الأحد 20 محرم 1432

الإبانة عن أخطاء الأشعري في المقالات والإبانة (1)

كتبه 
قيم الموضوع
(4 أصوات)

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئا أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

 

  أما بعد فإني كنت قد كتبت منذ مدة مقالات بينت فيها أخطاء الأشعري في كتابيه الإبانة ومقالات الإسلاميين، وانتقدت قول من قال إنه مر بثلاثة أطوار، وأنه رجع إلى عقيدة السلف، وقد كان لكتابتها يومها دوافع منها:

 

الإبانة عن أخطاء الأشعري في المقالات والإبانة (1)

 

 

-السعي إلى إقناع من استغرب القول بعدم رجوع الأشعري إلى عقيدة السلف بالحجة والبرهان، وبيان أن هذا الرأي هو ما عليه الأئمة المدققون في قضايا الاعتقاد من المتقدمين والمتأخرين.

 

-ومنها أني رأيت بعض الناس قد اغتر بما سمع من القول برجوع الأشعري إلى عقيدة السلف، وبما في كتاب الإبانة من إثبات الصفات الذاتية كالوجه واليدين، فاجتهد في طبع ونشر هذا الكتاب ونشره، وفي تزكيته والدفاع عنه ظنا منه أنه يقيم به الحجة على الأشعرية المتأخرين.

 

-ومنها أني رأيت من ذهب إلى تصويب آراء أشعرية ظنا منه أنها عقيدة السلف، ومن نَقَلَ التزكية إلى كتب أخرى تنسب إلى الأشعري ويدعو إلى تدريسها في المعاهد الشرعية.

 

ولما مر على ذلك زمن أردت أن أعيد صياغة هذه المقالات في بحث يجمعها، وإخراجها نصحا للأمة وتجلية لدقائق الاعتقاد التي قد خفيت على كثير من الناس، ومساهمة في الدعوة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

المبحث الأول : أخطاء الأشعري في مسائل الأسماء والصفات

    للأشعري أخطاء كثيرة في باب الأسماء والصفات، يمكن تصنيفها حسب الشُّبه التي أوجبت ذلك الخطأ إلى قسمين، أخطاء سببها شبهة حلول الحوادث في الذات الإلهية ، وأخطاء سببها شبهة التجسيم والتركيب ، وفيما يأتي بيانها حسب هذا التقسيم :

المطلب الأول : شبهة حلول الحوادث

  إن الأشعري لما ترك مذهب المعتزلة وتاب منه، لم يتخلص من جميع مبادئه وأدرانه وبقي مسلِّما لبعض أصولهم التي أوجبت لهم الضلال، ومن تلك الأصول الفاسدة اعتماد دليل الحدوث في إثبات حدوث العالم ووجود الخالق جل شأنه وقِدمه، وذلك أن اعتماد هذا الدليل يتضمن الإقرار بأن كل ما دخله التغير والتجدد والانتقال من حال إلى حال فهو محدَث مخلوق، وقد يقولون كل ما كان محلا للحوادث فهو مُحدَث مخلوق، وما كان محدثا مخلوقا فهو محتاج إلى محدِث خالق، ومن لوازم هذه القواعد التي اعتبروها قطعية -لأنها طريق الإيمان والشك فيها هو شك في وجود الله تعالى- أن المحدِث الخالق لابد أن يفارق المحدثَ المخلوق في أخص صفاته، وإلا كان مماثلا له، ومن هذا المنطلق نفى الأشعري الصفات الفعلية والاختيارية بجميع أنواعها، فأما المتعلق بالذات منها كالكلام فجعلها من الصفات الذاتية، وأما المتعلق بالمخلوق منها كالخلق والرزق فاختلف قول أصحابه فيها، ولم أقف له على نصوص تبين منهجه صراحة فيها، وهذا تتبع لمواضع أخطائه المندرجة في هذا المعنى المشار إليه.

