التهذيب -التي أنشأها الشيخ التبسي- أبوابها كان أحد المعلمين فيها(28). وذكر الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله وهو يصف تأثير الشيخ في المدينة ومدى انتشار دعوته، أنه حتى عرابدة تبسة ومدمنونها العاكفون على الخمر قد انضموا تحت لواء الإصلاح(29).
    يقول المؤرخ محمد علي دبوز واصفا تلك الدروس التي كان يلقي في تبسة: «وكان درس الشيخ للعامة بعد صلاة العشاء، فيسرع الناس من متاجرهم ومنازلهم ومن المقاهي لصلاة الجماعة وسماع الدرس، فيمتلئ بهم المسجد، وكانت دروس الشيخ في التفسير أو الحديث ، يختار آية قرآنية تناسب موضوعه -أو حديثا نبويا - فيفسرها تفسيرا بارعا يخلب ألباب السامعين ، فيريهم حكمة القرآن ومعانيه السامية…، فيفتح القلوب بكلام الله وينبه العقول لأوامر الله ونواهيه، ثم يتسرب إلى الأمراض الاجتماعية فيشرحها ، ويبين أسبابها وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة، وينقض في دروسه على بدع الطرقيين الضالين وإفسادها للعقيدة الإسلامية وشلها لعقول الناس، فيظهر بطلانها وفسادها ويري للناس أولئك المتصوفين المدجلين على حقيقتهم، عباد شهواتهم وشياطينهم ، وأداة للاستعمار الصليبي يهدم بها الدين ، ويفرق بها جماعة المسلمين ويسخِّر بها العامة ويمسكها على الجهل والفساد ؛ ويشرح الشيخ في دروسه الموبقات التي يرتكبها المسلمون، ويغمسهم فيها الاستعمار، فيحدثهم عن الخمر والزنا والميسر والكبائر كلها ، ويحدثهم عن الواجبات : عن الصلاة وأسرارها وأنها عمود الدين وركنه الركين… ويشرح لهم الفروض الأخرى فيعرف الناس أسراره العظيمة، ويدركون عظمة دينهم الإسلامي ومنافعه في كل نواحيهم في دنياهم وآخرتهم ، ويحدثهم عن الجهل والأنانية والعصبية واحتقار اللغة العربية وعلومها، وهو ما يغرسه الاستعمار بكل وسائله في أبناء مدارسه على وجه الخصوص… وكان الشيخ فصيح اللسان ذا صوت خطابي قوي ، وكانت دروسه بالعربية الفصحى السهلة يمزجها بالدارجة أحيانا في دروسه للعامة للزيادة في إفهامهم »(30).
ثانيا : الانتقال إلى مدينة "سيق"(31)
    ولما لاحظ الفرنسيون نشاط الشيخ والتفاف الناس حوله واستجابتهم لدعوته، أخذوا في مضايقته ومضايقة أنصاره حتى في ذلك المسجد الصغير الخارج عن الإدارة الفرنسية، واستعملوا شتى الوسائل لصد الناس عنه وعن دعوته، ولما أحاق الخطر به وبدعوته أشار عليه الشيخ ابن باديس رحمه الله بالانتقال إلى مدينة "سيق" في الغرب الجزائري، التي أبدى سكانها استعدادا لقبول إمام من أئمة الإصلاح ليشرف على مدرسة ابتدائية بنوها حديثا(32) ، فانتقل إليها عام 1349هـ (أول سنة 1930م أو آخر السنة التي قبلها) ومعه أهله(33) ، ففرح أهل مدينة "سيق" بقدومه فرحا عظيما، وأقبلوا على دروسه واستفادوا من علمه وخلقه وتوجيهاته الإصلاحية، وقد بهرهم بشخصيته الفذة القوية وبورعه الشديد وصلابته في الدين، وبغيرته وشدة حماسه وبعلمه الغزير وذكائه الوقاد وفصاحته المتميزة، فتعلموا منه وآزروه في نشر دعوته، ولم يقتصر نشاطه على مدرسة سيق ومساجدها، بل شمل مساجد المناطق المجاورة التي كان يزورها أو يدعى إليها، ومكث فيهم إلى آخر سنة 1931م، وتمكن في هذه المدة الوجيزة من بث الدعوة الإصلاحية السلفية ليس في "سيق" وحدها، ولكن في أنحاء كثيرة من الغرب الجزائري (34).
ثالثا : العودة إلى تبسة
   كما سبق فقد اضطر الشيخ إلى مغادرة مدينة "تبسة" إلى مدينة "سيق" في الغرب الجزائري، وبعد مضي أكثر من سنة من فراقه لأهل تبسة -في سنة 1932م-انتقل إليه وفد من أعيان تبسة وعلى رأسهم الحاج الحواس بن إسماعيل(35) ، والصادق بن حامد بو ذراع(36)، وألحوا عليه أن يرجع إليهم، وأبلغوه حرص سكان مدينة تبسة على عودته، وقصوا عليه كيف اضمحل نور دعوة الإصلاح بعده، فلم يتوان في إظهار الموافقة وإجابتهم إلى رغبتهم، لكنه اشترط عليهم مجموعة من الشروط لا بد من توفيرها له وإلا فإنه لن يرجع إلى "تبسة"، لم تكن تلك الشروط راجعة إلى نفعه الخاص أو الشخصي من راتب ومسكن ونحو ذلك، ولكنه رحمه الله اشترط على هؤلاء الأعيان من أهل الوجاهة والمال ، ما يلي:" تأسيس جمعية خيرية ، وبناء مدرسة ابتدائية، وبناء مسجد جديد حر لا يخضع للإدارة الفرنسية"، فقبلوا الشروط وتم الاتفاق، وفور شروعهم في تنفيذها بتأسيس الجمعية الخيرية رجع إلى مدينة تبسة(37) ، وفي انتظار بناء المدرسة المتفق عليها تبرع أحد أبناء تبسة المحسنين -وهو الحاج الحواس -بدار له فحولها الشيخ إلى مدرسة تضم حوالي 400 تلميذ، ويساعده في إدارتها أربعة معلمين(38).
    وقد تم بناء المدرسة سنة 1353هـ (1934م) وسميت مدرسة تهذيب البنين والبنات(39). وكانت تحتوي على ستة أقسام تدرس فيها العلوم العربية والدينية والتاريخ والعلوم الرياضية الضرورية في المستوى الابتدائي، وقد جهزت هذه المدرسة تجهيزا عصريا، وبلغ عدد تلامذتها عام افتتاحها 1934م خمسمائة تلميذ وتلميذة(40) ، وفي سنة 1355هـ (1936م) شرع في بناء المسجد الذي سمي مسجد المدرسة لكونه بني بجانب مدرسة "تهذيب البنين والبنات" ولما تم بناؤه كان الشيخ هو إمامه وخطيبه وصار قبلة الناس يوم الجمعة وغيرها.
   وقد حافظت المدرسة على نشاطها إلى غاية 1956م حيث أغلقتها والمسجد الحكومة الفرنسية وحولتهما إلى ثكنة عسكرية، ذلك أن الفرنسيين رأوا هذه المدرسة قاعدة من قواعد الثورة والجهاد(41).
   وكان الشيخ قد بدأ دروس التفسير في تبسة بالفاتحة ثم المعوذتين وتدرج فيه من قصار السور متجها إلى الطوال وسورة البقرة، وقد حكى أحد تلامذته المقربين أن الشيخ كان له درس يومي في التفسير بعد صلاة العشاء، إلا في ليالي رمضان فكان يجعل ليلة للتفسير وليلة للحديث النبوي(42)، قال أبو القاسم سعد الله وهو يعدد من انتدب لتفسير القرآن في الجزائر: « كان الشيخ العربي التبسي من هؤلاء المفسرين أيضا . بدأ ذلك بعد رجوعه من دراسته في الأزهر الشريف، كانت دروسه في الجامع الكبير بتبسة، وقيل إنه بدأ التفسير للعامة ولمن حضره من الخاصة ومن السور القصار وتنقل إلى البقرة، وكانت ثقافته الدينية الواسعة تؤهله لهذه المهمة، فقد كان مطلعا على التفاسير وعارفا بأحوال العصر ومقتنعا بدور العالم في هذا المجال ، فكان يتخذ من التفسير وسيلة للدعوة إلى التقدم والنهوض ، لأن القرآن في أساسه يدعو إلى ذلك، وكان يعتمد منهجا معينا: يقوم بشرح الألفاظ واستخراج المعاني وتطبيقها على الواقع، ولذلك كانت الدعوة إلى الاتحاد والتقدم واليقظة هي الغاية، وكذلك الدعوة إلى نبذ البدع والعمل بما جاء به القرآن، إن التبسي لم يستمر في مكان واحد ، فقد تنقل من "تبسة" إلى غيرها من مدن الغرب ثم قسنطينة ثم العاصمة، ولكنه لم ينفك عن إلقاء دروس التفسير ومواصلة ما بدأه إلى أن ختمه في آخر سنة 1956 وكان ذلك قبل استشهاده ببضعة أشهر فقط، وقيل إن تفسيره للقرآن دام اثنين وعشرين سنة»(43).
رابعا : الانتقال إلى قسنطينة
    ولما افتتح معهد عبد الحميد بن باديس عام 1366هـ (1947م) انتقل إلى قسنطينة بعد أن أسندت إليه مهمة إدارته، وقد بقي على رأسه إلى يوم غلقه سنة 1375هـ (1956م).
    ولم يكن انتقاله إلى قسنطينة أمرا سهلا بالنسبة لسكان تبسة، فإنهم ذاقوا طعم العلم ووجدوا حلاوته، وعاينوا نور الهداية بعد أن عاشوا في الظلمة دهرا، وشاهدوا أثر الحركة الإصلاحية التي أضحت حقيقة مفروضة في الشارع التبسي بفضل شخصية وعلم ودعوة الشيخ العربي بن بلقاسم، فكيف يمكنهم بعد ذلك أن يفرطوا فيه ويتركوه يذهب عنهم، وفي هذا يقول الشيخ البشير الإبراهيمي: «أرضينا سكان تبسة الكرام الذين كانوا يعدون انتقال الأستاذ التبسي عنهم كبيرة يرتكبها من يتسبب فيها، وأقنعناهم بأن الشيخ العربي رجل أمة كاملة لا بلدة واحدة، ورجل الأعمال العظيمة لا الأعمال الصغيرة فاقتنعوا، وأمنا لهم مشاريعهم العلمية والدينية بإيجاد من يخلف الأستاذ فيها فرضوا مخلصين»(44).
    ولم يقتصر نشاط الشيخ رحمه الله على إدارة المعهد والتدريس فيه، بل أعاد إلى الجامع الأخضر دروس التفسير التي غابت عنه بغياب ابن باديس، ولولا كثرة الأشغال التي كانت مسندة إليه لختم تفسيره فيه.
خامسا : المحطة الأخيرة في الجزائر العاصمة
    وبعد غلق معهد ابن باديس عام 1956م انتقل الشيخ التبسي رحمه الله إلى الجزائر العاصمة لإدارة شؤون الجمعية فيها، وما بقي من مدارسها ونواديها ومساجدها، وواصل دروس التفسير للعامة في مسجد حي "بلكور"(حي بلوزداد حاليا) الذي كان يكتظ بالمستمعين على الرغم من ظروف الحرب، وبدأ التفسير من حيث توقف في قسنطينة، وقد قيل إنه لم تبق له يومها إلا سورة البقرة، وكان رحمه الله يمزج دروسه بالدعوة إلى الجهاد في سبيل الله على نحو مؤثر قوي وحكيم في الوقت نفسه؛ حتى لا يجعل للاستعمار الفرنسي عليه سبيلا، ولم يزل كذلك حتى ختم التفسير، ولم تكن الظروف مواتية لتنظيم احتفال لهذه المناسبة العظيمة، فاكتفى أصحابه وتلاميذه بإرسال التهاني إليه، وذلك في أواخر 1956م أو أوائل 1957، ولم يمض وقت طويل بعدها حتى جاءت الساعة التي اختطف فيها رحمه الله تعالى(45).
المطلب الثاني : العربي التبسي وجمعية العلماء
   وبعد هذه الرحلة الطويلة مع نشاط الشيخ التبسي التعليمي نرجع للحديث عن دوره في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين .
أولا : دعوته إلى إنشاء الجمعية
    لقد كان من أماني الشيخ العربي التبسي تأسيس جمعية للعلماء والدعاة العاملين على ساحة الدعوة، تجمع الجهود لتصب في اتجاه واحد ، وتوقظ الأمة وتنشر فيها الوعي والعلم وتجدد لها أمر دينها، لذلك فقد عمل على تهيئة الأجواء المناسبة لتأسيسها، فدعا العلماء إلى ذلك، وحاول إشعار العامة بضرورة وجودها، وكتب مجموعة من المقالات نشرت له في الشهاب كلها حث وحض على الإسراع بإخراج هذه الجمعية إلى الوجود، ومن أصرح هذه المقالات ذلك المقال الذي نشره سنة (1926) بعنوان " أزفت ساعة الجماعة وتصرم عصر الفرد"، وقال فيه: « فإن هذا العصر عطل الفرد ونبذ حكمه ، وأمات مفعوله، وتجاهل وجوده، فأينما أملت سمعك أو أرسلت نظرك في الشرق أو الغرب، لم تجد إلا أمة فحزبا فهيئة منها وإليها كل شيء، فهي التي تذب عن الهيئة الاجتماعية، وتحرس الأمة في نوائب الدهر وعادية الأيام ، وتغار على كرامتها وحسن الحديث عنها، وتأخذ بيدها قبل أن تغرق عند هبوب السماسم ولفح الأعاصير، وتكون لسانها الناطق بطلباتها، وحسها المتألم لألمها »، ثم يقول فيه :« فلنول وجوهنا نحو هذه الأمة ونبحث من بينها على من تكون هذه المهمة؟ ومن يلزمه تكوينها وإخراجها إلى الناس حتى تكون سبة التفريط له إن هو تلكأ عن القيام بحق الأمة عليه »(46).
    وقد تألم الشيخ العربي رحمه الله كثرا من عدم شعور الأمة بحالها المزري وطول نومها وسباتها، تألم ألما لم يقدر على كبته فسطر مقالات عناوينها صيحات، فكتب رحمه الله هذه الكلمات التي أراها لا تزال صالحة أن يخاطب بها أهل زماننا الذين عادوا للنوم مرة أخرى، قال :" هذه جزائركم تحتضر أيها الجزائريون فأنقذوها"، وقال:" ألا أيها النوَّام هبوا". وقال:" الجزائر تصيح بك أيها الجزائري أينما كنت". واسمع إلى هذه الكلمات التي تعبر عن شدة تأثره وألمه لما حل بالإسلام وبأمته : «بكائي على الإسلام ومبادئه ونحيبـي على وحدة الدين الذي أضاعه بنوه، الذي أمر بالجماعة وحث عليها، بل وجعل المنشق عنها في فرقة من الدين وعزلة عن الإسلام وعداء لأهله. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو أن امرأ مسلما مات أسفا وحزنا على حالة هذه الأمة لكان له عند الله العذر. أيطيب لنا عيش مع هذه الحالة ؟ …»(47).   
    وكان الشيخ العربي التبسي ممن لبى نداء الشيخ ابن باديس عام 1928م الذي وجهه إلى بعض العلماء للتحضير إنشاء الجمعية، وحضر الاجتماع الذي سمي اجتماع الرواد(48) ، وكان ذلك من الخطوات السابقة لتحقق ذلك الأمل حتى جاءت سنة 1349هـ (1931م) فتجسد في أرض الواقع.
ثانيا : دوره في جمعية العلماء
   وبعد سنة 1349هـ كان له نمط آخر من النشاطات الإدارية ، وذلك في ظل المولود الجديد آنذاك وهو جمعية العلماء ، وهذا سردها بحسب ترتيبها الزماني :
-في 17 ذي الحجة 1349 (5ماي 1931م) حضر اجتماع تأسيس جمعية العلماء، ولم يترشح لإدارتها(49) في هذا العام لاعتبارات عدة، منها أنه كان غير مرضي عنه لدى الإدارة الفرنسية.
-في 19 محرم 1350 (28 سبتمبر 1932م) انتخب ضمن أعضاء إدارة الجمعية وأصبح نائب الكاتب العام (وهو العمودي).
-وفي سنة 1354هـ 1935م تم تعيينه كاتبا عاما للجمعية خلفا للأمين العمودي، واستمر في هذا المنصب إلى عام 1356هـ (1946م)(50) .
-وترأس أيضا خلال هذه المدة لجنة الفتوى التابعة لجمعية العلماء المسلمين .
-ولما توفي الشيخ ابن باديس سنة 1359هـ (1940م) خلفه في دروسه التي كان يلقي للطلاب بالجامع الأخضر حتى تمت السنة الدراسية.
-وفي العام نفسه انتخب الإبراهيمي رئيسا للجمعية وكلف العربي التبسي بإدارة شؤونها نيابة عنه، لأن الإبراهيمي كان في مدينة "آفلو" منفيا يومها.
-وفي سنة 1361هـ (1942م) قررت جمعية التربية والتعليم بقسنطينة نقل نشاطها الذي كان بالجامع الأخضر إلى تبسة نقلا مؤقتا ليشرف عليه الشيخ العربي التبسي عن قرب، ويستطيع التوفيق بينه وبين نشاطه التعليمي في تبسة، وذلك بعد أن عاود المرض الشيخ مبارك الميلي الذي أشرف عليها مدة عامين(51).
-وقد سجن عام 1943م مدة ستة أشهر وحكم عليه بالإعدام، بعد أن اتهم زورا بأنه على صلة بقائد الألمان في تونس ، فنجاه الله تعالى بأعجوبة بعد سعي إخوانه وتوسطهم لدى بعض العسكريين الفرنسيين(52).
-وتعطل عن النشاط رحمه الله ما بين 26 جمادى الأولى 1364هـ (9ماي 1945م) وجمادى الأولى 1365هـ (أفريل 1946م) بسبب اعتقاله من طرف الإدارة الفرنسية هو وجماعة من العلماء كخير الدين وسعيد الصالحي، وقد قضى هذه المدة بين سجن الحراش وسجن وهران ومعتقل "بوسوي" جنوب وهران(53).
-في 3 من ذي القعدة 1365هـ (29 سبتمبر 1946م) انتخب نائبا لرئيس الجمعية الشيخ البشير الإبراهيمي.
-ترأس لجنة التعليم العليا التي تأسست عام 1367هـ (1948م) وكانت مهمتها القيام على إعداد البرامج التعليمية وإدارة مدارس الجمعية والتفتيش(54).
-وفي صفر1370هـ (نوفمبر 1950م) سافر رفقة الإبراهيمي إلى فرنسا للمطالبة بتحرير التعليم العربي، ولما رأى حال العمال الجزائريين هناك، وحاجتهم إلى التعليم لفت أنظار العلماء إلى القضية، ودفع بالجمعية إلى تنظيم الدعوة في فرنسا(55).
-وفي سنة 1371هـ(1952م) رحل البشير الإبراهيمي إلى المشرق، فتولى العربي التبسي رئاسة الجمعية نيابة عنه إلى أن توقف نشاطها عام 1375هـ(56).
المبحث الثالث : الأصول المنهجية لدعوته
     تتمحور أصول الدعوة الإصلاحية السلفية في عناصر أربعة كبرى ، هي إصلاح العقائد وتطهيرها من الشركيات وبدع الكلام ، إصلاح الفقه ومواجهة بدعة التعصب المذهبي ، إصلاح السلوك ومحاربة بدع الطرقية، وإصلاح المجتمع وكيفية النهوض بالأمة.
المطلب الأول : العقيدة وبدعة الكلام
    أما عقيدته فهي إن شاء الله تعالى عقيدة سليمة مبنية على أدلة الكتاب والسنة الصحيحة وفهوم السلف الصالح، يدلنا على ذلك: إنكاره لمظاهر الشرك والاعتقاد في القبور، وهو أمر مشهور عنه وعن غيره من علماء الجمعية، قال وهو يقرظ رسالة الشرك ومظاهره ويثني على صاحبها الشيخ المبارك الميلي: «خدم بها الإسلام ونصر بها السنة وقاوم بها العوائد الضالة، والخرافات المفسدة للعقول»(57) ، ويدل عليه كذلك دعوته إلى أخذ العقيدة من منابعها الصافية، من الكتاب والسنة، وحثه على اعتماد فهوم السلف الصالح والسير على منهاجهم، قال رحمه الله تعالى معرفا بدعوة الجمعية: «تتلخص في دعوة المسلمين إلى العلم والعمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم، والسير على منهاج سلفهم الصالح في أخلاقهم وعباداتهم القولية والاعتقادية والعملية»(58).
   وقد كان الشيخ معظما جدا سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وقد أكد في غير موضع من مقالاته على لزوم التقيد بفهمهم، وتقديم آرائهم على آراء المتأخرين الذين أصبح كثير منهم يحكمون العوائد يستحسنون البدع، وقد جعل الالتزام بأقوال السلف في العقائد والأعمال أصلا من أصول الإسلام، قال رحمه الله: « بهذا الأصل صار الدين لا يمكن أن يؤخذ بحكم العوائد والمحاكاة ، ولا تَعَلُّمُهُ من الجاهلين ، وإنما يؤخذ حقا تعلما عن أهل العلم الحقيقيين، الذين يستمدون فهومهم من عناصر الدين الأولية التي هي الكتاب والسنة على مقتضى فهوم الأولين من علماء الإسلام، الذين إذا تكلموا على العقائد بينوها وبينوا مآخذها وأدلتها ، وشرحوا ما أذن لهم في شرحه ، وتوقفوا فيما لا مجال للعمل فيه، أو ردوه إلى ما وضح معناه وظهر مغزاه»(59).
      وكان رحمه الله تعالى على بينة من مخالفة المتأخرين من أتباع المذاهب لعقائد السلف وانحرافهم عن منهج أئمتهم المتبوعين، حيث قال في موضع هو يشرح معنى قولهم فلان مالكي:«ونقول مالكي على معنى أنه يذهب إلى ما يذهب إليه أبو عبد الله مالك في القواعد الفقهية التي امتاز بها مذهبه، وإن خالفه في مسائل علم الكلام»(60). والمقصود بمسائل علم الكلام مسائل العقيدة التي اختلفت فيها الفرق الإسلامية بعد عصر السلف، فليس كل منتسب إلى مالك في الفقه مالكي في العقيدة ، إذ عقيدة الإمام مالك هي عقيدة السلف الصالح، وعقيدة المتأخرين من المالكية هي العقيدة الأشعرية، التي يعلم المحققون أنها تخالف في كثير من الأصول والقضايا عقيدة الإمام مالك وغيره من أئمة السلف(61).
المطلب الثاني : الفقه وبدعة التعصب المذهبي
    ومن أهم ميادين الإصلاح ميدان علم الفقه ، حيث زعم أهل العصور المتأخرة أن هذا العلم نضج واحترق، فلم يعد للاجتهاد فيه مجال، فأوجبوا التقليد على العالم والمتعلم وحرموا النظر والاجتهاد ، وكان من أثر ذلك أن ظهر النقص والعجز في فتاوى المنتسبين إلى الفقه، وشاعت بدعة التعصب المذهبي التي فرقت الشمل الإسلامي وأبعدت الأمة عن وحدتها وعن مصادر دينها الكتاب والسنة ، وعطلت فكرها وعقلها وجعلت الشريعة في نظر كثير من الناس ناقصة وغير صالحة لأن يعمل بها في هذه الأزمان.
     وقد خاض الشيخ رحمه الله حربا ضروسا على هذه البدعة وحراسها باللسان وخط البنان فكان مما خطه بيمينه هذه الكلمات القوية والحجج الدامغة، قال رحمه الله تعالى :« وقد رأينا هذا الزاعم يقول إن الأخذ بظواهر أقوال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأعماله اجتهاد، والاجتهاد قد تقضت أيامه وماتت رجاله، وبذلك يجب على المسلمين أن يتركوا كل آية من الكتاب، وكل قول وعمل من رسول الله، ولا يهتدون بشيء من كتاب ربهم ولا من سنة نبيهم وعليهم أن يقتصروا على ما كتب في الفروع ، يحلون ما أحلت ، ويحرمون ما حرمت ويوالون من والت ماداموا غير مجتهدين .
    هذه هي مقالة هذا المفتي المزهدة في كتاب الله، الصادة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهي باطلة بإجماع المسلمين من يوم أن بعث نبيهم إلى اليوم ، ذلك أن العلماء والعوام يعملون بأقوال النبي وأعماله من غير توقف على وصولهم إلى رتبة الاجتهاد، وهذا أمر معلوم في الإسلام من عصر الصحابة إلى اليوم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل »(62).
     وقال أيضا رحمه الله تعالى:«   رد السنن النبوية قولية أو عملية بمجرد مخالفتها لمذهب من المذاهب محادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخروج أيضا عن امتثال حديث:" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"(63)، وعصيان أيضا لوصايا أئمة الإسلام الثابتة عنهم بأصح أسانيد أصحابهم إليه، وفي مقدمة أولئك الأئمة مالك بن أنس رضي الله عنه الذي روى عنه أصحابه كمعن بن عيسى أنه كان يقول:" إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ".
