الجمعة 12 ربيع الأول 1444

علم المنطق وأثره في التراث التلمساني، شرح صحيح البخاري للسنوسي (ت:895)أنموذجا

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

علم المنطق وأثره في التراث التلمساني، شرح صحيح البخاري للسنوسي (ت:895)أنموذجا
نشر في مجلة حوليات الجزائر، المجلد 36 العدد 3 ، الصادر في سبتمبر 2022 ، ص441-465

المقدمة
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أمَّا بعد: فإن علم المنطق من علوم حكماء اليونان القدماء قبل الإسلام؛ علمٌ وُضع ليكون مميّزا للبرهان الصحيح من غيره؛ فيكون كالآلة العاصمةِ من الزّلل في الاستدلال، وضُمّن ضوابطَ تحكُمُ مصطلحات العُلوم وتصوّراتها؛ لأنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره. ونظيرُهُ في العلوم الإسلامية علمُ أصول الفقه؛ الذي برزَ بعد أنْ نمَت العلومُ وتطوَّرت وتمايزتْ فكان فيها بمنزلةِ الميزانِ؛ له قواعده ومصطلحاته المناسبة لطبيعة المعرفة الإسلامية؛ التي لها خصائصُها ومميزاتُها.
     ولكن سرعانَ ما ترجمَ الفلاسفة الإسلاميون كتبَ المنطق ووظّفوا قضاياه في بُحوثهم؛ فقاومهم المتكلمون وغيرهم أوّلَ الأمرِ؛ ثم سلَّمَ لهم بعضُ المعتزلةِ صحَّةَ قواعدِ المنطقِ، ورضوا بالاحتكام إليها باعتبارها وسيلةً إلى الأحكامِ وليست أحكامًا في نفسها، متغافلينَ عن أنَّ فسادَ المعيار يؤدِّي حتمًا إلى فسادِ الأحكام، هذا فضلًا عن وجودِ ما يُغني عنه في شريعتنا وهو علمُ أصولِ الفقهِ من علوم الشريعة، وعلمُ البلاغةِ من علوم اللسان .
     ولا يزالُ تأثيرُ المنطقِ في العلوم الإسلامية يتزايدُ؛ حتى وصلَ في العصورٍ المتأخرة إلى مصنفات تفسير القرآن الكريم وشرح الحديث النبوي؛ وهنا تظهرُ إشكالية جديرة بالدراسة، حولَ إحلال المنطق محلِّ قواعد التفسير والاستدلال المقرّرة في علم أصول الفقه ومزاحمته لها؛ وكيف وصلَ تأثيره إلى هذه العلوم؟ وما هي أسبابه؟
    ولما كان موضوع تأثير المنطقِ في مصنَّفات التَّفسيرِ والحديثِ لمْ يأخذ حظّه من البحْث تجليةً وتحليلاً، رأيتُ أنْ آخذ عيّنة من العينات؛ مختصَّة بعصر من العصور في بقعة من البقاع الإسلامية، لتكون محلَّ دراسةٍ وتحليلٍ في هذا السياق، فاخترتُ شرح صحيح البخاري لمحمد بن يوسف السَّنوسي (ت:895) إمام المعقول في القرن التاسع في تلمسان والمغرب الأوسط عموما، وقد عنْونتُ البحث ب:"علم المنطق وأثره في التراث التلمساني، شرح صحيح البخاري للسَّنوسي أنموذجا". وذلك بقصْد بيان مَدى تأثير القضايا المنطقية في شروحِ الحديثِ النَّبوي في تلمسان في تلك الحِقبةِ بالذات، وربما يُعمَّمُ الحكمُ إلى العصور التي تلتْهُ إذا نظرنا إلى أنّ تأثير مصنَّفات السَّنوسي قد امتد لقرون، وتجاوز حدودَ المغرب إلى المشرق، كما أنِّي سأحاولُ بيان أثرِ المنطق في مصادرِ السَّنوسي في الحديث وغيره من العلوم، وأبيِّن أيضا أنماط هذا التوظيف في كتابه؛ وللإجابة عن الإشكالية وتحقيق هذه الأهداف سأتّبع بإذن الله تعالى المنهج الوصفي، كمَا سأوضّف المنهج التحليلي حيث يستدعي الأمر إعماله، وقد قسّمت البحث إلى مطلب تمهيدي ومبحثين وخاتمة، فأمَّا المطلبُ التمهيدي فحَوى ترجمةً مُوجزةً للإمام السنوسي، وأما المبحث الأولُ؛ فجعلته لبيان توغّل علم المنطق في العلوم الاسلامية، وإسهام علماء تلمسان فيه عموما، وكذا أثرُ علمِ المنطقِ في مؤلفات السنوسي وأسبابه، وأمَّا المبحث الثاني؛ فجعلتُه لبيَان أثرِ المباحثِ المنطقيةِ في شرح صحيح البخاري للسنوسيّ، سواء مباحث التصوُّرَات أو التَّصْدِيقات، وأمَّا الخاتمة فضمَّنْتُها خلاصة النتائج المتوَّصَلِ إليها.


 
مطلب تمهيدي ترجمة موجزة للإمام السنوسي


    نَتعرّض بإذن الله تعالى في هذا المطلب لترجمةٍ موجزةٍ لمحمد بن يوسف السنوسي، ونقتصر فيها على أهمّ ما يُضمَّنُ في سير العلماء عادةً، من النشأة العلمية والتلاميذ والمُؤَلَّفات وتاريخ الوفاة وثناء العلماء عليه.
الفرع الأول: نسب السنوسي ومولده ونشأته
    هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عمر بن شعيب السَّنوسي الحسني التِّلمساني.
    فهو السَّنوسيُّ نسبًا، إذْ أصله يرجع إلى قبيلة بني سَنوس البربرية؛ القاطنة بالغرب الجزائري والتابعة إداريا لولاية تلمسان حاليا. وهو تلمسانيٌّ نشأةً وإقامةً ووفاةً.
وهو الحَسَنيُّ شرفًا لا نسبًا إذ كانت أم أبيه شريفةً؛ من نسْل الحَسن بن علّي بن أبي طالب(1).
ولد السَّنوسيُّ ببني سنوس على أميال من جنوب تلمسان، واختلفَ المؤرِّخون في تحديدِ سنةِ ميلاده، وأقربُ ما قيل في ذلك هو سنة 830 هـ، أو سنة 832 هـ (2).
نشأ الإمام السَّنوسي بتلمسانَ حاضرة العلم والعلماء في ذلك الزمان، في أسرة دينٍ وعلمٍ، فقد كان أبوه معلِّما للصبيان في كُتَّاب، وعنه أخذ السَّنوسي مبادئ العلوم الشرعية، وكان السَّنوسي منذ صغره كثير التغفُّل عن أمور الدنيا، ومشارا إليه بالصلاح لكثرةِ حيائِه وصدقِه وعظيم شفقته ورحمته(3).    
  وقد كانت ظهرتْ عليه بوادر النَّجابَةِ منذُ نعومةِ أظفاره؛ فحظيَ ببركة دعاءِ كبار الصالحين له بالتَّوفيق والتَّسديد، منهم الإمام ابن مرزوق الحفيد، ومنهم الولي الصالح الحسن أبركان الذي كان يحضرُ مجالسَه في سنٍّ مبكرٍ(4).
الفرع الثاني : طلب السنوسي للعلم
حظيَ السَّنوسي بمحيط مليءٍ بالعلماء والصالحين، فَحصَّلَ العلومَ الشرعيةَ جميعَها دونَ حاجةٍ إلى رحلةٍ في الطلب؛ باعتبار أنَّ تلمسان كانت من حواضر العلم ومحطَّ العلماء والرحَّالةِ، فلمْ تكنْ له سوى رحلةٌ واحدةٌ؛ بعد أنْ تضلَّع في العلم وألَّفَ فيه؛ قصدَ فيها مدينة الجزائر رُفقةَ أخيه لأمِّه الشيخ التَّالوتي فلقيَ الإمام الثعالبيَّ(ت:876) وغيره، ثم عرج على وهران حيث لقيَ الشيخ إبراهيم التَّازي(ت:866) (5) ، ولعلَّ سببَ الرِّحلة إلى هذين الشيخين هو تحصيلُ علم الحديث بسندٍ عالٍ متصلٍ.
وقد رأيتُ أنْ أخالف معهود التراجم بتعداد الشيوخ إلى ذكر الفُنون التي درسها على هؤلاء الشيوخ؛ لأنَّ كثرة الفنونِ وتنوُّعها أدلُّ على مكانة العالِم ومتانةِ تكوينه من كثرةِ الشيوخ وتنوُّعِهم.
1-القراءات وكتب السنة
   نالَ السَّنوسيُّ إجازة في القراءات السَّبْعِ من شيخه أبي الحجَّاج يوسف الشريف الحسني، وأجيز بالصحيحين وغيرهما من الشيخ الثعالبي وإبراهيم التَّازي وابن مرزوق الكفيف(ت:901)(6).
2-السلوك والتوحيد
 وحصَّل رحمه الله طرائق السلوك والتصوّف من الحسن بن مخلوف أبركان(ت:857هـ) والثعالبي وإبراهيم التازي(7)، وحصّل علم التوحيد على الطريقة الأشعرية من الكنابشي البجائي(8)، كما أجازه التازي في كتاب الشفا للقاضي عياض. وأخذَ في رحلتِه إلى الجزائر عن أحمد بن عبد الله الزواوي (ت:884) منظومته الجزائرية في التوحيد والسلوك(9).
