الإبانة عن أخطاء الأشعري في المقالات والإبانة (2)

المبحث الثاني:
أخطاء الأشعري في مسائل القضاء والقدر

وأما أخطاء الأشعري في مسائل القدر فهي أظهر من أخطائه في الصفات، وهي كلها متفرعة عن القول بعقيدة الجبر، وهذا أمر متوقع منه، فإنهم قد ذكروا من أسباب رجوعه عن الاعتزال مناظرته لشيخه الجبائي في قضية من قضايا القدر، ومذهب المعتزلة النفي فلما فارقهم ناقضهم بالغ في الإثبات حتى قال بالجبر، وكلا القولين ضلال، ويمكن تنظيم أخطاء الأشعري في هذا الباب في المطلبين الآتيين:
المطلب الأول : الأخطاء الصريحة المرتبطة بالصفات
المطلب الثاني : المسائل المرتبطة بالحكمة والتعليل


المطلب الأول: الأخطاء الصريحة المرتبطة بالصفات


إنه مما لا يخفى أن قضايا الاعتقاد مرتبطة بعضها ببعض، وأن باب القدر مبني على باب الصفات، وما ضل فيه إلا من اشتبه عليه أمرها، وأن سلامة الاعتقاد فيه لا تحصل إلا بسلامة الاعتقاد في الله عز وجل وأسمائه وصفاته، وبالنسبة لمن جنح إلى القول بالجبر، فإنه أتي من جهة نفيه للصفات الفعلية الاختيارية كالإرادة والهداية والغضب والرضا، وجعلها معنى واحدا قائما بالنفس لا تتعدد أفراده ولا تختلف أحواله، وفيما يلي توضيح لهذا النوع من الأخطاء.


أولا : القول الصريح بالجبر
إن عقيدة الجبر فيما كتبه الأشعري في مقالات الإسلاميين والإبانة عن أصول الديانة أمر واضح جلي، وهو أول شيء أدخل في قلبي الريبة والتساؤل حول رجوعه إلى عقيدة السلف وأنا بعد في المراحل الأولى للطلب، ومن ذلك قول الأشعري في المقالات (ص:291-292) :« وإن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين، ولطف بالمؤمنين ونظرهم وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين، وأن الله سبحانه يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن لا يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم». والمقالة نفسها كررها في الإبانة (ص:46). وهذا إطلاق في نفي الهداية للكافرين وأنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم ، إطلاق فاسد مخالف لعقيدة أهل الحق، وحقيقته القول بعقيدة الجبر.
وعقيدة الجبر اشتهر بها الجهم بن صفوان كما عرف بها أيضا الأشعري وأتباعه، وهذا ما يقرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في غير موضع من مؤلفاته، ومن ذلك قوله:« والمقصود هنا أن جهما اشتهر عنه بدعتان إحداهما نفي الصفات، والثانية الغلو في القدر والإرجاء، فجعل الإيمان مجرد المعرفة ، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة، وهذان غلت المعتزلة في خلافه فيهما، أما الأشعري فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية»([1]). أي وافقه في أصل قوله في القضايا الثلاث جميعا الصفات والقدر والإيمان.
وأصرح من هذا في تقرير موافقته للجهم في الجبر قوله رحمه الله:« وأقرب الأقوال إليه قول ابن كلاب، فأما ابن كلاب فقوله مشوب بقول الجهمية، وهو مركب من قول أهل السنة والجهمية ، وكذلك مذهب الأشعري في الصفات، أما في القدر والإيمان فقوله قول جهم »([2]).
فهذا كلام الأشعري في بيان عقيدته في القدر وشهادة ابن تيمية على أنه كان جبريا جهميا، وما يأتي من مسائل يدل على هذه الحقيقة ويؤكدها .


