طباعة
الأحد 8 ربيع الأول 1431

شبهات الغلاة في التكفير حول العذر بالجهل (3)

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

الشبهة السابعة : من سمع القرآن قامت عليه الحجة

  يتحدث المخالفون عن قيام الحجة لا للتكفير ولكن للحكم بالعذاب الأخروي عند فريق منهم ، وللحكم بالعذاب الأخروي والدنيوي (ويقصدون القتل على وجه الخصوص) عند فريق آخر، فهم يشترطون إقامة الحجة لذلك ويفسرونها بسماع القرآن وربما يبالغون ويقولون بسماع الأذان، ويستدلون بقول الله عز وجل : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام19] ويقولون : فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وقوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)[الإسراء15] ويقولون : فمن بلغه القرآن ووقع في الشرك فإنه مشرك يستحق العذاب.

 

شبهات الغلاة في التكفير حول العذر بالجهل (3)

 

الجواب :

أولا : لا بد أن ننبه على أن بعضهم يتناقض في هذه المسألة وذلك حين يقول في استدلاله:" فمن بلغه القرآن ووقع في الشرك فإنه مشرك"، ونسي أنه قرر قبل ذلك أن وصف الشرك يثبت عنده مع الجهل قبل قيام الحجة التي هي عنده سماع القرآن ، وهذا مما يبين تهافتهم وعدم التأصيل العلمي لهذه المسألة عندهم.

  وكذلك يتناقض من يقول إن وصف الشرك يثبت قبل قيام الحجة ، ثم لا يرضى بأن يحتج عليه بنحو قول الشيخ سليمان بن سحمان في الضياء الشارق (93) :« وأما التوسل على عرف غلاة عباد القبور واصطلاحهم الحادث ، فهم (أي الوهابية) ينهون عنه ويكفرون من دعا القبور واستغاث بهم والتجأ إليهم بعد قيام الحجة عليهم ». ويقول إنما يقصد بقيام الحجة سماع القرآن (أو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم !!!). فيقال له : ما شأنك وتفسير كلام ابن سحمان وأنت تكفر من يستغيث بغير الله قبل سماع القرآن وقيام الحجة، ثم ندعو هذا القائل إلى تأمل قول ابن سحمان في كتابه منهاج أهل الحق والاتباع (85):" وأما قول السائل : هل كلٌّ تقوم به الحجة أم لا بد من إنسان يحسن إقامتها على من أقامها ؟ فالذي يظهر لي - والله أعلم-أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها ، وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ، ولا ما ذكره العلماء في ذلك ، فإنه لا تقوم به الحجة فيما أعلم". وعند هؤلاء يكفي من يقيم الحجة أن يحسن تلاوة القرآن .

ثانيا : وأما من جعل إقامة هذه الحجة الموصوفة للأحكام المذكورة أعلاه بعد ثبوت وصف الشرك والكفر عنده، فيقال لهم إن ظاهر الأدلة كقوله تعالى : : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)[الإسراء15]نفي العذاب الدنيوي والأخروي، فما دليلكم على التفريق الذي أتيتم به، فإن حمل العذاب المنفي على العذاب الأخروي دون الدنيوي تحكم، وكذلك من حمل العذاب المنفي على العذاب الأخروي والدنيوي، ثم أثبت جميع أحكام الكفر الدنيوية من تفريق بين الأزواج وعدم توريث وعدم الدفن في مقابر المسلمين وتحريم الاستغفار إلا القتل؛ فقد أوغل في التحكم والتناقض .

ثالثا : ويقال بعد ذلك إن المقصود من إرسال الرسل توضيح طريق الهداية للناس وبيان التوحيد والتحذير من الشرك، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يرسل الرسل بألسنة أقوامهم لهم ليحصل البيان قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [إبراهيم:4] ومقتضى هذا أن الحجة تقوم على من بُيِّنت له وفهمها ، لا على من تليت عليه الآيات وهو لا يفهمها ، ومنه فلا يجوز أن يقاس الأعاجم والمنتسبون إلى الشعوب العربية من أهل عصرنا على كفار العرب، أهل الفصاحة والبيان الذين خوطبوا بالقرآن.

رابعا : من يقول: سماع القرآن أو بلوغ القرآن تقوم به الحجة، ويطلق الأمر كما هو موجود في كثير من الفتاوى والكتابات، يلزمه أن يعمم ذلك في الأعاجم الذين لا يفهمون العربية إطلاقا، فإن قال لا بل هؤلاء لا بد أن تترجم لهم معانيه، قلنا: كذلك غيرهم من المنتسبين إلى الأمم العربية لا بد أن تشرح لهم معانيه اللغوية والشرعية التي خفيت عليهم.