 أولا : تعطيل صفة الكلام وكل الصفات الفعلية

   إن المشهور عن الأشعري أنه يثبت صفة الكلام لله تعالى، لكنه يثبتها على أنها صفة ذاتية أزلية غير متعلقة بالمشيئة، وقد قال في الإبانة (ص:76) :« فقد وجب أن يكون الله لم يزل متكلما»([1]).

 

  فأثبت الصفة وليس ذلك كل المطلوب، بل لابد من بيان نوع هذه الصفة أيضا، لأن في الطوائف قبله من يثبت الكلام على أنه صفة ذاتية نفسية لا كما يعتقده أهل السنة والجماعة كابن كلاب والقلانسي وغيرهما، وهو في كل موضع يذكر فيه صفة الكلام يؤكد على قدمها وأزليتها مخالفة للمعتزلة ومباينة لمقولتهم، ولكنه لا يذكر تعلقها بالمشيئة بتاتا، وقد أتى في استدلالاته بعبارات تبين أنه لم يثبت الصفة كما أثبتها السلف بل كما أثبتها ابن كلاب، ومن ذلك قياس صفة الكلام على العلم الأزلي، فقال (ص:77): «ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالاً في غيره مخلوقا في شيء سواه كما لا يجوز في العلم».

 

   وشبهة الأشعري التي دفعته إلى هذا التعطيل هو دليل الحدوث كما سبق، وهي عين الشبهة التي تعلق بها ابن كلاب وأتباعه، حيث قالوا إن إثبات الصفات الفعلية يستلزم أن تكون الذات الإلهية محلا للحوادث، ولما لم يكن لهم في إثبات الصفات الذاتية (المعنوي منها كالعلم والحياة) أيَّ شبهة أثبتوا هذه على أنها من جنسها.

 

   ومما يدل أيضا على تبني الأشعري لهذا المذهب المخالف لما عليه السلف قوله في الإبانة (ص:74): «ولم يلحق الفناء كلمات ربي كما لا يلحق الفناء علم الله عز وجل، ومن فني كلامه لحقته الآفات وجرى عليه السكوت، فلما لم يجز ذلك على ربنا عز وجل صح أنه لم يزل متكلما، لأنه لو لم يكن متكلما لوجب عليه السكوت والآفات»([2]).

 

   وهذا الكلام أيضا مخالف لعقيدة أهل السنة، لما فيه من نفي السكوت عن الله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت، لكن السكوت يكون تارة عن التكلم وتارة عن إظهار الكلام وإعلانه ... لكن هذان المعنيان المعروفان في السكوت لا تصح على قول من يقول أنه متكلم كما أنه عالم، لا يتكلم عند خطاب عباده بشيء، وإنما يخلق لهم إدراكا ليسمعوا كلامه القديم، سواء قيل هو مجرد معنى، أو معنى وحروف كما هو قول ابن كلاب والأشعري ... فهؤلاء إما أن يمنعوا السكوت وهو المشهور من قولهم، أو يطلقوا لفظه ويفسروه بعدم خلق الإدراك للخلق يسمعون به كلامه القديم»([3]).

 

  تأمل قوله إن معاني السكوت:« لا تصح على قول من يقول أنه متكلم كما أنه عالم» وتأمل أنه نسب هذا القول لابن كلاب والأشعري دون أن يبين رجوعه عنه، ومنه يعلم أن الذي رجع عنه الأشعري في هذه القضية هو القول بخلق صفة الكلام وهذا رجوع بدعة ضلالة وليس كل من ترك البدعة أصاب السنة ولا بد.

 

وإذا كان هذا اعتقاد الأشعري في صفة الكلام فإن اعتقاده في غيرها من الصفات الفعلية لن يختلف لأن قاعدته في الباب واحدة والشبهة الدافعة للتأويل أيضا واحدة.

 

ثانيا : مسألة الحدوث وتجدد صفة الكلام

 

    وهذه المسألة تابعة لسابقتها أفردتها للتنبيه على خطأ وتأويل مُحدَث لآية من كتاب الله تعالى وقع فيه الأشعري في كتاب الإبانة، جره إليه معتقده الفاسد في كلام الله تعالى.