    وكم له ولغيره من عبارات في هذا المعنى منادية بعرض أقوال الرجال على سنة خير الأنام، ولكن وصاياهم عطلها، بل نبذها الخلف الذي انتسب إليهم -بعد ألف سنة أو تزيد – انتسابا لو قدر لمالك رضي الله عنه أن يبعث حيا من قبره لقال في نسبة هذا الرهط إليه المخالفين لوصاياه المعطلين لروح مذهبه ما قال عيسى صلوات الله عليه في أولئك الذين كذبهم بقوله: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة:117) . والله يشهد، وأولوا العلم يشهدون أن مالكا بريء من كل نابذ لسنة عملية أو قولية بدعوى المتمذهب بمذهب مالك ، أو أن كتب المالكية ليس فيها ما يصدق تلك السنة.
   وحاشا مالكا أن يقول صدقوا ما يقوله ابن شاس في الجواهر، واكفروا بصحيح الحديث »(64).
    ولم يكن تبني هذا المبدأ (اتباع الدليل وعدم التقليد) مجرد دعوى فارغة، بل كان الشيخ العربي عالما مقتدرا على الاجتهاد متمكنا من الاستدلال مستقلا في النظر والفتوى ، وإنَّ أي قارئ لفتاويه يجد أثر علم أصول الفقه في كلامه ويتبين غلبة العلم عليه، سواء عند توظيفه لاصطلاحات العلم ، أو عند استدلاله على المسائل، وكان رحمه الله تعالى مفتيا مجتهدا مرجحا بين المذاهب ، ومخرجا ومنظرا في مسائل النوازل ، ومعتمدا في كل ذلك على الأدلة الشرعية الكتاب والسنة ، ومعظما لأهل الحديث ناقلا لآرائهم ومستندا إلى استدلالهم(65) ، والاعتماد في الفتوى على الحديث وتبويبات المحدثين أمر خارق للعادة في مثل العصر الذي كان فيه الشيخ رحمه الله تعالى، وإنه لأمر ينبئ عن اقتناع عميق بمبدأ المدرسة الإصلاحية السلفية، ولم يكن داعيا إلى إهمال أقوال العلماء كما ينسبه البعض إلى رجال الإصلاح تشنيعا عليهم، وصدا للناس عن اتباعهم والاستماع إلى كلامهم ، بل كان مستنيرا بها مهتديا بها ، وسبق نقل كلامه في ذلك . وكان في فتاويه مراعيا- إلى جانب النصوص- مقاصد الشريعة الغراء ومتبنيا مبدأ سد الذريعة(66) ، ومعتبرا لمقاصد المكلفين(67).
    وقد شهد له ببعض هذه المعاني التي ذكرنا المؤرخ أحمد توفيق المدني(68) الذي وصف الشيخ التبسي أنه كان يعد من المراجع الكبرى في الفتوى في الجزائر، وكانوا يعرضون عليه الأمور المعضلة التي يحار فيها علماء الشريعة، فيجدون عنده الفتوى الصحيحة القائمة على القرآن والسنة، وكان الشيخان ابن باديس والإبراهيمي يبعثان إليه بكثير من الأسئلة الفقهية التي ترسل إلى جريدة البصائر وغيرها، فيتولى الإجابة عنها ، وكان رحمه الله راوية لفقه مالك لا يجاريه أحد في هذا المضمار، مع اطلاع واسع على المذاهب الأخرى، وإذا استفتي في مسألة يذكر أقوال المالكية وغيرهم ولا يتعصب لمذهب (69).
نموذج من كلامه في الأصول
    قال في مقدمة بدعة الطرائق في الإسلام:« الأدلة التي تثبت بها الأحكام والأخلاق الدينية الكتاب إجماعا والسنة الصحيحة كذلك، والسنة أقواله وأفعاله وإقراره وشمائله صلى الله عليه وسلم ، والإجماع بشروطه ومنها أن يكون له مستند، والقياس بشروطه ومنها أن يكون حكم الأصل المقيس عليه منصوصا ومنها أن لا يكون الفرع معارضا بنص . إذا تقرر هذا جزمنا بأن العمدة في دين الله؛ الكتاب والسنة ليس غير، أما الإجماع فقد عاد إليهما باشتراط المستند ، وغايته رفع الاحتمالات والأنظار عن دليله، وأما القياس فلا يصار إليه إلا عند الضرورة، وهي عدم النص من كتاب أو سنة. فإن وجد النص منهما أو من أحدهما كان القياس فاسد الاعتبار، وإذا تم القياس فقد قال القائلون به إنه يتضمن دليل المقيس المنصوص بالكتاب أو السنة اللذين هما مصداق قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (المائدة:3) وهي من آخر ما أنزل من القرآن»(70).
المطلب الثالث : السلوك وبدع الطرقية
    من أظهر الأصول المنهجية للدعوة الإصلاحية مقاومة الابتداع في الدين الذي يرعاه ويحميه الطرقية المرتزقة الذين يزعمون أنهم صوفية زهاد، والشيخ العربي رحمه الله أحد رجال الإصلاح السلفيين الذين جهروا بضرورة الالتزام بالسنة النبوية وحذروا من خطورة البدعة في الدين ، ومما كتبه الشيخ في الحث على إحياء السنن والعمل بها مقال كتبه في العدد الأول من جريدة السنة ومما جاء فيه قوله:« وإني لا أدع هذه الفرصة تمر دون أن أنهي إلى أنصار السنة المحمدية أشهى التهاني بهذه الجريدة المباركة على السنة وعلى أهل السنة الذين تحيا أرواحهم وتستنير بصائرهم بالعمل بالسنة »، وقوله :« على أن هذه الجريدة ستقضي عمرها على منهج السنة وتسير على ضوئها وتأتمر بأوامرها وتنتهي عند مناهيها وتوالي من تواليه السنة وتحب من تحبه السنة لا تعرف للعصبية أهلا ولا للطائفية لغة وسيكون شعارها ودثارها ووصفها المميز لها حديثي :« البغض في الله والحب في الله أوثق عرى الإيمان »(71) ، « وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين »(72)(73).
    وكانت دعوته إلى اتباع السنة في مقالاته ودروسه ظاهرة ، وكانت لها نتائجها وآثارها ، وهذه شهادة الأستاذ مالك بن نبي على شيء من التغييرات التي أحدثها الشيخ العربي في مدينة تبسة :« وحتى مواكب الجنازات أضحت في أغلب الأحيان صامتة ، فلم يعد الناس ينشدون قصيدة البردة وراء نعش الميت، لقد أضحت تصرفات الناس لهذه الجهة ترتبط بموقفين عقائديين… » ثم  يقول:« أما العائلات التي تتبع العادات الجديدة في تلك المناسبات فهذه تعد من مؤيدي الشيخ  العربي ، لقد بدأ  الناس يأخذون بشكل غامض منحى العودة إلى تلك الطريقة الصحيحة التي يمثلها الشيخ، والتي سيطلق عليها فيما بعد اسم الإصلاح أو السلفية » (74).
    وقد كتب مقالات كثيرة يحذر فيها من البدع وأهلها ويكشف فيها مخالفات الطرقية لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مركزا في بعض الأحيان على أبشع هذه المخالفات التي تجعل هؤلاء المبتدعة أعدى أعداء الإسلام وخطرهم أعظم من خطر الكفار الظاهرين كتحليل الحرام والتصدي للتشريع من دون الله تعالى، وصد الناس عن العلم والعلماء بل وعن القراءة والكتابة، في هذا يقول رحمه الله تعالى:«ألا إن أعدى المسلمين للإسلام أولئك النفر الذين يظنون من قبل أنفسهم أنهم أولياء الرحمن وأحباؤه، وملؤوا أنفسهم ومن يتبعهم بأماني هي ضلال وما أرادوا بها صوابا. فاستباحوا من الله المحارم، وتعدوا له الحدود وأعرضوا عما فيه من الهدى فاغتر بهم الجهال وانقاد لهم الأغرار ودخلوا على الناس في عقائدهم ولبسوا عليهم أمر دينهم، وزهدوا الأمة الإسلامية في علمائها الذين أمر الله أن يرد إليهم الأمر»(75).
   ويقول أيضا:« ها أنتم استطعتم أن تفتنوا الأمة في دينها وتحيدوا بها عن أولياء الدين الذي جعلتم أهله شيعا وأضرابا كل يصف غيره بأنه السالك بنيات الطريق، والله يؤاخي بينهم ويأمرهم بولاية بعضهم بعضا ، ورسول الله يحثنا على رص الصفوف وجمع الكلمة حثا ، فهل تستطيعون يوم يذاد من بدل وغير عن الحوض أن تغنوا عنهم من عذاب الله شيئا؟ …فهل هؤلاء الطرقيون أهدى من أولئك القوم الذين أنعم الله عليهم ؟؟؟ أم أرادوا أن يعيدوا تاريخ الكنيسة في الإسلام ، ويزعموا الزعامة الدينية ، ويتولوا وظيفة التشريع والهدى »(76) .
    ومن أشهر ما كتب في إبطال بدعهم مقالات:"بدعة الطرائق في الإسلام" التي نشرت في ثلاثة أعداد، ومنها مقال « من غشنا فليس منا أيها الطرقيون » كشف لنا فيه عن تآمر الطرقية مع الاستعمار، فقال: « وإن مؤامرات تحاك في الخفاء ضد هذه الأمة، والمتآمران هما الحليفان على الكيد للجزائر؛ الاستعمار والطرقية ، وعلام يتآمرون؟! على الإسلام الخصم الألد للاستعمار والطرقية في هذه الديار …أيتها الأمة إن هذا السهم سدد إلى كبدك لأنه سدد إلى دينك ، فكوني على حذر مما يراد بك؛ إنك إن أغضيت على هذا الهوان فلا تري بعده إلا ما تكرهين، إنك إن لم تغاري على دينك لم تغاري على شيء، وإن أضعت الدين فأنت لما سواه أضيع، ولا تغتري بهؤلاء الذين ينتسبون للدين، ويتظاهرون بالغيرة على الدين ثم يتآمرون مع أعدائك ضد هذا الدين»(77) ).
    وهذه شهادة أحد تلاميذ الشيخ حول دعوته في منطقة تبسة، يقول العيد بن أحمد مطروح:« كان الشيخ العربي رحمه الله يهاجم البدع والطرقية ، لقد كانت في تبسة كل البدع المنتشرة في الوطن الجزائري، كانت فيها الزردة والوعدة، وكان الخوف الشديد من شيخ الطريقة، والدعاء للشيخ والتبرع باسم الشيخ (يقصدون بما يعطون الشيخ لا وجه الله) وكان بعض العوام يقدسون بعض الأشجار والأحجار ، ويقدمون إليها القرابين ، فأبطل الشيخ بدروسه هذه العادات الفاسدة، فلم يبق منها قبل الثورة إلا الشيء التافه القليل، واليوم في عام 1386هـ قد تنظفت تبسة فلم يبق منها شيء والحمد لله»(78).
المطلب الرابع : منهجه في الإصلاح
    ومن الأصول الفكرية للدعوة الإصلاحية الحديثة أن منهاج الإصلاح وطريق التغيير وسبيل النهوض بالأمة ، سبيل خاضع لسنن كونية لا تتبدل منها قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11) وقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور:55) وتابع لأحكام شرعية منها ما هو ثابت في كل حال، ومنها ما هو مختلف باختلاف حال المسلمين من حيث القوة والضعف، ونظرة الشيخ العربي هي نظرة الإصلاحيين السلفيين عينها، بل هو من أحسنهم تعبيرا عن كثير من تفاصيلها، ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى وهو يعين سبب تخلف المسلمين وتأخرهم : « إن الأمة الجزائرية كغيرها من الأمم الإسلامية أسباب التأخر فيها لا ترجع إلى عهد قريب ، وإلى سبب مباشر غير مخالفة الدين الذي بناه رب العزة في أحكم نظام وأمتن أساس». وقوله في السياق نفسه :« فلما انتقل الأمر إلى خلفهم ضلوا السبيل ، واستحبوا العمى على الهدى، وأضاعوا ما خلص إلى أيديهم من تراث أسلافهم ، وانحلت عزائمهم ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون عاقبة ما سيحيق بهم ، ولم يرفعوا بما أتى به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأسا، ولا تأسوا بمن أوصاهم بالتأسي به فحصدوا الخسران المبين ونزل بهم البلاء المقيم »(79).
     وقال رحمه الله في موضع آخر:« لست أعرف ابتداءه تاريخيا ( يعني الانحطاط) ولكني أستطيع أن أحدده بظهور آثار التغير في هذه الأمة ، وأزعم أنه يبتدئ من يوم أضاع الناس السنة المحمدية وركنوا إلى بدع الرجال التي صرفتهم عن التربية المحمدية والأخلاق الإسلامية، وظهر في الشعب رؤساء ينسبون إلى الدين ، فكان وجودهم سببا في انقسام في الوحدة ، واختلاف في الكلمة ، وذيوع الأهواء ، وتَحيُّز جماعات الأمة إلى نزاعات تفت عضد الوحدة المقصودة للدين، حتى أصبح الحب والبغض ليسا في الله كما هي القاعدة الدينية ، واتخذ الناس رؤساء جهالا بدعيين يعدونهم من أولياء الله وخواص عباده المقربين عنده ، ففتنت بهم جهلة الأمة وأشباه الجهلة ، فنصروهم على عماية واتبعوهم على غواية وصار الدين ألعوبة في يد هؤلاء الرؤساء وأتباعهم»(80).
    وإذا كان سبيل التغيير في المرحلة الأولى التي هي أطول المراحل هو تغيير النفوس بردِّها إلى شريعة رب العالمين وإلى سنة سيد المرسلين وتربيتها على الدين الخالص، فإن كل من أراد سلوك سبيل غير هذا السبيل في الإصلاح فهو على غير هدى في حكم الشرع ولن يفلح بحكم السنن الكونية ، ومن ذلك سبيل خوض المعتركات السياسية الذي تقحمه بعض المثقفين الجزائريين في تلك الحقبة الزمانية ، وقد صرح الشيخ التبسي أن سبيلهم هذا سبيل فاشل وآيل إلى طريق مسدود، وبين أن دواء الأمة هو الرجوع إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح لا غير ، قال رحمه الله تعالى : «وها هي السياسة قد خابت وخاب السياسيون ، وخابت الآمال على تلك السياسة ، وخبنا فيما نرجوه لإصلاح حالتنا …و ها نحن قد التمسنا مجموعة من الأدوية وجماعات من الأطباء فلم نشف من أمراضنا، ولم نبرأ من أسقامنا، ولم تعد إلينا صحتنا ، فهل من دواء لأمراضنا ؟…نعم الدواء لأمراضنا والترياق المجرب لأمراضنا واحد لا ثاني له ، وما ذلك الدواء إلا عودتنا تائبين إلى العمل بشريعتنا الإسلامية المعصومة الكفيلة بإسعاد هذا الفرد الشقي وإصلاحه من جميع نواحيه ، ومداواته من كل أمراضه ، كما داوته يوم فسد قبل الآن بأربعة عشر قرنا . واسألوا التاريخ أيها المرتابون عن ذلك إن كنتم في ريب من هذه الحقيقة ؛ الشريعة الإسلامية المحصورة في كتاب الله وسنة رسوله وفهوم السلف الصالح، لهما دواء للإنسانية في فردها وجماعتها»(81). ولا يفهم من هذا أن الإسلام لم ينظم الأحكام السياسية ، وأنه ليس فيه سياسة ، لأنه لا تلازم بين المعنيين ، وكذلك من يقول إن سبب تخلف المسلمين هو ضعفهم من الناحية الاقتصادية فلابد من دفع الاقتصاد حتى تسترجع الأمة مجدها ، فإن جواب المصلحين بتخطئة هذا الرأي لا يعني أن الإسلام لم يُعن بتنظيم الاقتصاد ولا يستلزمه، والذي نعتقده ويعتقده أهل الإصلاح أن كل سياسة لا تلزم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومقاصد الشريعة ، فهي سياسة باطلة وفاشلة سواء كان متبنيها حاكما أو محكوما، ومن أهم قواعد السياسة الشرعية قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: »إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم »(82)
   وكتب رسالة خاصة إلى زروق موساوي الذي كان ضمن بعثة الجمعية في العراق يبين له الأدب في الحديث عن ولاة أمور المسلمين وفي مخاطبتهم، بعد أن كتب هذا التلميذ ما أساء به إلى حكام بعض البلاد الإسلامية، قال زروق:« أرسل إلي شخصيا يعاتبني ويوجهني الوجهة الصحيحة وسوف تجدون فيها المنهاج الإسلامي الصحيح الذي من ابتعد عنه لا ينجح أبدا ، وقد نهاني أن نقاوم المسؤولين بالعنف والاتهامات الباطلة، وأن نسير على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أفشل الدعاة في كثير من بلدان العالم الإسلامي إلا الاستعجال في محاولة الوصول إلى الحكم بجميع الطرق ، والإسلام خاضه غربا وشرقا ، داخليا وخارجيا الملحدون والعلمانيون والسفهاء والمستغلون والوصوليون والانتهازيون ، كل هؤلاء يخافون من الإسلام الصحيح … وقد كان أول داعية يسير في اتجاه الإخوان الصحيح الذي يرفض العنف ، وقد كان سببا في تراجع بعض دعاة الإسلام في هذا الطريق السوي ومنهم أستاذنا الفضيل الورتيلاني»(84).
المبحث الرابع : من مواقف الشيخ العربي التبسي
    العلماء الربانيون هم العلماء الذين يصدعون بالحق ويحملون لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، وقد كان الشيخ العربي التبسي رحمه الله تعالى مضرب المثل في الصلابة في المواقف والصدع بالحق، من غير مجاوزة لحدود الشرع أو إهمال المصالح الشرعية(84).
المطلب الأول: موقفه من تدخل الحكومة في الشؤون الإسلامية
    ومن مواقفه الجريئة التي لا تخرج عن إطار الشرع تلك التي طالب فيها بفصل المساجد عن الحكومة الفرنسية، أو التي طالب فيها بأن تبقى المساجد لله لإقامة شعائر الدين وللتعليم العربي الإسلامي ، ومنع فيها من أن تصير المساجد وأوقافها لخدمة الحكومة وسياستها، ومما قاله في هذا المعنى :« والباقية[أي المساجد] على ملك الحكومة التي تعمرها بموظفين منفذين لسياستها وما ترمي إليه ، المختارين منها بسلوكهم وتفانيهم في طاعتها لا في طاعة الله، فإن الإسلام الحقيقي لا تقام شعائره الدينية فيها، ولا تقرأ علومه الإسلامية النافعة، ولا يرخص لعامة المسلمين وخاصتهم أن يكونوا أحرارا في تلك المساجد ، التي بصفتها بيوتا لله أذن لعباده أن يكونوا فيها متساوين ، ومن قبل فيها ما تشاؤه الحكومة لا يشاؤه الله ، فإنه اتبع غير سبيل المؤمنين وتسقط عدالته ، وهو ممن قال الله فيهم: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا) (آل عمران152)»(85). ثم إن الشيخ كان ممن حرر فتوى الامتناع عن الصلاة وراء الأئمة الرسميين الحكوميين بحكم سقوط عدالتهم بولائهم للحكومة الفرنسية وخدمتهم لخطتها(86).  
المطلب الثاني : موقفه من فكرة الإسلام الجزائري
    ومن الأفكار التي روجها الاستعمار -ولا زالت رائجة- فكرة الإسلام الجزائري ، التي أراد من خلالها تشويه دعوات الإصلاح باعتبارها دعوات وافدة وليست أصيلة، وقد أنكر الشيخ هذه الفكرة إنكارا شديدا ونسبها إلى مصدرها وكشف عن الشر المختفي وراءها، وكان مما كتبه في نقدها قوله رحمه الله تعالى : «غلبت فرنسا الجزائر وافتكتها من حكومتها الشرعية التركية، حكومة الخلافة الإسلامية ، وأخذت تحولها إلى مصنوعات كيمياوية، فتصنع للجزائريين ما شاءت من مصنوعاتها ، فصنعت لهم إسلاما جزائريا، وهو الإسلام الذي به الناس اليوم في مساجد الحكومة . الإسلام الجزائري في حقيقته ترتيب سياسي من تراتيب أنظمة الاستعمار في الجزائر ، ومعابده نوع من الإدارة الفرنسية ، وموظفوه فوج من أفواج الجندية الاستعمارية ، وأمواله قسم من أموال الدولة . ذلك هو الدين الجزائري الذي تبغيه فرنسا ولا تبغي الإسلام الحقيقي دين الله ولا تأذن له بالاستقرار في الجزائر »(87).
المطلب الثالث : دفاعه عن الدعوة السلفية
    كتب بعض الطرقيين مقالا يتنقص فيه من السلفيين ومن دعوتهم، وألزمهم أن يكون مثل الصحابة وإلا كانت دعواهم غير صحيحة ودعوتهم باطلة، فتصدى الشيخ رحمه الله تعالى للرد عليه، وكان مما قاله :« وهذه الطائفة التي تعد نفسها سعيدة بالنسبة إلى السلف وأرجو أن تكون ممن عناهم حديث مسلم (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) الحديث(88). فقد وُفقوا لتقليد السلف في إنكار الزيادة في الدين، وإنكار ما أحدثه المحدثون وما اخترعه المبطلون، ويرون أنه لا أسوة إلا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو من أمرنا بالائتساء به، فلما شاركوا السلف وتابعوهم في هذه المزية الإسلامية نسبوا أنفسهم إليهم، ولم يدع أحد منهم أنه يدانيهم فيما خصهم الله به من الهداية التي لا مطمع فيها لسواهم». وقال أيضا:« أما السلفيون الذين نجاهم الله مما كدتم لهم فهم قوم ما أتوا بجديد، ولا أحدثوا تحريفا، ولا زعموا لأنفسهم شيئا مما زعمه شيخكم، وإنما هم قوم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر في حدود الكتاب والسنة، وما نقمتم منهم إلا أن آمنوا بالله وكفروا بكم»(89).
المطلب الرابع : الشجاعة وسرعة البديهة
    ومن خصال الشيخ العربي رحمه الله تعالى التي عرف بها وشهد له غير واحد ممن عرفه الشجاعة والجرأة في الدفاع عن الحق، وعدم التخاذل عن نصرة من ينصر الحق ، وأنه كان لا يخاف في الله لومة لائم ، وقد سجل بعض من عرفه عن قرب بعض المواقف الشجاعة ، ومن ذلك ما سجله الشيخ محمد الصالح بن عتيق رحمه الله(90) ، حيث قال وهو يتحدث عن العربي التبسي :« وكانت له أجوبة مسكتة وحججا مفحمة لخصمه …ومنها ما حدث له مع الدرك الفرنسي بمدينة البويرة سنة 1955م ، ولما أوقفوا السيارة التي كان يمتطيها هو وصحبه ، وطلبوا من ركابها تقديم أوراق التعريف ، فأخذوها وذهبوا بها إلى إدارتهم ، ولم يعودوا بها في الحال، وكان أحد الدرك قريبا منا فناداه الشيخ وقال له : قل لأصحابك يعيدوا أوراقنا فنحن على سفر ، وليس معنا من الوقت ما نضيعه هنا . فذهب وجاء ومعه الضابط يحمل أوراق التعريف ، وأخذ يقرؤها ويتعرف على أصحابها ، وهم الشيخ العربي التبسي من تبسة ، والشيخ عبد اللطيف سلطاني من القنطرة ، والشيخ محمد الصالح بن عتيق من ميلة ، فظهر على الضابط شيء من التعجب لاجتماع شخصيات من جهات مختلفة .. ثم وجه سؤالا في غطرسة وكبرياء قائلا : من أين أنتم وإلى أين تتجهون ؟ فأجابه الشيخ العربي: جئنا من العاصمة ومتوجهين إلى شرق البلاد. قال الضابط : ما أتى بكم إلى الجزائر وأنتم من الشرق ؟ فأجابه الشيخ على الفور: ليس العجب أن نأتي إلى الجزائر وهي بلادنا ، ولكن العجب أن يأتي إليها قوم ليسوا منها !! فطأطأ الضابط رأسه وأشار في عنف إلى السائق بالمسير»(91).
   ومما حكي عنه في هذا المضمار أنه كان كلما استدعاه الفرنسيون لحضور احتفالاتهم لم يجب، ومرة أقاموا حفلا في الجامع العتيق بتبسة وخطب فيه الفرنسيون وعملاؤهم، ولما تغيب التبسي استدعاه الحاكم العسكري ليسأله عن غيابه ، فقال الشيخ: لقد استدعيتموني إلى الجامع الذي دخلتموه وخطبتم فيه ، وهذا لا يجوز عندنا في الدين، فليس لكم دخوله! إنني لا أحضر المعصية ولا أقرها، فاغتاظ الحاكم وصاح في وجهه مهددا:"إنك ضد فرنسا " فأجابه: أنا ضد الظلم والاستبداد! فإذا كانت فرنسا ظالمة فأنا ضدها، فقال الحاكم: تذكر أن فرنسا قوية وتستطيع أن تفعل بك ما تريد! فأجابه الشيخ:"ومتى كان للجزائري حق عندكم!؟ إنه كطرد بريدي توجهونه حيث تريدون »(92).