3-الفقه وأصوله
 وأمّا الفقهُ -وهو عمدة العلوم جميعها -فقد درسَ فيه الرسالة لابن أبي زيد على أخيه التالوتي(ت:895هـ) والمدونة على الجلّاب(ت:875)، وكان في شيوخه أيضا شرَّاح لمختصر ابن الحاجب الفرعي منهم التالوتي(10). وأمَّا علم أصول الفقه فقد صرَّح بأنّه أخذه عن ابن العباس العبّادي(ت:871هـ)(11)، ومن شيوخه الذين برزوا في الأصول إبراهيم التازي وابن مرزوق الكفيف، ومن المقرّرات التي كان يدرسها هذا الأخير مختصر ابن الحاجب(12).
4-الفرائض والحساب والفلك
   وأخذ السَّنوسيُّ علم الفلك عن ابن الحبَّاك(ت867)، ودرسَ الفرائض والحساب على القلْصادي (ت:891) ومحمد بن قاسم بن تونزت، وابن الحبَّاك أيضا (13).
5-المنطق والعربية
 وأخذ السَّنوسيُّ علمَ المنطق عن ابن العبَّاس العبَّادي، والعربية عن نصر الزَّواوي، وابن العبَّاس أيضا(14).
    ورغم أنَّ الدَّراسة على الشيوخ كانت الطَّريقة المثلى لأخْذ العلوم وفهم مقاصدها، إلَّا أنَّ التّحقيقَ فيها يحتاج إلى مطالعة الدَّواوين المطوَّلات ومزاولة نسخِها والتّلخيص لها، والشيخ السَّنوسيّ كان يخصِّص جزءا من وقت الضُّحى للمطالعة، كما أنَّه كان يمارس النَّسخ للمدوَّنات، وقد قال للملَّالي يومًا :"أنَّه كتب ثلاثين كتابًا من غير فترةٍ "(15).
الفرع الثالث : تلاميذ السنوسي
   للسنوسي تلاميذ كُثُر متفاوتون في الشُّهرة؛ وسنقتصرُ على ذكر أشهرهم وأكبرهم سنَّا.
1-محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الملَّالي ( 898هـ) صاحب "المواهب القدُّوسية في المناقب السنوسية"، أدرك شيوخ السَّنوسي، ومن مصنَّفاته شرح العقيدة الصغرى وهو مطبوع(16).
2- أحمد بن أحمد بن محمد البرنسيّ الفاسي، الشَّهير بزرُّوق (ت:899هـ) الفقيه المحدِّث الصُّوفي المشهور، أخذَ عن الإمام السنوسي رغم أنّه قرينه، واشترك معه في الشيوخ، له مؤلّفات فقهية منها شرح الرسالة، وشرح الوغليسية، وشرح مختصر خليل وغيرها، وقد نقل عن السَّنوسيِّ في بعضها(17).
3- محمد بن أحمد المعروف بابن صعْد التلمساني (ت:901هـ) الفقيه العابد، أخذ أيضا عن محمد بن العبّاس والتنسّي، من مؤلَّفاته "النّجم الثّاقب فيما لأولياء الله من المناقب"، و"روضة النّسرين في مناقب الأربعة المتأخّرين"(18(.
4- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحوضي التلمساني(ت:910) الفقيه الأصولي العالم الشاعر المكثر المتكلِّم، عدَّه ابن عسْكر من تلاميذ السَّنوسيِّ، له نظم في العقيدة شرحه السَّنوسيُّ ووصفه فيه بصاحبنا(19).
5- أبو عبد الله محمد بن أبي مدين (ت: 915هـ) الذي قال: "تفقَّهتُ عليه دراية في مقدِّمة السنوسي وصغراه وكبراه، ومختصره المنطقي، ودولًا من شرح الكبرى، ومختصر الأبِّي على مسلم، وابن الحاجب الأصلي، وتلخيصِ المفتاح، ودولًا من البخاري روايةً"(20).  
الفرع الرابع: مؤلفات السنوسي
لقد كان الشيخ السنوسي عالما متفنّنا مشاركا في أكثر الفنون، ويظهر ذلك في مؤلفاته المتنوِّعة، التي سنذكرها حسب الفنون.
أولا : علم الكلام، أشهر علم عرف به السنوسي هو علم الكلام حتى أنّه عُرف بالتوحيدي، وقد كثرت مؤلفاته في هذا الفن وتنوّعت، وقد أحصيتُ له تسعةَ عشرةَ مؤلَّفا، نذكر منها: عقيدة أهل التوحيد والتسديد المخرجة من ظلمات الجهل وربقةِ التقليد، المسماه بالعقيدة الكبرى، والعقيدة الوسطى، وأمِّ البراهين (وهي العقيدة الصغرى)، وصغرى الصغرى، والمقدمات في التوحيد وقد شرح جميعها، وله الحقائق في تعريفات مصطلحاتِ علماء الكلام، والمنهج السديد في شرح كفاية المريد، وكلُّ هذه المؤلفات المذكورة مطبوعةٌ .
ثانيا: التفسير وعلوم القرآن، ومن العلوم التي برزَ فيها تفسير القرآن الكريم وقد ختمه درسا، كما ألَّفَ فيه مؤَلَّفات عِدَّة؛ منها التفسير الذي كتبَ فيه كراريس لم يتعدَّ فيها فواتح البقرة، وكتب منه أيضا تفسير سورة (ص) وما بعدها، وله تفسير مختصر لسورة الفاتحة، كما ألّف في علم الرسم شرح ضبط الخرَّاز، وفي القراءات شرحًا للشاطبية(21).
ثالثا: الحديث، اعتنى السنوسيُّ بعلم الحديث دراية؛ فألّفَ فيه مؤلَّفاتٍ أشهرها "مكمّل إكمال الإكمال" وهو مختصر لشرح محمد بن خلفة الأبي التونسي(ت:827) على صحيح مسلم له فيه زيادات كثيرة وهو مطبوع، ومنها شرح صحيح البخاري، وصل فيه إلى باب: من استبرأ لدينه من كتاب الإيمان، وبحْثنا هذا متعلّق به.
رابعا : الفقه، ومن أخصّ العلوم التي برع فيها السنوسي علم الفقه؛ وقد ألّف فيه مؤلَّفات، كما كتب فتاوى نُقلت عنه، ومن مؤلّفاته "المقرَّب المستوفي في شرح مختصر الحُوفي (ت:588)" في الفرائض، ومنها "شرح المدوَّنة"(22)، وتعليق على المختصر الفرعي لابن الحاجب(23).
خامسا: التصوف والطب وغيره من العلوم، من العلوم التّي ضرب فيها بسهم أيضا علم التصوُّف والسُّلوك، وله فيه مؤلَّفات كثيرة منها: شرحُ أبيات الإمام الإلبيري (ت:537هـ (في التصوُّف، ذكره الملَّالي في كتابه بتمامه(24). وألّف في الطب عدَّةَ مؤلَّفات منها "رسالة في الطب" وهي مطبوعةٌ، وألّف في علم الفلك "عمدةُ ذوي الألباب ونزهةُ الحساب في شرح بغيةِ الطُّلاب في علم الإسطرلاب"(25).
الفرع الخامس : وفاة السنوسي وثناء العلماء عليه
لم يتوقفْ السَّنوسيُّ عن التَّأليف والتدريس حتى أقعدَهُ المرضُ في آخر أيَّامه، فانقطع عن الناس مدَّةَ عشرة أيامٍ، وتوفِّيَ يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الآخرة من عام خمسة وتسعين بعد ثمان مائة (895) الموافق لسنة(1490م)، وكان يقول رحمه الله عندَ موته: "نسأله سبحانه أنْ يجعلنا وأحبَّتنا عند الموت ناطقين بالشهادة عالمين بها"، وبعد أنْ أسلمَ روحه إلى باريها شمَّت ابنته رائحةَ المسكِ في البيت وفي جسده، وقد حضرَ جنازته جمع غفير، فلم تُر جنازةٌ أعظمَ من جنازته في عصره، لِمَا فيها من كثرة الخلْق وازدحامِ النَّاس على نعشه(26).
وقد حظي السَّنوسيُّ رحمه الله تعالى بالثَّناء العطر ممَّن ترجَمَ له وغيرهم، ولعلّي أكتفي بإبراز ثناء اثنين منهم، وهما ابن عسْكر وابن القاضي، فأمَّا ابن عسكر (ت:986) فقال: "كان ممَّن جدَّد لهذه الأمة أمر دينها على رأس تلك المائة ...وكان من أكابر الأولياء وأعلام العلماء ...وبالجملة فعلماءُ تلمسان يذكرون الشيخ السَّنوسيَّ ويعظِّمونه بالتحقيق والولاية والزهد في الدنيا "(27). وأمَّا ابن القاضي (ت:1025) فقال :" الامام المعقولي الفقيه المحدِّث الفرضيّ الحيْسوبي صاحبُ العقائد "(28). رحمه الله رحمة واسعة.


المبحث الأول : علم المنطق واهتمام المسلمين به وتوغله في علومهم


  للوصول إلى بيان كيفية وصول تأثيرِ المنطقِ إلى العلومِ الإسلاميةِ والكشفِ عن أسبابِ ذلك؛ لابدّ أنْ نعقدَ مبحثا نبيّن فيه ماهيةَ المنطق، ومنافذ توغّله في العلوم الإسلامية ومراحل هذا التوغُّل، ثم ننتقلُ إلى الحديث عن وصول تأثيره إلى تلمسان قبل القرن التاسع وإسهام السَّنوسيِّ فيه على وجه الخصوصِ؛ وذلك باعتبار أنَّ الكتاب المختار للدراسة التطبيقية من مؤلَّفاته.