 

   قال في الإبانة (ص:94): « فإن قال قائل : أليس قد قال الله عز وجل: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأنبياء:2) قيل له : الذكر الذي عناه الله عز وجل ليس هو القرآن بل هو كلام الرسول ووعظه إياهم ».

 

  ففي هذا الموضع نفى الأشعري أن يكون كلام الله تعالى مُحدثا بمعنى متجددا متعلقا بمشيئته كما هو مذهب أهل السنة، فحمل الذكر على غير محمله الصحيح، وكون القرآن متجددا لا يستلزم أن يكون مخلوقا كما يتوهمه المعتزلة والأشعرية وغيرهم، قال ابن تيمية :« ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي، ولكنه الذي أُنزِل جديدا، فإن الله كان ينزل القرآن شيئا بعد شيء فالمنزل أولا قديم بالنسبة للمنزل آخرا »([4]). وقال رحمه الله عن أهل السنة والحديث : «فيسمون ذلك مُحدَثا كما قال: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (الأنبياء:2) وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله يُحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة »([5]). والذي أحدثه هو النهي عن تكلمهم في الصلاة، وقولهم (إن المحدث يفتقر إلى إحداث وهلم جرا). هذا يستلزم التسلسل في الآثار مثل كونه متكلما بكلام بعد كلام، وكلمات الله لا نهاية لها، وأن الله لم يزل متكلما إذا شاء، وهذا قول أئمة السنة، وهو الحق الذي يدل عليه النقل والعقل»([6]).

 

   وبمثل هذا الكلام الأخير آخذ الأشعرية ابن تيمية وألزموه بالقول بالتسلسل في الحوادث الذي يعني قدم العالم وإثبات خالق غير الله تعالى، وتبعهم بعض أهل السنة في مؤاخذتهم اغترارا بإلزام الأشعرية وغفلة منهم عن من مقصد شيخ الإسلام، الذي عبر عن عقيدة السلف بمصطلحات المتكلمين ولغتهم.

 

ثالثا: مسألة اللفظ بالقرآن

 

   من المسائل المتعلقة بكلام الله تعالى مسألة اللفظ المشهورة، ذات التفصيل المعروف، وقد تكلم فيها الأشعري في المقالات بكلام مجمل، فكان ظاهره صوابا موافقا لقول أهل السنة حيث قال (ص:292):« من قال اللفظ والوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ».

 

  ولكنه في الإبانة فسَّر المذهب وعلَّله فأتى بالعجب، إذ قال (ص:94):« فإن قال حدثونا عن اللفظ بالقرآن كيف تقولون فيه؟ قيل له: القرآن يقرأ في الحقيقة ويتلى ولا يجوز أن يقال يلفظ به لأن القائل لا يجوز له أن يقول إنه كلام ملفوظ به، لأن العرب إذا قال قائلهم لفظت اللقمة من في معناه رميت بها، وكلام الله عز وجل لا يقال يلفظ به، وإنما يقال يقرأ ويتلى ويكتب ويحفظ. وإنما قال قوم لفظنا بالقرآن ليثبتوا أنه مخلوق ويزينوا بدعتهم وقولهم بخلقه».

 

  ومن المعلوم المتقرر عند أهل السنة أن القرآن كلام الله تعالى بلفظه ومعناه، ومن المتقرر عندهم أيضا أن أفعال العباد مخلوقة، لذلك فهم لا يقولون لفظي بالقرآن مخلوق لأنه قد يراد بذلك المتلو وهو القرآن، ولا يقولون غير مخلوق لأنه قد يراد بذلك التلاوة وهي فعل العبد، ففي قضية اللفظ لابد من التفريق بين التلاوة والمتلو، وما ذكره الأشعري إما حيدة وتهرب عن بيان حقيقة اعتقاده، وإما جهل بحقيقة مذهب أهل السنة ([7]).