المطلب الخامس : تضحيته في مجال الدعوة إلى الله
    أما تضحية هذا الإمام فلا تحتاج إلى وصف ، فأعماله التي نقلت إلينا عناوينها دالة على ذلك وشاهدة به، وقد كان الشيخ داعيا إلى التضحية بأقواله وأعماله ، بأقواله البليغة وكلماته الصادقة التي كان يلقيها في المحافل والمناسبات ، فكانت تقع من النفوس موقعها ، وسرعان ما يرى على الناس أثرها ، لأن الشيخ رحمه الله قد جمع في هذا الباب بين القول والعمل فكان هو السباق إلى كل ما كان يدعو إليه ويرغب فيه ، ومن خطب الشيخ في هذا المضمار قوله يوما في لقاء مع إخوانه في إدارة الجمعية : «فلتكن الأخوة رائدنا وليكن الإخلاص رابطنا ، ولتكن النزاهة شعارنا ، وليكن نكران الذات القاسم المشترك الأعظم بيننا. إنه لا يمكن إرضاء الإسلام والوطن، وإرضاء الزوج والأبناء في وقت واحد ، إنه لا يمكن لإنسان أن يؤدي واجبه التام إلا بالتضحية ، فلننس من ماضي الآباء والأجداد كل ما يدعو إلى الفتور وإلى الموت ، ولنأخذ من ماضيهم كل ما هو مدعاة قوة واتحاد »(93).
    وكان مما قاله في يوم افتتاح معهد ابن باديس في كلمة ألقاها على مسامع المشايخ والمعلمين :« أيها الإخوان إن التعليم بوطنكم هذا في أمتكم هذه ميدان تضحية وجهاد لا مسرح راحة ونعيم ، فلنكن جنود العلم في هذه السنة الأولى ولنسكن في المعهد كأبنائنا الطلبة، ولنعش عيشهم ، عيش الاغتراب عن الأهل ، فانسوا الأهل والعشيرة ولا تزورهم إلا لماما ، أنا أضيقكم ذرعا بالعيال وعدم وجود الكافي ، ومع ذلك فها أنا فاعل فافعلوا و ها أنا ذا بادئ فاتبعوا »(94). وقد حكى الشيخ الإبراهيمي أن التبسي لم يكن يرضى أن يأخذ مقابلا على أعماله قال: « أما هو فلم يزل مصرا على التبرع بأعماله خالصة لله وللعلم»(95).
   وكان الشيخ قد اعتقل عدة مرات، وسجن إثر حوادث 8ماي 1945 وحكم عليه بالإعدام ، وبقي مدة تحت الإقامة الجبرية في مشرية وغيرها حتى أفرج عنه في ربيع 1946م، ولم يثن كل ذلك من عزيمته ولا قلل من أعماله وتضحيته، ولقد كان الشيخ رحمه الله مثالا يقتدي به إخوانه ويتصبرون به، وقد بقي على هذا حتى لقي الله تعالى .
المطلب السادس : نصيحته للإخوان المسلمين
    لقد لقي الشيخ العربي التبسي في جولاته بالمشرق بعض قيادات الإخوان المسلمين بمصر ، ولاحظ منهم التهور والتسرع واستعمال العنف في مخاطبة حكومتهم، فنصح لهم وحذرهم من مغبة سلوك هذا المنهج، وأرشدهم إلى الصبر والتأني والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبقي مصرا على تكرير نصحه رغم قلة الموافقين له وكثرة المخالفين، أخبرنا الشيخ رحمه الله بذلك فيما سطره بيده وأرسله نصيحة وتوجيها لأحد تلاميذه فقال:« فإن هذا الأسلوب، وهذه اللغة هي التي فيما أعتقد جلبت الكراهة والابتلاء على الحركة ، إذ كان إخواننا الذين اجتمعت بهم من قادة الحركة مثل عبد الحكيم عابدين وسعيد رمضان ، وغيرهم كانوا يركبون مثل هذه الألفاظ وأوجع منها في شأن أولي أمرهم، ولا يتعففون عن قواذع ومحرمات بعض الألفاظ، ويرمونهم ببعض الجرائم التي ما أذن الله لأحد أن يرمي بها مسلما إلا إذا ثبتت بشهودها ، سمعت مثل هذا في جدة ، وفي دمشق، في مناسبات لا تحصى ، وكنت على ضعف بضاعتي العلمية والبيانية لا أبخل عليهم برأي ربما أراه يبقي على الحركة ويقويها ، ويهيئ لها النجاح والسلامة ، وكنت لا أجد في الإخوان معينا لي على تلك النصائح ، ما خلا الأستاذ المؤرخ دروزة . فقد أبصر من قريب أو من بعيد العواقب الوخيمة التي تنشأ عن موقف الإخوان، وآخر مجلس لي معهم كان بحضور الأستاذ الباقعة قائد جماعة الأخوة الإسلامية بالعراق الصواف ، وكان هذا المجلس بالعين الخضراء على مائدة سفير سوريا اليوم بالأفغان، وقد جمع ذلك المجلس شخصيات كبيرة من مختلف أقطار الشعوب الإسلامية، كان فيهم اللبناني والشامي والعراقي والمراكشي والجزائري، وقلت لهم فيما قلت : إنها حكومتكم وإنه لا يحل لكم أن تنزعوا أيديكم منها ، وإنكم إلى هذه الساعة لم تتكامل قوتكم، ولم ينتشر وجودكم انتشارا يجعلكم على وضعية عامة ، … كل هذه الأقوال وأمثالها نصحتهم بها ، فما وجدت نصيحتي من يسمعها . أسوق لك بعضا مما قلته لله ونصيحة كتبت علينا ….كي تحمي لسانك وقلمك ومجلسك إن قدرت على الهجوم على الحكومات بمثل ذلك الأسلوب الذي يهيج الحكومات ويسيء ظنها بالحركات ، وتسل عليها سيوف المقاومة ، وليس ذلك من مصلحة الحركة في عامة ظروفها ، فكيف بخاص ظروفها ، ظروف فقدها كثير من قوتها المادية والأدبية في الكمية أو الكيفية .
    لا تنس يا بني أن الحق في هذا العصر محتاج في انتصاره على الباطل ، إلى أن يكون أقوى من الباطل ، ومزود بجميع الوسائل التي حازها الباطل ، وله من السمعة والانتشار ما يعينه على مقاومة الباطل ، وشاهِد هذا رسول رب العلمين محمد  ، كونه في العصر المكي الذي كان لا يملك فيه من القوات ما يملكه الباطل وأنصاره سلك مسلك المسالمة والموادعة والتجاوز عن المعاملين له بالقوة ، كان يعاملهم بالإعراض وبإقامة الحجة وبالسلوك الحسن ، فإذا كنا نحن اليوم وراثه بحق، وإذا كان الدعاة إلى الدين الحق ممثلين لسيرته ، فما لنا ننسى هذا الطور الأول من أطوار ظهور ديننا، إن ما جرى لنبينا  سيجري على أتباعه ، فعليهم أن يسيروا وراءه سير المهتدين بهديه»(96).
المبحث الخامس : جهاده واستشهاده وثناء أهل العلم عليه
المطلب الأول : جهاده ضد فرنسا
    الشيخ العربي التبسي كغيره من العلماء الذين كانوا يعتقدون أن السياسة لا تنفع مع المستعمرين، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وكانوا يعملون على إعداد العدة لجهاد الكفرة المعتدين عملا بقوله تعالى :وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (الأنفال:60) ومن ضمن هذه العدة العدة العلمية والإيمانية بتكوين الجيل المؤهل الذي إذا حمل السلاح لم يضعه حتى النصر أو الشهادة، ولم يكن المنهج السلمي الذي سلكه العلماء إلا سلوكا مرحليا فرضه الوضع القائم آنذاك، وحالة الأمة التي صيرها المستعمر أمية، وإن كان العلماء حريصين على إبعاد أنظار الاستعمار عن مخططاتهم إلا أن كتاباتهم وأشعارهم لم تخل من إشارات وتلميحات، بأن الساعة آتية لكن لم يحن أوانها، كما قال العقبي في خطابه في الملعب البلدي سنة 1936:« كيف يطير من لا جناح له ولا ريش»(97) ، وقول الشيخ البشير الإبراهيمي بأن الجزائر تشكو من استعمارين استعمار الطرقية واستعمار الفرنسيين وأنه لابد لها من أن تتحرر من الاستعمار الأول حتى  تتمكن من التخلص من الثاني(98) ، ومن أظهر هذه التلميحات قول ابن باديس سنة 1937:    
                      اشهدي يا سما    واكتبن يا وجود
                      أننــا للحمـــى     سنكون الجنود
                      فنزيح البلا      ونفك القيود
                      فيرى جيلنا     ذكريات الجدود
                      ويرى قومنا     خافقات البنود.
   ومضت السنوات بعد ذلك، وفجرت ثورة الفاتح من نوفمبر التي احتضنتها الأمة وأيدها العلماء(99) ، فكان من آثارها إخراج عسكر الاستعمار من أرض الجزائر، وكان الشيخ العربي التبسي رحمه الله قبلها قد شعر أن الوقت قد اقترب، فقد نقل بعض الباحثين أن الشيخ رحمه الله تعالى كتب رسالة إلى أحد المجاهدين الأوائل (يسمى الأزهر شريط)(100) يفتيه فيها بمشروعية الجهاد ضد فرنسا، وذلك قبل أسابيع معدودة من الفاتح من نوفمبر 1954م(101). ولما اندلع الجهاد فعلا قال لبعض مقربيه : « لو كنت في صحتي وشبابي ما زدت يوما واحدا في المدينة ، ولأسرعت إلى الجبل فأحمل السلاح وأقاتل مع المجاهدين »(102).
     وكان رحمه الله يحرض الشباب على الالتحاق بالجهاد ولا يخفي ذلك، وممن حكى ذلك الصادق رزاقية عندما كان طالبا في معهد ابن باديس ذهب وزميل له لزيارة الشيخ في غرفته بفندق سيرتا فحدثاه عن الوضع العام الذي لا يساعد على الدراسة وعن تحرش الشرطة الفرنسية بالطلبة وأعربا عن نيتهما في الالتحاق بصفوف المجاهدين في الجبال ، فأجابهما الشيخ :« سواء أتعرضتما لتحرشات العدو أم لم تتعرضا ، فإن الجبل هو الملاذ الوحيد لكما ولغيركما ، لكني أوصيكما عندما تلتحقان بالجبل أن لا تقولا إننا مثقفان(103).
     وحكى الصغير بن عبد الله زرفاوي أنه سأل الشيخ عن حقيقة الثورة لما كانت في بدايته فقال له :« إن هذه الثورة نفوس بشرية أراد الله لها أن تستشهد في سبيله ، فإذا تمت لها الشهادة كانت نهاية الثورة »(104).
    وقد كان له دور كبير في الثورة، حيث كان على صلة بكثير من قادتها فقد شهد الشيخ المجاهد إبراهيم مزهودي أنه التحق بالجهاد بتشجيع من العربي التبسي(105) ، وكان كان الوسيط بينه وبين بشير الشهاني قائد المنطقة الأولى سنة 1955 ثم الوسيط بينه وعبان رمضان في العاصمة قبل أن يلتحق بمنطقة الشمال القسنطيني(106).
     وكان العقيد عميروش رحمه الله شديد الصلة به أيضا يستشيره ويستفتيه(107) ، وقد طلب من الشيخ التبسي يوما أن يكتب إليه بوصية يتبعها في جهاده ، فأرسل إليه مع الرسول مصحفا صغيرا وقال له : بلغه سلامي ودعواتي وابتهاجي العظيم بجهادهم وانتصارهم وقل له :« هذا المصحف الشريف هو وصيتي له »(108).
     وأمر الشيخ رحمه الله تعالى باقتطاع نسبة عشرة بالمائة من رواتب المعلمين في مدارس الجمعية لتوجه لصالح أسر المجاهدين والمعتقلين، كما أرسل إلى العقيد عميروش رحمه الله تعالى أموالا وآلات الكتابة والطباعة والسحب(109).
     وفي سنة 1374هـ 1955م وفق الشيخ للرحلة إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ومكث في المدينة النبوية مدة ، فلقي هناك كثيرا من الشخصيات العلمية وغيرها، فعرفهم بحقيقة الجهاد في الجزائر ، كما اغتنم الفرصة فزار في طريق رجوعه سوريا ولبنان ومصر ليساهم في الدعاية للجهاد المعلن في الجزائر، وكان من الزعماء الذين لقيهم بمصر الرئيس جمال عبد الناصر(110).
    وقد كانت تحركات الشيخ غير خافية تماما على المستعمر، كما أن تأييده للجهاد أضحى أمرا واضحا، وخاصة بعد صدور بيان 7 يناير 1956م الذي وقعه التبسي وأحمد توفيق المدني المؤيد صراحة للجهاد المعلن والذي جاء في آخره : «ويؤكد أنه لا يمكن وضع حد لحالة الحرب الحاضرة والإقدام على بناء النظام الحر الجديد إلا بواسطة التفاهم الصريح المخلص مع سائر الممثلين الحقيقيين للشعب الجزائري من رجال الحل والعقد الذين أظهرهم الكفاح المسلح »(111))، وكذا الحديث الذي أجراه مع جريدة "لومند" الفرنسية والتي طرحت عليه هذا السؤال : متى انضممتم إلى هذا الموقف الوطني المتشدد؟ فأجاب: أما كشخص فقد كان هذا موقفي دائما وأما كجمعية فعزمنا هذا أعلنا عنه منذ يناير الأخير »(112) ، لذلك فقد نصحه غير واحد بالاختفاء أو الخروج من الجزائر، فرفض وأبى إلا أن يواصل عمله وإن أصابه ما أصابه في سبيل الله، واستمر الشيخ يحرض على الجهاد في نصحه ودروسه بأسلوب حكيم، يقول أحمد الرفاعي جامع آثار الشيخ :« سمعت من الشيخ الطاهر حراث رحمه الله وغيره أن الكثيرين من أصدقاء الإمام رحمه الله حاولوا إقناعه بالخروج من الجزائر بعد أن أصبح هدفا ضخما وواضحا لغلاة المعمرين ، فكان جوابه دائما : إذا كنا سنخرج كلنا خوفا من الموت فمن يبقى مع الشعب ؟»(113). ونقل عنه أنه قال أيضا :« إن خروجي اليوم والوطن في حرب يعد فرارا من الزحف ، أنا لو كنت خارج الوطن ووقع هذا فيه لدخلت فورا»(114) ، وقد نقل الشيخ عبد اللطيف سلطاني رحمه الله أنه تلقى في أول أفريل 1957م رسالة كتب فيها : « إلى الشيخ العربي التبسي نطلب منك أن تخرج من الجزائر حينا قبل أن يفوت الوقت ». فحاول إقناعه بأن يعمل بها فأبى واختار البقاء كما ذكرنا لتخطفه الأيادي الغادرة الأثيمة(115).
المطلب الثاني : استشهاد الشيخ العربي التبسي
أولا : حادث الاختطاف
    قد علم المستعمرون أن الشيخ العربي التبسي يتمتع بشعبية كبيرة وأنه مؤيد للثورة وأحد محركي قواعدها الخلفية، فأرسلوا إليه عن طريق إدارتهم في الجزائر عدة مبعوثين للتفاوض معه بشأن الثورة ومصيرها ولدراسة إمكانية وقف إطلاق النار(116)، فاستعملوا معه أساليب مختلفة من ضمنها أسلوب الترغيب والترهيب، وكان جواب الشيخ دائما إن كنتم تريدون التفاوض فالمفاوض الوحيد هو جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، ذلك أنه شعر بأن مقصودهم هو تفكيك الصفوف، وربح الوقت والحد من حدة المواجهة العسكرية ليس إلا ، وبعد رفضه المستمر للتفاوض باسم الشعب الجزائري، رأى المستعمرون أنه من الضروري التخلص منه ، ولم يستحسنوا اعتقاله أو قتله علنا، لأن ذلك سوف يزيد من حماس الشعب للجهاد ومن حقده على المستعمر، فوجهوا إليه تهديدات عن طريق رسائل من مجاهيل تأمره بأن يخرج من البلاد(117) ، وبعد أن أصر الشيخ على البقاء في البلاد –كما سبق ذكره -ويئس الكفار منه قاموا باختطافه بطريقة جبانة، ننقل وصفها من بلاغ نشرته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في البصائر بمناسبة حادث الاختطاف :« وفي مساء يوم الخميس 4رمضان 1376-4أفريل 1957، وعلى الساعة الحادية عشر ليلا اقتحم جماعة من الجند الفرنسي التابعين لفرق المظلات –المتحكمين اليوم في الجزائر – سكنى فضيلة الأستاذ الجليل العربي التبسي ، الرئيس الثاني لجمعية العلماء، والمباشر لتسيير شؤونها، وأكبر الشخصيات الدينية الإسلامية بالجزائر ، بعد أن حطموا نوافذ الأقسام المدرسية الموجودة تحت الشقة التي يسكن بها بحي بلكور طريق التوت …وكانوا يرتدون اللباس العسكري الرسمي للجيش الفرنسي … وقد وجدوا فضيلة الشيخ في فراش المرض الملازم له ، وقد اشتد عليه منذ أوائل شهر مارس …فلم يراعوا حرمته الدينية ، ولا سنه العالية، ولا مرضه الشديد ، وأزعجوه من فراش المرض بكل وحشية وفظاظة ، ثم أخذوا في التفتيش الدقيق للسكن …ثم أخرجوه حاسر الرأس حافي القدمين …ولكن المفاجأة كانت تامة عندما سئل عنه في اليوم الموالي في الإدارات الحكومية المدنية والعسكرية والشرطية والعدلية ، فتبرأت كل إدارة من وجوده عندها أو مسؤوليتها عن اعتقاله أو من العلم بمكانه»(118).
ثانيا : كيفية إعدام الشيخ رحمه الله  
    اختلف المؤرخون في الجهة الاستعمارية المختطفة له وكيفية إعدام الشيخ العربي التبسي رحمه الله تعالى ، فقال أحمد توفيق المدني:« وأقول أداء للأمانة واعترافا بالحق أن الشيخ العربي التبسي رحمه الله رحمة واسعة قد سار سيرا موفقا وتدرج مع الثورة إلى الذروة ، وكتب الله له -ولنعم ما كتب- أن يموت شهيدا من شهداء الثورة الأبرار، إذ ألقى رجال المنظمة العسكرية السرية الاستعمارية القبض عليه ليلا وساقوه إلى ساحة الإعدام بعد أيام قضاها في دهاليز "فيلا سيزيني"–مركز البحوث التاريخية اليوم- رحمه الله رحمة واسعة »(119)( )، وحكى الباحث أحمد عيساوى حكاية أسندها عن المجاهد أحمد الزمولي عن إبراهيم جوادي البوسعادي عن أحد أقاربه يدعى عبد الله كان ضمن تشكيلة القبعات الحمر وحضر معهم يوم اختطاف الشيخ من بيته، كما حضر مراحل إعدامه وكان منظر الإعدام سببا في التحاقه بالمجاهدين كما ذكر، وجاء في هذه الرواية ما يلي :« وقد تكفل بتعذيبه الجنود السنغاليون والشيخ بين أيديهم صامت صابر محتسب لا يتكلم إلى أن نفذ صبر "ريمون لاقايارد" قائد الفرقة، وبعد عدة أيام من التعذيب جاء يوم الشهادة حيث أعدت للشيخ بقرة(120) كبيرة مليئة بزيت السيارات والشاحنات العسكرية والاسفلت الأسود وأوقدت النيران من تحتها إلى درجة الغليان والجنود السنغاليون يقومون بتعذيبه دونما رحمة وهو صابر محتسب، ثم طلب منهم لاقايارد حمل الشيخ العربي ..فحمله أربعة من الجنود السنغاليين وأوثقوا يديه ورجليه ثم رفعوه فوق البقرة المتأججة وطلبوا منه الاعتراف وقبول التفاوض وتهدئة الثوار والشعب، والشيخ يردد بصمت وهدوء كلمة الشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم وضع قدميه في البقرة المتأججة فأغمي عليه ..ثم أنزل شيئا فشيئا إلى أن دخل بكامله فاحترق وتبخر وتلاشى »، وذلك حسب هذه الرواية ما بين 10 و13 أفريل 1957م(121). فرحمه الله رحمة واسعة، وهو إن شاء الله تعالى ممن صدق ما عاهد الله عليه وقضى نحبه وما بدل تبديلا.
المطلب الثالث : آثاره وتلاميذه
    كما يظهر مما سبق ذكره أن الشيخ كان دائم النشاط التعليمي والعمل الدعوي ومكلفا بمهام إدارية جليلة، الأمر الذي لابد أن يكون صارفا عن الكتابة والتأليف، ومع ذلك فقد ترك الشيخ بعض المقالات والفتاوى التي كان لها الفضل في الوقوف على كثير من جوانب تفكيره وأصول دعوته، ومن هذه المقالات:
-بدعة الطرائق في الإسلام ، ثلاث مقالات نشرها على صفحات الشهاب سنة (1928م) وأخرجها مجموعة أحمد الرفاعي الشريفي سنة (1402) الموافق لـ (1982م) ونشرتها دار البعث بقسنطينة ، وقد ضمنها الشيخ التبسي مقدمة أصولية متينة ، ثم أبطل ثلاثا من أهم بدع الطرقية وهي: بدعة تحديد الأذكار، بدعة إعطاء العهود للأتباع ، بدعة التصدي للدعوات .
-مقالات في الدعوة إلى النهضة الإسلامية في الجزائر، جمعها أحمد الرفاعي المذكور وضمنها المقالات التي نشرت في الشهاب والبصائر، وهي في جزأين أحدهما طبع عام (1402هـ) الموافق لـ (1981) والآخر عام (1404هـ)الموافق لـ (1984).
    وأعود لأذكِّر بأن الشيخ العربي رحمه الله تعالى كان أقل كتابة من الشيخين ابن باديس والإبراهيمي رحمهما الله تعالى وغيرهما، وسبب ذلك فيما يظهر هو تفرغه الكامل للتدريس في المساجد وللأمور الإدارية في الجمعية، ثم قيامه على معهد ابن باديس، وما كتب عنه في هذه الترجمة ما هو إلا محاولة متواضعة لاستثمار ما وجد من آثاره التي وصلت إلينا، ولكن مع قلة ما ترك من آثار مكتوبة فإن القارئ لها يستفيد أمورا دعوية ومنهجية كثيرة ، ويقف أمام مواعظ حية متجددة، مواعظ تحرك الهمم نحو معالي الأمور وتبعث الوعي الدعوي في النفوس الخاملة.
    ولقد كان من تلاميذ الشيخ الكبار من يساعده في التعليم في مدرسة تهذيب البنين والبنات ، منهم المعلمون الدائمون ومنهم من كان يعلم في العطلة الصيفية لأنهم كانوا منتسبين إلى معاهد عليا أخرى يدرسون فيها كالزيتونة، كالصديق السعدي، والوردي بن عمار الشقراوي، ويوسف بن محمد شعشوعي، وعبد الحفيظ بدري ، والشاذلي المكي(122). ومن تلاميذه الذين عمروا حتى رأوا نور الاستقلال وسدوا ثغورا كبيرة في معاهد الجزائر وإداراتها المهمة إضافة إلى من سبق ذكره : الشيخ العيد بن أحمد مطروح، الشيخ إبراهيم مزهودي(123) ، والشيخ محمد الشبوكي، وكذلك حامد روابحية، والطاهر حراك، وعبد الله شريط، ومحمد الربعي يونس، وعثمان سعدي والهادي حمدادي وغيرهم(124).
المطلب الرابع : من ثناء أهل العلم والفضل عليه
1-قال الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله:» الأستاذ العربي بن بلقاسم التبسي، هذا رجل عالم نفاع قصر أوقاته ببلدة تبسة على نشر العلم الصحيح وهدي العباد إلى الدين القويم ، فقد عرف قراء الشهاب مكانته بما نشرنا له ، وخصوصا مقالاته الأخيرة " بدعة الطرائق في الإسلام" ولأول مرة زار هذا الأستاذ قسنطينة فرأينا من فصاحته اللسانية ومحاجته القوية مثل ما عرفناه من  قلمه، إلى أدب ولطف وحسن مجلس طابت له المنازل ورافقته السلامة حالا ومرتحلا(125)«.
   وجاء في جريدة الشهاب التي كان مديرها ابن باديس :« الأستاذ العربي عالم مفكر قضى سنوات في الأزهر ، ونال شهادة التطويع هاته السنة من جامع الزيتونة، وقد عاد إلى وطنه الجزائر مسقط رأسه تبسة لينشر العلوم ، ويهذب العقول ، ويحارب الخرافات والبدعة ، ويعمل لتكوين ناشئة متعقلة مهذبة ، والشهاب يبتهج بأن يكون واسطة لإيصال معارفه وإرشاداته إلى قرائه الكرام»(126).