ثانيا : نفي الفعل عن الإنسان
إن الناس في قضية أفعال العباد -وهي قضية دقيقة جدا- طرفان ووسط.
فأما الطرف الأول فهم المعتزلة القائلون بأن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله، وأنه قادر تام القدرة، ولا أثر لمشيئة الله تعالى في ذلك، إذ معنى مشيئة الله عز وجل عندهم هو الأمر والنهي فحسب.
وأما الطرف الثاني فهم الجهمية الذين يسلبون العبد اختياره وقدرته ويجعلونه مجبورا على حركاته وسكناته، ويجعلون أفعال العباد أفعالا لله عز وجل حقيقة، وأن العبد كسبها وفعلها مجازا، إذ لا يجوز عندهم أن يكون للفعل الواحد فاعلان، وهذا الفعل المجازي الذي يسمونه كسبا يعرفونه بأنه قدرة لا تأثير لها في الفعل؟
وأما أهل الوسط أهل السنة والجماعة فيقولون إن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وهي فعل العبد قائمة به وليست فعلا لله تعالى قائمة به، فالله تعالى خلق العباد وأفعالهم، وأعطى العباد قدرة واختيارا على فعلها وتركها، فإذا أراد العبد الشيء وكانت له قدرة عليه ففعله كان فاعلا له حقيقة([3]).
والأشعري اختار قول جهم في هذه القضية كسائر قضايا القدر الآتية، فقال في الإبانة (ص:46): « وأنه لا خالق إلا الله ، وأن أعمال العباد مخلوقة له مقدورة له». وهذا جزء من العقيدة الصحيحة وبه يفارق المرء عقيدة المعتزلة القدرية، ولكن لا يجوز الوقوف عنده بل لابد من أن يقال بعد ذلك:«وأن العباد فاعلون لها حقيقة ». حتى يفارق عقيدة الجهمية الجبرية.
ثم قال (ص:127): «وجواب آخر أنه لا يجوز أن يكون في سلطان الله عز وجل من اكتساب العباد ما لا يريده، كما لا يجوز أن يكون من فعله المجمع عليه على أنه فعله ما لا يريده، لأنه لو وقع من فعله ما لا يعلمه لكان في ذلك إثبات النقصان». وهذا كلام صريح في بيان عقيدته، فهو يقول إن للعبد كسبا الله تعالى يكسبه إياه، وأن العبد لو استقل بالكسب لخرج عن علم الله تعالى. وهذا تمويه واضح البطلان، لأنه لا يلزم من كون الإنسان كاسبا فعلا حقيقة أن يخرج عن علم الله تعالى ولا عن إرادته.
ثم إنه بناء على هذا الأصل تجرأ على تحريف كلام الله عز وجل فقال (ص:137): «وإن سألوا عن قول الله عز وجل : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء:79) فالجواب عن ذلك : قال الله عز وجل : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (النساء 78) في قولهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فحذف قولهم لأن ما تقدم من الكلام يدل عليه، لأن القرآن لا يتناقض …».
ومعنى الآية عند أهل السنة والجماعة أن ما أصاب العبد من النعم فهو بفضل الله ورحمته، وأن ما يصيبه من الشر فهو بذنوبه وتفريطه، فلا بد من إضافة السيئات إلى النفس مع العلم بأن الله خالقها كلها وموجدها، وهذا معنى قوله تعالى : (كل من عند الله)([4]).
والأشعري يسمي فعل الإنسان كسبا، وبين في مقالات الإسلاميين أن الكسب ليس فعلا حقيقيا لأنه يتم بقدرة محدثة، ولا يستحق أن يكون فاعلا إلا من وقع منه الفعل بقدرة قديمة، وليس ذلك إلا الله تعالى، وهذا نصه في (ص:538-539) إذ قال :« ومعنى الكسب أن يكون الفعل بقدرة محدثة، فكل من وقع معه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب، وهذا هو قول أهل الحق».
والتفريق بين الفعل والكسب أمر اختص به الأشعري وعُرف به، ولا يقر به أحد من أهل السنة بل ولا من العقلاء حيث حده بأنه فعلا لا قدرة له على التأثير، مثله مثل صفات الأحوال التي قال إنها صفة لموجود لا يتصف بوجود ولا عدم!! وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:« ولما قيل لهؤلاء ما الكسب؟ قالوا : ما وجد بالفاعل وله عليه قدرة محدثة أو ما يوجد في محل القدرة المحدثة. فإذا قيل لهم : ما القدرة؟ قالوا: ما يحصل به الفرق بين المرتعش وحركة المختار. فقال لهم جمهور العقلاء: حركة المختار حاصلة بإرادته دون حركة المرتعش، وهي حاصلة بقدرة أيضا، فإن جعلتم الفرق مجرد الإرادة فالإنسان قد يريد فعل غيره ولا يكون فاعلا له، وإن أردتم أنه قادر عليه فقد عاد الأمر إلى معنى القدرة. والمعقول من القدرة معنى به يفعل الفاعل ولا تثبت القدرة لغير الفاعل، ولا قدرة يكون وجودها وعدمها بالنسبة للفاعل سواء، وهؤلاء المتبعون لجهم يقولون: إن العبد ليس بفاعل حقيقة وإنما هو كسب، ويثبتون الكسب قدرة لا تأثير لها في الكسب، بل وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء»([5]).