 

رابعا : تأويل صفتي الرضا والغضب

 

   من الصفات الفعلية والاختيارية المتعلقة بالمشيئة الثابتة لله تعالى صفتا الغضب والرضا، والأشعري يثبتهما على أنهما صفتان قديمتان أزليتان أيضا، فقال في الإبانة (ص:82):« ثم يقال لهم: إذا كان غضب الله غير مخلوق، وكذلك رضاه وسخطه، فلم لا قلتم إن كلامه غير مخلوق؟ ومن زعم أن غضب الله مخلوق لزمه أن غضب الله وسخطه على الكافرين يفنى، وأن رضاه على الملائكة والنبيين يفنى حتى لا يكون راضيا على أوليائه، ولا ساخطا على أعدائه وهذا هو الخروج عن الإسلام».

 

   والشبهة هنا هي نفسها الشبهة السابقة من أن ما كان متعلقا بالمشيئة يلزمه الفناء والآفات، وأهل السنة يقولون إنه يرضى على العبد حين يؤمن أو يطيع، ويغضب على العبد حين يكفر أو يعصي، فيرضى عنه ثم يغضب عليه وليس في ذلك نقص أو آفات ولا أثر لم أسموه فناء لأن قدم النوع لا تنافي تجدد الآحاد، بل النقص أن يكون راضيا عن العاص حال عصيانه وغاضبا عنه حال طاعته كما يقوله الأشعرية.

 

خامسا : تأويل صفة الإرادة

 

   إن الأشعري قد قرر قدم صفة الإرادة وأزليتها قياسا على صفة العلم، كما صنع مع صفة الكلام، وصرح بإنكار الإحداث والتجدد فيها وربطه بالقول بخلقها.

 

   فقال في الإبانة (ص:122) : «قيل لهم: فلم لا قلتم إن من لم يزل عالما في وقت من الأوقات ، فلم يزل مريدا أن يكون في ذلك الوقت ، وما لم يزل عالما أنه لا يكون فلم يزل مريدا أن لا يكون، وأنه لم يزل مريدا أن يكون ما علم كما علم ».

 

   وقال أيضا (ص:123) :« قيل لهم: ولا تجوز أن تكون إرادة الله محدثة مخلوقة لأن من لم يكن مريدا ثم أراد لحقه النقصان ».

 

   وهذه عقيدة ابن كلاب لا عقيدة أهل السنة والجماعة في صفة الإرادة التي اشتهر عن الأشعري والأشعرية إثباتها، وهم إنما أثبتوا جنسها دون آحادها وزعموا أن إثبات آحادها يستلزم أنها صفة مخلوقة، قال شيخ الإسلام وهو يتحدث عن صفة الإرادة :« فللناس فيها أقوال، قيل الإرادة قديمة أزلية واحدة، وإنما يتجدد تعلقها بالمراد ونسبتها إلى الجميع واحدة،…فهذا قول ابن كلاب والأشعري ومن تابعهما»، ثم ذكر قول الكرامية وقول الجهمية والمعتزلة، ثم قال: « والقول الرابع أنه لم يزل مريدا بإرادات متعاقبة فنوع الإرادة قديم، وأما إرادة الشيء المعين فإنما يريده في وقته، وهو سبحانه يقدر الأشياء ويكتبها ثم بعد ذلك يخلقها ، فهو إذا قدرها علم ما سيفعله وأراد فعلها في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال، فإذا جاء وقته أراد فعله فالأول عزم والثاني قصد»([8]). وهذا قول أهل السنة والجماعة.