2-قال الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله(127):« الأستاذ العربي التبسي نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، ومدير معهد عبد الحميد بن باديس، وصاحب الآثار الجليلة في العلم والإصلاح، والآراء السديدة في السياسة والاجتماع، والمواقف الجريئة في تمكين الإسلام والعروبة في القطر الجزائري … والأستاذ التبسي عالم عريق النسبة في الإصلاح، بعيد الغور في التفكير، سديد النظر في الحكم على الأشياء، عَزوف الهمة عن المظاهر والسفاسف …»(128). وقال عنه: « مدير بارع ومرب كامل ، خرجته الكليتان الزيتونة والأزهر في العلم، خرجه القرآن والسيرة النبوية في الدين الصحيح والأخلاق المتينة ، وأعانه ذكاؤه وألمعيته على فهم النفوس، وأعانته عفته ونزاهته على التزام الصدق والتصلب في الحق وإن أغضب جميع الناس ، وألزمته وطنيته الصادقة بالذوبان في الأمة والانقطاع لخدمتها بأنفع الأعمال ، وأعانه بيانه ويقينه على نصر الحق بالحجة الناهضة ومقارعة الحجة بالحجة ومقارعة الاستعمار في جميع مظاهره»(129).
3-قال الشيخ أحمد حماني رحمه الله(130):« وقد كان عالما محققا ومدرسا ناجحا ومربيا مقتدرا وكاتبا كبيرا يمتاز أسلوبه العلمي بالعمق والمتانة ودقة المعلومات ، لكنه لم يترك آثارا كثيرة لاشتغاله -طول حياته- بالتدريس ، وما تركه من آثار يبرهن على مكانته العالية في الكتابة، وكما كان كاتبا كان خطيبا مصقعا ، ومحدثا لبقا ومحاورا ماهرا، يمتاز بحضور البديهة والمقدرة على الإقناع القلبي والفكري وحسن البديهة ، وله فيها أمثلة رائعة »(131).
4-وقال محمد الصالح بن عتيق رحمه الله:« والشيخ العربي علم من أعلام النهضة الجزائرية، وركن من أركان الإصلاح ، وحارس أمين من حراس الشريعة الإسلامية، وداعية كبير من دعاتها، وحيثما حل ترك آثارا بارزة، وطلبة كانوا على منواله علما وعملا. وكان الشيخ العربي حاضر البديهة قوي الحجة محاورا فذا خطيبا بارعا جريئا في إبداء رأيه »(132).
5-ومن أقوال أحمد توفيق المدني رحمه الله فيه :«كان الشيخ العربي التبسي بطلا من أبطال الجزائر والإسلام وكان مجاهدا ومثالا حيا للنضال الإسلامي الخالص النزيه ، لم يكن له طمع في الدنيا إطلاقا ، وكان لا يقصد بجهاده إلا وجه الله ونفع المجتمع وإخراج الوطن من الظلمات إلى النور … وكان يستعمل فكره الوقاد في الفقه والتفسير لا يقلد مذهبا بل إنه ضد التعصب والتقليد »(133).  
     وفي الختام أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه سبحانه، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
الهوامش:
 / الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التواريخ للسخاوي (25).
2/ الكامل لابن الأثير (1/7-8).
3/ كذا ذكره أحمد عيساوي في رسالته الشيخ العربي التبسي مصلحا (ص79) ومنهم من نقل أنه ولد سنة 1895م ونقل أحمد حماني أنه ولد عام 1892م ولكن ما ذكره أحمد عيساوي أوثق فقد بين أنه أعطي في الوثائق الرسمية تاريخ 1 جويلية 1891م وهو تاريخ المنسيين الذي لم يسجلوا وقت ميلادهم وقد أخبره بسنة ولادته أخ الشيخ التبسي لأمه وابن عمه، انظر جمعية العلماء المسلمين وأثرها الإصلاحي لأحمد الخطيب (167) من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (19) صراع بين السنة والبدعة لأحمد حماني (2/55) إمام المجاهدين الشهيد العربي التبسي لبشير كاشة (11).
4/ انظر الشيخ العربي التبسي مصلحا لأحمد عيساوي (73) رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه بجامعة الجزائر.
5/ جمعية العلماء المسلمين وأثرها الإصلاحي لأحمد الخطيب (167) من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (1/19) صراع بين السنة والبدعة لأحمد حماني (2/55).
6/ الشيخ العربي التبسي مصلحا لأحمد عيساوي (81).
7/ جمعية العلماء المسلمين وأثرها الإصلاحي لأحمد الخطيب (167) صراع بين السنة والبدعة لأحمد حماني (2/55) مقدمة مقالات في الدعوة (2/ 2) أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/61-62) الشيخ العربي التبسي مصلحا (83-85) من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (1/19) مصلح في الخالدين مقال لمرزوق العمري في البصائر عدد44 تاريخ 8محرم 1422/2أفريل 2001م.
8/ رواه الدارمي (338) وابن أبي شيبة (5/284) ورواه عبد الرزاق عن الزهري من قوله (11/256) وروي مرفوعا من طريق ابن مسعود وأنس ولا يصح منها شيء انظر الكامل في الضعفاء لابن عدي (4/139)(6/265) وكتاب المجروحين لابن حبان (2/22).
9/ وذكر محمد الحسن فضلاء أنه أتم حفظ القرآن على يد والده (1/19) ولا يصح ذلك.
10/ والمقصود بالزاوية في الأصل المكان الذي يجلس فيه للعلم وتحفيظ القرآن، وكانت في ذلك الزمن بمثابة المدرسة المتوسطة بين الكتاب والمعاهد الشرعية الكبرى، ومنها ما كان زاوية علم فقط ومنها ما جمع بين العلم والانتماء الصوفي ككثير من زوايا الطريقة الرحمانية، ومنها ما كان يسمى زوايا زورا وهي زوايا الشرك والدروشة والاحتيال على الناس وهو حال أكثر الزوايا مع الأسف، الأمر الذي جعل هذا المصطلح مبغوضا ممقوتا عند الناس بعد انتشار الحركة الإصلاحية السلفية، لأنه تمحض عندهم للدلالة على معنى الشرك والخرافة والدجل.
11/ اصطلاح المتن يعني المختصر الموضوع في فن من الفنون الشرعية، وهذه المتون كانت بمثابة المقررات المدرسية التي يجب حفظها عن ظهر قلب ويجب استحضار مدلولها عند الحاجة، ومن أشهر هذه المتون في علم الفقه مثلا متن ابن عاشر للمبتدئين ومتن الخليل بن إسحاق للمنتهين.
12/ زيادة على ذلك فإن رجوعه إلى الجزائر في تلك الأيام يعنى تجنيده في صفوف الجيش الفرنسي، انظر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورؤساؤها الثلاثة لرابح تركي (ص262).
13/ انظر الشيخ العربي التبسي مصلحا لأحمد عيساوي (87).
14/ أما قول أحمد حماني أنه بقي في مصر إلى سنة 1928م فخطأ ويدل عليه ما جاء في تقديم لمقال له نشر في الشهاب: «الأستاذ العربي عالم مفكر، قضى سنوات بالأزهر ونال شهادة التطويع هاته السنة من جامع الزيتونة وقد عاد إلى وطنه ..» المقالات (1/71) وأرخ بـ29 سبتمبر 1927م.
15/ نقله أحمد عيساوي في رسالته الشيخ العربي التبسي مصلحا (190-191).
16/ انظر الشيخ العربي التبسي مصلحا أحمد عيساوي (181-185).
17/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/55).
18/ آثار ابن باديس (4/46) طبع وزارة الشؤون الدينية .
19/ شجرة النور الزكية لمحمد بن محمد مخلوف (425-426) والنشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس (1900-1962) لمحمد الصالح الجابري.
20/ مقال الشيخ عثمان بن مكي التوزري لسمير سمراد، مجلة الإصلاح العدد (11) (ص70-76).
21/ أعلام الإصلاح في الجزائر لمحمد علي دبوز (1/64).
22/ انظر ترجمته في كتاب منهج المدرسة العقلية في التفسير لفهد الرومي الجزء الأول.
23/ الأعلام للزركلي (7/107) معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (3/723) وهو غير أحمد مصطفي المراغي صاحب التفسير المشهور ، وهو في الأعلام (1/258).
24/ الأعلام للزركلي (6/174) وانظر محمد الطاهر بن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة لمحمد الحبيب بن الخوجة الجزء الأول.
25/ انظر الشيخ العربي التبسي مصلحا أحمد عيساوي (112).
26/ أعلام الإصلاح في الجزائر لمحمد علي دبوز (2/24).
27/ مقدم الطريقة هو نائب عن شيخ الطريقة في الزاوية، وفي مذكرات شاهد القرن(262):« وذلك لأن سيدي الشافعي شيخ الطريقة (القادرية) انضم هو الآخر تحت راية الإصلاح، وأغلق باب الزاوية دون أن يفكر أحد في فتحه احتراما لذلك الشيخ الوقور».
28/ أعلام الإصلاح في الجزائر لمحمد علي دبوز (2/23) جمعية العلماء الجزائريين لأحمد الخطيب (169) من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (1/20) وانظر مذكرات شاهد القرن (124).
29/ مذكرات شاهد القرن (262) وقال في موضع آخر (316) وهو يتحدث عن الشرطي الفرنسي:«لأنه بقي دون شغل في المدينة منذ اعتنق الإصلاح سكيرها الأخير "بنيني" ».
30/ أعلام الإصلاح في الجزائر لمحمد علي دبوز (2/21-22).
31/ سيق أو سيج بالجيم المصرية (sig) .
32/ مذكرات شاهد القرن لمالك بن نبي (189).
33/ تزوج الشيخ عام 1928م وكان له من الولد يوم انتقل إلى سيق ابنة واحدة وفي سيق ولد له محمد الأمين، وفي سنة 1931م تزوج امرأة أخرى من عشيرته توفي عنها زوجها، ومجموع ما ولد له من الزوجتين أحد عشر ولدا، انظر الشيخ العربي التبسي مصلحا لأحمد عيساوي (101-103).
34/ أعلام الإصلاح في الجزائر لمحمد علي دبوز (2/28-29) من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (1/20) جمعية العلماء المسلمين وأثرها الإصلاحي لأحمد الخطيب (170).
35/ ولد عام 1305هـ (1888م) وكان رئيس جمعية تهذيب البنات والبنين إلى غاية وفاته عام 1361هـ(1952).
36/ وهو نائب الحواس وخليفته على رئاسة الجمعية، اعتقله الاستعمار الفرنسي عام 1956م وتوفي عام 1384هـ (12فبراير 1965م).
37/ ولم يرض أهل سيق أول الأمر بذهاب الشيخ عنهم حتى استرضاهم الشيخ ابن باديس، وأرسل إليهم مكانه الشيخ فرحات بن الدراجي رحمه الله تعالى.
38/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/31) تاريخ الجزائر الثقافي لأبي القاسم سعد الله (3/256).
39/ تاريخ الجزائر الثقافي لأبي القاسم سعد الله (3/256).
40/ أعلام الإصلاح لدبوز (2/32) جمعية العلماء وأثرها الإصلاحي لأحمد الخطيب (123).
41/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/33).
42/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/45).
43/ تاريخ الجزائر الثقافي لأبي القاسم سعد الله (7/13).
44/ الآثار لمحمد البشير الإبراهيمي (2/217).
45/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/43-44).
46/ مقالات في الدعوة (1/55-56).
47/ مقالات في الدعوة (1/60-61).
48/ مذكرات محمد خير الدين (1/83).
49/ مجلس الإدارة ستة علماء يتولون مهام محددة وستة آخرون يكونون الهيئة الاستشارية.
50/ انظر سجل مؤتمر الجمعية (137).
51/ وقد صنف العربي التبسي الطلبة المنتقلين من قسنطينة إلى ثلاثة فئات : الأولى : المعتمدون على أنفسهم ، الثانية : الموزعون على أهل البر والإحسان من أهل تبسة ، والثالثة : المكفولون من طرف صندوق الطلبة لجمعية التربية والتعليم ، انظر من أعلام الإصلاح لفضلاء (1/21).
52/ من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (1/21) أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/46) شهداء علماء معهد ابن باديس لأحمد حماني (29).
53/ مذكرات محمد خير الدين (1/19-21).
54/ الشيخ العربي التبسي مصلحا لأحمد عيساوي (269).
55/ انظر الآثار لمحمد البشير الإبراهيمي (2/371) (2/387-389) .
56/ من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (1/21).
57/ مقدمة رسالة الشرك (ص/6) مقالات في الدعوة (1/143).
58/ مقدمة رسالة الشرك للميلي (ص/5) وانظر المقالات (2/27).
59/ مقالات في الدعوة (2/27) وانظر (1/72).
60/ مقالات في الدعوة (1/109).
61/ ولا بد أن ألاحظ على الباحث أحمد عيساوي بأنه قد أفاد كثيرا في دراسته من الناحية التاريخية، ولكنه قصر في مواضع وأبعد النجعة في مواضع أخرى، منها وصفه للشيخ التبسي بأنه متكلم، وقد أبان الباحث عن عدم تصوره لمباحث علم الكلام لما طرق هذا الموضوع، ويكفي للدلالة على ذلك قوله (175):« ومن بين المسائل الكلامية التي خاض فيها ما يلي : 1-توقيت الأوقات للأذكار ، 2-تحديد صيغ وتراكيب الأذكار للأتباع ، 3-إعطاء العهود وأخذ البيعات ، 4-الخلوة الصوفية ، 5-الوسيلة (التوسل بالأولياء والصالحين والتقرب بهم إلى الله ) » وهذه المباحث لا صلة لها بعلم الكلام ولا وجود لها في مؤلفات أصحابه.
62/ مقالات في الدعوة (2/132)
63/ هذا الحديث صححه النووي وضعفه غيره من المحققين، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/394-395) :» تصحيح هذا الحديث بعيد جدا …وأما معنى الحديث فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا  في مواضع، قال تعالى : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (النساء:65) وقال تعالى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ  (الأحزاب:36) « .
64/ مقالات في الدعوة (2/123-124)
65/ انظر مقالات في الدعوة (2/121،124،125،130،134،136).
66/ انظر مقالات في الدعوة (2/142،143).
67/ انظر مقالات في الدعوة (2/118،119،140).
68/ أحمد توفيق المدني ولد في 25 جمادى الأول 1317 (1 أكتوبر 1899) بتونس ودرس بالزيتونة من غير انضمام ابتداء من عام1331هـ (1913م) ودرس بالخلدونية التاريخ والرياضيات والعلوم العصرية، وانخرط في الحزب الدستوري عام 1920م، وشارك في الصحافة التونسية، وفي عام (1925) أبعد إلى الجزائر من طرف الإدارة الفرنسية، فتعرف على رجال الإصلاح، فكان واحدا من محرري الصفحات السياسية في جريدة الشهاب والبصائر والإصلاح، وعين رئيسا لمكتب جبهة التحرير بالقاهرة عام 1956م ، ثم عين وزيرا للشؤون الثقافية في الحكومة المؤقتة له عدة مؤلفات منها كتاب الجزائر ، تاريخ شمال إفريقيا قبل الإسلام، حرب الثلاثمائة سنة ، حياة كفاح وهي مذكراته الشخصية ، وتوفي في 11 محرم 1404هـ (18 أكتوبر 1983) ودفن في مقبرة سيدي عبد الرحمن بالجزائر العاصمة انظر "من أعلام الإصلاح" لمحمد الحسن فضلاء (1/95-98).
69/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/64).
70/ بدعة الطرائق في الإسلام (22) وانظر بحثا ممتعا في القياس في المقالات (1/97-99).
71/ أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان (45) وأحمد (4/286) والطيالسي (378) والحاكم (2/480) وغيرهم ، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (998).
72/ أخرجه أبو داود (4607) وابن ماجة (42،43) والترمذي (2675) وصححه .
73/ السنة النبوية (عدد:1-صفحة:3).
74/ مذكرات شاهد القرن لمالك بن نبي (125-126).
75/ مقالات في الدعوة (1/65-66).
76/ مقالات في الدعوة (1/68).
77/ مقالات في الدعوة (1/210-212).
78/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/44).
79/ مقالات في الدعوة (2/41،42-43)
80/ مقالات في الدعوة (2/34).
81/ المقالات (2/69) هذا وقد نقل المؤرخون عن الشيخ أن من صفته الترفع عن الرد على السياسيين ولعل ذلك لكونه مخالفا لهم في الأصل فلا تنفع مناقشتهم في الجزئيات انظر مذكرات شاهد القرن (329) مذكرات خير الدين (1/302) الشيخ العربي التبسي مصلحا (406).
82/ البخاري (1389) مسلم (19).
83/ إمام المجاهدين الشهيد الشيخ العربي التبسي لبشير كاشة (65).
84/ ذكرت هذا الاحتراز الأخير لئلا يخلط بين صلابة المواقف والشجاعة في قول الحق المطلوبين في الشرع، وبين التهور وقلة الوعي الذي يقع فيه كثير من الناس، ثم يزعم أن أسوته العلماء الربانيين.
85/ مقالات في الدعوة (2/108-109).
86/ مقالات في الدعوة (2/148) وانظر (1/120).
87/ مقالات في الدعوة (2/104،114).
88/ أخرجه مسلم (1923) عن جابر، وهو متفق عليه بألفاظ أخرى من مسند صحابة آخرين.
89/ مقالات في الدعوة (1/109،115).
90/ محمد الصالح بن عتيق من مواليد 6صفر 1321هـ المواقف لـ4ماي 1903في قرية العارصة قرب الميلية في الشمال القسنطيني أحد تلاميذ ابن باديس والمبارك الميلي ونال شهادة التطويع من جامع الزيتونة عام (1351هـ 1932م)، درس بعدها في الميلية ثم في قلعة بني عباس والبليدة، وسجن سنة 1956م، وكان أحد أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى ورئيس لجنة الفتوى فيه سابقا، وتوفي رحمه الله تعالى يوم 8 شوال 1413هـ المواقف لأول أفريل 1993م. انظر كتاب من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (2/42) وأحداث ومواقف له (31-وما بعدها).
91/ أحداث ومواقف لمحمد الصالح بن عتيق (202-203).
92/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/60).
93/ مقالات في الدعوة (1/202).
94/ الآثار لمحمد البشير الإبراهيمي (2/217).
95/ الآثار لمحمد البشير الإبراهيمي (2/132).
96/ إمام المجاهدين الشهيد الشيخ العربي التبسي لبشير كاشة (61-62).
97/ البصائر السنة الأولى (عدد 31 ص1-2).
98/ انظر آثار الإبراهيمي (1/40).
99/ انظر آثار الإبراهيمي (5/33،37).
100/ وقد تولى أثناء الحرب قيادة المنطقة الأولى (بئر العاتر والجبل الأبيض) من الولاية الأولى (الأوراس) عام 1955م وقد استشهد في آخر عام 1956م، انظر تاريخ الجزائر المعاصر لمحمد الأمين بلغيث (246-256).
101/ الشيخ العربي التبسي مصلحا لأحمد عيساوي (126).
102/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/69) من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (22-23).
103/ اللمامشة في الثورة لمحمد زروال (200).
104/ اللمامشة في الثورة لمحمد زروال (200).
105/ رواد الوطنية لمحمد عباس (376).
106/ رواد الوطنية لمحمد عباس (374).
107/ وكان الوسيط بينهما الربيع بوشامة الذي أعدم بسبب رسائل عميروش التي ضبطت بحوزته، انظر من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء(1/290) وشهداء علماء معهد ابن باديس لأحمد حماني (24).
108/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/68).
109/ صراع بين السنة والبدعة (2/298-299) الشيخ العربي التبسي مصلحا (424).
110/ جمعية العلماء الجزائريين التاريخية ورؤساؤها الثلاثة لتركي رابح (263).
111/ البصائر العدد 349 السنة الثامنة من السلسلة الثانية ، وقد اعتبرته بعض الصحف الفرنسية تأييدا رسميا للثورة الجزائرية، انظر ردود الفعل الأولية لمولود قاسم نايت بلقاسم (75).
112/ ردود الفعل الأولية لمولود قاسم نايت بلقاسم (76).
113/ مقالات في الدعوة (1/13) ونقل عنه أيضا قوله :» هنا يموت قاسي لئن أقطع إربا إربا في ساحة الجهاد خير لي من الموت على سرير من ذهب في أرض الفرار« ..
114/ أحداث ومواقف لمحمد الصالح بن عتيق (204).
115/ جمعية العلماء المسلمين لأحمد الخطيب(171) من أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (22).
116/ انظر أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/70).
117/ انظر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التاريخية ورؤساؤها الثلاثة لرابح تركي (265).
118/ مقالات في الدعوة (2/150-151).
119/ حياة كفاح لأحمد توفيق المدني (3/23).
120/ البقرة القدر الكبيرة الواسعة ، والتبقر التوسع .
121/ الشيخ العربي التبسي مصلحا لأحمد عيساوي (131-132) وانظر أيضا اللمامشة في الثورة لمحمد زروال (198-199).
122/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/30).
123/ ولد في 9أوت 1922 بيوكس الحمامات ودرس في تبسة ثم بالزيتونة ، وبعد التخرج إلى سلك التعليم الحر التابع لجمعية العلماء ، انظم إلى جبهة التحرير الوطني سنة 1955 كوسيط بين شيهاني بشير قائد الأوراس والشيخ العربي التبسي ، ثم بين هذا الأخير وعبان رمضان ، وفي مارس 1956 التحق نهائيا بالمنطقة الثانية وشارك مع قيادتها في مؤتمر الصومام وعين عضوا إضافيا في أول مجلس وطني للثورة ، خرج إلى تونس بعد المؤتمر مكلفا بمهمة تسوية مشكلة قيادة الولاية الأولى ، ثم استقر بها على رأس القسم العربي من مصلحة الإعلام والتوجيه ، وتقلد غذلة الاستقلال عدة مناصب كان آخرها منصب سفير في مصر بداية السبيعنات ، رواد الوطنية لمحمد عباس (374).
124/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/33).
125/ الشهاب (الخميس 19 جمادى الأولى 1347-1نوفمبر 1928 ص16).
126/ مقالات في الدعوة (1/71) وجاء في تقديم آخر وصفه بالعلامة (1/75).
127/ محمد البشير الإبراهيمي الرئيس الثاني لجمعية العلماء بعد ابن باديس ولد بقرية رأس الواد بسطيف عام 1306هـ(1889) تلقى العلم في بلدته ثم رحل إلى الحجاز عام 1330هـ(1912) فأتم دراسته هناك ، وفي عام 1335هـ انتقل إلى دمشق ثم عاد إلى الجزائر عام 1338هـ (1920) ليخوض مع إخوانه معركة الدعوة والإصلاح وللشيخ عدة مؤلفات انظرها في الآثار (5/288-289). وتوفي رحمه الله في 20محرم 1385هـ (20ماي 1965).  
128/ الآثار للبشير الإبراهيمي (2/271-272).
129/ الآثار للبشير الإبراهيمي (2/218) وانظر (2/171) (2/387) (4/36) .
130/ أحمد حماني من مواليد 6سبتمبر 1915م بدوار تمنجرت من بلدية العنصر التابعة حاليا لولاية جيجل، درس في مسقط رأسه وبالجامع الأخضر بقسنطينة، ونال شهادة العالمية بالزيتونة سنة 1943. انتمى إلى جمعية العلماء ودرس في معهد ابن باديس من أول افتتاحه إلى سنة 1956م ، وسجن أثناء الحرب مدة خمس سنوات ، وبعد الاستقلال تولى عدة مناصب تعليمية إلى سنة 1973م حيث تولى رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى إلى وفاته، من مصنفاته: صراع بين السنة والبدعة، والدلائل البادية على كفر البابية وضلال البهائية، والإحرام، وتوفي رحمه الله في 29 جوان 1998م. انظر صراع بين السنة والبدعة (2/285) ومن أعلام الإصلاح لمحمد الحسن فضلاء (2/110)
131/ صراع بين السنة والبدعة لأحمد حماني (2/57).
132/ أحداث ومواقف لمحمد الصالح بن عتيق (202).
133/ أعلام الإصلاح لمحمد علي دبوز (2/64).

الأربعاء, 11 آب/أغسطس 2021 15:16

محبة الله عز وجل وجوبها وفضائلها وأسبابها ولوازمها

   إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أمّا بعد:
   فإنّ محبة الله تعالى عبادة من أهمّ العبادات القلبية، ومنزلة عظيمة من منازل الدّين، إذ هي قوت القلوب وغذاء الأرواح، وقرّة العيون وسرور النفوس، ونور العقول وعمارة الباطن، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنور الذي مَن فَقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عَدِمه حلت به أنواع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام(1).
    إنها للمؤمن السائر إلى الله تعالى كالرأس من الطائر، والطائر إذا فقد رأسه مات وانقطع طيرانه، وكذلك العبد إذا ذهبت المحبة من قلبه انقطع سيره إلى الله تعالى.