المطلب الأول : مفهوم علم المنطق وتوغله في العلوم الاسلامية
الفرع الأول : مفهوم المنطق وموقف العلماء المتقدمين منه
   علمُ المنطق-كما يعرّفه ابن خلدون(ت:808)- بأنه:" قوانين يُعرف بها الصَّحيح من الفاسد في الحدودِ المعرِّفة للماهيّات والحُجج المفيدة للتَّصديقات"(29)، وهو علم عُرف به اليونان واشتهر بالنسبة إلى واضعه أرسطو، وهم يعتبرونه ضابطَ التعبيرِ وميزانَ الفكرِ (30)، والنُّطق يُطلق على ثلاث معانٍ: على اللفظ، وعلى إدراك الكليّات، وعلى النفس الناطقة؛ وقد سُمّي هذا الفن بالمنطق لأنه "يقوّي الأول، ويسلك بالثاني مسلك السَّداد، ويحصل بسببه كمالات الثالث"، وقد وصفه ابن سينا(ت:427) بخادم العلوم لتعلُّقه بغيره، ووصفه الفارابي(ت:339) برئيس العلوم لحكمه النَّافذ عليها (31).
    وقد اعتنى فلاسفة الإسلام الأوائل بالمنطق باعتباره مدخلاً للفلسفة اليونانية؛ التي لخّصوا مباحثها أو شرحوها، وشاركهم في تلك العناية بعض المعتزلة في عصر متقدِّم كما أشار إليه ابن قتيبة (ت:275)، بينما كان غالب علماء الإسلام ينقدونه ويردُّونه على أصحابه، وكان مما قاله ابن قُتيبةَ -لسان حالِ اللغوين في زمانه- مبيِّنا عدم جدواه: "لو أنَّ مؤلِّف حدِّ المنطق بلغَ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلامِ في الدين والفقه والفرائض والنحو لعدَّ نفسه من البُكْم"(32)، كما أنّ الباقلاني (ت:405) الذي يعتبر لسان حال المتكلمين والأصوليين قد نقد القياس الأرسطي في مؤلَّف أيضا (33)، ووجدنا بعده نقدا لاذعا من الباجي (ت:474) لمن حاول إقحامَ بعض مباحثه في علمِ أصولِ الفقهِ (34).
    ولمَّا ألَّفَ الغزاليُّ المستصفَى وجعلَ من مباحثِ المنطقِ مقدمةً له؛ اشتدَّ النكير على هذا الصنيع؛ وكان ممَّن أنكر فعله ابن عقيل الحنبلي (ت:513) وابن القُشيريِّ (ت:514) والطرطوشي (ت:520) والمازري (ت:536) وابن الصَّلاح (ت:643) والنَّووي (ت:676) وابن تيمية (ت:728) (35). ووجه انتقادهم جميعًا إمَّا عدم جدواه وفائدته، أو اعتقاد تحريمه باعتباره ذريعةً للتَّفلسُفِ.
الفرع الثاني : توغل المنطق في العلوم الاسلامية
   لم يكن للمنطقِ الأرسطي مجالٌ في العلوم الإسلامية في عصور نشأتها المتقدمة، لكنَّه بدأ في التَّوغُّل في وقت مبكِّرٍ؛ قبل أنْ يتحكَّم في منهجِ دراستها في عصور الانحطاط، حيث صارَ كأنَّه علمٌ شرعي وجزءٌ من العلوم الإسلامية؛ من لا يُتقن مسائله لا يستطيع أنْ يفهم كثيرا من الشروح والحواشي، وهذا بيان للعلوم الأولى التي كانت محلَّ هذا التَّوغُّل.
أولا :توغّل المنطق في علم النحو
    لقد كانت علوم اللسان أوَّلَ العلوم التي تأثّر أهلها بعلم المنطقِ، ولنأخذْ علمَ النحوِ أنموذجًا للدِّلالة على ذلك، حيث إنّنا نجد المختصِّين في الدراسات المنهجية النحوية يعدُّون ابن السراج (ت:316) صاحب الأصول في النحو -وهو تلميذ الفارابي- رائد الاتجاه المنطقي في علمِ النحوِ، ثم تتلمذَ عليه الزجَّاجي (ت:340) والسيرافي (ت:368) والفارسي (ت:377) والرماني (ت:384) وتأثَّروا به، وأحدثوا اتجاها جديدا مخالفا لاتجاه المحافظين على منهجِ المتقدمين كالزجَّاج (ت:311) والنحَّاس (ت:338) وابن خالويه (ت:377) (36).
ومن تأمَّل الإيضاح للزجَّاجي وطريقةَ معالجةِ الحدود فيه؛ وجدَ أنَّ اعتبار قواعد المنطق قد صار من المسلَّمات في الدَّرس النَّحوي، ولما جاء القرن السابع وجدنا ابن يعيش (ت:643) في شرح المفصَّل يضطرُّ لشرح مباحث الحدِّ من أجل تفسير تعريف الزمخشري للكلمةِ، ولعلَّ مثلَ هذه الحاجة جعلت الشَّلوبين (ت:645) يضعُ مقدِّمَةً منطقيةً لشرحه على الجزولية (37)، ثم امتزجت الشروح في العصورِ المتأخرة بمصطلحات المنطق؛ ولم يسلم من ذلك حتى الكتب الموضوعةُ للمبتدئين.  
ثانيا :توغّل المنطق في علم الأصول
     لقد كانت مؤلَّفات الأصوليين من الفقهاء والمتكلّمين خاليةً من مسائل المنطق مستقلّةً عن منهج أهله، ولم يظهر التأثُّر بمنطق أرسطو إلا في القرن الخامس على يد أبي الحسين البصري (ت:436) في المعتمد (38)، ثم الجويني (ت:478) الذي التزم قواعده في كثير من بحوثه، ومهَّدَ الطريق للغزالي الذي أدخل مسائله بين دفتي كتاب المستصفى وجعلها مقدمة للعلم، واعتبره شرطا من شروط الاجتهاد وفرضَ كفايةٍ على المسلمين، فاقتدى به من جاء بعدَه في ذلك (39)، وهو إنْ كان صرَّحَ بأنَّ تلك المقدمة ليست من جملة علم الأصول، فإنَّه جعلها مقدمةً العلوم كلِّها أصول الفقهِ وغيره (40).
   وأمّا ابن حزم (ت:456) فرغم تبحُّره في علم المنطق وتعظيمه له؛ فإنّه لا يوجد تأثير واضحٌ للمنطق على موضوعات كتابه الإحكام (41)، ولم يكن كلُّ الأصوليين متأثرًا بالمنطق فالذين كانوا يميلون إلى الفقه منهم قد ظلُّوا بعيدين عن هذا التأثير (42)، ولكن بعد أنْ صنَّفَ الرازيُّ (ت:606) المحصول والآمديُّ (ت:631) الإحكام صار علمُ المنطقِ مهيمنًا على الدراسة الأصولية في لغتها واصطلاحاتها واستدلالاتها ومناقشاتها، وقد علَّقَ القرافيُّ (ت:684) على جعل الرازيِّ من شروط المجتهد معرفة الحدِّ والبرهان بقوله:"لا يكملُ معرفة ذلك إلا باستيعاب علم المنطق؛ فإنَّه ليس فيه إلا ذلك، فيكونُ المنطقُ شرطًا في منصب الاجتهاد، فلا يمكن حينئذ أنْ يقال: الاشتغال به منهيٌّ عنه" (43)، وأكثرهم إفراطا الآمدي الذي أقحم القياس الأرسطي ضمن الأدلَّة الشرعية تحت مسمى الاستدلال (44) بعد أن أقحمه ضمن الأدلة العقلية في كتابه أبكار الأفكار.
ثالثا : توغّل المنطق في علم الكلام
     ولقد ظلَّ علمُ المنطق أداةَ الفلاسفة دون المتكلِّمين المنتصرين لمذاهب أهل السنة في الجملة، ولعلَّ أوَّلَ من أقحم طريق المناطقة في علم الكلام من الأشاعرة هو الجويني، كما كان أوَّلَ من أقحمها في علم الأصول، وتكاد تتَّفق كلمة الباحثين المختصين في المذهب الأشعري على تأثُّره بالمنطق في استدلالاته ومصطلحاته (45)، حيث إنْ تردَّدْنا في كونه أوَّل المتكلمين إقحاما للمنطق؛ لعدم إحاطتنا بجميع كتابات المعتزلة وعدم وصول أكثرها إلينا، فلا نتردَّدُ في كونه أوَّلَ الأشاعرة.
    وقد أبطلَ الجوينيُّ طُرُق الأشاعرة في الاستدلال وزعمَ أنّها لا تُورث اليقين (46)، وتبعه على ذلك الرازي والآمدي حيث ردَّا أكثر أدلّة المتكلِّمين ليفسحا المجال لمنطق أرسطو وآراء الفلاسفة (47)، ولمَّا جاءَ السَّنوسيُّ (ت:895) جزم في كتبه أنَّ اليقين في العقيدة لا يحصلُ إلا من جهة البرهان المنطقي (48)، وإذا نظرتَ في الكتبِ التي اعتُمدتْ في العصورِ المتأخّرة في علم الكلام؛ أيقنتَ أنَّ علمَ المنطق قد سيْطرَ على منهج البحث في هذا العلم.
المطلب الثاني : إسهام علماء تلمسان في فنِّ المنطق
الفرع الأول : المؤلَّفات التلمسانية قبل السَّنوسيّ وفي عصره
    قد ألَّفَ العلماء المنتسبون للفقه مؤلَّفات في هذا العلم منذ القرن الخامس؛ بدايةً مع ابن حزم صاحب "التقريب لحدِّ المنطق"، ثم الغزالي صاحب "المعيار" و"محك النظر"، وألَّف غيرهما، وربما كان أشهر مؤلِّف هو الخونَجي (ت:646) صاحب "مختصر الجمل" الذي صار عمدةً في المشرق والمغرب (49).