 

 

 
المطلب الثاني : شبهة التركيب والتجسيم
 

 

 

   إن من أخطاء المعتزلة الظاهرة أن جعلوا تعدد الصفات مفضيا إلى القول بتعدد الآلهة أو التجسيم والتركيب كما يقولون، والأشعري وإن خالفهم في قضية تعدد الآلهة، فإنه بقي فيه نفور زائد من قضية التجسيم، وقد فرع المعتزلة على شبهة التجسيم والتركيب هذه نفي علو الله على خلقه واستواءه على عرشه، وكذا نفي إمكان رؤيته سبحانه يوم القيامة، كما نفوا أيضا بقية الصفات الذاتية الخبرية كالوجه واليدين ونحوها، ولم يوافقهم الأشعري في ذلك ورد عليهم تأويلاتهم المتعسفة، ولكن هل ذلك يعني أنه وافق قول أهل السنة المحضة في معتقدهم؟ في ذلك عندي وقفة ونظر ويتضح ذلك في النقط الآتية:

 

أولا : نفي الجسم

 

   قال الأشعري في المقالات (ص:211):« وقال أهل السنة وأصحاب الحديث، ليس بِجسم ولا يشبه الأشياء».

 

   وهذا إطلاقٌ فاسد ونسبةٌ غير صحيحة في آن واحد، وقد ردهما عليه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:« وقد حكى الأشعري في المقالات النفي عن أهل السنة، كما حكى عنهم أشياء بموجب اعتقاده هو من مذهبهم، والسلف والأئمة وأهل الحديث من جميع الطوائف لا يصفونه إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله»([9]).

 

   وأهل السنة قد أعرضوا عن مثل هذه الألفاظ، لأنها لم ترد في الكتاب والسنة ولا في كلام السلف، ولأن معناها يدخل فيه الحق والباطل، فمن يطلق النفي كان نافيا للحق ومن أطلق الإثبات كان مثبتا للباطل، ومن الباطل الذي يدخلونه عند الإثبات في معنى الجسم أنه المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة أو ما يقبل التفريق، ومن الحق الذي يدخلونه فيه عند النفي ما يشار إليه، وما يرى وما تقوم به الصفات، وإذا ما اضطروا للحديث عنها فإنهم يفصلون ويقولون في الألفاظ الموهمة حق وباطل([10]). فيقولون إن قصدتهم بكونه جسما أنه يرى يوم القيامة وأنه له مكانا في السماء وأنه له وجها ويدين فنحن نثبت كل ذلك لورودها في الكتاب والسنة وإن اعتبرتموها تجسيما، ولا نثبت المعاني الباطلة التي لم ترد في الكتاب والسنة سواء سميتموها تجسيما أو تركيبا أو غير ذلك.

 

ثانيا : قول الأشعري في الرؤية

 

   سبق أن من مقتضى نفي الجسمية عن الإله عند النفاة أنه تعالى لا يرى ولا يشار إليه، وقد التزم ذلك المعتزلة، وأما الأشعري وأئمة أتباعه فلم يلتزموا هذا اللازم وأثبتوا رؤية الله تعالى، ولما شعر المتأخرون منهم بالتناقض صرَّحوا أنه سبحانه يُرى في غير جهة.

 

   والأشعري وإن أثبت رؤية الله تعالى بالأبصار، واستدل عليها في الإبانة بأدلة صحيحة، لكنه لما أراد دفع شبهة المعتزلة لم يحسن إذ كان في رده عليهم مسلما لهم بعض أصولهم الفاسدة، ومن ذلك أنه قال :« فإن قال قائل: فما معنى قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) (الأنعام:103). قيل له : يحتمل أن يكون لا تدركه في الدنيا وتدركه في الآخرة، لأن رؤية الله تعالى أفضل اللذات وأفضل اللذات تكون في أفضل الدارين، ويحتمل أن الله عز وجل أراد بقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) أي لا تدركه أبصار الكافرين المكذبين».

 

   وفي كلامه هذا أخطاء منها تسليمه للمعتزلة بأن معنى الإدراك هو نفسه معنى الرؤية.