المطلب الأول : أهمية إخلاص المحبة لله تعالى
    إنّ محبّة الله من أوجب العبادات على العباد، عبادة فَقدُها من أصلها يكون خروجا عن الإسلام، ونقصانها وضعفها سبب الوقوع في المعاصي، وزيادتها وقوّتها هي الوقود الدافع إلى الطاعات، فهي شجرة مغروسة في قلب المؤمن موحد، فإذا سُقِيَت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم أثْمَرَت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
  إنها عبادة داخلة في أصل الإيمان، بل هي أصلُ أصلِ الإيمان، فإن الإيمان قول وعمل وأصله في القلب وفروعه في الجوارح، والمحبة أصل الإيمان الذي في القلوب، إذ قول العلماء "إن الإيمان قول وعمل" يقصدون به قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، وقول القلب هو تصديقه ومعرفته، وعمل القلب هو إخلاصه ومحبته وتعظيمه وخوفه ورجاؤه.
   ومحبة الله تعالى واجبٌ تحصيلها، وواجبٌ على كل مسلم إن يفرد بها المولى عز وجل ويخلصها له، قال الشيخ السعدي رحمه الله:«أصل التوحيد وروحه: إخلاص المحبّة لله وحده، وهي أصل التألّه والتعبّد له، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتمّ التّوحيد حتى تكمل محبّة العبد لربه، وتسبق محبّته جميع المحاب وتغلبها، ويكون لها الحكم عليها، بحيث تكون سائر محاب العبد تبعا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه»(2).
   ومحبة الله تعالى عند تأمل معناها هي لب العبادة وحقيقتها، حتى أن الحب عند علماء العربية على مراتب كثيرة منها العِلاقة ثم الصُّبابة ثم الغرام ويجعلون آخر مراتبه التتيم، والتتيم التعبد، ولذلك يقال تيم الله بمعنى عبد الله، فتبين من هذا أن العبادة تعني أعلى مراتب الحب وأخلص الحب وأكمله(3).
   إن المحبة عمل قلبي، به نصحح التزامنا بالإسلام واستقامتنا، وبه نقوِّم طريق سيرنا إلى الله تعالى، فالطاعات التي خلت من المحبة كالجسد الذي لا روح فيه، وإذا خلت العبادات من محبة الله عز وجل صارت كالأعمال الآلية يدخل فيها أحدنا ويخرج منها من دون أن يكون لها أيّ تأثير في نفسه ولا أيّ تغيير في سلوكه.
المطلب الثاني: وجوب إخلاص المحبة لله تعالى
1-قال تعالى: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24)، وهذا من أصرح الأدلة على وجوب محبة الله تعالى وعلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله تعالى أعظم ما يحبه النّاس في هذه الدنيا من المتاع والأقرباء، وتوعد من قدم محبتها على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله وذلك بقوله: (فتربّصوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، أي: فانتظروا ماذا يحلّ بكم من عقابه ونكاله بكم، ولهذا قال: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (4).
   ولا شك أن الناس يُحبُّون أشياء كثيرة مَحبةً طبيعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه كمحبة العطشان للماء والجائع للطعام ومحبة النوم والزوجة والولد، وهذه المحبة لا تحمد لذاتها، وكذا لا تذمّ إلاّ إذا قُدِّمت على محبة الله تعالى ورسوله أو ألهت عنهما، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (المنافقون:9)(5).
    ومحبة الله تعالى مُختلفةٌ عن المحبة الطبيعية، ومن أهم ما يميّزها عنها: اقترانها بالتعظيم والخوف، لذلك ليس هناك محبة صحيحة مقترنة بالتعظيم إلاّ محبة الله عز وجل.
   وبهذين الركنين تتميز العبادة وتقبل عند الله تعالى، فالسّجود والركوع من غير محبة وتعظيم حركة رياضية، والمنافقون لا تقبل أعمالهم لخلوّها من الإخلاص والمحبّة، قال تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة:54).
2-وقد بيَّن الله عز وجل أنَّ صرف هذا النّوع من المحبة لغير الله تعالى شرك؛ فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) (البقرة:165)، هذا حال المشركين الذين كانوا يحبّون الله تعالى ويحبّون معه تلك الأصنام التي يعبدون من دون الله تعالى، لم يرتض منهم الربّ سبحانه هذا التشريك، وأخبر أنّ صفة المؤمنين أنّهم يحبّونه ولا يحبّون أحدا مثل مَحبّته، فالله تعالى هو المحبوب الأول عند المؤمنين(6).
   والذين أشركوا في عبادة الله تعالى إنّما جرّهم إلى ذلك أحد أمرين: إمّا صرف المحبة الّتي هي حق الله تعالى إلى من لا يستحقّ المحبة أصلا، كمن أحب الأشجار والأحجار والكواكب وما أشبهها مما لا يضر ولا ينفع، أو غلوّهم في مَحبّة من تجب له المحبة، كمن غلا في حب الصّالحين حتى أداه غلوه فيهم إلى جعلهم أندادا لله عز وجل.
3- ومن أدلة إيجاب إخلاص المحبة لله تعالى، قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة:54) وجهه أن الله تعالى ذكر أخص صفات العباد الذين يُحبهم ويرضى عنهم، فكان أوَّلُها أنَّهم يُحبونه، وباقي الصفات المذكورة تعتبر من فروع محبة الله تعالى كما يأتي بيانه.
    ومما هو معلوم أن كل ما ثبت أنه عبادة لله عز وجل يَجب إخلاصه له، ومحبة الله تعالى عبادة لا شك فيها فوجب إخلاصها لله تعالى وعدم الإشراك فيها.
    وقد أوجب الله تعالى علينا محبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين الصالحين، فكيف يكون أمر محبته سبحانه التي هي أصلها.
المطلب الثالث : فضائل محبة الله تعالى
    ولمن حقّق محبة ربه تبارك وتعالى على وجه الكمال عدّة فضائل؛ منها ما يأتي شرحه في النقط الآتية:
1-الفوز بمحبة الله تعالى
   وقد كان بعض أهل العلم يقول:" ليس الشأن أن تُحب الله، ولكن الشأن أن يُحبّك الله"(7). والله عز وجل هو الودود الذي يُحِبُّ ويُحَب، كما قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الحديث القدسي:«وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ»(8) ، وبهذه المحبة يُنَزَّل المُحِبُّون أفضل المنازل، وجاء في الحديث القدسي أيضا: «الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ»(9).
   ولأجل هذا الفضل تطلّع الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه المنزلة وتنافسوا فيها، وقد روى سهل بن سعد  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأُعطين هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه، يُحبُّ الله ورسولَه ويُحبُّه الله ورسولُه، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله  كلهم يرجو أن يعطاها، فقال : أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتك عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأُتيَ به، فبصق رسول الله  في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية(10) ، وفي رواية أن عمر بن الخطاب  قال يومها:" ما أحببت الإمارة إلا يومئذ". أحبها لا لأجل الإمارة، ولكن لأجل هذه الشهادة الرفيعة ( يحبّ اللهَ ورسولَه ويُحبُّه الله ورسولُه).
2-بلوغ المنازل العالية
    ومن فضائل محبة الله تعالى أنها ترفع العبد إلى الرتب العالية والمنازل الرفيعة، ومما يدل على ذلك خبر ذلك الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: مَتَى السَّاعَةُ قَالَ وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا قَالَ لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ  أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ  وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ(11).
3-تحصيل لذة الإيمان
   ومن فضائلها تحصيل لذة الإيمان وحلاوته، وتمام النعيم وغاية السرور: وذلك لا يحصلُ إلا بمحبة الله عز وجل ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار»(12) فلا يغني القلبَ، ولا يَسُدُّ خلَّتَه ولا يشبعُ جوعته إلا أن يَمتلأ بمحبة ربه سبحانه، وبالإقبال عليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به لم يأنس ولم يطمئن إلا بمحبة الله جل جلاله.
4-الاستقامة وترك المعاصي
    ومن فضائل المحبة أنها من أعظم ما يحمل العبد على الاستقامة وترك المعاصي ومجانبة ما يغضب الرب سبحانه، قال ابن القيم في محبة الله عز وجل:«وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته، ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطانُ المحبةِ في القلب كان اقتضاؤه للطاعة، وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة مِنْ ضَعْفِ المحبة وسلطانِها، وفرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خَوْفُه من سوطه وعقوبتِهِ، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيده»(13).
5-الصبر وتسلية المصاب
   ومن فضائلها تسلية المحب عند حلول المصائب: قال ابن القيم:« فإن المحب يجد من لذة المحبة ما ينسيه المصائب، ولا يجد مِنْ مسِّها ما يجد غيرُه، حتى كأنه قد اكتسى طبيعةً ثانيةً ليست طبيعةَ الخلق. بل يَقْوَى سلطانُ المحبةِ حتى يلتذَّ المحبُّ بكثير من المصائب التي يصيبه بها حبيبه أعظم من التذاذ الخليِّ (أي العاري من المحبة) بحظوظه وشهواته»(14).
6-الاطمئنان وقطع الوساوس
   والمحبة تورث الاطمئنان وتقطع الوساوس عن القلوب التي امتلأت بها، لأنها والوساوس نقيضان لا يلتقيان، قال ابن القيم:« فبين المحبة والوساوس تناقض شديد كما بين الذكر والغفلة؛ فعزيمة المحب تنفي تردد القلب بين المحبوب وغيره، وذلك سبب الوساوس، وهيهات أن يجد المحب الصادق فراغاً لوسواس الغير؛ لاستغراق قلبه في حضوره بين يدي محبوبه، وهل الوسواس إلا لأهل الغفلة والإعراض عن الله تعالى؟ ومن أين يجتمع الحبُّ والوسواس؟»(15).
7-الشفاعة في الدنيا والآخرة
    ومن الفضائل أن محبة الله عز وجل ورسولِه صلى الله عليه وسلم تشفع لصاحبها في الدنيا والآخرة، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا أنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(16).
8-حسن الخاتمة
   ومن أعظم فضائل محبة الله أنه يظهر أثرها على فراش الموت، إذ عند الموت يُخرج قلب العبد ما كان فيه، فيتكلم من غير أن يتحكم في حواسه، والمرء إذا كان في الحياة فإنه يستطيع أن يتحكم في نفسه، فيظهر للناس خلاف ما يخفيه في قلبه، أما عند الموت فإنه يفقد هذه الاستطاعة، فتظهر كل الأشياء التي في قلبه على لسانه، فمن كان محباً لله عز وجل فتظهر الشهادة وذكر الله تعالى، لأن هذا ما كان يعمر قلبه؛ ومن كان في قلبه محبة غير الله تعالى من شهوات الدنيا فيحصر ويبتلى بسوء الخاتمة، وربما يذكر ما كان يحبه من مال وتجارات وديار وسيارات أو ألفاظ الغناء وأسامي النساء، نسأل الله تعالى العافية.
المطلب الرابع : أسباب تحصيل عبادة المحبة
   بعد أن تحدثنا عن أهمية عبادة المحبة وبينا وجوبها وفضائلها، نأتي إلى بيان أسباب تحصيلها وتقويتها في النفس:
1-الوقوف على أهمية محبة الله ومنزلتها من الاعتقاد
   إن أول شيء يجعلنا نسعى إلى تحصيلها أن نعلم وجوبها ونقف على أهميتها ومنزلتها في الدين؛ فهي أصلُ أصلِ الإيمان وأساس العبادة وروح التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وبها تكون حياة القلوب وهي غذاء الروح، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله:«هي حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلا بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظمَ من ألم العينِ إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنفِ إذا فقد شمّه، واللسان إذا فقد نُطْقَه؟! بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره، وبارئه، وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح. وهذا الأمر لا يصدِّق به إلا مَنْ فيه حياةٌ، وما لِجُرْحٍ بميت إيلام»(17). ويقول ابن تيمية: «وأيضا ففي قلوب بني آدم محبة وإرادة لما يتألهونه ويعبدونه، وذلك هو قوام قلوبهم وصلاح نفوسهم كما أن فيهم محبة وإرادة لما يطعمونه وينكحونه، وبذلك تصلح حياتهم ويدوم شملهم، وحاجتهم إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء، فإن الغذاء إذا فقد يفسد الجسم وبفقد التأله تفسد النفس، ولن يصلحهم إلا تأله الله وعبادته وحده لا شريك له»(18).
2-الوقوف على فضائل محبة الله عز وجل
  وكذلك نحصل المحبة بالوقوف على تلك الفضائل التي سبق ذكرها، فإن من فائدة ذكر الفضائل والثمار الترغيب في تحصيل العمل.
3-تعلم الأسماء الحسنى
  وأهم ما تحصل به محبة الله تعالى في قلوب العباد تعلم أسماء الله تعالى وصفاته الدالة على جماله، وتدبّر معانيها، فمن عرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبّه لا محالة، وكيف لا يحبه وأسماؤه كلّها حسنى بالغة في الحسن غايته، وصفاته كلّها كاملة لا نقص فيها، والقلوب مفطورة على محبّة كل حسن وكل كامل في أوصافه وأخلاقه، ولا شيء كامل إلا الله عز وجل، ولا شيء أجمل من الله، فكل جمال وكل كمال في الوجود فهو من آثار صنعه سبحانه وتعالى، وكلّ اسم من أسمائه وصفة من صفاته تستدعي محبّة خاصة، وتعالوا بنا نلقي نظرة خاطفة على بعض الأسماء ومعانيها الظاهرة.
   فالله تعالى هو الرّحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة، والله تعالى هو الرّؤوف، والرّأفة هي: أعلى معاني الرحمة وهي رحمة وحنان، وهو الحليم ومن حلم الله صبره على كفر النّاس وفسوقهم وعدم تعجيل العقوبة لهم، وهو الكريم والكرم: هو الإعطاء من غير سؤال وبلا حساب، وهو الهادي والهداية: إرشاد العباد إلى جميع المنافع وتحذيرهم من المضار وتعليمهم وتوفيقهم للخير، وهو الودود الذي يحِب عباده المؤمنين الصالحين، وهم يحبونه.
   وهذا من أعظم الطرق الموصلة إلى محبة الله؛ لأنّ محبّة الأشياء تابعة للمعرفة بصفاتها، فنحن نحب الرجل إذا علمنا أنه مؤمن من المصلين، فإن علمنا أنه من أهل النجدة والإغاثة، ومعروف بالجود والكرم ازددنا محبة له، فإن تبين لنا أنه من العلماء الناصحين ازددنا محبة له، أما الشخص يذكر لك اسمه دون أي شيء من صفاته؛ فلا يمكنك أن تكون محبا له ولا مبغضا، وكذلك الله تعالى – ولله المثل الأعلى – إنّما يحبّه عباده على قدر معرفتهم بمعاني أسمائه وصفاته، ولذلك كان الأنبياء أعظم محبة لله تعالى من غيرهم، ثمّ العلماء به لأنّهم يعرفون من معاني الأسماء والصفات وآثارها مالا يعرفه عامّة الناس، وكلّما أكثر القلب من مطالعة أسمائه وصفاته وأفعاله؛ ازدادت محبّته له(19).
4-تذكر نعم الله عز وجل
   ومن أسباب محبة الله تعالى تذكّر وملاحظة نعم الله الظّاهرة والباطنة الّتي نتقلّب فيها، ومشاهدة برّه تعالى وإحسانه، قال تعالى –حاكيا ما قال هود عليه السلام لقومه-: (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأعراف:69) ذلك أنّ النّفوس مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحساناً على العباد من ربهم عز وجل، ونحن إنّما نحبّ والِدَيْنا أكثر من غيرهم من النّاس لأجل هذه الجِبلّة، وإنّ العبد يتقلب في نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى كما قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: 18)، والمطلوب من العبد أن يتأمل هذه النعم وأن يرد فضلها إلى الله كنعمة الإيمان والهداية، ونعمة الحياة، ونعمة الصحة، وسلامة الحواس، ونعمة الطعام والشراب، ولكنّ كثيرا من النعم لا نشعر بأنّها نعمة لعدم فقدها، فنعمة الهواء الّذي نتنفسه من أعظم النعم إذ به حياتنا وحياة كل الكائنات على وجه الأرض، وهذا الماء الّذي أصبح في زماننا موجودا في كل مكان من أعظم النعم التي نُسأَل عنها، وقد امتن الله تعالى علينا به، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء:30) وقال : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) (البقرة:22) ولنتصوّر أنه لا يوجد هواء ولا يوجد ماء ! ثمّ لنتصوّر كم هي عدد النعم التي هي من آثار هاتين النعمتين.
    ومن بِرِّ الله تعالى وإحسانه أنه كلف ملائكة يحفظون العبد ومنذ كان نطفة في رحم أمه، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ فِي الرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ يَا رَبِّ عَلَقَةٌ يَا رَبِّ مُضْغَةٌ»(20) ، وإذا خرج وكل به الحفظة قال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه) (الرعد:11)
5-تذكر ما أعده الله للمؤمنين في الجنة
   ومن أسباب تحصيل المحبة تذكر ما أعده الله تعالى لعباده المتقين في جنات النعيم، فإنّ العبد إذا نظر إلى تقصيره وتقصير الناس وعصيانهم، وقارنه بما يقابلهم به الربّ سبحانه من عفو ومغفرة وإحسان، ازداد من غير شكّ محبةً لله تعالى، ويكفينا أن نذكّر في هذا الموضع بحال آخر النّاس دخولا الجنة، الّذي يخرج من النار حبواً وما تأخر إلاّ لمعاصيه الغالبة، ومع ذلك فإن الله تعالى يعطيه في الجنة قدر الدنيا وعشر أمثالها، حتى إنّه لا يصدّق ذلك ويقول لرب العزّة جلّ جلاله:" تسخر مني وأنت الملك؟! قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ كَبْوًا (في رواية حبوا وفي رواية زحفا) فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّي أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَكَانَ يَقُولُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً»"(21).
6-تلاوة القرآن الكريم
   وهذه الأمور السالفة الذكر من معرفة أسماء الله تعالى ونعمه ونعيم الجنة إنّما تعرف أساسا بتلاوة القرآن الكريم، وتدبر آياته، وتفهم معانيه، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29)، فهذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهمّ من إنزال القرآن، ولاشيء أنفع للقلب وأجلب لمحبة الله من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنّه جامع لجميع منازل السّائرين وأحوال العاملين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والشكر والصبر وسائر أعمال القلوب. ويلتحق بهذا مدارسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تفسر القرآن وتربط العباد بربهم وتذكرهم بوعده ووعيده.
7-الإكثار من الطاعات والمداومة عليها
   ومنها: الإكثار من الطاعات، والمداومة عليها فرضها ونفلها، لتحصيل معنى القرب، فإنّ من الأمور الّتي تقوّي المحبّة الاقتراب من المحبوب، والاقتراب من الله تعالى إنّما يكون بالإكثار من الطاعات والمداومة على ذكره وتلاوة كلامه، ومراقبته سبحانه في الأقوال والأعمال. وقد جاء في الحديث القدسي:« وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»(22) ، وإذا أحبّه أكرمه بلذة الإيمان والمحبة التي يتطلع إليها، وعلى هذا فكلّ الأعمال الّتي علمنا أن الله يحبها ويحب عاملها فهي من أسباب التوفيق إلى محبة الله تعالى.
8-الإكثار من ذكر الله تعالى
   ومن أخصّ تلك القربات الموجبة لمحبة الله : ذكر الله باللّسان والقلب، ونصيب العبد من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر(23) ، ولهذا أمر الله تعالى بالذكر وجعله سببا للفلاح فقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45)، وأثنى على أهل الذكر ومدحهم، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191) وجعل الله هذا الذكر حتى بعد العبادات العظيمة وخاتمة الأعمال الصالحة، بعد الصيام (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185)، والحج (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (البقرة:200)، والصلاة (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)  (النساء:103)، وأفضل ذلك ما كان في الخلوات في وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل لمناجاته وتلاوة كلامه ودعائه واستغفاره والإنابة إليه، قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:16).
9-مجالسة المحبين الصادقين وقراءة سيرهم وآثارهم
   ومما ذكره ابن القيم في هذا الباب أي باب أسباب تحصيل المحبة: مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم(24). ذلك أن كلام الصالحين من علماء السلف العاملين إنما هو ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وقد قيل عن الحسن البصري إن كلامه يشبه كلام الأنبياء(25) وذلك لما تضمنه من مواعظ بليغة وحكم عزيزة .
10-مجاهدة النفس
   ومن الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل مجاهدة النفس وإرغامها على تقديم محبة الله على محاب النفس وشهواتها وإيثار الله تعالى على النفس والهوى، قال ابن القيم رحمه الله:« فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها, وخير له وأنفع وأدوم, وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه, فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها: صرف ذلك الشوق والمحبة والإرادة إلى النوع العالي الدائم, فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم»(26).
11-الدعاء والاستعانة
    ومن أعظم أسباب تحصيل المحبة: دعاء الله تعالى والاستعانة به والتضرّع إليه، والانكسار بين يديه وإعلان الافتقار إليه، وقد كان من دعاء الرّسول صلى الله عليه وسلم (أمره جبريل أن يقوله إذا فرغ من الصلاة):«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ»(27). (أَسْأَلُكَ حُبَّكَ) أي محبتي إياك بدلالة ما بعده، و(الفتنة) الضلالة أو العقوبة.
المطلب الخامس: لوازم إخلاص عبادة المحبة
    وإذا تحققت المحبة في القلوب كان لذلك عدّة علامات على الجوارح، والمحبّة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء، وثمارها تظهر في القلب والجوارح، كدلالة الثمار على الأشجار والدخان على النار وهذه العلامات كثيرة منها:
1-إعلان الخضوع لشرع الله تعالى
  أول اللوازم الانقياد لله جل جلاله وقبول أحكامه، وإعلان الإسلام والذل والخضوع لشرائعه، ولا يصح إيمان من غير هذا، ولا تقبل الشهادتان إلا بالقبول والانقياد، القبول الذي يعني الرضا بأحكام الله تعالى وعدم الاعتراض عليها، والانقياد الذي يعني الاستسلام لها والاستعداد للامتثال لها.
2-المسارعة إلى طاعة الله عز وجل
   ومن لوازم محبة الله طاعته والمسارعة إلى إرضائه، فالمحبة من أقوى أسباب الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها(28)، وقد قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه    هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته     إن المحب لمن يحب مطيع
والقاعدة: أنّ الإنسان لا يمكن أن يترك محبوباً إلاّ لمحبوب أعلى منه، لذلك وجب على المؤمن أن يؤثر محابّ ربّه على محابّه، وعلامة هذا الإيثار شيئان: فعل ما يحبه الله ولو كانت نفسك تكرهه، وترك ما يكرهه الله ولو كانت نفسك تحبه.
3-إيثار الله تعالى بالطاعة
   ومنها تقديم طاعة المحبوب سبحانه وتعالى على طاعة غيره من مخلوقاته كالآباء والسلاطين، ومن أطاع أحدا في معصية الله – أو من غير مراعاة أمر الله ونهيه – فقد اتّخذ ربا وإلها معبودا من دون الله، قال الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة:31)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:« السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»(29) ، وقال صلى الله عليه وسلم :« لَا طَاعَةَ لِبَشَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ»(30).
    ومحبة الوالدين فطرية جبلية وهي داعية إلى طاعتهما، وقد أمر الله تعالى ببرهما والإحسان إليهما ولو كانا كافرين،، ولكن إن أمرا بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لهما قال تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) (لقمان:15).
4-الصبر على الشدائد والرضا بالقضاء
   ومنها الثبات على الدين والصبر على المكروهات والرضا بالقضاء والتلذذ بالابتلاءات، والصبر من أعلى المنازل في طريق المحبة وألزمها للمحبين، وهي معيار التمييز بين الصادق في محبته والكاذب فيها، وقويّها وضعيفها، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11)، ولما أخبر هرقل أنه لا يرتد أحد من المسلمين كراهة لدينه قال:« كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب»(31) ، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:«إنّ في الدنيا جنّةً من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة»(32 ، ويقول رحمه الله – وهو الذي كانت حياته كلها جهادا وصبرا على الاضطهاد –:« ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة»(33). وأعظم الناس محبة لله أشدهم صبراً وهذا ما وصف الله به أولياءه فقال عن عبده أيوب لما ابتلاه (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:44)، وقد سبق في فضائل المحبة أنهم ربما يتلذذون بما يصيبهم في سبيل الله؛ لأنهم يعلمون أن ذلك من أجل محبوبهم، وأن محبوبهم هو من قدره عليهم.
5-محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
    ومنها محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتقديم محبته على محبة غيره من الناس، لأنّه حبيب الله تعالى وخليله صلى الله عليه وسلم ، وهذه المحبة من أصول الإيمان فلا يصح إلاّ بها، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(34) ، وقال صلى الله عليه وسلم:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار»(35) وعلامة هذه المحبة طاعته صلى الله عليه وسلم وعدم التقديم بين يديه، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم) (آل عمران:31)، وهذه الآية تسمى آية المحبة، وتسمى آية المحنة أيضا بها يمتحن الناس فيتبين الصادق في دعواه محبته للنبي صلى الله عليه وسلم من الكاذب.