ثالثا : عدم التفريق بين الهداية العامة والهداية الخاصة
قلنا فيما مضى من أسباب الضلال في القدر الضلال في باب الصفات وخاصة صفة الهداية، والجبرية يقولون :« من هداه الله اهتدى ومن ضل فلأن الله لم يهده بل أضله». هكذا بإطلاق وفي هذا نسبة الإله سبحانه إلى الظلم، لأن هذا الضلال سيترتب عليه الإثم والعقاب يوم القيامة، وهم يقولون يضله ويعاقبه بالخلود في جهنم ولا ظلم في صنيعه، لأن الظالم في اصطلاحهم هو من تصرف في ملك غيره، والله تعالى لا يمكن أن يكون ظالما لأنه يتصرف في ملكه. وهذا تحريف ساقهم إليه القول بالجبر، وإلا فمعنى الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وشأن أهل الكلام اعتقاد البدعة ثم تفسير النصوص وألفاظ الشرع على وفق اعتقادهم، وهذا ما صنعه الأشعري أيضا في قضية الهداية التي نحن بصدد الحديث عن مذهبه فيها، فقد حرف معاني آيات ظهر له معارضتها الصريحة لمعتقده الفاسد.
ومن ذلك أنه قال في الإبانة (ص:153-154) :« فإن سأل سائل عن قول الله عز وجل: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (فصلت:17) فقال : أليس ثمود كانوا كافرين وقد أخبر الله أنه هداهم . قيل له: ليس الأمر كما ظننت، والجواب في هذه الآية على وجهين :
أحدهما : أن ثمود فريقين كافرين ومؤمنين …فالذين عنى الله عز وجل من ثمود أنه هداهم هم المؤمنون دون الكافرين؛ لأن الله عز وجل قد بين لنا في القرآن أنه لا يهدي الكافرين …
الوجه الآخر : أن الله تعالى عنى قوما من ثمود كانوا مؤمنين ثم ارتدوا فأخبر أنه هداهم فاستحبوا بعد الهداية الكفر على الإيمان، وكانوا حال هداهم الله مؤمنين»([6]).
ومن ذلك أنه قال (ص:152) :« تقولون أليس قد قال الله عز وجل : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) (البقرة:185) فما أنكرتم أن يكون القرآن هدى للكافرين والمؤمنين؟ قيل لهم: الآية خاصة، لأن الله عز وجل قد بين أنه هدى للمتقين، وأخبرنا أنه لا يهدي الكافرين، والقرآن لا يتناقض، فوجب أن يكون قوله: (هدى للناس) أراد به المؤمنين دون الكافرين ».
والذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات الهداية العامة والهداية الخاصة، فأما العامة فهي هداية البيان والدلالة التي تقوم بها الحجة على العباد أو التي تبصرهم وترشدهم إلى الحق، وهذه الهداية عامة للمؤمنين والكافرين جميعا بما جعل فيهم من فطرة وركب فيهم من عقل، وبما أرسل إليهم من الرسل وأنزل من الكتب، فثمود كانوا في ضلال فهداهم بإرسال صالح عليه السلام الذي بين لهم الحق ودعاهم إليه، فاختاروا التمادي في الضلال والإعراض عن الحق.
وأما الهداية الخاصة فهي هداية التوفيق التي خص الله تعالى بها عباده المؤمنين الذين قبلوا الهداية العامة، قال تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن 11) وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69) أما الذين استكبروا عن الهداية الأولى فيضلهم الله تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (النحل:107) وقال سبحانه : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص: 50) ([7]).
ومن هذا التقسيم يعلم أن لا تعارض أيضا بين كون القرآن هدى للناس جميعا وبين كونه هدى للمتقين على وجه الخصوص، فهو هدى للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم وصالحهم وفاجرهم هداية البيان والدلالة، وهو هدى للمتقين هداية التوفيق والتثبيت والتزيين في القلوب.