   وفي المغرب الإسلامي كانت العلوم العقلية مذمومةً منبوذةً عند فقهاء المالكية في العصور الأولى، فلم يتعاطاها إلا القليل من الناس -وربما كان ذلك سرًا-، وبقيَ الأمرُ كذلك إلى عصر الموحِّدين؛ حيث أحدث ابن تومرت ثورةً فكريةً على دولة المرابطين التي عُرفت بدولة الفقهاء، وأباح كلَّ ما كان ممنوعًا من العلوم؛ كعلم الكلام وعلم المنطق وعلم أصول الفقه؛ وأشاعَ فيهم كتب الغزالي التي كانت محظورةً.
   ومنه فإنَّ بداية عناية المغاربة بالمنطق كانت في القرن السادس الهجري؛ ثم انتشرت الانتشار العام في القرن السابع(50).
   وفيما يأتي رصْد لأهمِّ الكتب التي كانت محْور الدَّرس المنطقي في المغرب الأوْسط؛ مما أنْتجه علماء تلمسان أو علماء أقاموا بها .
   فقد كان محور الدَّرس المنطقي قائمًا على عدّة كتب؛ لكن أهمُّها كان كتاب "الجمل للخونجي" الذي كان مسيطرًا على درس المنطق سيْطرة تامة؛ حيث شرحه تأليفًا عدد من العلماء، منهم : المقري الجد (759) والشريف التلمساني (ت:771) وسعيد العقباني (ت:811) وابن مرزوق الحفيد (ت:842) ومحمد بن العبّاس (871) والمغيلي (ت:899) والسَّنوسي(51).  
   ويتلوه كتاب "إيساغوجي" وكان ممن شرحه السّنوسي والقلصادي (ت:891) (52)، ثم مختصر ابن عرفة وكان ممن شرحه السنوسي، وبعده السُّلَّم المرونَق وممن درّسه أحمد بن عيسى الورنيدي(53) وألّف السَّنوسيُّ مختصره وبدأ شرحُه في عصره على يده ويد تلاميذه (54).
   ومن علماء تلمسان الذين كان لهم مزيد عنايةٍ بالمنطق -إضافة للسَّنوسيِّ- محمد بن عبد الكريم المغيلي الذي سبق أنَّه شرح الجُمل، وله مقدّمةٌ في المنطق ونظمٌ اسمه "منح الوهاب" وضع عليه ثلاثة شروح (55).
الفرع الثاني: إسهام السنوسي في علم المنطق
   من أشهر علماء تلمسان عنايةً بعلم المنطق الإمام محمد بن يوسف السنوسي (ت:895)، فقد أسهم في تدريسه كما ذُكر في تراجم بعض تلاميذه (56)، ولعلَّ مما كان يدرِّسه مؤلَّفاته في علم المنطق وهي خمس مؤلَّفات كاملةٍ.
1-مختصر في علم المنطق وقد زَاد فيه زيادات على الجمل للخونجي، وقد صار هذا المختصر أهمَّ كتب التَّدريس في ذلك العهد وما تلاه (57).
2- شرْحُ المختصر في علم المنطق، وهو شرحٌ لكتابه السابق(58).
3-شرْحُ جمل الخونجي (ت:646) في المنطق، قال الملالي:" رأيتُ منه كراريس بخطِّه لا أدري هل كمَّله أم لا "(59).
4-شرْحُ مختصر ابن عرفة (ت:803) في المنطق، وقد وجد السَّنوسيُّ صعوبة في حَلِّ عباراته، وكان يستعين عليه بالخُلوة، ونقل الملَّالي عنه أنّه لم يُكْمله لكثرة الأشغال وضيْق الحال (60).
5- شرْحُ إيساغوجي في المنطق لأثير الدين المفضل بن عمر الأبهري (ت:663) ومنه عدَّةُ مخطوطات في الجزائر وتونس ومصر (61).
المطلب الثالث : أثر المنطق في مؤلَّفات السنوسي وأسبابه
الفرع الأول : أثر المنطق في مؤلَّفات السنوسي
   لقد كان لعناية السَّنوسيِّ بعلم المنطقِ أثرٌ واضحٌ في أكثر مصنَّفاته وجَميع الموضوعات التي طَرقَها، فأمَّا المؤلَّفات العقدية فالأمر أوضح من أنْ يدلَّل عليه، وقد سبقَ أنّ السَّنوسيَّ قد حَصرَ البُرهان المُفيد لليقين في باب الاعتقاد في البُرهان المنطقي، فلا حاجة للتَّمثيل لذلك، ولكنْ نُدلِّل على إعماله للمنطق في علوم الوحي وهي التفسير وشرح الحديث بإيراد نماذجَ من ذلك، فأمَّا التفسيرُ فتأمَّل قوله -وهو يقرِّرُ الفرقَ بيْن الرحمن والرحيم- : "ويحتمل أنْ يكون الإنعام بجلائل النِّعم المدلول عليها بوصف الرحمن يستلزم الإنعام بدقائقها، لكنْ دلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام" (62). وانظر قوله في موضعٍ آخر:"وركَّب بعضهم من هذا ومن قوله تعالى:  (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (البينة: 7) إلى (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (البينة: 8) قياسًا من مقدمتين ونتيجة، المقدِّمة الأولى: خيْر البرية من يخشى الله، والثانية: من يخشى الله تعالى هم العلماء بالله تعالى؛ فينتج: العلماء بالله هم خير البرية، وهو استنباطٌ حسنٌ صحيحٌ" (63).  
    وأمَّا الحديث فإليك قوله في شرح صحيح مسلم:"قوله كلُّ مسكر خمر، وكلُّ مسكر حرام، هذا الترتيب من الضرب الأول من الشكل الأول، ونتيجته كلُّ مسكر حرام، وفيه اندراج الصغرى تحت حكم الكبرى، وللمازري كلام في هذا المحل يدلُّ على ضعفه في علم المَنطق أو أنّه لا يَعرفه أصلا" (64). وذلك أنَّ المازري -وهو من منكري هذا العلم- وبعد أنْ شرح المقدمتين بإسهاب قال في شرحه:"وهذا القياس واضح لهذا الأصولي في موضع أو موضعين من الشريعة، فإنّه لا يستقيم في سائر أقيستها، ومعظم الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك...وإنّما نبّهنا على هذا لمَّا رأينا بعضَ المتأخرين صنَّفَ كتابًا أراد أنْ يردَّ أصول الفقه لأصول المنطق" (65).
الفرع الثاني : أسباب شدَّة تأثر السنوسي بالمنطق
   إنّه قد ظهر لنا من خلال النظر في إسهام التلمسانيين في علم المنطق شدَّة عنايةِ السَّنوسيِّ بهذا العلمِ، وكذلك إذا نظرنا إلى مؤلَّفاته –ومنها شرح البخاري – نجدُ حرصًا كبيرًا على توظيف مصطلحات المنطقِ وتحكيمِ قواعدِهِ، الأمرُ الذي يدعو إلى التساؤُل عن سِرِّ هذه العناية الزائدة، وأسباب هذا التأثُّر الشّديد بالمنطق عند السَّنوسيِّ رحمه الله، ولعلَّ أهمَّها ما يأتي ذكره:   
أولا : نبوغه في هذا العلم منذ نعومة أظفاره
   إنّ السنوسي رحمه الله كان قد برع في علم المنطق منذ نعومة أظفاره في مرحلة الطلب؛ فقد أخذ هذا العلم عن أبي عبد الله محمد بن العباس العبادي التلمساني (ت:871هـ) المعروف بتمكّنه من هذا العلم، فكان ممّا قرأ عليه الجمل للخونجي؛ فأعجبَ الشيخُ بمدارسته حتى أنّه قال له يومًا من شدّةِ إعجابه بفهمه:"لا تقرأ عليَّ أنا الذي أقرأ عليك" (66).
ثانيا : شيوع تطبيق القواعد المنطقية في حلق العلم
    ومن أهمِّ أسباب هذه العناية فيما يظهر : المنهج العام لتدريس العلوم الشرعية في ذلك الزمان وخصوصا في تلمسان، حيث افتتن الناس بهذا الفن افتتانا عظيما، وجعلوا العلوم الشرعية كلَّها ميدانا لتطبيق قواعده، ومن دلائل فشوِّ هذا في حلق العلم ما وردَ على لسان محمد بن قاسم الرصاع (ت:894)؛ في تعقيبه على أجوبة علماء تلمسان في تفسير آية قرآنية:" وأمَّا ما ذُكر عن الشيخ الفقيه المفتي أبي العباس المذكور؛ فهو كلام فيه استعمال العلم والتصرف فيه بالقواعد المنطقية وغيرها من الأصول، لكن عندي أنّ الاستدلال على دعوى أنّ أحداً من الكفار لا يدخل في الأقسام المذكورة لا يُحتاج إليه، لأنَّ ذلك ضروري من الدين ولا يَجهلُ مثله إلا العليل، والنهار لا يفتقر إلى دليل، إلا أنَّ الاستدلال بأوّل ضرب من الشكل الثاني فيه تأنيس للطلبة وتعليم لكيفية التصرُّف بالعلم، وذلك حسن. وقد كنت ذات يوم جالساً بمجلس الشيخ الإمام سيدي أبي عبد الله محمد بن عقاب رحمه الله، وكان يُقرئ التفسير عند قوله تعالى: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) فقال بعضُ الحاضرين: يتركّب من هذا قياس حذفت فيه الصغرى، أصلها إنَّك رسول، والكبرى كل رسول لا يخاف، والنتيجةُ لا تخف. فقال الشيخ: هذا غير مُحتاج إليه، ولا يقصد من الآية، وإنما يُذكر ذلك للتمرين مع الطلبة" (67).