6-محبة أولياء الله عز وجل
   ومن لوازم محبة الله تعالى: محبة أوليائه من المؤمنين عموما والصالحين من أهل العلم والطاعة خصوصا، قال سبحانه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة:55)، والموالاة تتضمن المحبة والنصرة، وقال النبي  :«مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ»(36) ، وفي مقدمة من تجب محبتهم بعد أنبياء الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10)، وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»(37)، وقَالَ:«آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ»(38).
7-بغض أعداء الله تعالى وعدم موالاتهم
   وكذلك من اللوازم: بغض أعداء الله تعالى من الكافرين وغيرهم، ومعاداتهم وعدم التشبه بهم، قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإيمَانَ) (المجادلة22)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة:1)، ولا ينفي هذا أن تحب لهم الهداية والتوبة لأن ذلك فرع محبة الله تعالى، لكنّهم ماداموا على الكفر والضلال فلا تجوز محبتهم.
8-التضحية في سبيل الله عز وجل
    ومن لوازم محبة الله تعالى: الغيرة على دين الله ونصرته والتضحية في سبيله ببذل النفس والنفيس والغالي والرّخيص، قال ابن القيم:«وإذا ترحّلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره، وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(39) ، ولذلك كان من صفة الّذين يحبهم الله ويحبونه أنهم  يجاهدون في سبيل الله، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة:54)، وقال سبحانه: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب:6) قال ابن عباس وعطاء يعني إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم، وقيل: هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه(40).
   والمحب يغار لله فيغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون، فهذه هي غيرة المحب حقاً، والدِّين كله تحت هذه الغيرة، فأقوى الناس ديناً وأعظمهم محبة لله أعظمهم غيرة على حرمات الله.
9- الإكثار من ذكر الله تعالى
   ومنها الإكثار من ذكر الله تعالى، وحمده والثناء عليه بصفات الكمال ونعوت الجلال، لأن من أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه، قال ابن القيم :"ومنها كثرة ذكر المحبوب واللهج بذكره وحديثه، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه، ولهذا أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال"(41). قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران:191). وإن من علامة المحبة الصادقة سبق ذكر المحبوب إلى قلب المحبوب ولسانه عند أول يقظة من منامه وآخر شيء يذكره قبل أن ينام مرة أخرى.
10- محبة كلام الله عز وجل وتلاوته وتدبر معانيه
    من لوازم محبة الله تعالى محبة كلام الله عز وجل وتلاوته وتدبر معانيه، قال ابن مسعود :« لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن ويعجبه فهو يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم »(42) وأما من يدعي المحبة وهو يهجر كلام رب العالمين كان في ادعائه المحبة من الكاذبين (هذا من أظهر الموازين)، فإن من أحب محبوباً كان كلامه وحديثه أحب شيء إليه ، فلا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم، قال ابن القيم :« ومنها الإقبال على حديثه وإلقاء سمعه كله إليه بحيث يفرغ لحديثه سمعه وقلبه … فإن أعوزه حديثه بنفسه فأحب شيء إليه الحديث عنه، ولا سيما إذا حدث عنه بكلامه، فإنه يقيمه مقام خطابه كما قال القائل:" المحبون لا شيء ألذ لهم ولقلوبهم من سماع كلام محبوبهم، وفيه غاية مطلوبهم"، ولهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن »(43).
11-الأنس بالله في الخلوات والتلذذ بالطاعات
   ومن لوازم المحبة وعلاماتها: الأنس بالله تعالى في الخلوات والتلذذ بالطاعات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حُبِّب إليّ من الدنيا: الطِّيبُ والنِّساء، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ»(44) ، وقرة العين فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحبه، وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره و بهجته إنّما هو بالصلاة التي هي صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه، ومن قرّت عينه بصلاته في الدنيا: قرت عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة، فقرة عين المحبين وسرور قلوبهم ولذة أرواحهم في طاعة محبوبهم بخلاف المطيع كرهاً، الذي يرى أنه لولا ذل القهر ما أطاع، بل هو منساق إلى الله طوعاً ومحبة وإيثاراً كجريان الماء في منحدره، ولا يصل العبد إلى هذه المرحلة إلا بعد تدريب ومكابدة ومشقة ومجاهدة، ولذلك فإن اللذة والتنعم بالطاعة تحصل بعد الصبر والتعب أولاً، فإذا صبر وصدق في صبره وصل إلى هذه المرحلة، ولذلك قال بعض السلف:« كابدت نفسي في قيام الليل عشرين سنة، وتلذذت به بقية عمري».
   ولذلك تجد بعض العابدين إذا مرض ينزعج جداً ويتألم من المرض، لا لأجل ألم المرض، ولكن لأجل أنه قطعه عن العبادة التي كان متعوداً عليها فتصبح القواطع عن العمل أكره شيء عنده ، ولذلك عوضه الله بالأجر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا»(45).
12- حب لقاء الله تعالى والشوق إلى رؤيته سبحانه
   من آثار محبة الإله جل جلاله: حب لقاء الله تعالى والشوق إلى رؤيته سبحانه، فإنه لا يتصوّر أن يحبّ القلب محبوباً إلا ويحب لقاءه ومشاهدته، قال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ »(46) ، فالمحبّ الصادق يذكر محبوبه دائماً ويشتاق إلى رؤيته، ويتمنى قربه ولا يرضيه البعد عنه، (وأول اللقاء: الموت، ثم يوم القيامة، ثم في الجنة) وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :« وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ»(47). (أي: الضر الذي لا يصبر عليه والفتنة الموقعة في الحيرة). وقال بعض المحبين:" مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها" قالوا: وما أطيب ما فيها ؟ قال:« محبة الله والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه»(48).
    قَالَ صلى الله عليه وسلم:« إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ »(49) ، وفي رواية:" ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)".
المطلب السادس : أسباب محبة الله للعبد
    بعد أن تحدثنا عن محبة العبد لربه نأتي للحديث عن محبة الرب لعبده وهي من آثار وثمار محبة الله تعالى كما سبق بيانه، وذلك ببيان الأسباب الموجبة لها نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهلها، ومما ينبغي أن يعلم أن ومن أسماء الله تعالى الودود، قال عز وجل (وهو الغفور الودود ) وقال: ( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود:90) والود أصفى الحب وألطفه، والودود الذي يُحِب ويُحَب، وقال بعض السلف:« ليس الشأن أن تُحب الله، ولكن الشأن أن يُحبّك الله »(50). لأن الله عز وجل يُحَب من كل وجه لعميم إحسانه وجوده، ومزيد كرمه وإنعامه على العباد. قال ابن القيم:« ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته، مع حاجته وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه»(51). وفيما يأتي ذكر لبعض الأسباب الموجبة لمحبة الله تعالى للعبد:
1-محبة الله عز وجل
     قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54). فبين ربنا عز وجل أن أول صفة العباد الذين يحبهم ويرضى عنهم أنهم يحبونه، ومن مقتضى هذه المحبة إيثار محابه سبحانه على محابهم وهو ما يحقق بقية الصفات الواردة في الآية. وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ :« إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ ، وَيُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى النَّاسِ، وَالَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ»(52).
2-محبة القرآن وصفات الرحمن
    روت عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ»(53). فاستحق هذا الصحابي هذه البشارة من النبي صلى الله عليه وسلم وهي صادرة من الوحي بلا ريب، لأنه أحب سورة الإخلاص لأنه صفة الرحمن، فكيف بمن كان محبا لكل القرآن لأنه كلام الرحمن.
3-الجهاد في سبيل الله عز وجل
    قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) (الصف: 4)، ومحبة الله تعالى ثابتة لمن جاهد في سبيله جهادا مطلقا سواء كان جهاد بالمال أو النفس أو الجاه للآية السابقة (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).
4-محبة المؤمنين
     قال صلى الله عليه وسلم :« قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:" وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ »(54). فالحب في الله والزيارة في الله والمجالسة في الله والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر ومجالس الذكر تنال بها محبة الله سبحانه، ومما يدل على ذلك قصة الرجل الذي زار أخاً له في الله في قرية أخرى ليس بينهم علاقة مالية ولا شغل فبعث الله ملكاً يقول له :« فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ»(55) ، وكلما زادت المحبة بين المؤمنين كان هذا أقرب إلى الله سبحانه، يقول النبي : «ما تحاب الرجلان إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه»(56).
5- الإحسان
    قال الله تعالى: ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة:195) وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان فيدخل فيه الإحسان بالمال والإحسان بالجاه بالشفاعات والإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع وقضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم وإزالة شدائدهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وإرشاد ضالهم ويدخل فيه العفو عن الناس، ويدخل في الإحسان أيضا الإحسان في عبادة الله تعالى كما جاء في حديث جبريل أن الإحسان:" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ »(57).
6-طهارة الباطن والظاهر
    قال الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: 222) فالله تعالى يحب التوابين من الذنوب، وهم الذين يداومون على تطهير قلوبهم من أدران الذنوب وأوساخها، وهو يحب المتطهرين بالماء طهارة حسية من الأحداث والنجاسات، الحفاظ على الطهارة من علامة كمال الإيمان، وكانت سببا من أسباب تبشير بلال رضي الله عنه بالجنة.
7-اتباع سنة النبي 
   ومن أعظم أسباب نيل محبة الله تعالى محبة نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واتباع سنته، قال تعالى:  (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (آل عمران:31) وقد جعل ربنا سبحانه اتباع النبي  علامة الصدق في دعوى محبة الله عز وجل.
8- التقوى
    قال الله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:7). والمتقون هم الذين يخافون عقابه, ويحذرون عذابه, فيجتنبون ما نهاهم عنه, وحرّمه عليهم, ويطيعونه فيما أمرهم به.
9-الإخلاص لله عز وجل
    قال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»(58) ، التقي سبق بيان معناه والغني هو الغني عن الناس استغنى عنهم بالله عز وجل، والخفي هو من لا يريد علواً في الأرض ولا جاها، والخفي أيضا الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
10-التوكل على الله عز وجل
    قال تعالى: ( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) وحقيقة التوكل: الثقة بالله عز وجل وحسن الظن به مع الاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه وإظهار العجز والافتقار إليه، وهو معنى الاستعانة التي أمرنا بها ربنا عز وجل وقرنها بالعبادة.
11-الحكم بالعدل
   قال عز وجل: ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة:42)، والقسط العدل، وأهل العدل هم الذين يعدلون في أهليهم وأولادهم ، ولا يجورون في أحكامهم وقرارتهم ، ولا يستغلون الولايات التي يتولونها والمناصب التي يتبوؤونها لأغراض غير مشروعة.
12-حسن الخلق
     سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب عباد الله إلى الله؟ قال:« أحسنهم خلقاً»(59) ، ولحسن الخلق من الفضائل الثابتة الشيء الكثير، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ الْمُتَكَبِّرُونَ»(60) ، وَالثَّرْثَارُ هُوَ الْكَثِيرُ الْكَلَامِ وَالْمُتَشَدِّقُ الَّذِي يَتَطَاوَلُ عَلَى النَّاسِ فِي الْكَلَامِ وَيَبْذُو عَلَيْهِمْ.
13-الصبر
     قال تعالى: ( وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146) الذين يصبرون على البلاء وعلى الأذى في سبيل الله، ويصبرون على الطاعة وعلى ترك المعصية، والصبر خلق عظيم به تحقق العبودية والثبات على دين الله تعالى، وبه يكتسب المرء حسن الخلق الذي هو أثقل شيء في الميزان.
14-الحفاظ على الفرائض والإكثار من النوافل
    وكذلك من الأمور الموصلة إلى محبة الله عز وجل التقرب إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض والحفاظ عليها كما جاء الحديث القدسي: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»(61) ومن هذه النوافل نوافل الصلاة والصيام والحج والعمرة والصدقات وقراءة القرآن وتدبره والتفهم لمعانيه، ودوام ذكر الله على كل حال ودعاؤه واستغفاره سبحانه وتعالى.
المطلب السابع : علامات محبة الله تعالى للعبد
    بعد أن بينا أسباب محبة الله تعالى لعباده مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة محمد صلى الله عليه وسلم ، ناسب أن نردف ذلك ببيان علامات محبة الله عز وجل لعباده، تلك العلامات التي تعتبر من المبشرات ومن الأمور المثبتة للمؤمنين إن شاء الله تعالى.
1-إلقاء القبول في الأرض
     في الصحيح أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما تولى أمور الناس، وحج بهم أطل على الناس، فقال أحد أبناء التابعين لأبيه: هذا يحبه الله تعالى، فقال له أبوه: كيف عرفت ذلك يا بني؟ قال: إن الناس يحبون عمر بن عبد العزيز، فلا بد أن يكون الله قد أحبه قبل أن يحبه الناس، فقال: صدقت يا بني، ثم روى لابنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ»(62). والمراد إلقاء القبول في قلوب الصالحين لهذا العبد بالميل إليه والرضا عنه والثناء عليه، أما أعداء الله عز وجل فإنهم لن يرضوا عن أهل الإيمان أبدا، كما قال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ  (البقرة:120)
2-الابتلاء في النفس والمال والأهل
    قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»(63). فيبتليهم بأنواع البلاء حتى ينقيهم من الذنوب، ويفرغ قلوبهم من الشغل بالدنيا غيرة منه عليهم، لأن الله تعالى يغار أن يشتغل العبد الذي يحبه بغيره، وهذا الابتلاء يكون على قدر الإيمان، وقد سئل رسول الله : أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ:« الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»(64). يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155-157) فالبلاء كما يكون أحياناً عقوبة على المعاصي، قد يكون نتيجة محبة الله تعالى رفعا لدرجات العبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:« إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها»(65).
3-حفظ العبد في دينه
   ومن أهم علامات محبة الله تعالى للعبد حفظه في دينه وحسن تدبير أمره وحسن تربيته، فيكتب الإيمان في قلبه وينور له عقله ويستخلصه لعبادته؛ فيشغل لسانه بذكره وجوارحه بطاعته، ويسدد ظاهره وباطنه، ويجعل همه هماً واحداً بحيث تشغله محبته سبحانه عن كل شيء، قال ابن القيم: «إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته, واستخلصه لعبادته, فشغل همه به, ولسانه بذكره, وجوارحه بخدمته»(66). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ»(67)، يعني: يحميه من فتنة الدنيا؛ من فتنة أموالها وزخرفها وزينتها، "كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء" وذلك حين يكون الماء مضرا بذلك المريض.
     قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»(68). المعنى أنه متى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة له إلا لما يريده منه مولاه فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر نظر به وإن بطش بطش به .
4-التوفيق وإجابة الدعاء
   ومن علامات محبة الله للعبد توفيقه وإجابة دعائه وقضاء حوائجه، لا يطرق باباً إلا ويجده مفتوحاً، ولا يتعسر عليه أمر إلا ويكون التيسير حليفه بعد حين، وقال تعالى في الحديث القدسي :«وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، وقال ابن القيم :« فتأمل كمال الموافقة ... في الإرادة كيف اقتضى موافقته في قضاء حوائجه وإجابة طلباته وإعاذته مما استعاذ به، كما قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم:"ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"(متفق عليه)، وقال له عمه أبو طالب:" يا ابن أخي ما أرى ربك إلا يطيعك"، فقال له:" وأنت يا عم لو أطعته أطاعك"، وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل : (واتخذ الله إبراهيم خليلا) قال:" حبيبا قريبا، إذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه"، وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام:" يا موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد"»(69).
5-الإلهام في الآراء والتسديد في الأقوال
    ويتبع ما سبق موافقة العبد لله عز وجل فيما يقوله من كلام وأحكام فيُجْرِي الحقَّ على لسانه، فلا يَخرج منه إلا الحق، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أصحاب هذه المنزلة، لذلك كان يقول: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وَآيَةُ الْحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ(70) ، وزيادة على هذه الثلاث كان يتمنى نزول تحريم الخمر؛ فنزل تحريم الخمر. وكان له موقف من أسرى بدر؛ فنزل القرآن مسددا رأيه، ومن هذا القبيل ما أثر عن مكحول: «ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(71).
6-التوفيق لحسن الخاتمة
   وأعظم علامات محبة الله عز وجل للعبد أن يوفقه لحسن الخاتمة، ويوفقه للموت على عمل صالح ليبعث عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ قِيلَ وَمَا عَسَلهُ قَالَ يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ» وفي رواية:« يُفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه»(72).
   وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ولمحبته ومحبته رسوله، ويهدينا للرضا بشريعته واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
 / انظر مدارج السالكين لابن القيم (3/6) وقال رحمه الله تعالى في (3/9) منه: "لا تحد المحبة بحد أوضح منها فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة"، وانظر أيضا شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (165).
2/ القول السّديد لعبد الرحمن السعدي (117).
3/ انظر روضة المحبين لابن القيم (26).
4/ انظر تفسير ابن كثير (2/343).
5/ انظر الجواب الكافي لابن القيم (226).
6/ انظر إغاثة اللهفان لابن القيم (2/196).
7/النبوات لابن تيمية (1/346) مدارج السالكين لابن القيم (3/37) روضة المحبين لابن القيم (266).
8/ رواه مالك في الموطأ (1779) وصححه ابن حبان (575).
9/ رواه الترمذي (2390) وصححه.
10/ رواه البخاري (3009) ومسلم (2406).
11/ رواه البخاري (3688) ومسلم (2639).
12/ رواه البخاري (16) ومسلم (43).
13/ طريق الهجرتين لابن القيم (409).
14/ مدارج السالكين لابن القيم (3/36).
15/ مدارج السالكين لابن القيم (3/36).
16/ رواه البخاري (6780).
17/الجواب الكافي لابن القيم (282).
18/قاعدة في المحبة لابن تيمية (44) مكتبة التراث القاهرة.
19/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/85) مدارج السالكين لابن القيم (3/17-18) فتح الباري لابن رجب (1/46).
20/ رواه البخاري (318) ومسلم (2646).
21/ رواه البخاري (6571) ومسلم (186).
22/ رواه البخاري (6502).
23/ مدارج السالكين لابن القيم (3/17).
24 مدارج السالكين لابن القيم (3/17).
25/ حلية الأولياء لأبي نعيم (1/272) السير للذهبي (4/586).
26/ الفوائد لابن القيم (110) دار الكتب العلمية.
27/ رواه الترمذي (3235) وصححه ونقل تصحيحه عن البخاري.
28/ طريق الهجرتين لابن القيم (409).
29/رواه البخاري (7144).
30/رواه أحمد (1/129) وصححه ابن حبان (4568).
31/ رواه البخاري (7).
32/انظر مدارج السالكين (1/454) والوابل الصيب لابن القيم (67).
33/ انظر الوابل الصيب (67) دار الكتاب العربي.
34/رواه البخاري (14) ومسلم (44).
35/ رواه البخاري (16) ومسلم (43).
36/ رواه أبو داود (4681) وصححه الألباني.
37/ رواه البخاري (3673) ومسلم (2540).
38/ رواه البخاري (17) ومسلم (74).
39/ روضة المحبين لابن القيم (297).
40/ تفسير البغوي (3/507).
41/ روضة المحبين لابن القيم (285).
42/ رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (8) وابن الجعد في المسند (1956).
43/ روضة المحبين لابن القيم (288).
44/ رواه النسائي (3939) وصححه الألباني.
45/ رواه البخاري (2996).
46/ رواه البخاري (6507) ومسلم (157).
47/ رواه النسائي (1305) وصححه ابن حبان (1971).
48/ مدارج السالكين لابن القيم (1/166).
49/ رواه مسلم (181).
50/ انظر النبوات لابن تيمية (1/346) ومدارج السالكين (3/37).
51/ الفوائد لابن القيم (35).
52/ الزهد لابن المبارك (1303) المستدرك للحاكم (1/51).
53/ رواه البخاري (7375) ومسلم (813).
54 رواه مالك في الموطأ (1779).
55/ رواه مسلم (2567).
56/ رواه البخاري في الأدب المفرد (544) وصححه الألباني.
57/ رواه مسلم (1955).
58/ رواه مسلم (2965).
59/ رواه الطبراني(471) والحاكم(4/400) وصححه الألباني في الصحيحة(432).
60/ رواه الترمذي (2018) وصححه ابن حبان (482).
61/ رواه البخاري (6502).
62/ رواه البخاري (3209) ومسلم (2637) واللفظ له.
63/ رواه الترمذي (2396) وابن ماجة (4031) وحسنه الألباني.
64/ رواه ابن ماجة (4023) والترمذي (1298) وصححه.
65/ رواه ابن حبان في صحيحه (2908).
66/ الفوائد لابن القيم (98).
67/ رواه الترمذي (2036) وحسنه الألباني.
68/ رواه البخاري (6502).
69/ روضة المحبين لابن القيم (410).
70/ البخاري (402) ومسلم (2399).
71/ مدارج السالكين لابن القيم (2/92).
72/ رواه أحمد (4/200) وصححه ابن حبان (342).

الأربعاء, 11 آب/أغسطس 2021 14:19

السحر خطره، وأسبابه، وكيفية مكافحته

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد: فإن المظاهر السلبية والآفات الاجتماعية المنتشرة في العالم الإسلامي كثيرة ومتنوعة، بعضها أشر من بعض وأخطر، ومن أخطرها ما يعد من مظاهر الشرك بالله ومن عوامل تأخر الأمم وسقوط الحضارات وتدمير المجتمع من داخله، ومن علامات انحطاط الأخلاق وانحلال العقائد، ومن هذه الآفات الخطيرة آفة السحر التي هي موضوع هذه الرسالة المختصرة.
    إن السحر آفة خطيرة وداء عضال، وخطره على الأفراد والجماعات واضح ومتحقق، فهو سبب من أسباب انتشار الأمراض الخبيثة والفتاكة، وعامل من عوامل تفكك الأسر والتفريق بين الأزواج، ومعول يهدم صرح الأخوة والمحبة التي بناها الإسلام، ويزرع مكانها الحقد والكراهية، كما أنه يزرع الشكوك ويسلب الثقة من نفوس الناس، بل ويسلب منهم الشعور بالأمن.
      وإن فشو السحر في المجتمع دليل على بلادة أهله وانتشار التخلف الفكري وسيطرة الرجعية الحقة فيه، ونذارة شر عام مستطير، لأن السلطة تكون في مثل هذا المجتمع لأصحاب النفوس الخبيثة والطباع الشريرة، وما سنذكره إن شاء الله في هذه الرسالة نصيحة وتعليم لمن جهل أحكامه، وتذكير لمن غفل عنها، وإشعار بخطره على الأفراد والمجتمعات وخطره على الأديان قبل ذلك، وتبيان لأسباب انتشاره ولطرق مكافحته وسبل الوقاية منه، نسأل الله العلي القدير أن ينفع بها.
ما هو السحر؟
    السحر في اللغة العربية يطلق على كل ما خفي سببه ولطف ودق، حتى إن العرب تقول : أخفى من السحر ، ويطلق السحر على الخديعة لأنه يخفى سببها ولا يظهر(1).
    وأما في الشرع وفي الاصطلاح : فيطلق على معان منها: تلك العقد والرقى التي يتكلم بها أو التي تكتب، بحيث يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريده من إضرار بالغير أو نفع لنفسه، ومنهم من يطلقه على ما يعمل من أدوية وعقاقير تؤثر في عقل الإنسان أو بدنه فتكون سببا لعدم تمييزه بين الخير والشر وبين من يستحق أن يحب ومن يستحق أن يبغض(2).
   ومنهم من أدخل في مسمى السحر بعض الحيل التي تُخدع بها الأبصار لأنها مما خفي(3) ، وليس هذا من السحر المقصود شرعا، حيث تطبق عليه الأحكام الشرعية المتعلقة بالسحر كالتكفير والقتل ونحو ذلك.
    ولكن فاعله يستحق العقوبة والتعزير على فعله وعلى تشبهه بالسحرة(4).
تاريخ وجود السحر وحقيقته
   إن مما يبين لنا خطر السحر أن نَعرف تاريخ وجوده وحقيقته، وكيف يصبح الساحر ساحرا، فنبدأ بالنقطة الأولى فنقول إن وجود السحر على الأرض قديم، وقد ذكر ابن حجر أنه كان موجودا من زمن نوح عليه السلام(5) ، ولعله استفاده من قوله تعالى : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) (الذاريات:52)، أو من قول قومه له : إنه مجنون (القمر:9) و(به جنة) (المؤمنون:25)، لأن من أسباب الجنون الإصابة بالسحر.
   وربما كان تاريخ السحر أقدم من ذلك؛ لأن أصله يرجع إلى الشيطان عدو الإنسان الذي أقسم وقال : ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص:82)، فإن الشيطان لا يزال يغوي الناس ويستهويهم حتى يعبدوه من دون الله تعالى منذ أنزل آدم عليه السلام إلى الأرض.  