   وقد يقال لنا هنا: إن هذا الذي حكيتموه عن المخالفين يقول به كثير من الفضلاء ، فنقول : نحن نحب أهل العلم والفضل جميعا، لكن الحق أحب إلينا ، وإن كان هؤلاء أهل علم وفضل فمن خالفهم من أهل العلم والفضل أكثر منهم وأقدم ، وكل يؤخذ من قوله ويرد ، والعبرة بما صح في الدليل .

 

الشبهة الثامنة : بلوغ الحجة يكفى دون فهمها

    وتبعا للشبهة السابقة يقول بعضهم: إنه لا يشترط في إقامة الحجة فهمها، بل يكفي بلوغها، لأن الله أخبر أن المشركين قامت عليهم الحجة ومع أنهم لم يفهموها ؛ نزل القرآن وسمعوه وجاءهم النذير صلى الله عليه وسلم وأنذرهم واستمروا على كفرهم فلم يعذروا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » وقال تعالى في وصف الكفار : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة171] ومع ذلك قامت عليهم الحجة فأخبر أن مثلهم مثلُ من يسمع الصوت ولا يفهم المعنى كمثل الغنم التي ينعق لها الراعي فتسمع الصوت ولا تفهم النداء ، ومنهم من يؤيد مذهبه ببعض متشابه كلام ابن عبد الوهاب في هذه القضية حيث قال :« وقيام الحجة نوع وبلوغها نوع ، وقد قامت عليهم ، وفهمهم إياها نوع آخر ، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها ».

والجواب:

أولا : أن فهم معاني الآيات والأحاديث ضروري كما سبق ، أما بلوغها دون فهم فلا يعقل أن يكون لها أثر في قيام الحجة وتغير الأحكام ، لذلك يعبر بعض العلماء بقولهم بلوغ الدعوة بدلا من بلوغ القرآن، ويقولون أما الذين لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة عليهم فأمرهم إلى الله عز وجل.

ثانيا : أن الله تعالى قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)[التوبة:115] فقال:(حَتَّى يُبَيِّنَ) وهذا هو قيام الحجة لا مجرد قراءتها، فإن شوش بعضهم بقوله:" إنه قال "حتى يُبين"، ولم يقل حتى يتيبن"، فيقال له: بَيَّن فتبَيَّن، بدليل قوله تعالى:( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )[النساء:115] .

ثالثا : ولا يصلح هنا التمسك بالآيات التي تنفي الفقه والفهم عن الكفار، لأن المقصود نفي الفقه والفهم المورِّث للانتفاع، لا نفي فهم المعنى المراد، مثله مثل نفي السماع عنهم ، كقوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)[الأنفال:23] فهل يقال إن الحجة قامت عليهم من غير سماع .

   وهذا هو مراد ابن عبد الوهاب الذي قال في موضع :" فإذا كان المعين يكفَّر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر".

وهذا المنهج هو الطريق الذي ينبغي أن يسلك مع النصوص المتشابهة أو التي ظاهرها التعارض ، وكذلك في شرح كلام العلماء وفهم مرادهم، وإلا كيف يصنع المخالف بقول ابن عبد الوهاب :« وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر ، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم ، فكيف نكفر من لم يشرك بالله ...» وفي بعض النسخ "لأجل جهلهم وعدم من يفهمهم".

رابعا : أما الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم:« والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار»، على أنه يكفي السماع به دون السماع بموضوع دعوته وفهم مراده فمن أبعد الأمور. وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ: ( وإذا بلغ النصراني ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم- ولم ينقد لظنه أنه رسول الأميين فقط، فهو كافر وإن لم يتبين له الصواب في نفس الأمر، كذلك كل من بلغته دعوة الرسول بلوغا يعرف فيه المراد والمقصود فرد ذلك لشبهة أو نحوها فهو كافر، وإن التبس عليه الأمر وهذا لا خلاف فيه ) [مصباح الظلام ص 326].

   وقال بعض أهل العلم: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة) هذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من رآني في المنام فقد رآني»، ففي هذا الحديث المعنى من رآه على صورته التي خلقه الله جل وعلا عليها، وفي حديث (لا يسمع بي) المعنى سمع بي على ما بعثني الله جل وعلا عليه، فإذا كان هناك سماع محرّف، سماع ليس فيه وصف لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به النبي فهو من جنس رؤية النبي صلى الله عليه وسلم على غير صورته، فلا يكفي ذلك في معرفة الحق، لأنه لابد أن يكون في إيضاح الحجة وإقامتها أن يكون الدين واضحا، لا يكفي أن يسمع ببعض الحجة ولا يفهم معناها"

   وكذلك من وقع في الشرك من هذه الأمة إذا سمعوا شيئا من أخبار أهل السنة، فإن ذلك لا يكفي ما لم تقم عليهم الحجة؛ بمعنى بيان الدلائل.