ثالثا: امتزاج المنطق بأهمِّ مصادر الدرس الأصولي في تلمسان
    إنَّ علمَ أصول الفقه هو علمُ أصول التفكير الإسلامي الذي يضبطُ قواعدَ فهم الكتاب والسنَّة والتصرُّف فيها؛ وقد قيل إنّ نسبة هذا العلم إلى علوم الشريعة كنسبةِ المنطق إلى علوم اليونان، ولكنْ في العصور المتأخِّرة امتزج علمُ الأصول بعلمِ المنطق امتزاجًا كبيرًا. وإذا نظرنَا في الكتب المُسيطرة على الدَّرس الأصولي بتلمسان والتي حظِيَت بالعناية الكبرى من علمائها؛ وجدْنا في مقدِّمتها مختصر ابن الحاجب (ت:646) (68)، ويتلوه التنقيح للقرافي(ت:684)(69). وهما كتابان قد ظهر التأثُّر البالغ فيهما بالمنطق في مقدِّماتهما ومصطلحاتهما وبناء حدودهما وبراهينهما؛ ومنه فلا شكَّ أنَّ عقلية من يتربَّى عليهما تكون ميّالة إلى إعماله في التَّفهيم والإقناع والتَّدريس والتَّأليف.
رابعا : مصادر السنوسي في التفسير وشرح الحديث
   من الأمور التي لا شكَّ أنّها صنعتْ توجُّهَ السَّنوسيِّ وميلَه إلى إعمال المنطقِ؛ منهجُ المصادر التي تعامل معها في مراحل تكوينه والمصادر التي رجع إليها عند تأليفه كتبَه؛ بمعنى أنّ السَّنوسيَّ لم يكنْ سوى واحدٍ من العلماء الذي أسهموا في دفْع هذا الاتجاه وهو متأثِّرٌ بطريقة بعضِ من سبقَه. ولعلَّنا لن نكون بحاجة للتمثيل لنماذج من مصادره الكلامية التي اشتهرت بذلك كمؤلَّفات الرازي (ت:606) وابن الدهَّاق (ت:611) والجرجاني (ت:618) والآمديّ (ت:631) وابن التلمساني (ت:644) والبيضاويّ (ت:685) والتفتازاني (ت:792).
  ولكن نؤكِّد أنَّه في علوم الوحي -وهي التَّفسير والحديث- أيضًا كان معتمدًا على كتبٍ سلكتْ مسْلَكَ المناطقة في التحليل والمعالجة، ولعلَّ أبرزَ الكتبِ التي اعتمدَ عليها تفسيرُ الفخرِ الرازيّ؛ وذلك في تفسيره للقرآن الذي شرع فيه ولم يكمله، والرازي أحد أساطين الفلسفة والمنطق؛ الذين كان لهم أثر كبير في تحويل منهج البحث في العلوم الإسلامية عن منحاه الصحيح.   
  وفي خصوص علم الحديث درايةً نجدُ مرجعين مهمَّين اعتمدَ عليهما السَّنوسيُّ رحمه الله الأول "إكمال إكمال المعلم" لمحمد بن خِلفة الأبِّي التونسي (ت:827) تلميذ ابن عرفة الورغمي وخريج مدرسته، ونحن على يقين من رجوع السَّنوسيّ إلى كتابه قبل تصنيفه للبخاري؛ حيث أنّه لخَّصه وعلَّق عليه في كتاب سماه "مُكمِّل إكمال الإكمال"، ومن نماذج إعمال الأبّي للمنطق في شرحه ما ذكره في شرحه لحديث:" طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي أربعة "، حيث قال:"لا يغالط ويقال الحديث على قياس الشكل الأول فينتج إنّ طعام الواحد كافي أربعة، فإنَّه لا ينتج ذلك لعدم اتِّحاد الوسط " (70). فعلَّق عليه السَّنوسيُّ في مكمِّله وقال:" وهذه المغالطة شِبْهُ المغالطة بقولهم الوتد في الحائط، والحائط في الأرض، وينتج الوتد في الأرض، والجواب بعدم اتِّحاد الوسط، إذ موضوع الكبرى متعلِّق محمولِ الصغرى لا نفس محمولها ". ومن النماذج أيضا مناقشة الأبِّي لعدول ابن الحاجب عن تعريف النكاح إلى ذكر الأركان، وقد وُجّه صنيعه بأنَّ معنى الحدِّ هو ذكر الأجزاء التي يتكوَّن منها؛ فأورد الأبّي على هذا التوجيه بأن المطلوب في الحدِّ هو الأجزاء العقلية لا الأجزاء الحسية كالحيوانية والناطقية بالنسبة للإنسان، وقد وردَ ذلك في مختصر السَّنوسيِّ (71).
   ومن المصادر التي أكثر السَّنوسيُّ من النقل منها في شرحه للبخاري كتاب "المتجر الربيح" لابن مرزوق الحفيد (ت:845)، وقد ظهرَ توظيفُ اصطلاحات المنطق وقواعد أهله عند ابن مرزوق جليًا، منها قوله في مناقشة زيادة الإيمان ونقصانه:" وأمَّا جعل تلك الأشياء له، يعني الإيمان كما اقتضاه جرّه؛ فتُمكن زيادته ونقصه بها لا في حقيقته، وهو مذهب أهل الحق، ومذهب البخاري واحتجاجه به، على أنه يقال للماهية ذاتيات وعوارض والمراد من غير زيادة " (72). ومنها تعليقه على قول بعضهم في أركان الإيمان:" إنْ قيل إنّ الأربعة مبنيةٌ على الشهادة؛ إذ لا تصحُّ إلا بها، فكيفَ ضُمَّ مبنيٌّ إلى مبنيٍّ عليه في مسمى واحد. قيل المجموع غيرٌ من حيث الانفراد عينٌ من حيث الجمع، كبيت من الشَّعر على خمسةِ أعمدةٍ أحدها وسط وغيره أركان، فإذا سقط الوسط سقط مسمى البيت، وما دام قائما وجد مسمَّاه، ولو سقط غيره من الأركان، فالبيت بالنظر إلى مجموعه واحد وإلى أفراده أشياء أيضا، فبالنظر إلى أُسِّهِ وأركانه، الأسُّ أصلٌ والأركانُ تبعٌ وتكملةٌ.
فأجاب ابن مرزوق:"وبناء هذا الكلام ضعيف الأساس مختلُّ التنظير، لا يسع فيه إلا المسامحة، ولأنَّه يشير إلى ما يقوله أهل المنطق من الفرق بين مجموع تصوُّرات وتصوُّر المجموع، كما في الفرق بين الحدِّ والمحدود" انتهى. وعلَّقَ السَّنوسيِّ : وقوله : إنْ هُدم الركن بقي البيت لا يخفى ضعفه، فإنَّ الماهيةَ تنعدمُ بانعدام ركن منها ولا توجد إلا بجميع الأركان" (73). وغير هذه مواضع سننقلها في المبحث الثاني بإذن الله تعالى.


المبحث الثاني : شرح صحيح البخاري للسنوسي وأثر المباحث المنطقية فيه


    لقد اخترت للدِّراسة التطبيقية التي نوضّح فيها مقدارَ توغُّل علم المنطق في علم الحديث درايةً كتاب شرح صحيح البخاري للسَّنوسي، وذلك لصغر حجمه وإمكانية حصر المواضع التي وُجِدَ فيها توظيف مصطلحات المنطقِ وقواعدِهِ، ولعلَّ هذا المجال المختار يكون أدقَّ في إثمار النتائج من أخذِ عينات منتخبةٍ من كتاب كبيرٍ نحو مكمِّل إكمال الإكمال.
المطلب الأول : التعريف بشرح البخاري للسنوسي ومنهجه فيه
الفرع الأول : التعريف بشرح البخاري للسنوسي
    لقد تعدَّدت الفنون التي شارك فيها السَّنوسي بالتأليف؛ ففضلا عن العقيدة التي بها اشتهر والمنطق الذي سبق الحديث عنه، فقد ألَّف في الفقه والفرائض والسلوك والفلك، وألّف في تفسير القرآن وشرح الحديث النبوي، ومن مؤلفاته في الحديث ما كان متعلقا بالصحيحين كشرح صحيح مسلم المسمى مكمِّل إكمال الإكمال الذي طبع قبل مدة طويلة في حاشية أصله إكمال الإكمال للأبي، وكشرحه على صحيح البخاري الذي وصل فيه إلى باب: من استبرأ لدينه(74) مما يعني أنّه شرحَ اثنين وخمسين حديثًا، وهو محقّق إلى باب حلاوة الإيمان والحديث السادس عشر، في دراسة جامعية في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر (75). وقد علمتُ أنّه صدرَ عن دار الوعي بالجزائر في ثلاث مجلَّدات لكن لم اطّلع عليه.
    وهذا الشرح غيرُ كتاب مشكلات البخاريِّ؛ الذي أفرده فقط لتأويل أحاديث الصفات الواردة في كتاب التوحيد، وهو آخر كتاب في صحيح البخاري، وقد أورد الملَّالي (ت:898) كتاب المشكلات بكماله في المواهب القدُّوسية (76)، وهو مطبوع، وهو أيضا غيرُ مختصره لشرح الزركشي(ت:795) على البخاري، وقد أشارَ بعضهم إلى وجود نسخةٍ من هذا الأخير في المغرب الأقصى(77).
الفرع الثاني : منهج السَّنوسي في شرحه
   نحاولُ بعد التَّعريفِ بكتاب السَّنوسيِّ أنْ نُبيّن منهجَه العام في هذا الشرح بالاستعانة بدراسة محقّقه، فنقول إنَّ السَّنوسيَّ بعد أنْ قدّم بمقدمة بيّن فيها فضل علم الحديث وفضل كتاب صحيح البخاري، وعرَّفَ بمؤلِّفه ومنهجِه فيه، وضمَّن ذلك المفاضلة بينه وبين صحيح مسلم، سار في شرحه على المنوال الآتي:
-ميَّزَ كلام المتن عن كلامه فجعل لكلام للبخاري وأحاديثه الرمز "ص"، وصدر كلامه في الشرح بالحرف "ش"، وقد اهتم في توثيق النص بمقابلة نسخ الصحيح وبيان الفروق بينها .