    هذا وإن كان أهل السحر القدماء الذين اشتهروا به كأهل بابل لا يقرون بعبادة الشيطان، ولكنهم يزعمون أنهم بقراءة الطلاسم يتقربون إلى الكواكب والنجوم التي يعتقدون أن لها تأثيرا في حياة الناس ومزاجهم وتصرفاتهم، وأنها هي التي تلبي لهم رغباتهم، وفي واقع الأمر حقيقته أن من كان تلبي لهم تلك الرغبات ويقضى حوائجهم ويؤثر في تصرفات الناس وأمزجتهم هي الشياطين، ويدلنا على هذه الحقيقة أن تقربهم إلى الكواكب لم يكن بقراءة الطلاسم التي تسمى تعاويذ فحسب، بل كان بالذبائح وإراقة بالدماء والتلبس بالنجاسات وغير ذلك مما ثبت أن الشياطين تحبه ويُتَقَرَّب به إليها.
ارتباط السحر بالدين
    ومما سبق يظهر ارتباط السحر بالدين وبالتدين ، وهذا أمر جلي واضح في التاريخ قبل ظهور الإسلام وبعده، فالديانة البوذية كذلك مرتكزة على أعمال السحر، بل السحر فيها ركن من الأركان، ويدل على ذلك أن السحرة هم علماء الدين عندهم وسدنة المعابد، وكذلك في عهد انحطاط المسلمين، أصبح السحرة والكهنة أيضا هم من يرجع إليه في الدين، فتجد في كثير من المناطق إمام المسجد (أو المرابط) هو من يكتب "الحجب" و"الحروز" التي يستعاذ فيها بغير الله تعالى.
    إن الإنسان يميل بطبعه إلى الإيمان بالغيب، لكن الغيب المأمور بالإيمان به بحيث يجب الخوف منه والإذعان له وطاعته هو الله سبحانه وتعالى، ومن الناس من تنحرف فطرته فيؤمن بغيب آخر، هو الشيطان وأعوانه من السحرة، فتراه يخاف منهم ويطيعهم ويذعن لهم، كما يذعن المؤمنون لله تعالى ويخافون منه، وقد قال المولى عز وجل في وصف اليهود الذين تركوا كتاب الله تعالى واتبعوا ما تتلو عليهم الشياطين من طلاسم السحر : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) (النساء:50) والجبت هو السحر والطاغوت هو الشيطان(6). فأخبر أنهم يؤمنون بالسحر بمعنى يطمئنون إليه ويقبلونه ويذعنون له لا بمعنى أنهم يصدقون بوجوده؛ فإن هذا الأخير لا محذور فيه بل هو واجب، كما أن المؤمن بدين الله تعالى الإسلام ليس من يصدق به فحسب، ولكن من يطمئن إليه ويقبله ويذعن له.
    فأول شيء يبين لك –أيها القارئ الكريم-خطر السحر أن تعلم أنه دين من الأديان، فإذا سئلت عن الأديان الموجودة في الجزائر مثلا، فقل يوجد الإسلام وبعض اليهود والنصارى، ويوجد أيضا دين السحر وعبَّاد الشيطان، وهو من أعظم الأديان المخالفة لعقيدة التوحيد.
كيف يصبح الساحر ساحرا ؟
   ومما يبين لنا خطر السحر ويؤكد لنا أنه دين مبناه على عبادة الشيطان: أن نعلم كيف يصبح الساحر ساحرا!
   إن أهل السحر يزعمون علم العزائم التي يسخرون بها الجن لطاعتهم ويتمكنون من التحكم فيهم، وفي الحقيقة هم من يخضع للجن ويذل لهم ويعبدهم، وكل الطرق التي يذكرها العارفون بأحوال السحر والسحرة مرجعها إلى عبادة الجن، فما يعمله أهل الهند من صوم وتعذيب للنفس، ومن خلوة وانقطاع عن الناس كله من عبادة الشيطان، وكذلك ما يفعله غيرهم من تلاوة الطلاسم والعزائم أو مخاطبة للنجوم أو تقديم للذبائح وتلبس بالنجاسات، وقد قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله :« وكلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ»(7).
   فمن شروط التمكن من علم السحر الكفر بالله تعالى، وللساحر في إثبات ذلك للشيطان عدة طرق منها كتابة القرآن بالدماء النجسة، ووضع المصاحف في القاذورات، والدوام على الجنابة وترك النظافة في جسمه وملابسه، وآداء الصلاة من غير طهارة، والذبح لغير الله وذكر اسم الشيطان بالعظيم والإجلال، وأكل الميتات والنجاسات وشرب الدماء والخمور وفعل أقبح الفواحش ونحو ذلك من القبائح المغضبة للرحمن المرضية للشيطان.
   ويتحدث كثير من الناس عن عقودٍ تُبرم بين الساحر والشيطان؛ مضمونها أن يبيع الساحر نفسه للشيطان مقابل أن يعطيه الشيطان المقدرة على السحر.
خطر السحر على الأمم والمجتمعات
   إن خطر السحر واضح على الأمم والمجتمعات، فهو سبب التفريق بين الأصحاب والأحبة والأزواج، ومعول تُهدم به البيوت والأسر التي هي اللبنات التي يتكون منها المجتمع، وبقوتها يقوى المجتمع وبضعفها وبتفككها يتفكك، والسحر سبيل من سبل تخدير الشباب الذين هم أمل الأمة وتفتيرهم وإذهاب عزائمهم وصرفهم عما يصلحهم في دينهم ودنياهم، وهو من علل فساد النساء ربات البيوت ومربيات الأجيال.
   وبسببه تنتشر الأمراض الخبيثة، وتستباح الفواحش، ويشيع الطلاق، وتفشو السرقة والغش، وينعدم الأمن، ويعم الخوف وسوء الظن، وربما كان سببا لاستيلاء الغزاة المستعمرين على البلاد واستغلالهم للعباد.
    يحكي المؤرخون أن الاستعمار البريطاني استعان ببعض الكهنة الذين يؤمن بهم بعض شعوب جنوب شرق إفريقيا، ولولا ما أمر به هؤلاء الكهنة شعوبهم من أعمال جنونية من حرق للمحاصيل الزراعية وقتل للثروة الحيوانية ما تمكن منهم الاستعمار البريطاني(8).
   وكان السحر سببا في زوال حضارة كبيرة من الحضارات في أمريكا اللاتينية، إذ لما جاء جيش الإسبان الغازي لم يقاومه أهل تلك البلاد، بل رحبوا به لأنه كانت عندهم أسطورة روجها السحرة والكهنة مفادها أن إلها أبيضا سيأتي من وراء البحر لينقذ الشعب، فلما رأوا الإنسان الأبيض قالوا هذا الإله الموعود، ولم يستفيقوا من سباتهم ولم يتبين لهم دجل كهنتهم إلا بعد أن تَمكن الإسبان منهم فقتلوا منهم من قتلوا، وأسروا من أسروا واستاقوهم إلى المناجم ليسوموهم أسوأ العذاب ويستغلوهم أعظم استغلال(9).
خطر السحر على الدين
   أعظم خطر للسحر وأشرها قبل هذه الأخطار هو خطره على دين المرء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه :« اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ»(10). والموبقات هي المهلكات لأنها من كبائر الذنوب ومحبطات الأعمال، والشرك أكبر الكبائر وقد عطف عليه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث السحر.
   وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:« لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا مُؤْمِنٌ بِسِحْرٍ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ ". وفي رواية :" مصدق بسحر»(11). والسحر إن خلا من الكفر كأن يكون مستعمله يذهب إلى السحرة فيؤذوا به من أراد، فهو من أكبر الكبائر، ومن الظلم لعباد الله تعالى، والظلم ظلمات يوم القيامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (12)، ومن محبطات الأعمال ومن أسباب القصاص يوم القيامة.
تعلم السحر والعمل به كفر بالله تعالى
   إن تعلم السحر وإن لم يُعمل به كفرٌ بالله تعالى، لما علمنا من حقيقته، وقد قال العلماء: إن تعلم السحر والعمل به كفر مخرج من الملة، قال ابن المواز:« ومن قول مالك وأصحابه أن الساحر كافر بالله، فإذا سحر هو بنفسه فإنه يقتل ولا يستتاب والسحر كفر »(13).
    ومن الأدلة على كفر الساحر قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102) فهذه الآية تدل على كفر الساحر من ثلاثة أوجه.
الأول : أن الله تعالى نفى الكفر عن سليمان وأثبته لمن علَّم السحر، وهم الشياطين فدل على أن تعليم السحر هو سبب كفرهم.
الثاني: تحذير المَلَكين لمن يريد تعلُّمه بأنه سيكفر، فدل ذلك على أنَّ تعلُّمه أيضا كفر قبل أن يعمل به.
الثالث : أنه سبحانه حكم على من اشتراه أي تعلمه بعدم الخلاق، وهو النصيب في الآخرة، ومعنى هذا أن عمله حابط باطل يوم القيامة ولو كان قد صلى وصام وحج وأحسن وتصدق، ولا يحبط جميع الأعمال يوم القيامة إلا الكفر بالله تعالى.
الساحر كافر ولو أقر بتحريمه
   فالساحر يكفر بمجرد تعلم السحر ولو لم يعمل به ويكفر ولو أقر بتحريمه، يقول ابن قدامة:« قال أصحابنا : ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته»(14). وذلك أن من الأعمال ما هو كفر صريح بنص القرآن أو السنة وليس في رتبة المعاصي التي تدل على ضعف الإيمان، ولكنها تدل على عدم الإيمان كلية كسَبِّ الله تعالى والسجود للأصنام والذبح لها والاستهزاء بالدين، ومن هذه الأعمال تعلُّم السحر والعمل به، وبعض الناس يظن هذه الأعمال مثل السرقة والزنا وليس الأمر كذلك، فلابد أن نفرق بين فعل المحرمات ولو كانت من الكبائر وبين الوقوع في الشركيات ونواقض الإسلام. وعلينا أن نسمي الأشياء بأسمائها، ولذا فرَّق العلماء بين الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة والشرك الأصغر الذي يدخل في معناه الواسع كل المعاصي والذنوب.
    وكيف لا يكون السحر كفرا وتلك الطلاسم التي لا تفهم إنما هي تمجيد للشيطان وعبادة له، قال العلامة ابن خلدون رحمه الله وهو يشرح حقيقة السحر وحكمه :« ورياضة السحر كلها إنما تكون بالتوجه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والخضوع والتذلل؛ فهي لذلك وجهة إلى غير الله وسجود له والوجهة إلى غير الله كفر ولهذا كان السحر كفرا»(15).
عقوبة الساحر في الإسلام
    ومما يبين خطر السحر أن عقوبة مرتكبه في حكم الإسلام هي القتل، وذلك لوجوه منها أن الساحر قد ارتد وخرج عن دين الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«من بدل دينه فاقتلوه»(16) ، ومنها أن الساحر من المفسدين في الأرض الذين يخيفون الناس والمحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال تعالى في جزاء من هذه حاله : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33). هذه عقوبة قطاع الطرق الذين يقطعون الطريق خارج المدن فيسلبون الأموال ويزهقون الأنفس، والساحر أكثر فسادا منهم فهو يقتل بسحره ويتلف العقول ويخيف الناس ويسلب أموالهم بل ويفسد عقيدتهم.
   وقد عمل بهذا الحكم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فعن الأحنف بن قيس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليهم بكتاب قبل موته بسنة: «اقتلوا كل ساحر»(17) ، وعن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها:« أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها»(18) ، وعن جندب الأزدي رضي الله عنه قال :« حد الساحر ضربة بالسيف»(19).
   هذا حكم الساحر مهما كان نوع السحر الذي يمارسه إلا هؤلاء المهرجين المحتالين الذين يسمون سحرة على سبيل المجاز فهؤلاء يعزرون تعزيرا شديدا.
   ومن العلماء من فصَّل في حكمه، فقال يقتل إذا كفر بسحره أو قتل، ويُعزَّر فيما دون ذلك؛ وهذا التفصيل مبني على توسيع معنى السحر، وإدخال المعاني المجازية فيه، وإلا فالعلماء متفقون على قتل المرتد عن دين الله تعالى، وعلى قتل الساحر بالمعنى الذي شرحناه(20).
   والعقلاء الذين يبغون الصلاح لمجتمعاتهم ويخشون من فساد السحرة فيها؛ قد حكموا بهذا الحكم على السحرة -أعني عقوبة القتل- رغم بعدهم عن شريعة الإسلام، ففي أوروبا في زمن الظلمات والانحطاط كانت تسلط أقسى العقوبات على السحرة، فكان الحكم عندهم هو الإعدام والتمثيل، ففي فرنسا وألمانيا وإيطاليا كان الساحر يعدم حرقا أمام الجمهور، وفي اسكتلاندا كان يلقى في القار المغلي، وفي انجلترا يشنقونه أمام الجمهور، وفي إسبانيا يعذب عذابا شديدا حتى الموت ثم يحرق(21)، وأما الآن في عصر التحضر فقد خُفِّف الأمر عليهم كما سيأتي ذكره.
الساحر لا تقبل توبته في الدنيا
    ولعظم خطر السحر فإن الساحر لا تقبل توبته بعد القبض عليه واكتشاف أمره، لأن الساحر من المفسدين الذين يحاربون دين الله تعالى، وقد قال تعالى بعد أن ذكر حد الحرابة: ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المائدة:34). بمعنى هؤلاء قطاع الطرق إذا جاؤوكم وسلموا أنفسهم فاقبلوا توبتهم ، وأما إذا ألقيتم عليهم القبض فقالوا تبنا فلا تقبلوا توبتهم. قال أكثر العلماء وكذلك الساحر، وقد سبق نقل كلام الإمام مالك من أنه يقتل ولا يستتاب، ومعنى الاستتابة أن يؤمر بالتوبة بعد ردته ويمهل ثلاثة أيام، وكذلك قال أبو حنيفة :«يقتل ولا يستتاب، ولا يقبل قوله إني أترك السحر وأتوب منه»(22).
    ولكن لا يلي قتله إلا السلطان بعد صدور حكم القاضي في حقه، لأن تنفيذ الحدود في الشرع إنما يكون لمن له سلطة تنفيذ الأحكام الشرعية، حفاظا على النظام العام وصيانة للمجتمع من الفوضى.
حكم من يذهب إلى الساحر ليستعين به
   ما سبق ذكره هو حكم الساحر، فما حكم من يذهب إليه ليستعين به؟ هل يكفر هو الآخر ؟ الجواب نعم يكفر في أحوال منها:
1-إذا استحل السحر واعتقد جوازه، وكذلك يكفر كل من استحل شيئا من المحرمات الواضحات أو أنكر واجبا من الواجبات المعلومات.
2-ويكفر إذا صدقه في خبره المتعلق بالغيب، قال :" من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "(23)، لأن علم الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، قال تعالى : ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ) (النمل:65)
3-وكذلك إذا ردَّد المرء تلك الطلاسم التي يُعدُّها الساحر أو كتبها بنفسه، لأنها تحتوي على تمجيد الشيطان وعبادته والاستغاثة به ، وعلى سب الله تعالى ودينه ورسله وملائكته .
4-ويكفر إذا أمره الساحر أن يقوم بأعمال شركية فنفذ أمره كالذبح للجن والسجود للقبور ونحو ذلك.
    ومن سلم من كل ذلك فقد أتى كبيرة من أعظم الكبائر، ويستحق على ذلك العقوبة في الدنيا والآخرة، وفي الحديث: «ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له»(24) ، وقد سبق أن السحر من السبع الموبقات المهلكات محبطات الأعمال، ومن العقوبات التي يستحقها من يذهب إلى السحر في مذهب الإمام مالك أنه يضرب ضربا موجعا، وأنه يُقتل إذا قتل المسحور بسحره، فيكون ذلك من باب القصاص، لأنه لا فرق بين من قتل بالسلاح أو السم أو السحر(25).
كيف يُحل السحر؟
    إن الله تعالى بحكمته جعل هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان لعباده وجعل الآخرة دار جزاء ونعيم لا يخالطه نصب ولا تعب .
   وإن مما قضاه الله تعالى على عباده أن يصابوا بأنواع من الأمراض، وله في ذلك حِكم ظهر منها ما ظهر وخفي ما خفي، فالله تعالى يبتلي العباد بالأمراض عقوبة لهم، أو تذكيرا لهم ووعظا، أو تكفيرا لسيئاتهم وذنوبهم، أو امتحانا لصبرهم ولتوحيدهم وإيمانهم، وكما قضى وجود الداء فإنه أنزل معه الدواء قال  صلى الله عليه وسلم:« مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً»(26)، وقَالَ صلى الله عليه وسلم :« لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»(27).
   وشرع الله تعالى لعباده التداوي؛ فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ قَالَتْ الْأَعْرَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى قَالَ نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً أَوْ قَالَ دَوَاءً إِلَّا دَاءً وَاحِدًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ قَالَ الْهَرَمُ »(28).
    وهذا الدواء منه ما يكون بالأدوية الغذائية والكميائية كالعسل والحبة السوداء والحجامة ونحوها، قال صلى الله عليه وسلم :« الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ شَرْبَةِ عَسَلٍ وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ وَكَيَّةِ نَارٍ وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ »(29) ، وقال : «فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ »(30) .
   ولا يجوز التداوي بالخمر وما شابهه من المحرمات، فعن طارق بن سويد الجعفي أنه سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ:« إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ»(31).
    ومن الدواء ما يكون بالرقية وهي التعويذة التي يُرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع، وتكون بكلام الله تعالى وبدعائه والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، قال تعالى : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً) (الإسراء:82) والقرآن كله شفاء إذا قرئ بتدبر، ومما يرجى معه الشفاء من السحر والعين أكثر قراءة سورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين الفلق والناس، وسورة البقرة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:« اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ » (32) أي لا تقدر عليها السحرة.
   ومن الدعاء قول النبي صلى الله عليه وسلم:« أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»(33). وقال صلى الله عليه وسلم:« مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ »(34).
   وقال الشوكاني:« إن التداوي بالدعاء مع الالتجاء إلى الله تعالى أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير ، ولكن ينجع بأمرين :
أحدهما : من جهة العليل وهو صدق القصد .
والآخر : من جهة المداوي وهو توجه قلبه إلى الله تعالى وقوته بالتقوى والتوكل على الله تعالي »(35).
ضوابط الرقية الشرعية
   والرقية تطلق على ما يجوز وما لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم :« لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ»(36) ، لذلك وجب على المسلم أن يقف على ما هو مشروع من الرقى وما هو غير مشروع، وليعلم المريض والمصاب أنه ممتحن فعليه أن يتحرى ويصبر، والأمور التي تعينه على تعيين الرقية الشرعية من غيرها منها ما يرجع إلى صفات الراقي ، ومنها ما يرجع إلى صفة الرقية في حد ذاتها.
صفات الراقي
   إن صفات الراقي هي صفات الداعي (من الدعاء لا من الدعوة) فهي من هذا الوجه عبادة فردية، لذلك لا ينبغي أن نعتقد ضرورة وجود متخصص في الرقية (هو من يعالج الناس دون عامتهم)، نعم نحتاج إلى من هو أعلم منا وأتقى وأخبر في حالات صعبة، لكن الأصل هو التحصن الذاتي بالأذكار وقراءة القرآن، وقد رقت أمنا عائشة رضي الله عنها نبينا صلى الله عليه وسلم: واستعملت يديه الطاهرتين لبركتهما، قالت رضي الله عنها :« فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي »(37).
    ومن صفات الراقي المعتبرة .
1-أن يكون مؤمنا موحدا سالما من نواقض الإسلام ومجانبا لمظاهر الشرك المخرج من الملة .
2-أن يكون قوي الإيمان تقيا، محافظا على الشرائع ومعظما للشعائر، وأن يكون قوي الشخصية أيضا.
3-أن يكون حال الرقية مريدا وجه الله تعالى لا حطام الدنيا الزائل ، وأن يكون متوكلا على الله معتمدا عليه متيقنا بأن الشافي هو الله تعالى.
4-العلم بالأحكام الشرعية للرقية وبأحوال الجن والشياطين، حتى يجتنب المخالفات والوسائل غير المشروعة وحتى لا يقع في حبائل الشيطان ومكائده.
   قال ابن القيم:« وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان فإن هذا نوع محاربة والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل فكيف إذا عدم الأمران جميعا : يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ولا سلاح له.
 والثاني : من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله : اخرج منه أو بقول : بسم الله أو بقول لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبى صلى الله عليه وسلم كان يقول : "اخرج عدو الله أنا رسول الله"(38) »(39).
صفات الرقية
  وأما الرقية فقد ذكر العلماء لها ضوابط حتى لا تخرج عن كونها مشروعة، وحتى لا تلتبس بالسحر والشعوذة، وخلاصة ما قيل جمعه الحافظ ابن حجر في قوله :« وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى »(40).
مخالفات في الرقية
   إن الخروج عن الرقية الشرعية وضوابطها يعني الوقوع في الشعوذة والسحر، والشعبذة والشعوذة هي الاحتيال وخداع حواس الناس، وقيل هي والسحر سواء، ومنهم من فرق بينهما بأن السحر تمويه وتخييل الأشياء بخلاف حقيقتها سواء كان ذلك في سرعة أو بطء، والشعبذة ما يكون من ذلك في سرعة فكل شعبذة سحر وليس كل سحر شعبذة.
   وليس كل ما يعد من المخالفات شعوذة، بل منه ما هو كذلك ومنه ما هو طريق إليها، وقد منع منه كثير من العلماء سدا للذريعة، ومنها :
1-التمائم التي يكتب فيها شيء من القرآن أو من الأحاديث، فقد ذهب كثير من العلماء إلى المنع منها ، وهو الصحيح لعموم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليق التمائم، ولأن كثيرا من المشعوذين يكتب القرآن وأسماء الله تعالى بالدماء والنجاسات، فينبغي المنع من كل التمائم سدا للذريعة.
2-ومنها مسح كتابة القرآن بالماء وشربه إذ من أهل العلم من أجازه والاحتياط تركه، قال الشيخ الفوزان:« أما أن يكتب القرآن على شيء طاهر كصحن أو ورق بشيء طاهر ويغسل المكتوب ويسقي المريض، فقد رخص فيه بعض السلف مثل الإمام أحمد ….وتركه أحسن للاقتصار على ما ورد»(41).
3-ومنها إنشاء عيادات الرقية، لأنها تؤدي في الغالب إلى انحراف أصحابها، بحيث يلجأون إلى كل الطرق التي تدر عليهم بالربح السريع، ومنهم من يستعمل الطرق المحرمة بل وأنواعا من السحر لفك السحر، قال الشيخ صالح الفوزان :«هذا لا يجوز لأن هذا يفتح باب فتنة ويفتح باب احتيال للمحتالين ، …والتوسع في هذا يفتح شرا ويدخل فيه من لا يحسن، لأن الناس يجرون وراء الطمع ويحبون أن يجلبوا الناس إليهم، ولو بعمل أشياء محرمة ..ولا يقال هذا رجل صالح لأن الإنسان يفتتن والعياذ بالله»(42).
كيف تميز المشعوذ من الراقي؟
    مما ينبغي بيانه ونحن نتحدث عن هؤلاء السحرة أنهم قد يدسون أنفسهم في وسط الرقاة ويسمون أنفسهم رقاة أو "عشابين"، خاصة في الوسط الذي انتشر فيه التوحيد أو ساءت فيه سمعة السحرة والكهنة جدا، لذلك كان من المفيد أن نذكر بعض الخصال المميزة لهؤلاء السحرة والمشعوذين والصفات الكاشفة لهم. فمن تلك العلامات:
1-إذا دخلت عليه فسألك عن اسم أمك فاعلم أنه ساحر أو كاهن يستعين بالجن.
2-إذا أمرك ألا تذكر الله ولا تقل بسم الله عند علاجه لك فاعلم أنه ساحر، وهذا واضح.
3-إذا أخبرك بأمر غيبي كأن يخبرك عن مكان مسكنك أو عن اسمك مثلاً أو اسم أبيك.
4-من علامتهم كتابة الحجب المتضمنة للطلاسم أو الحروف المقطعة والكلام غير المفهوم أو المربعات، وربما زعم أحدهم لمن رآه أميا أن المكتوب فيها قرآن، قال النبي صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ»(43). والمقصود بالرقى الرقى الشركية، والتِّولة هو سحر المحبة، والتمائم هي الحجب (الحروز) التي تكتب وتعلق، وهي شرك لما تتضمنه من استغاثة بأسماء الجن وسب للملائكة أو الأنبياء .
ومثله الإرشاد إلى تعليق الخيوط والحلق والأوتار والأشواك و"الخامسات"، وفي الحديث :"من تعلق شيئا وكل إليه"(44).
5-التمتمة بكلام غير مفهوم وربما موه عليك فقرأ بعض الآيات بصوت عال ثم يخفض صوته في الباقي.
6-أن يعطي المريض أوراقاً يحرقها ويتبخر بها.
7-أو يأمره أن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس ويسميها العامة (الحجبة).
8- وأحياناً يطلب الساحر من المريض ألا يمس ماءً لفترة من الزمن معينة أسبوعا أو أربعين يوماً، حتى يظل على جنابة ويترك الصلاة ولا تقربه الملائكة .
9-أن يأخذ أثراً من المريض كقطعة من لباسه أو صورة من صوره .