رابعا : عدم التفريق بين المحبة والإرادة
من اللوازم الفاسدة التي التزمها الأشعري بناء على عقيدته في الصفات وفي القدر أنَّ كلَّ ما أراده الله تعالى أحبه بلا فرق بين الخير والشر وبين الكفر والإيمان، وفي بيان هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: « وجهم لا يثبت شيئا من الصفات لا الإرادة ولا غيرها، فإذا قيل إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي فمعناه الثواب والعقاب، والأشعري يثبت الصفات كالإرادة فاحتاج إلى الكلام فيها، هل هي المحبة أم لا؟ فقال: المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها، وذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك »([8]).
وقد صرح الأشعري بهذه المقالة الفاسدة في الإبانة فقال (ص:125):« ويقال لهم: إذا قلتم إنه يكون في سلطانه تعالى ما لا يريد فقد كان إذا في سلطانه ما كرهه، فلا بد من نعم. فيقال لهم: فإذا كان في سلطانه ما يكرهه، فما أنكرتم أن يكون في سلطانه ما يأبى كونه؟ فإن أجابوا إلى ذلك قيل لهم: فقد كانت المعاصي شاء الله أم أبى، وهذه صفة الضعف والفقر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا». ومعنى كلامه أن كل ما كان في كونه فهو لا يكرهه أي يحبه وإلا لزم من ذلك عليه الضعف والحاجة وهما محال على الله تعالى.
ثم قال :« مسألة: ويقال لهم: أليس فعل العباد ما يسخطه تعالى ويغضبه عليهم إذا فعلوه، وإذا فعلوه فقد أغضبوه وأسخطوه؟ فلا بد من نعم. فيقال لهم : فلو فعل العباد ما لا يريده وما يكرهه لكانوا قد أكرهوه، وهذه صفة القهر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا». فتأمل كيف قرن بين ما لا يريده وما يكرهه مما يقتضي أن يكون ما أراده قد أحبه!؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
والتفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية أمر متقرر عند أهل السنة والجماعة، فالإرادة الأولى مقتضية أن لا يكون في ملكه إلا ما يريد سبحانه وتعالى، والإرادة الثانية هي شرعه وأمره ونهيه، وبذلك يتعلق حبه وبغضه، فما أمر إلا بما يحبه وما نهي إلا عما يبغضه ، فليس كل ما أراده قدرا قد أحبه شرعا والله تعالى لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب سبحانه الفساد([9]).
المطلب الثاني : المسائل المرتبطة بالحكمة والتعليل

إن من ألزم الأقوال لمن قال بعقيدة الجبر أن ينفي الحكمة والتعليل، لأن أول ما يرد عليهم من الأسئلة أن يقال إذا كنا مجبرين غير مخيرين فلِم التكليف إذن؟ ولماذا أمر الله الكفار بالإيمان والعصاة بالطاعة؟ فتخلصوا من هذا السؤال بقولهم إن الله يأمر وينهي لا لغاية، بل ويخلق من غير حكمة، فأركبوا الخطأ خطأ آخر ووصفوا الله تعالى بالعبث، لكنهم سبقوا وجعلوا تعطيلهم تنزيها، وقالوا نحن ننفي الحكمة والتعليل تنزيها لله تعالى عن الأهواء والأغراض.
وفيما يأتي بيان للأخطاء التي وقع فيها الأشعري في كتابيه مما له تعلق بهذه القضية المهمة.