 

   قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الأشاعرة :« وهؤلاء القوم أثبتوا ما لا يمكن رؤيته، وأحبوا نصرة مذهب أهل السنة والجماعة فجمعوا بين أمرين متناقضين …ولهذا فسَّروا الإدراك بأنه الرؤية في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) كما فسرتها المعتزلة، ولكن عند المعتزلة هذا خرج مخرج المدح فلا يرى بحال، وهؤلاء قالوا : لا يرى في الدنيا دون الآخرة. والآية تنفى الإدراك مطلقا [دون الرؤية وهو قول] ابن كلاب وهذا أصح. وحينئذ فتكون الآية دالة على إثبات الرؤية، وهو أنه يُرى ولا يُدرك، فيُرى من غير إحاطة وحصر وبهذا يحصل المدح؛ فإنه وصف لعظمته أنه لا تدركه أبصار العباد وإن رأته وهو يدرك أبصارهم »([11]).

 

ثالثا : كلام الأشعري في الاستواء

 

   لقد عُدَّ الأشعري من مثبتة الصفات لإثباته الصفات في الجملة، وعدم تجرئه على التعطيل الصريح والتأويل المفضوح الذي صرح به المعتزلة، ومن أهم الصفات التي أثبتها فباين بذلك أهل التعطيل المحض صفة العلو والاستواء ونفي المخالطة للخلق، كما هو ظاهر وواضح في كتابه الإبانة، وأبطل قول المعتزلة بأن الله عز وجل في كل مكان (كما في الصفحة 99) وردَّ تأويلهم للاستواء بالاستيلاء (كما في الصفحة 98).

 

   ومع كل هذا فقد جاء في كتابه هذا بجمل وعبارات موهمة تدعو إلى التأمل والتساؤل عن حقيقة مذهبه.

 

   وقبل إيراد هذه العبارات نقول إن الذي تقتضيه أصوله ويدل عليه تصرفه مع صفات الكلام والإرادة والرضا والغضب هو نفي كل صفة فعلية متعلقة بالمشيئة، وتأويلها بمعنى يُصيرها صفةً ذاتية حتى لا يصادم النص مصادمة بينة، وكذلك لما نفى الجسمية كان من المنطقي أن ينفي الرؤية والاستواء ولكن لم يفعل ذلك وقد اعتبر ذلك من تناقضات الأشعري كما سبق.

 

   وبعد هذا نسوق العبارات المشار إليها لتتأمل :

 

-قال في الإبانة (ص:97):« استواء يليق به من غير طول استقرار ».

 

-وقال في (ص:100) :« استواء منـزها عن الحلول والاتحاد ».

 

-وقال في (ص:102) : «إنه مستو على عرشه دون كيف ولا استقرار».

 

-وقال في (ص:103) :« وهذا يدل على أن الله عز وجل على عرشه فوق السماء فوقية لا تزيده قربا من العرش ».

 

فما معنى هذه العبارات التي لم تعهد عن السلف؟ وما هي الاعتقادات التي أراد الاحتراز عنها بها؟

 

    ولعل خير من يجيبنا عن هذا التساؤل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما قال: «ولهذا كان قول ابن كلاب والأشعري والقلانسي ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة …أن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش وكذلك يقولون في النـزول، ومعنى ذلك أنه يُحدث في العرش قربا فيصير مستويا عليه من غير أن يقوم به بنفسه فعل اختياري …وكذلك النـزول عندهم فهم يجعلون الأفعال اللازمة بمنزلة الأفعال المتعدية، وذلك لأنهم اعتقدوا أنه لا يقوم به فعل اختياري لأن ذلك حادث»([12]).

 

    وقال أيضا:« والذين أثبتوا الصفات الخبرية لهم في هذه قولان، منهم من يجعلها من جنس الفعل المتعدي يجعلها حادثة في غيرها، وهذا قول الأشعري وأئمة أصحابه ومن وافقهم، فالأشعري يقول : فعل فعله في العرش فصار به مستويا على العرش وكذلك يقول في الإتيان والنزول »([13]). ثم ذكر القول الثاني الذي هو قول أهل السنة والجماعة.

 

   ولم يذكر ابن تيمية للأشعري في مثل هذه الصفات قولان، فيظهر أن هذا ما فهمه شيخ الإسلام من مذهبه في الإبانة وغيرها والله تعالى أعلم.