-ترجمَ للصحابي راوي الحديث أحيانا، كما تكلَّمَ عن بقية الرواة مبينا درجتهم حينا أخرى (78).
-اهتمَّ كثيرا بالناحية اللغوية؛ حيث كان يبدأ بالإعراب وكثيرا ما يُبيّن الجوانب البلاغية (79).
-حلَّلَ الحديث تحليلا لغويا؛ وربما أطال في شرح معانيه من هذه الناحية (80).
-اعتنَى بالاستنباط من الحديث واستخراج المسائل الفقهية؛ كما سلك المنهج الجدلي أحيانا باعتماد الفنقلة (81).
-وقد ظهرت عنايةُ السَّنوسيِّ بالمنطق وتطبيق قواعده ومصطلحاته في هذا الشرح بشكل بارز؛ حتى استعمل المحقِّق عبارة بالغ فيها حين قال:" إنَّه الصبغة العامة والشاملة لتقريرات الإمام" (82).
-غلبَ على شرحه كثرة النقول عن المصادر التي يذكرها أحيانًا صراحةً، ويبهمها أحيانًا فيقول قال بعضهم، ولعلَّ أهمَّ مصدر اعتمد عليه وتكرَّرَ النَّقلُ عنه كثيرا في هذه القطعة من الكتاب؛ هو "المتجر الربيح" لابن مرزوق الحفيد (83).
المطلب الثاني : أثر مباحث التصورات في شرح البخاري للسنوسي
  مباحثُ علم المنطقِ منقسمةٌ إلى مباحثِ التصوّرات ومباحثِ التصديقات، والمقصودُ بمباحثِ التصوُّرات مباحثُ المعاني المفردة التي يتركَّبُ منها البرهانُ فيُمكنُ الحكمُ عليها، ومنه قيل الحكمُ على الشّيء فرعٌ عن تصوُّره، والحكم عند المناطقة لابدّ أن يتكوَّن من معنيين مفردين على الأقل، وقد تطرَّقوا في هذا القسم من العلم إلى الحدِّ وشروطه ومكوِّناته، والعلاقات بين الألفاظ، وكذا أنواعِ دلالة اللفظ ونحو ذلك من المسائل، وقد ظهر توظيف هذه المباحث جليّا في كتاب السَّنوسيِّ، ومن ذلك المواضع الآتية.
الفرع الأول : قواعد  الحد
   بعد أنْ بيَّنَ السَّنوسيُّ أنَّ قول البخاري في الإيمان "يزيد وينقص" يحتمل أنْ يكون نتيجة قوله: "هو قول وفعل" لأنَّ ما كان متكوّنا من أقوال وأفعال كثيرة، يزيد ضرورة بزيادتها وينقص بنُقصها. ثم أورد اعتراضا مفاده أنَّ "المركب لا تُدرك حقيقته إلا باجتماع جميعِ أركانِهِ التي تركَّبَ منها، فلا يُتصوَّر فيه زيادة ولا نقص، ولهذا يقول أهل المنطق لا يكون لشيء حدّان ذاتيان لأنَّه لا يُحدُّ إلا بجميع ذاتياته، فإذا حصلَت لم يُتصوَّر غيرها يُحدُّ به.
    ثمَّ أجابَ عن الاعتراض بقوله: "هذا البحث إنّما يكون في الحدود بالذاتيات وهي الحقيقة، لا فيها وفي العرضيات، كإنسانيْن وفرسيْن، أحدهما أكثر جواهر أو صفات عرضية والآخر ينقصُ عنها، ولا سيما على القول بأنَّ الذي يشير إليه كلُّ أحدٍ بقوله أنا هو الهيكل المخصوص، وإن كان الحقُّ خلافه".
    وبنى على هذا الجواب تقسيم الإيمان إلى معان ذاتية وأخرى عرضية، ثم حصرَ الزيادةَ والنقصَ في العرضيات فقال :"ومن هنا كان الحقُّ في الإيمان أنّه لابدَّ له من حقيقة بها يحكم على المتَّصفِ بها بأنَّه مؤمن، وما دونها لا يجبُ لمن اتَّصفَ به كونه مؤمنا، هذه لا تقبل النقص...وأمَّا زيادته فبالعرضيات من زيادة التَّصديق بحكم أو اتِّصاف بعبادة من فروع الدين، أو زيادة استحضار التَّصديق ودوام المراقبة، ونحو ذلك من الأمور المضافةِ للإيمان والدين" (84).
   وهنا نرى أن مُسبِّب الإشكال قاعدةٌ اصطلاحية لأهل المنطق؛ مفادها أنَّ الحد لا يكون إلَّا بالذاتيات، ورُكِّب عليها أنَّ الذاتيات لا تقبل الزيادة والنقصان، وجوابُ الإشكالِ أيضًا كان جاريًا على قواعدهم حيث حُصرَت الزيادة فيما اعتبره السَّنوسيُّ عرضيًا ولا يدخل في حقيقة الإيمان، لكنْ هذا الجواب والتَّوجيه مخالفٌ كلَّ المخالفة لمراد البخاريِّ رحمه الله وعقيدته المشهورة في حقيقة الإيمان، إذ حقيقته الشرعيةُ عنده تتضمَّنُ الأعمالَ القلبية والأعمالَ الظاهرة؛ وهي التي تكون بها الزيادة والنقصان، نحو المحبَّة من أعمال القلوب ونحو الصَّلاة من أعمال الجوارح، وهذه المعاني لا يمكنُ اعتبارها عرضيةً بل هي ذاتيةٌ في الإيمان، وتمام كلام البخاريِّ يوضِّحُ ذلك بجلاء بما ذكر من أدلةٍ وآثارٍ (85).
الفرع الثاني : أقسام اللفظ الكلي  
     أورد البخاري في مقام تقرير كون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قولَ مجاهد : «شرع لكم من الدين ما أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا» (86) فاستُشكِل وجهُ الربط بيْنَ كون الدين واحدا وبين كونه يزيد وينقص، لأنَّ المشترك بين الشرائع هو التوحيد، فقال السَّنوسيُّ في رفع الإشكال: "الظاهر صحَّة استدلال البخاري بالآية الأولى، ولا ينافيه ما نقل عن مجاهد فيها، لاحتمال أنْ يكون فَهِم أنّ المراد بقوله "دينا واحدا" الواحد بالجنس لا الواحد بالنوع أو الواحد بالشخص. والمعنى أنّ الذي أوصى الله سبحانه به الأنبياء كلهم عليهم السلام شيء واحد؛ وهو إقامة الدِّين المرادف للإيمان والإسلام؛ المحتوي على عبادات كثيرة، ويقبل الزيادة والنقصان، واختلاف الشرائع في أنواع ذلك الدين وأشخاصه؛ لا يقدحُ في اتِّحادها بالجنس، بلْ ذلك يدلُّ على كثرة أفرادها وقبوله الزيادة والنقصان، ولهذا ساقَ البخاري الآية الأخرى وتفسير ابن عباس لها" (87).
   وما أشار إليه السَّنوسي في آخر كلامه هو قول البخاري : "وقال ابن عباس: «شِرعةَ ومنهاجَا» سبيلًا وسنةً". ومعنى الاستدلال المركب كان السَّنوسي قد نقله قبل ذلك على لسان ابن مرزوق من أنَّ الآية الأولى التي تتحدَّثُ عن وحدة الدين كالجنس، والآية الثانية التي فيها اختصاص كلّ دين بشرعة كالفصول والأنواع، وقال: "فكلُّ شريعة فيها أصلُ الإيمان المشترك وفروعٌ تخصُّها" (88). وتعدُّدُ الفروع واختلافها موجبٌ للزيادة والنقصان.
    والذي نلاحظه هنا من نتيجة توظيف هذه المصطلحات هو تطويل الطريق للوصول إلى معان قريبة جدا وواضحة، وهو أن الدين الواحد -وهو الإيمان- قد اشتمل على أعمال متعددة أوصى الله تعالى بالمحافظة عليها؛ فهو في الدلالة مثل قوله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5] وهذا ما اكتفى بالإشارة إليه ابنُ رجبٍ وابنُ حجرٍ في هذا الموضع (89).
   ومثل هذا يلاحظ على قول السَّنوسيّ في شرح قول البخاري (باب أمور الإيمان) :" ...وروي "أمر الإيمان" إمَّا بتأويل الجنس الصادق على أنواعه والكلِّ الصادق على أبْعاضِهِ، والتقدير باب تعدُّدِ أمور الإيمان على حذفِ مُضافَيْن أي : وليس بشيء واحد خلافا لمن يرى ذلك" (90).
الفرع الثالث : دلالة اللفظ على المعنى
    قال السَّنوسيُّ رحمه الله:" وقول مجاهد :" أوصيناك يا محمد" تفسير منه لشَرَع، لأنَّ في الشريعة توصية بالتضمن والالتزام" (91). يقصد أنها تفسيرٌ لكلمة (شَرَع) من قوله تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) [الشورى: 13]، والأمرُ في هذا قريب محتمل، مع أنّ التوصية منصوصةٌ صراحة في قوله (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا)، فالآية دالَّةٌ عليها بالمطابقة.