أولا : التصريح بنفي الحكمة والتعليل
كما سبق فإن من لوازم عقيدة الجبر نفي الحكمة والتعليل في الخلق والأمر جميعا، فالجبرية يزعمون أن الله تعالى فعال لما يريد لا لسبب ولا لغاية، لذلك فالمعروف عنهم إنكار لام التعليل في كتاب الله تعالى وتأويلها إلى لام الصيرورة والعاقبة.
ومن أثر ذلك وأمثلته أنه من المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن غاية إيجاد الخلق عبادة الله تعالى، وذلك لقوله سبحانه : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)، والأشعري لا يرى ذلك كما صرح به في الإبانة (ص:137-138) حيث قال:« وإن سألوا عن قوله عز وجل : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) فالجواب: أن الله عز وجل إنما عنى المؤمنين دون الكافرين، لأنه أخبر أنه ذرأ لجهنم كثيرا من خلقه، فالذين خلقهم لجهنم وأحصاهم وعدهم وكتبهم بأسمائهم وأسماء أمهاتهم([10]) غير الذين خلقهم لعبادته ». فمعنى الآية عنده أن الله تعالى خلق المؤمنين لعبادته وليس كل الخلق، وهذا يعني أنه لم يعتبر اللام في "ليعبدون" لام تعليل ولكن لام عاقبة وصيرورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :« وأما نفاة الحكمة كالأشعري وأتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وغيرهم فهؤلاء أصلهم أن الله لا يخلق شيئا لشيء، فلم يخلق أحدا لعبادته ولا لغيرها، وعندهم ليس في القرآن لام كي، ولكن يقولون في القرآن لام العاقبة »([11]). وبيَّن رحمه الله أن أصل هذا هو عقيدة الجبر فقال :« وهذا القول في الأصل قول جهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة »([12]). وليس للأشعري في هذه المسألة إلا هذا القول لذلك فابن تيمية لا ينسب إليه غيره . قال رحمه الله تعالى: «فالذي عليه جمهور المسلمين من السلف والخلف أن الله تعالى يخلق لحكمة ويأمر لحكمة …وذهب طائفة من أهل الكلام ونفاة القياس إلى نفي التعليل في خلقه وأمره وهو قول الأشعري ومن وافقه»([13]).


ثانيا : مسألة إيلام الأطفال
مسألة إيلام الأطفال من مسائل القضاء والقدر المرتبطة بالحكمة والتعليل وبمعنى العدل والظلم، والأشعرية لما قالوا إن الله تعالى يتصرف في ملكه كما يريد فلا يمكن أن يكون ظالما بحال، ونفوا الحكمة والتعليل جوَّزوا أن يُدخل الله تعالى العابد الطائع النار خالدا فيها، وأن يُدخل الكافر الفاسق الجنة خالدا فيها بمحض الإرادة، وليس في ذلك ظلم ما دام يتصرف في ملكه.
وقد ذكر الأشعري مسألة إيلام الأطفال المندرجة في هذا السياق والتي مفادها أن الله تعالى يجوز أن يُعذِّب الأطفال في الآخرة عذابا لا نهاية له من غير ذنب فعلوه، وإن لم يعقلوا ولم تبلغهم رسالة ([14])، فقال في الإبانة (ص:138-139) : «ويقال لهم: أليس قد آلم الله عز وجل الأطفال في الدنيا بآلام أوصلها إليهم؟ كنحو الجذام الذي يقطع أيديهم وأرجلهم وغير ذلك مما يؤلمهم، وكان ذلك سائغا؟ فإذا قالوا نعم. قيل لهم: فإذا كان عدلا فما أنكرتم أن يؤلمهم في الآخرة ويكون ذلك منه عدلا ».
وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه لا يعذب أحدا بذنب إلا بعد مجيء الرسول أو قيام الحجة الرسالية عليه، لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15)، وأما مسألة إيلام الأطفال في الدنيا التي تعلق بها الأشعري فلا تخرج عن الحكمة الإلهية سواء أدركناها أم لم ندركها، وما ذكر الأشعري ما ذكر إلا إمعانا في مناقضة المعتزلة الذين قالوا : لا يكون الإيلام إلا بجرم سابق أو عوض لاحق، وأهل السنة قد أنكروا عليهم الحصر في ذلك ليس إلا، لأنه قياس لله تعالى على الواحد من الناس، وتمثيل لحكمة الله تعالى وعدله بحكمة الواحد من الناس وعدله([15]).