 

رابعا : الزعم بأن أسماء الله هي الله سبحانه وتعالى

 

   ومن المسائل المتعلقة بشبهة التركيب والتجسيم مسألة أسماء الله عز وجل هل هي الله أو غيره، وهو سؤال فيه مغالطة لأن مقصود المعتزلة بطرقه الزعم بأن الأسماء والصفات مخلوقة ، لأن من تسرع في الجواب وقال هي غير الله قيل له وما سوى الله كله مخلوق إذن أسماؤه مخلوقة، قد صرح الأشعري بتخطئة من قال إن أسماء الله هي غير الله تعالى، فقال في المقالات (ص:290) :« وأن أسماء الله لا يقال لها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج». وقال في الإبانة (ص:44) :« وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا».

 

   وهذا كلام صحيح، ولكن عند تقرير العقيدة لا يجوز الوقوف عليه، لأنه قد يفهم منه أن الضد صحيح وليس كذلك ، وهذا ما كان يقصده الأشعري وقد صرح به في موضع آخر من المقالات (ص:293) فقال عن أهل السنة:« ويقولون أسماء الله هي الله». فأخطأ في الاختيار وفي نسبة القول لأهل السنة.

 

   وللأشعري قول آخر هو المشهور عنه ينقله عنه أئمة أصحابه أن الأسماء ثلاثة أقسام، فمنها ما يكون هو المسمى كاسم الموجود، ومنها ما يكون غيره كالخالق، ومنها ما لا يكون هو المسمى ولا غيره كالعليم والقدير([14]).

 

   وقد نص شيخ الإسلام على أن المتقدمين من أهل السنة والجماعة ليس لهم نص فيها كمسألة اللفظ، فإنها من المسائل الكلامية المُحدثة من طرف الجهمية الذين قالوا إن أسماء الله مخلوقة وأنها غير الله سبحانه، فتصدى لهم أهل السنة بالإنكار لقولهم والمنقول عنهم في ذلك كثير([15])، ولعل هذا ما جعل الأشعري يظن أن مذهبهم أنها هي المسمى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :« ولم يعرف أيضا عن أحد من السلف أنه قال الاسم هو المسمى ، بل هذا قاله كثير من المنتسبين إلى السنة بعد الأئمة وأنكره أكثر أهل السنة عليهم »([16]).

 

   ولأهل السنة كما ينقله شيخ الإسلام قولان آخران، فمنهم من اختار الإمساك عن النفي والإثبات، لأن كلا القولين بدعة نقله الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره، ومنهم من قال الاسم للمسمى نسبه شيخ الإسلام إلى أكثرهم وقال :« فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الأعراف: 180) وقال : (أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الإسراء: 110)»([17]).

 

خامسا : هل للصفات الذاتية كيف؟

 

   الذي يعتقده أهل السنة في صفات الله تعالى الإثبات والتنـزيه مع تفويض علم الكيفية إلى الله سبحانه، والقول بأن المعنى معلوم والكيف مجهول، بمعنى أن صفات الله تعالى حقيقية ولها وجود ولها كيفية، والذي ينفى ولا يخاض فيه العلم بالكيفية أو تكييف الصفات لا الكيف مطلقا. فإن الذي لا كيف له هو ما لا حقيقة له ولا وجود، قال الشيخ خليل هراس في شرح الواسطية :« وليس المراد من قوله من غير تكييف أنهم ينفون الكيف مطلقا، فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن مرادهم أنهم ينفون علمهم بالكيف، إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه »([18]).

 

   وإن وجد من السلف من عبَّر بنفي الكيف مطلقا فهذا مراده، ومن هذا القبيل عبارة الأشعري في الإبانة (ص:106) : « فنثبت له اليدين بلا كيف ». وقال في المقالات (290) :« وأن له يدين بلا كيف …وأن له عينين بلا كيف ».