الفرع الرابع : اللفظ المركب أو الكل والجزء
    قيل في تعريف الكلِّ:" فهو المجموع بجملته كأسماء الأعداد، والجزء: هو ما تركب الكلِّ منه كتركيب العشرة من اثنين في خمسة" (92). واللفظ المركب كما عرَّفه السَّنوسيُّ: "هو ما دلَّ جزؤه على جزء معناه" (93). وقد وظَّفَ السَّنوسيُّ هذا الاصطلاح حين أجاب عن اعتراض المعترض بأنَّ: "المَبنيَّ عليه غير المبنِي؛ فلا يلزم من كون القول والفعل بُني عليهما الإسلام أن يكون كذلك". حيث جعل البخاريُّ من أدلَّةِ تطابق الاسلام والإيمان أنَّ كلاهما يتضمَّنُ قولا وفعلا .
   فقال السَّنوسيُّ في الجوابِ:" إنْ عَنيتَ بغير المبني غير جملته فمسلَّمٌ، وإن عنيتَ غير جملته وأبعاضِه فممنوعٌ، فالإسلام جملة والمبنيُّ عليه أبعاضه، وكلُّ بعضٍ بانفراده مغاير للمجموع كمادة للمركَّب التي هي مفرداته، فإنّها مغايرةٌ لمجموعه الذي هو صورته وهيئته الخاصة به... والدماغ والقلب والكبد والأنثيان أصول أعضاء الجسم وهي منه إلى غير ذلك من الأمثلة، هذا إنْ لم يكن المعنى بُنيَ الإسلام على كذا أنّ هذا هو الإسلام" (94).
    والملاحظ هنا أيضا أنّ قواعد المنطق توجب إشكالات وتحتاج إلى إيضاحات، كان المتقدمون سالمين من تلك الإشكالات، وفي غُنيةٍ عن الإجابة عنها، ولذلك كانت شروحهم للحديث خاليةً من هذه المادة كلِّها.
المطلب الثالث : أثر مباحث التصديقات في شرح البخاري للسنوسي
   المقصودُ بمباحث التصديقات المباحثُ المتضمِّنةُ للأحكام، وفيه بيان للقضايا وأنواعها والقياس بنوعيه القياس الاقتراني وأشكاله، والقياس الاستثنائيِّ وشروط كلِّ نوعٍ وشكلٍ، وقد برز إعمال الأقيسة المنطقية في عدَّةِ مواضع من شرح البخاريِّ للسَّنوسيِّ، نبيِّنُها فيما يأتي:
الفرع الأول : قياس من الشكل الأول
   الشكل الأوَّلُ من أشكال القياس ما كان الحدّ الأوسط فيه محمولًا في الصغرى، موضوعًا في الكبرى، وشرط إنتاجه كلية كبراه وإيجاب صغراه (95)، وقد وجدنا السنوسي قد رتّب استدلالا على وفق أحد ضروب هذا الشكل؛ وهو يُبين وجه دلالة حديث على مراد البخاري؛ حيث ترجمَ لترادف الإيمان والإسلام، فقدّر السَّنوسيُّ في كلام البخاري مقدمةً معلومةً، وهي كلُّ ما كان قولًا وعملًا يزيد وينقص؛ فهو مرادف للإسلام وجعلها المقدمة الكبرى، وقدَّرَ مقدمةً أخرى تالية هي الصغرى، وهي الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ثم قال :"فينتج الإيمان مرادف للإسلام وهو دليل من الضرب الأوَّل من الشَّكل الأوَّل".
  لكن اعتمادُ البخاريِّ على هذا القياسِ غيرُ واضحٍ، ولذلك لمَّا جاء السَّنوسيُّ لتوضيحِ القياسِ ذكرَ أنَّ دليلَ المقدِّمة الصّغرى بُيّنَ في غير هذه التّرجمة؛ وهي النّصوصُ التي تدلُّ على دخولِ الأعمالِ في الإيمان، وقال عن دليل الكبرى إنّه واضح "إذ الإسلام هو الأقوال والأفعال التي طلبها الشرع، ولا ريب أنّه يقبلُ الزيادة والنقصان، ولوضوح هذه الكبرى وقُرْبها استحضارا ودليلا حذَفها". ومن كلامه نستنتج أنَّه لا حجَّةَ على اعتماد البخاري على هذا القياس، وإنّما هو مجرّد افتراضٍ وتخمينٍ، ولذلك قال السَّنوسيُّ بعدها: "يحتمل أن يكون أخذ ترادفَ الإيمانِ والإسلامِ هنا مسلَّما لوضوحِه عنده شرعًا وعرفًا، فلزم أنَّ خصالَ كلِّ واحدٍ منهما خصالُ الآخر؛ فلهذا أدخلَ أحاديثَ الإسلام في كتابِ الإيمانِ" (96).
الفرع الثاني : قياس من الشكل الثاني
    الشَّكْلُ الثاني من أشكالِ القياسِ هو ما كانَ الحدُّ الأوسط محمولًا في المقدمتين الكبرى والصغرى، وشرط إنتاجه كليةُ كبراه واختلاف كيف المقدمتين (97)، وقد تكلَّفَ السَّنوسيُّ إعماله حين أراد البرهنة على إطلاق الإيمان على التصديق، فقال رحمه الله :"فمن أدلَّةِ إطلاق الإيمان على تصديق القلب بدون الأعمال قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) (النحل: 106)(أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) (المجادلة:22) ووجه الدّلالة من هذه الآيات، إضافة الإيمان فيها إلى القلب، والأعمال ليست في القلب، فدلَّ ذلك على أنّها خارجة عن مسماه، وإن شئت نظْمه على قواعد المنطق، فنظمُه من الشكل الثاني أنْ نقول: الإيمان كائن بالقلب، ولا شيء من الأعمال بكائن بالقلب؛ فينتج لا شيء من الإيمان عمل".
     ولا يخفى التكلُّفُ واختلاف نتيجة القياس، وهي "أن الايمان لا شيء منه عمل" مع أصل المسألة التي تستفاد من الآيات وهي "جواز إطلاق الايمان على تصديق القلب دون عمل". ولعلّ سبب الخطأ هو المقدمة الكلية السالبة وهي الكبرى والتي جعل دليلها الاصطلاح (98) وهي "لا شيء من الأعمال بكائن بالقلب" إذ الأعمال منها أعمال الجوارح ومنها أعمال القلوب وهي كائنة في القلب، ونفيُ أعمال الجوارح لا يستلزم نفيَ أعمال القلوب، لكن شرط إنتاج الشّكل الثاني أنْ تكون كبراه كليةً، فكان يلزمه أن يجعلها على هذه الصفة لتكون منتجةً.
الفرع الثالث : قياس من الشكل الثالث
    الشَّكل الثالثِ من أشكال القياس، هو ما كان الحدُّ الأوسطُ موضوعًا في المقدمتين الكبرى والصغرى، وشرطُ إنتاجه إيجاب صغراه وكلية إحداهما ولا يُنتجُ إلا جزئيةً (99)، وقد أورد السَّنوسيُّ تطبيقًا لهذا القياس على لسان ابن مرزوق حيث علَّقَ في موضع منتقدًا البخاري الذي أورد في باب زيادة الايمان ونقصانه قوله :"والحب في الله والبغض في الله من الإيمان" (100) فقال: "يقتضي هذا أنّ النتيجة جزئية، لأنّه من الشّكل الثالث ولا ينتج إلّا جزئية، وترتيب القياس الحبُّ أو البغضُ إيمان، والحبُّ أو البغضُ في الله يتفاوت، فبعض الإيمان يتفاوت، وإنّما كان محمول الصغرى بعض الإيمان، لأن "مِن" في "مِن الإيمان" للتبعيض، ومثله الحياء شعبة من الإيمان. وأمَّا الكبرى فدليلها حسِّي، والجزئية أعمُّ من الكلية، وصدقُ الأعم لا يلزم منه صدقُ الأخص، فلا يلزم صدقُ كلّ الإيمان يزيد وينقص؛ الذي هو مطلوب البخاري".
    وجزئية النتيجة معلومة من المقدمة التي قدّر فيها التبعيض وجعل دليلها حسيا، فهذا القياس تطويل بلا معنى، والبخاري لم يكن مقيِّدا لفكره بهذه القيود، ومطلوبُ البخاري كليٌّ لا جزئيٌّ كما أشار إليه، وقد استدرك ابن مرزوق على نفسه فقال:"إلا أنْ يقال إنْ كان بعضه يزيد وينقص كان كلّه كذلك؛ إذ لا قائل بالفرق، لأنّ القائل قائلان: إما أنّه لا يقبلهما أو يقبلهما، ولا قائل بأن منه قابلا منه غيره، فإذا ثبت أن منه (قابلا) ثبت أنَّ جميعه كذلك؛ إذ لا مُفرّق..".
   ثم عاد لنقد القياس وتصحيح دلالة (مِن) التي حملها على البعضية وأنّ الأولى حملها على النوع منه؛ فيكون "الحبُّ في الله من الإيمان" كقوله "الحياء شعبة من الإيمان" وحينئذ يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها، لأنّه "لا يلزم من قبول بعضِ الحقيقة زيدًا ونقصًا؛ قبول مجموعها لهما" بخلاف "البعض الجزئي كالنوع مقابل الكليِّ، وهو الذي حملنا عليه الحديث فيزيد ذلك الكليُّ بزيادة تلك الأنواع، وينقصُ بنقصها" (101)، والذي أوقعنا في هذا الإشكال هو تكلّف إقحام القياس الأرسطي في فهم كلام البخاري رحمه الله، ولو اتبعنا دلالات الألفاظ العربية لاستغنينا عن كلِّ هذا الجدل الطويل.
الفرع الرابع : قياس استثنائي
   القياس الاستثنائي ما كانت فيه المقدمة الأولى -وهي الكبرى – شرطية، والتالية استثنائية، وشرط إنتاجه كون التالي لازم عين المقدم أو نقيضه (102).