ثالثا : نفي الاستطاعة قبل الفعل
من اللوازم الباطلة لقول الجبرية أن المكلف لا يقدر على الفعل شيء حتى يفعله، لأن الله تعالى هو الذي يحدثه حينها أما قبل ذلك فليس للإنسان قدرة عليه، وقد صرح بهذا الأشعري في مقالات الإسلاميين(ص:291) ونسبه إلى أهل السنة إذ قال:« وقالوا : إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله». وكذلك قال في الإبانة (ص:45): « وإن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله». ودلل على ذلك في موضع آخر فقال (ص:134):« ويقال لهم فإذا كان الكافرون قادرين على الإيمان فما أنكرتم أن يكونوا موفقين للإيمان؟ ولو كانوا موفقين مُسدَّدِين لكانوا ممدوحين، وإذا لم يجز أن يكونوا على الإيمان قادرين، ووجب أن يكون الله عز وجل اختص بالقدرة على الإيمان للمؤمنين».
ومذهب أهل السنة والجماعة أن الاستطاعة والقدرة على الفعل قسمان إحداهما تكون قبل الفعل وهي سبب التكليف ، والأخرى تكون مع الفعل وبها ينجز العمل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : «أحدهما : القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي ، الثاني : القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور ولا تتأخر عنه. فالأولى هي المذكورة في قوله عز وجل : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران:97) فإن هذه الاستطاعة لو كانت مقارنة للفعل لم يجب حج البيت إلا على من حج، فلا يكون من لم يحج عاصيا بترك الحج …»([16]). والله تعالى أمر الناس بالإيمان وجعل لهم قدرة على ذلك، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، والأشعري لم يثبت القدرة الشرعية المصححة للتكليف مناقضة للمعتزلة الذين لم يثبتوا غيرها ، لذلك فهو يقول لا قدرة على الإيمان وغيره إلا لمن آمن وقام بالفعل([17]).


رابعا : التكليف بما لا يطاق
مسألة التكليف بما لا يطاق من المسائل التي لها ارتباط بالحكمة والتعليل أيضا ، ولها تعلق بمسألة الاستطاعة السابقة، وعند الجبرية مادام الإله يأمر وينهى لا لحكمة فإنه يجوز أن يأمر الناس بما لا يطيقونه، لأن الطاعة والامتثال ليست مقصودة، وكذلك ما دامت الاستطاعة عندهم لا تكون إلا مع الفعل فالتكليف كله بما لا يطاق بهذا الاعتبار عندهم، وقد قرر الأشعري هذه العقيدة الفاسدة في الإبانة فقال (ص:138): « ويقال لهم: أليس قد كلف الله عز وجل الكافرين أن يستمعوا الحق ويقبلوه ويؤمنوا به…؟ فلابد من نعم. فيقال لهم: فقد قال عز وجل: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) (هود:20) وقال: (وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (الكهف:101)، وقد كلفهم استماع الحق . ويقال لهم : أليس قد قال الله عز وجل : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) (القلم:42) وهذا تثبيت لما نقوله من أنه لا يجب لهم على الله إذا أمرهم أن يقدروا»([18]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :« وهؤلاء أطلقوا القول بتكليف ما لا يطاق، وليس في السلف والأئمة من أطلق القول بتكليف ما لا يطاق، كما أنه ليس فيهم من أطلق القول بالجبر، وإطلاق القول بأنه يُجبِر العباد كإطلاق القول بأنه يكلفهم ما لا يطيقون. وهذا سلب قدرتهم على ما أمروا، وذلك سلب كونهم فاعلين قادرين»([19]).
أما الشبهات التي ذكر الأشعري فجوابها أن السماع المنفي هو سماع الفهم، الذي لا يمكن أن يحصل مع الإعراض، وأما الأمر بالسجود فهو أمر تعجيز لا أمر تكليف فافترق الحال([20]).
(يتبع)

[1]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/229-230).
[2]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (16/308).
[3]/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/444،468).
[4]/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/64،442).
[5]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/467).
[6]/ وانظر الصفحات (141،146،149،151) من الإبانة.
[7]/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/205).
[8]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/230).
[9]/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/131،340،475 ).
[10]/ قال الذهبي في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الطبري الميزان (1/327) كان بصنعاء قال ابن عدي منكر الحديث، روي عن مروان بن معاوية عن حميد عن أنس مرفوعاً يدعى يوم القيامة بأسماء أمهاتهم ستراً من الله عليهم و هذا منكر ». ويعارضه حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ رواه البخاري (6177) ومسلم (1735) أما حديث حديث هُشَيْمٌ (ثقة كثير التدليس والإرسال الخفي) عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَمْرٍو (صدوق يخطئ ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَكَرِيَّا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ فهو حديث ضعيف أخرجه أَبُو دَاوُد (4948) وقال ابْنُ أَبِى زَكَرِيَّا لَمْ يُدْرِكْ أَبَا الدَّرْدَاءِ.
[11]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/44).
[12]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/38).
[13]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/377).
[14]/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/677) (19/215).
[15]/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/125).
[16]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/129).
[17]/ انظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (1/60).
[18]/ وانظر صفحة (139) أيضا .
[19]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/469).
[20]/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (16/8-12).