خامسا : عندما تناقش هؤلاء الغلاة تتيقن أن كل همهم هو الوصول إلى التكفير بأي طريق ، وهذا ما يوقعهم في التناقضات الصريحة، ومن ذلك أنهم يقولون في ثبوت وصف الإسلام لا بد من الفهم المفصل للشهادتين ولا يكفي الفهم المجمل، وقد يكفرون من أخطأ في اللفظ ولو حقق المعنى ، وأما في باب النواقض فيعكسون القضية تماما ، فلا يشترطون لا الفهم المجمل ولا المفصل.

سادسا : ومما يبين لنا جليا مراد العلماء الذين فرقوا بين فهم الحجة وقيامها ، وأنهم لا ينفون اشتراط مطلق الفهم ، حديثهم عمن تقوم به الحجة من أهل العلم ، وقد سبق أن نقلت كلام ابن سحمان ، وهذا كلام عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في مصباح الظلام (207):"تعريف أهل العلم للجهال بمباني الإسلام ، وأصول الإيمان والنصوص القطعية والمسائل الإجماعية حجة عند أهل العلم ، وتترتب عليه الأحكام ، أحكام الردة وغيرها ....إذ النقل والتعريف يتوقف على أهل العلم ، كما أن بيان المعاني المقصودة والتأويلات المرادة يتوقف على أهل العلم وتقوم الحجة بهم ".

 

الشبهة التاسعة : التفريق بين أصول الدين وفروعه في العذر بالجهل

   وتبعا للشبهة السابعة أيضا منهم من يقول إنما نقصد أن الحجة تقوم ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن أو سماع القرآن في أصول الدين لا فروعه، ثم يحملون كلام العلماء الوارد في إثبات العذر بالجهل على ما يعتبرونه فروعا دون المسائل التي هي من أصول الدين.

الجواب :

أولا : لا بد لمن يتمسك بهذه الشبهة أن يشرح لنا ضابط التفريق بين الأصول والفروع ، لنشاركهم في النظر في آحاد المسائل هل فيها العذر بالجهل أم لا ، ولنتمكن نحن أيضا من فهم كلام العلماء على وجهه.

فإذا قالوا نحن نريد المصطلح المشهور بين أهل الكلام كالمعتزلة ومن تابعهم، من أن الأصول هي العقائد والفروع هي الفقه ، قيل ليس هذا التفريق معتمدا عند أهل السنة ولا يجوز أن يحمل كلامهم على معان قد أنكروها وزيفوها .

وإن قالوا الأصول هي الأمور المعلومة من الدين بالضرورة سواء من العقائد أو الفقه ، والفروع هي ما دون ذلك من المسائل الاجتهادية والخفية ، قيل الظهور والخفاء من الأمور النسبية التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فما كان ظاهرا في زمان قد يخفى في آخر ، وما كان ظاهرا في مكان قد يخفى في مكان آخر ، وهذه النكتة تحل عقدا كثيرة عند المخالفين لو فقهوها .

ثانيا : ومما يرد به أيضا أن هذا التقسيم لا أصل له عند علماء السلف، وهو باطل بدلالة الأدلة الشرعية العامة في إثبات العذر بالجهل، التي توضح أن الجهل حيثما وجد ولا يمكن دفعه يكون سببا لرفع المؤاخذة في الدنيا والآخرة، ولا تفريق فيها بين مسائل الأصول والفروع بأي تفسير من التفسيرات . بل أكثر الأدلة واردة في أصل الدين وفي الأمور الاعتقادية ، فكيف لا تكون شاملة لها .

ثالثا : كثير من المخالفين لا يعجبهم كلام ابن تيمية رحمه الله في إثبات العذر بالجهل ، ومنهم من يزعم أن أصحاب الرسائل الجامعية شوشوا على الأمة عقائدها بإخراجهم لكلام ابن تيمية في هذه القضية ، فإذا قيل لهم : هل ابن تيمية مخطئ ؟ قالوا :" لا ، لكن هم لم يفهموا كلامه "، فإذا قيل لهم : ما مراده عندكم ؟ قالوا:" هو يعذر في الفروع دون الأصول "، وهذا الزعم يدفعه كلام ابن تيمية الذي يبطل التفريق بين الأصول الفروع، والذي ينص فيه على العذر بالجهل فيما هو عندهم من الأصول .