 

   وهذا الإطلاق هو الذي جعل بعض المتأخرين ينسب إليه عقيدة التفويض ويقول وهي طريقته في الإبانة([19])، أما الرسالة إلى أهل الثغر ففيها التصريح بذلك –أعني التفويض-([20])، لكن هي لتلميذه ابن مجاهد على الراجح وقد بينت ذلك في بحث خاص .

 

 

 

الخلاصة

 
 

     أظن أنه بعد هذا التتبع للأخطاء الاعتقادية الواردة في الإبانة والمقالات، قد اتضح أن الأشعري لم يرجع إلى عقيدة السلف في باب الصفات سوى الصفات الذاتية كالوجه واليدين، أما الصفات الفعلية فإنه وافق فيها ابن كلاب الذي رمى التوسط بين مذهب الاعتزال ومذهب السلف، فوافق أهل السنة في الظاهر وسلك طريق التعطيل في الباطن، وهذا ما ألمح إليه أبو نصر السجزي إذ قال : «وكثير من مذهبه يقول في الظاهر بقول أهل السنة مجملا ثم عند التفسير والتفصيل يرجع إلى قول المعتزلة، فالجاهل يقبله بما يظهره والعالم يهجره لما منه يخبره، والضرر بهم أكثر منه بالمعتزلة لإظهار أولئك ومحاربتهم أهل السنة وإخفاء هؤلاء ومخالطتهم أهل الحق»([21]). ولأجل هذا اغتر كثير من الفقهاء والمحدثين بهذا المذهب وانتسبوا إليه، ثم منهم من دافع عنه مستميتا، نسأل الله تعالى الهداية إلى الحق، والعصمة من مثل هذا الزلل، فالواجب على السني أن يكون على حذر من كل المتكلمين بلا تمييز، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية فقد كشف باطل هؤلاء وفضحهم ولم يغتر بظاهر قولهم وإن كانت مشابهة قولهم لقول أهل السنة عظيمة جدا، قال رحمه الله تعالى عن مذهب الأشعري وابن كلاب في مسألة الكلام : «وهذا القول أول من أحدثه ابن كلاب، ولكنه هو ومن اتبعه عليه كالأشعري وغيره يقولون مع ذلك أن القرآن محفوظ في القلوب حقيقة، متلو بالألسنة حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة»([22]). فانظر رحمك الله مع أن هذا الكلام صواب فإن ابن تيمية لم يجعله تراجعا ولا قولا ثانيا، بل ولا تناقضا كما قد يظهر للواحد منا ابتداء، ولكن هذه ثمرة التدقيق في النظر فرحمه الله رحمة واسعة.

 

 

 

 


[1]/الطبعة المحال عليها هي طبعة محمد بشير عيون.

[2]/انظر جواب هذه الشبهة في المجموع لابن تيمية (6/291).

[3]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/179).

[4]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/522).

[5]/ الحديث أورده البخاري معلقا وأخرجه أبو داود (924) والنسائي (1221) وأصله بغير هذا اللفظ في الصحيحين عند البخاري (1216) ومسلم (568).

[6]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (16/3383-384) وانظر (6/160).

[7]/انظر المسألة في مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/359) وما يليها.

[8]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (16/301-303) انظر (8/342-343).

[9]/درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (10/25).

[10]/انظر منهاج السنة النبوية (2/134-224) ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (10/307).

[11]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (16/87-88).

[12]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/437).

[13]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (16/393-394) وانظر أيضا (12/250)(5/386،401).

[14]/انظر الاعتقاد للبيهقي (31-32) مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/188).

[15]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/185).

[16]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/187).

[17]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/206-207).

[18]/شرح العقيدة الواسطية (69) وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/41-42) .

[19]/لسان الميزان لابن حجر (3/291) .

[20]/رسالة إلى أهل الثغر (166-167).

[21]/الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي (181).

[22]/مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/424) والعبارة نفسها في الإبانة (94).

معلومات إضافية

  • الكاتب: مثال
تم قراءة المقال 10955 مرة