10-أن يطلب ذبح حيوان بصفات معينة وربما أمر بتلطيخ مواضع من البدن بالدم، والذبح للجن ولأصحاب القبور من الشرك بالله تعالى، قال تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2) وقال النبي :« لعن الله من ذبح لغير الله »(45) ، والمشعوذ قد يصرح بذلك للمريض فيقول اذبح للجن حتى يدعك ويرضى عنك أو للولي الصالح ليباركك، وقد لا يصرح ويسميها فدية أو عقيقة أو يزعم أن المقصود التمسح بجلد الذبيحة أو الاستشفاء بعضو من أعضائها!!.
11-إعطاء المريض أشياء يدفنها في الأرض أو يخفيها في المنزل.
12-أن يستعين ببعض المصابين بالمس في رقيته يخبره عن المريض من سحره ومتى وأين وضع السحر.
   والاستعانة بالجني لا تجوز سواء كان مسلما أو يدعي أنه مسلم ، لأن الاستعانة بالغائب محرمة وهي إما شرك أكبر أو ذريعة إلى الشرك، وإنما تجوز الاستعانة بالحاضر فيما يقدر عليه، وجاء في فتوى اللجنة الدائمة :« لا تجوز الاستعانة بالجن في معرفة نوع الإصابة ونوع علاجها، لأن الاستعانة بالجن شرك ، قال تعالى : (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) (الجـن:6) وقال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام:128) ومعنى استمتاع بعضهم ببعض أن الإنس عظموا الجن وخضعوا لهم واستعاذوا بهم، والجن خدموهم بما يريدون وأحضروا لهم ما يطلبون، ومن ذلك إخبارهم بنوع المرض وأسبابه مما يطلع عليه الجن دون الإنس، وقد يكذبون فإنهم لا يؤمنون ولا يجوز تصديقهم»(46).
13-ومن مظاهر الاستعانة بالجن التخييل وهو الكشف عن مكان السحر (ومن سحره أو أصابه بالعين) بتغميض العينين، وهو أمر محرم، لأنه استعانة بالشياطين إذ هي التي تتصور بالصورة التي يراها المريض، ولأنه يسبب العداوة بين الناس، ويسبب نشر الخوف والرعب بين الناس(47).
14-أن يستعمل أشياء غير معقولة المعنى كتخطي بعض الخيوط وما يسمى بالشبر، والتسبيع بالملح ، النوم على القصب والتعهد بعدم كسره ، رمي الحشيش على رأس المريض) .
15- أن يأمره بأكل شيء محرم قال ابن مسعود:« إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»(48) ، فالمحرمات حرمها الله تعالى لخبثها وعدم نفعها وكثرة ضررها، فلا يناسب أن يطلب بها الشفاء، والعبد إذا علم تحريم شيء ساء ظنه به، ومن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء .
    ومن المحرمات الشائعة أمر المريض بشرب الخمر أو الدماء المسفوحة، أو أكل الميتة أو لحوم الذئاب والكلاب والقطط أو ما ذبح  لغير الله تعالى، أو التمسح بجلود الميتات والتلبس بالنجاسات وغير ذلك من الأمور التي تحريمها معلوم من الدين بالضرورة .
16-ظهور علامات الفسق على الراقي كترك الصلاة والخلوة بالنساء ولمسهن، وغير ذلك مما يظهر عدم استقامته على شريعة الله تعالى.
   فالخلوة بالنساء في الرقية محرمة وحضور وليها معها أمر واجب، لأن الفتنة غير مأمونة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»(49) ، ولا يجوز للمرأة أن تكشف للراقي عن شيء من جسمها غير الوجه والكفين، ولا يجوز له لمسها ولو بحائل.
    قالت اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية:« لا يجوز للراقي مس شيء من بدن المرأة التي يرقيها لما في ذلك من الفتنة، وإنما هو يقرأ عليها بدون مس، وهناك فرق بين عمل الراقي وعمل الطبيب ، لأن الطبيب قد لا يمكنه العلاج إلا بمس الموضع الذي يريد أن يعالجه، بخلاف الراقي فإن عمله هو القراءة والنفث ولا يتوقف على اللمس»(50).
أسباب انتشار السحر والشعوذة بين المسلمين
   من الأشياء التي لابد أن نتعرض لها أسباب انتشار السحر بين الناس، ولماذا يلجأ الناس إليه ، هناك أسباب كثيرة نذكر ما تيسر منها ومعرفة هذه الأسباب جزء من العلاج الذي سنذكره في الأخير :
1-حب الشر والرغبة في إيذاء الآخرين والسيطرة عليهم، وفي سبيل ذلك يتحالفون مع الشيطان وجنوده، وهذا لا تخلو منه أمة من الأمم.
2-داء الحسد الذي يدفع الناس إلى أذى الآخرين والسعي إلى سلب النعم التي حباهم بها الله تعالى. والحسد إذا استولى على قلب إنسان أعماه وربما أوصله إلى الكفر بالله تعالى كما حدث لإبليس مع آدم عليه السلام ولليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم .
3-الفراغ الروحي والقلق والحيرة والهموم التي سكنت في أعماق القلوب والعقد النفسية، إذ من أجل كل ذلك أو بعضه يذهب كثير من الناس إلى المشعوذين والكهان لمطالعة الحظ والأمور المستقبلة.
4-الجهل بعقيدة التوحيد، إذ لو علم الناس حقيقة العبادة وأنواعها وشروط لا إله إلا الله ونواقضها، وأن من الأعمال ما هو ناقض لها مبطل للإسلام وأن من هذه الأعمال السحر والكهانة لما تساهلوا فيه ، وكذلك الجهل بعقيدة القضاء والقدر، لأن حال من يعتمد على السحرة ويلجأ إليهم يوحي بأنه يعتقد فيهم القدرة على تغيير قدر الله تعالى ومعارضته، ومن صحت عقيدته في القضاء والقدر علم أن ما قدر الله أن يكون كان وما قدر أن لا يكون لم يكن ولو اجتمع عليه الإنس والجن أجمعون .
5-التوسع في باب الرقية وعدم الانضباط بالضوابط الشرعية. فيبدأ الراقي باستعمال الأمور المختلف فيها، وبعض الطرق التي تدر عليه الربح السريع كالرقية الجماعية، ثم بعض الصور المندرجة في معاني الشرك الأصغر لعدم فهم معناها، ثم يستعين بمن يزعمهم من الجن المسلمين، ثم يتدرج به الأمر إلى أن يمضي عقد السحر مع الشيطان، ومن كان غرضه من الرقية الربح وتحصيل الدنيا فما أسهل أن يقع في شراك الشياطين.
6-بعض الناس يدفعه الضعف وشدة الابتلاء إلى استعمال السحر لحل السحر، فيقال لمن هذا حاله إن الله ما خلق داء إلا خلق له دواء، وقد قال صلى الله عليه وسلم:« لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ »(51) ، والمقصود دواء مشروع، لأن الله لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا والسحر مما حرم الله تعالى ، ويخطئ من يظن بأن الساحر يبطل سحر غيره ، غاية ما يفعله أن يزيل تأثير السحر إلى أجل ليرجع للساحر بالهدايا والقرابين وأعمال الشرك والكفر.
   وليست الرقية مما يؤخذ من العوائد والتجارب التي أكثرها أعمال شركية وسحرية توارثها الناس، وكل ما كان بأسباب غير معقولة فهو داخل في معنى الشعوذة وحكمه التحريم ولا يستهان به وإن كان من العوائد ، وحل السحر بالسحر يسمى النشرة وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة -وهي حل السحر بالسحر- فقال:« هي من عمل الشيطان»(52) ، والسحر لا نفع فيه لأن الله تعالى يقول : (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ). وقال : ( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طـه:69). ومن مظاهر النشرة المنتشرة: استعمال البخور (الجاوي أو غيره)، وتلطيخ المريض بالقطران، وصب الرصاص، والتسبيع بالبيض وكسره، التسبيع بالملح وحرقه، والأمر بدفن بعض الأشياء، والأمر بتبييت عقاقير مقابلة للنجوم قبل شربها، واستعمال ماء البحر (سبعة أمواج).
     والسحر كله كفر ولا ينفع فيه القصد الحسن، قال الدردير من متأخري المالكية:«وأما إبطاله فإن كان بسحر مثله فكذلك (أي كفر) وإلا فلا »(53). الخلاصة أن السحر كفر بالله تعالى سواء استعمل في الخير أو الشر، لأنه عبادة للشيطان.
7-من أسباب انتشاره امتزاجه بالطب عند كثير من القدماء كالهنود، فإننا نجد كثيرا من كتب الطب القديمة (طب الأعشاب أو الطب التقليدي) تحتوى على مادة سحرية، وكذلك أطباء اليونان وفلاسفته كانوا يؤمنون بالسحر، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو ينتقد فلاسفة اليونان ويحط من شأنهم:« وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤوسها فلاسفة، أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان ويشركون بالرحمن ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان ؟ أو ليس من أعظم علومهم السحر الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين ويصوم ويصلي ويقرب له القرابين حتى ينال بذلك عرضا من الدنيا فساده أعظم من صلاحه وإثمه أكبر من نفعه؟»(54).
   فمن اعتمد على هذه الكتب الطبية ربما وجد فيها وَصَفات سحرية وطلاسم، ومُروِّج كتاب السحر لا يكتب في الغالب على غلافه أن موضوعه السحر ، إلا إذا كان في بلد يستباح فيه السحر ويدرَس ويدرَّس علنا كالسنغال، بل يكتب عليه عناوين مضللة توحي بأن موضوعه الطب والرقية ككتاب "الرحمة في الطب والحكمة" الذي ينسب زورا إلى السيوطي.
8-في سياق الحديث عن الطب القديم نتحدث عن سبب آخر جديد يسمى البرمجة العصبية، فنقول إن الديانة البوذية تخترق هذه الأيام بلاد المسلمين وبقوة عبر وسائل الإعلام المختلفة لكن باسم البرمجة العصبية(55) ، التي مزج فيها أهلها شيئا من علم النفس وشيئا من السحر والشعوذة، وربما زينوا بعض أفكارهم بأحاديث نبوية أو آيات قرآنية.
    وإن من أنواع السحر: السحر بهمة الساحر بحيث تكون له قدرة على التحكم في نفوس الآخرين والسيطرة عليهم، قال ابن عابدين في تعريف السحر:« علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة لأسباب خفية». ومن ذلك ما يسمى بالتنويم المغناطيسي الذي يسميه أهل البرمجة العصبية الإيحاء.
    يصل الساحر إلى هذه القوة أو الملكة برياضات شاقة للنفس من صوم وخلوة وغيرها من أعمال وطقوس اليوغا، وهذا ما يسميه أهل البرمجة العصبية باستعمال العقل الباطن، ولما كانت كثير من مسائله الأولية مستمدة من علم النفس اشتبه أمره على الناس.
    ويدل على حقيقة أهل البرمجة العصبية أن من أعظم المصادر التي يعتمدون عليها كتب البوذية، وقد اغتر بهم أناس كثيرون، ولذلك صدرت فتاوى وبحوث كثيرة تكشف خطر هذه الدعوى الجديدة.
9-من أسباب انتشار السحر الطرق الصوفية التي يكثر فيها الدجل والارتزاق باسم الدين، حيث إنك لو بحثت عن السحرة في بعض المناطق لوجدتهم هؤلاء الدراويش الذي ينوبون عن شيخ الطريقة أو أحد خلفائه على الضريح الذي يعبد من دون الله تعالى. فالذي يستقبل القرابين وتقام عنده الزردات ويجمع الزكوات (والزيارات) هو من يتولى كتابة الحجب والتكهن لأصحابه ومريديه. وإذا كان هؤلاء يدعون إلى الشرك بالله تعالى فما الذي يمنعهم من ممارسة السحر، وإنَّ كثيرا منهم همُّه جمع المال ولو كان على حساب عقيدة التوحيد التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، والسحر من أهم وسائل جمعه، فلماذا يتركونه ويتنَزَّهون عنه؟!
10-ومنها ميل النفوس إلى الدنيا ومحبة الربح العاجل والحصول على ملذاتها ولو كان على حساب التوحيد والعقيدة، وهذا ما يفسر لك ارتباط قصص السحر وأخباره بالملوك، فالملوك لشدة حرصهم على ما هم فيه من نعيم يخشون من الناس ويخشون على ملكهم فيتخذ كل واحد منهم وزيرا من السحرة يستشيره ويستعين به. وفي كثير من البلاد الأوروبية صار أغنى الناس هم السحرة، ذلك أن أهل الثراء إذا ما أصيب أحدهم ولجأ إلى كاهن أو ساحر فإنه يقدم له كل ما يطلبه منه ولو كان نصف ماله وثروته التي تعد بالملايير.
11-ومن أسباب انتشار السحر غياب القوانين الزاجرة والعقوبات القاسية في حق من يمارس السحر والكهانة، ففي الزمن الماضي لما كانت العقوبات في أوروبا قاسية كان الناس يخافون من ممارسته، أما في زمن الحضارة -المزعومة- فالإحصاءات تدل على أن أوروبا تعيش الآن في قمة الانحطاط أو أدنى دركات السفول، والبلد الذي تنشر فيه الشعوذة والخلاعة والمخدرات وجميع أنواع الجرائم بنسب رهيبة لا يمكن أن نزعم أنه في قمة الحضارة وإن كان ثمة الحضارة فهي على وشك الزوال، لأن الحضارة لا تقوم على المال والرفاهية وإنما تقوم على الأخلاق أو ما يسمى بالقيم والمبادئ.
   ففي ألمانيا حسب إحصائية أجريت في الثمانينيات يوجد (80 ألف ساحر) و25 بالمائة من الألمان يؤمنون بالسحر، ويذهبون إلى السحرة. وفي فرنسا إحصاءات أجريت عام 1982 تدل على أن 18 بالمائة منهم يؤمنون بالسحر، وكان يوجد بها (30 ألف ساحر) كل هذا لعدم وجود قوانين صارمة تعاقب عليه، وبعض الناس يقول إن القانون الفرنسي يمنع من السحر ويعاقب عليه، لكنهم أدرجوه ضمن جريمة النصب والاحتيال، من يسحر الناس في منزلة من يبتز الأموال ويختلسها، ومع ذلك فالقانون لا يطبق لأن أول من يذهب إلى هؤلاء السحرة هم من يسهر على تطبيق القانون.
    هم أيضا لا يحاربون المخدرات بجدية لأن أول من يتناولها ويتجر فيها هو من يسهر على تطبيق القانون. وفي فرنسا تقول إحدى الجرائد لم تعد الشرطة هي من يقلق هؤلاء السحرة ولكن مصلحة الضرائب!!!(56).
12-ومن أسباب انتشاره في هذا الزمان وسائل الإعلام التي تشهر به أو تهون من أمره وفي بعض البلاد هناك قنوات خاصة بالسحر والكهانة، والجرائد النسائية الخليعة في الجزائر تنشر من حين إلى آخر وصفات سحرية، ومن الإعلاميين من يقوم بالدعاية للسحرة باسم الرقية حينا وباسم الغرائب والعجائب حينا آخر، ومن وسائل الدعاية الصريحة ما نجده في بعض الجرائد اليومية من كهانة تحت عنوان حظك مع الأبراج (l”horoscope)، وبعض الصحفيين يعتذر عن نشر ذلك بأنه كذب وافتراء وليس من عمل كهان حقيقيين!!، وذلك لا يشفع لهم، لأنهم وإن كذبوا فالكاهن كذلك يكذب. وهذه الكهانة ضرب من ضروب السحر لقول الرسول :« مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ »(57).
    ومن أساليب التهوين من السحر الأفلام التي تظهر أهله في مظهر يسلي ويضحك أو في صورة من يستعمل سحره في إنقاذ الناس وفعل الخير، وخاصة في الرسوم المتحركة، فإن ذلك يجعل صورة الساحر محببة لدى الصغار ومرغوبا فيها. في حين أن الواجب علينا أن نربي الناشئة على بغض السحرة وعلى أنهم أناس شريرون كفار أنجاس يعبدون الشيطان، خاسرون في الدنيا وفي الآخرة.
كيف نكافح السحر؟
   إن السحر من غير شك منكر عظيم يجب على كل مسلم أن يكافحه ويسعى في إزالته وفي محاربة أهله ووقاية أهل الإسلام من شره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: :« مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»(58) ، وأهم وسائل ذلك:
1-ربط الناس بالقرآن الكريم الذي هو الشفاء من كل داء، قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً) (الإسراء:82)، وأمة القرآن قد هجرت القرآن في هذا الزمان، فهي لا تحفظه ولا تفهم معناه وربما لا تقرؤه، حتى أنك تجد فيها من لا يفتح المصحف إلا في رمضان يقرأ فيه بعض السور، ثم بعد ذلك يقول إني قلق مضطرب النفس أحتاج إلى رقية أو علاج، والله تعالى يقول : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28).
2-ومن وسائل مكافحة السحر تصحيح العقائد والتحذير من مظاهر الشرك، وبعض الناس يختزل العقيدة في قول كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ويجهلون أن لهذه الكلمة شروطا لقبولها وحقوقا هي من لوازمها ونواقض تهدمها، بينها العلماء وشرحوها في مصنفات التوحيد والفقه .
3-ومن وسائل مكافحة السحر علاج الأمراض الأخلاقية والقلبية المنتشرة كالحسد والحقد وحب الانتقام، بتكثيف الدروس الخاصة بالرقائق والزهد والتذكير بالله واليوم الآخر ونشر هذه الدروس المسجلة عبر الوسائل المتاحة .
4-ومن وسائل مكافحة السحر الترويج للرقية الشرعية مع ضوابطها المعتبرة، وليس من شرط الرقية أن يتخصص فيها أناس معينون يقصدون من جميع الناس، بل كل واحد من المؤمنين يستطيع أن يرقي نفسه أو زوجه أو أبناءه ، وأذكار الصباح والمساء من الرقية؛ إذ فيها أدعية تحصن المؤمن وتحفظه بإذن الله تعالى، فلا بد للناس أن يعلموا ذلك حتى ينصرفوا عن هؤلاء الناس المتشبهين بالرقاة ورقاهم الشركية.
5-وبيان حكم الساحر ومن يذهب إلى السحرة في الشرع فالساحر يكفر بمجرد تعلمه ولو لم يعمل به ويكفر ولو أقر بتحريمه، وكيف لا يكون السحر كفرا وتلك الطلاسم التي لا تفهم إنما هي تمجيد للشيطان وعبادة له، ولا ينال رتبة الساحر حتى يفعل ألوانا من الموبقات والكفريات. ومن يذهب إلى الساحر واقع في كبيرة من أعظم الكبائر ومعرض أيضا للكفر في أحوال سبق تفصيلها .
6-ومن الوسائل أيضا التحذير من أعيان السحرة وكشف طرقهم، وفضح من يدعي منهم ممارسة الرقية الشرعية، فمن واجب كل مسلم علم بأحد من هؤلاء أن يحذر الناس الذين انخدعوا به، وعلينا أن نوزع في محلاتهم مطويات تدعو إلى التوحيد وتحذر من الشرك ومن السحر والكهانة ، وهذا من تغيير المنكر ومن النصيحة الواجبة ، وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ:« أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»(59).
7-وكذلك علينا أن نفضح الناس الذين يذهبون إلى السحرة –بعد نصحهم-وأن نظهر صورتهم المشوهة، ونحمد الله تعالى أن من الآفات التي لا يزال الناس يحتقرون أهلها: السحر، فعلينا أن نغتنم هذا من أجل التنفير من السحر والسحرة ومن يذهب إليهم، لأنه لولا هؤلاء الجهلة لما بقي ساحر على الأرض، ولأنه إذا لم نفضحهم لم نكن من الناصحين للمؤمنين الذين يمكن أن يكونوا ضحية لهؤلاء الأشرار.
8-وكذلك من طرق مكافحة السحر : الحث على تطبيق الشرع في حق السحرة المفسدين، ومطاردتهم والتلبيغ عنهم، فمن رأى منكرا فعليه أن يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، ومن التغيير باللسان أن نحث ولاة الأمور على سن القوانين الزاجرة في حق السحرة والكهنة –ولا أزجر من العقوبة الشرعية التي هي القتل – وأن نبلغ عنهم الجهات المسؤولة عن حفظ الأمن، لأن هؤلاء السحرة أول من يخل بأمن الأفراد والمجتمعات، ولا يقولن إنسان لا حياة لمن تنادي ، لأنه مأمور بأن يؤدي واجبه استجيب له أم لا، ولأنه لا يدري لعله يجد فيمن يخاطبه ويشتكي إليه دينا وغيرة أو وطنية وصلاحا أو حبا للخير وبغضا للشر فيوفقه الله تعالى لأداء واجبه .
      هذا آخر ما أردنا ذكره في بيان خطر السحر وأسباب انتشاره ووسائل مكافحته، نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأن يهدينا ويهدي ولاة أمورنا، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة والإيمان ويذل فيه أهل الفجور والطغيان، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الهوامش
 /انظر لسان العرب مادة (س ح ر ).
2/مفردات القرآن للراغب الأصفهاني (231) القول المفيد شرح كتاب التوحيد للعثيمين (1/489).
3/مفردات القرآن للراغب الأصفهاني (231).
4/ انظر النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني (534).
5/ فتح الباري لابن حجر (10/189)
6/انظر تفسير القرطبي (5/248)
7/ بدائع الفوائد لابن القيم (4/460)
8/عالم السحر والشعوذة لعمر سليمان الأشقر (88).
9/ عالم السحر والشعوذة لعمر سليمان الأشقر (87).
10/رواه البخاري (2767) ومسلم (89).
11/ رواه أحمد (6/441) وصححه ابن حبان (6137).
12/ رواه البخاري (2447) ومسلم (2578).
13/النودار والزيادات لابن أبي زيد القيراوني (15/532).
14/المغني لابن قدامة (10/115).
15/المقدمة لابن خلدون (926).
16/ رواه البخاري (3017).
17/ رواه أبو داود (3043) بإسناد صحيح.
18/ رواه مالك بلاغا (1624) ووصله البيهقي (8/136) بإسناد صحيح.
19/ رواه الترمذي (1460) مرفوعا وصحح وقفه .
20/انظر النودار والزيادات (15/532) القول المفيد للعثيمين (1/490)
21/عالم السحر والشعوذة لعمر سليمان لأشقر (227-228).
22/وعن أحمد في الاستتابة روايتان انظر المغني (10/116).
23/ رواه أبو داود (3904) وابن ماجة (639) وصححه الألباني.
24/ رواه البزار (3578) وصححه  الألباني (2165).
25/ النودار والزيادات لابن أبي زيد القيراوني (15/534)
26/ رواه البخاري (5678).
27/ رواه مسلم (2204).
28/ رواه أبو داود (3855) والترمذي (2038) وصححه.
29/ رواه البخاري (5680).
30/ رواه البخاري (5688) ومسلم (2215).
31/ رواه مسلم (1984).
32/ رواه مسلم (804).
33/رواه البخاري (5675) ومسلم (2191).
34/رواه أبو داود (5088) وابن ماجة (3869) والترمذي (3388) وصححه .
35/ نيل الأوطار للشوكاني (9/93).
36/ رواه مسلم (2300).  
37/رواه مسلم (2192).
38/رواه ابن ماجة (3548) وصححه الألباني .  
39/زاد المعاد لابن القيم (4/67).   
40/فتح الباري لابن حجر (10/166).   
41/ كتاب السحر والشعوذة للفوزان (92).  
42/ كتاب السحر والشعوذة للفوزان (93) ما يراه بعض الناس من مصالح في إنشاء عيادات الرقية، كالدعوة إلى التوحيد وصرف الناس عن السحرة لا يتم إلا إذا كانت هذه العيادات خيرية لا تجارية، أو إذا كانت تحت رعاية الدولة ورقابتها.  
43/ رواه أبو داود (3883) وابن ماجة (3530) وصححه الألباني  
44/ رواه الترمذي (2072) وحسنه الألباني .
45/ رواه مسلم (1978).
46/ منشورات دار الوطن  " 10 مخالفات في الرقية"، الفتوى رقم : 20361 بتاريخ 17 / 4 / 1419 هـ ).   
47/المرجع السابق .   
48/أخرجه عبد الرزاق (9/250) وابن أبي شيبة (5/431) والبيهقي (10/5) وقد علقه البخاري في الصحيح.   
49/ رواه الترمذي (2165) وصححه.
50/منشورات دار الوطن " 10 مخالفات في الرقية"، الفتوى رقم : 20361 بتاريخ 17 / 4 / 1419 هـ )   
51/ رواه مسلم (2204).
52/ رواه أحمد (3/294) بإسناد صحيح .
53/الشرح الكبير للدردير (6/282).   
54/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (5/49).  
55/ راجع الحقيقة الشرعية للبرمجة العصبية لسامي القدومي في موقع شبكة المشكاة الإسلامية .   
56/انظر عالم السحر والشعوذة لعمر سليمان الأشقر(55-64)    
57/ رواه أبو داود (3905) وابن ماجة (3726) وحسنه الألباني  
58/ رواه مسلم (49).  
59/ رواه مسلم (55).  

تربية الأولاد في الإسلام