أما التقسيم فقال فيه -كما في المجموع-(23/346):" أما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق.

وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه. أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته ، وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله : " إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين . فأمر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال خشيتك يا رب فغفر الله له" فهذا شك في قدرة الله . وفي المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك وغفر الله له ".

   وأما نصه على إثبات العذر فيما هو من العقائد التي هي أصول عندنا وعندهم (الشرك الأكبر)، فموجود في المثال الذي ضربه في آخر كلامه السابق، وإن كان الغلاة لهم فيه تأويلات سنجيب عنها في حلقة أخرى، ومن نصوصه التي لا يقدرون على تأويلها قوله في الرد على البكري (2/731-732):" فأنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام .

   وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينته لنا لعلمه بأن هذا أصل الدين وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره بخلاف عبادتهم الله تعالى ودعائهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف".

رابعا : ومما نطرحه إلزاما للمخالفين المتمسكين بهذه الشبهة، ما تقولون في الفرق الإسلامية المعتزلة والمرجئة والشيعة والأشاعرة والقدرية والخوارج، هل خلافهم في الأصول أم الفروع؟ وإذا كان خلافهم في الأصول - وهو الحق - فهل تكفرونهم أم لا ؟

أما من يحمل كلام ابن تيمية في التفريق بين التكفير المطلق والتكفير للمعين - الوارد أكثره في الفرق الإسلامية- على المسائل الفرعية ، فيلزمه أن يعد مسائل الصفات والإيمان والقدر مسائل فرعية ولا قائل بهذا فإن هذه المسائل أصلية في الدين مشهورة وأدلتها متواترة .

وأما من فرَّ من هذا اللازم فصرح بتكفير الفرق الإسلامية فكذلك لازم قوله رد كلام ابن تيمية جملة وتفصيلا، لا حمله على المسائل الخفية ، لأنه أكثره وارد كما ذكرنا في الفرق ، وإذا كان المخالف يصف من يأبى تكفير الفرق إلا من أقيمت عليه الحجة بالإرجاء فيلزمه أن يصرح برمي ابن تيمية بذلك.

خامسا : بعض الغلاة أراد أن يلزم من أنكر أثر التقسيم المذكور في العذر بالجهل بالتسوية بين مسائل الشرك والمعاصي، وبين التوحيد وإماطة الأذى عن الطريق كصاحب المجهر (259).

   وليس ذلك بلازم فإننا لا ننكر أن مسائل الدين ليست في رتبة واحدة، إذ منها ما هو اعتقدي ومنها ما هو عملي، ومنها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني ، وأن خصال الإيمان متفاوتة فمنها ما هو من أصله ومنها مل هو ما كماله الواجب ومنها ما هو من كماله المستحب ، ولكن الذي ننكره هو تخصيص العذر ببعض المسائل دون بعض ، والذي لم يستطع المخالفون فهمه في هذا الأمر: أن قضية القطعية والظنية بل والجهل قضية نسبية تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص.

   وتأمل مثلا قول ابن عبد الوهاب :"فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي كان حديث عهد بالإسلام  والذي نشأ ببادية بعيدة أو يكون في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف " والصرف والعطف من أنواع السحر يقصد به صرف الزوجين عن بعضهما البعض والعطف ضده، فهل هذه المسألة مسألة خفية في زماننا هذا في بلاد نجد والحرمين !!!

   والتفريق الصحيح المقبول هو المبني على اعتبار استفاضة العلم بالمسألة وسهولة طلبها ، وليس على اعتبار التفريق بين مسائل معينة ومسائل أخرى، حتى إذا قيل لا يعذر في المسألة الفلانية ، فذلك لأنها مسألة قد استفاض العلم بها استفاضةً تغلب على الظن عدم الجهل بها إلا من معرض مفرط.

  ونذكِّر في هذا المقام بما صنعه بعض الجهلة الأغبياء الذين وجدوا في كلام ابن عبد الوهاب تكفير بعض البدو في زمانه فجاءوا إلى البدو في زمانهم بعد مرور قرنين من الزمان، يقولون لهم:" أنتم كفار، وعندنا أدلة من كلام ابن عبد الوهاب" (انظر كتاب منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع لابن سحمان ص14).

(نشر أول مرة بتاريخ 15 جويلية 2008)
تم قراءة المقال 5353 مرة