   وقد علّق السَّنوسيُّ على المسألة الأخيرة المنقولة عن ابن مرزوق بقوله :"فيتركَّب القياسُ على ما قال الشيخ من القياس (الاستثنائي) وهو أسهل هنا من الاقتراني، فيُقال (كلّما) كان الحُبُّ في الله أو البغضُ نوع من أنواع الإيمان؛ فالإيمان يزيد وينقص، لكن المقدَّمُ حقٌّ بنص الحديث؛ فالثاني مثله، وبيان الملازمة ما أشار إليه الشيخ"(103). ويلاحظ زيادة عبارة "كلما" في كلام البخاري، ولعل الصواب فيها (ما) لأنَّ المقصود تصيير المقدّمةِ شرطيةً لتكون منتجةً .
الفرع الخامس : القضايا وعكسها
   وقد ورد في الكتاب إعمال مصطلحات منطقيَّةٍ متعلِّقَةٍ بعكس القضايا في فقه الحديث؛ ومن ذلك ما ورد نقلا عن ابن مرزوق في شرح حديث شعب الإيمان: "وكأنَّ في الحديث إشارةٌ إلى أنَّ الإيمان توحيد وترك ما يضرُّ؛ إمّا معنى كغير التوحيد... وإمّا حسًّا كإماطة الأذى من الطريق، ومقتضى عكسُ نقيضه الموافق أنَّ ما لا يضرُّ لا تجب إزالته"(104).
   وهو استنتاجٌ معلومٌ من غير هذا الحديث، ودلالةُ الحديثِ على المعنى بمفهوم المخالفة الذي هو أحد مباحث الأصول، والوصف المشعر بالعلّية لا ينبغي أنْ يُختلف في حجِّيَةِ مفهومه.
   ويَقترب من هذا المعنى مناقشةُ ابن مرزوق أقوال المختلفين في الحياء، هل هو محمود بإطلاق أو منه المذموم والمحمود؟ حيث جعل الخلاف لفظيا باعتبار أنَّ الفريق الأول نظر إلى المعنى في الشرع، والفريق الثاني نظر إلى المعنى في اللغة، ثم قال:" وعلى هذا فالحياء المحكوم عليه في القولين عام، والقضية كلّية لكن الأوّلَ حمله على اللغوي، والمجيبُ على الشرعي"، والمعنى مُتَّضحٌ من دون هذا التَّخريج المنطقيِّ، وقد أورده للرّد على تخريج منطقي آخر للخلاف؛ وهو قول من قال: إنَّ القضية في الحياء خير، إنْ كانت في الحياء للعموم فهي كلِّيةٌ، والعام مخصوص بما اعترض عليه، وإنْ لم تكن فهي مهملة في قوّة الجزئية، والجزئيتان لا تتناقضان"، قال ابن مرزوق: "وهو ضعيف لأنّ تأكيد الخبر بكلّه -على ما في بعض طرق مسلم- دليل على أنّه للعموم والقضية كلّية، وادعاء التَّخصيص مع التَّأكيد غير مستقيم. ومعنى الحديث كلُّ حياءٍ شرعيٍّ أي مأمور به شرعًا خيرٌ دائما فلَا يصدقُ في نقيضه؛ ليس بعضُ الحياءِ الشرعيِّ خير بإطلاق "(105)، ومَا نقلَه المُصنِّفُ لا شكَّ أنَّه يُعبِّر عن منهجه في الكتاب وإذا أقرَّه نُسبَ إليه مضمونُهُ.

 
خاتمة


     نأتي في نهايةِ هذا البحثِ إلى تسجيلِ أهمِّ النتائج المتوصَّلِ إليها والتِّي خلاصتُهَا في النُّقَطِ الآتية:
1-لقد كانت بدايةُ الانفتاحِ على المنطق على يدِ النُّحاةِ المعتزلة ومن تأثَّر منهم بالفلاسفةِ؛ كابن السرَّاج والفارسيِّ والرمانيِّ، وأمَّا علمُ أصول الفقه وعلمُ أصول الدين؛ فمنْ أوائلِ منْ أقحم فيهما المنطقَ أبو الحسين البصريِّ من المعتزلة، وأبو المعالي الجوينيِّ من الأشاعرة.
2-لم يزلْ المنطقُ يتوغَّلُ في العلوم الإسلامية قرنًا بعد قرنٍ، حتى ولجَ جميعها، وفي المغرب الإسلاميِّ تأخَّرَت العنايةُ به إلى القرنِ السادس الهجري؛ ولمْ ينتشرْ الانتشارَ العامَّ إلا في القرن السابع، وكان إسهامُ التلمسانيين في حركةِ التَّأليفِ فيه واضحا، وإسهامُ السَّنوسيِّ كان أشدَّ وضوحًا.
3-ترجعُ شدَّةُ ولوع السَّنوسيِّ بالمنطقِ إلى عدَّةِ أسبابٍ هي: نبوغُهُ في هذا العلم منذ نعومة أظفاره، وشيوع تطبيق القواعد المنطقية في حلقِ العلمِ، وامتزاجُ المنطقِ بأهمِّ مصادر الدَّرس الأصولي في تلمسان، ويرجع أيضا إلى مصادر تكوين السَّنوسيِّ ومصادر تآليفه في العقيدة والتفسير وشرح الحديث.
4-لقد شملَ مجالُ الدِّراسةِ التطبيقية قطعةً من شرحِ صحيح البخاري، فيها شرحُ نحوِ ستةَ عشرةَ حديثًا، ومع تضييق مجال الدراسة؛ فإنَّ المادةَ المتعلِّقةَ بالمنطقِ كانتْ غزيرةً؛ غطَّتْ أهمَّ مسائله في جانب التصوُّرات وكذا في جانب التَّصديقات، وقد كان مجموعها نحوُ اثني عشرةَ اقتباسًا بعضها طويلٌ جدًا.
5-من المباحث التي تمَّ توظيفُها من قسم التصوُّرات قواعد الحدِّ؛ حيث وجدنا التَّأكيدَ على التفريق بين الذاتيات والعرضيات، وأنَّه لا يكون للشيء الواحد حدَّان ذاتيان، ومنها أقسامُ اللفظ الكليِّ ومراتبه؛ حيث وجدنا توظيفَ مصطلحات الأجناس والأنواع والفصول والأشخاص، ومنها دلالةُ اللفظ على المعنى حيث وجدنا الحديث عن دلالة التضمن والالتزام، كما وجدنا أيضا بناءً على الفرق بين الكلِّ والكلِّيِّ والجزءِ والجزئِيِّ.  
 6-وفي المباحث المتعلقة بالتصديقات وجدنا توظيفًا لقواعد القضايا في فهم النص الشرعي، كعكس القضايا وعدم تناقضها، كما وجدنا إعمالًا للقياس الأرسطي؛ فكان منها نموذجٌ للقياس الاستثنائيِّ، وثلاثةُ نماذجَ للقياس الاقترانيِّ موزّعةٌ على الشَّكل الأول والثاني والثالث.
7-لقد ظهرَ لنا من خلالِ هذا البحثِ كثافةُ استعمالِ قواعدِ المنطقِ، ممَّا يجعلُ فهم القارئ لمحتوى كتاب -شرح صحيح البخاري- متوقِّفا على تحصيله لهذا الفنِّ.
8-كما أنَّنا من خلال تحليلِ بعض تلك النماذج قد لمسنَا عُقمَ المنطقِ الأرسطي؛ الذي لم يكنْ له من دورٍ سوى تطويلِ طريقِ الوصولِ إلى نتائجَ معلومةٍ، وربَّما أوصلنا أحيانا إلى عكسِ مرادِ البخاريِّ أو ضدِّ مدلول النصوصِ، وذلك بسبب غلطٍ أوجبه تكلُّف تكييف المقدمات كمًّا وكيفًا لتصير من الضُّروب المنتجةِ.
9-وهذه الكثافةُ كانت في تقديري على حساب إعمال قواعدِ أصولِ الفقهِ، الأمر الذي يوصلنا إلى نتيجةٍ أعمَّ؛ وهي أنّ عقمَ التفكير الإسلامي في عصور الانحطاط لم يكن سببه علم أصول الفقه، ولكن كان من أسبابه مَنْطَقة علم الأصول نظريًا، وإحلالُ علمِ المنطقِ مكانه عمليًا؛ مما جعلَ تعاملَ العالم مع نصوصِ الكتاب والسُّنةِ سطحيًا يقفُ في أكثر الأحيان عند حدودِ المناقشاتِ اللفظيةِ العقيمةِ دون نفوذ إلى مقاصدها ومراميها العلمية والعملية، والله تعالى أعلم .  


الهوامش
(1) الملالي، المواهب القدُّوسية تحقيق علال بوربيق، دار كردادة الجزائر،ط-2011 (ص:43).
(2) انظر : ابن مريم، البستان بذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، تحقيق محمد بن أبي شنب، المطبعة الثعالبية، الجزائر، ط- 1908، (ص:244) مخلوف، شجرة النور الزكية، دار الكتاب العربي، بدون (ص:266)
(3) الملالي، المرجع السابق (ص:43، 45، 293)
(4) التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، تحقيق عبد الحميد عبد الله الهرامة، دار الكاتب، طرابلس، ليبيا، ط2- 2000 م (ص:571) الملالي، المرجع السابق (ص:65-66)
(5) الملالي، المرجع السابق (ص:77)
(6) الملالي، المرجع السابق (ص:53، 71) ابن صعد، النجم الثاقب فيما لأولياء الله من مفاخر المناقب، تحقيق محمد الديباجي، دار صادر بيروت، الطبعة1-2011 (ص:52)
(7) الملالي، المرجع السابق (ص:66، 71) ابن صعد، المرجع السابق (ص:52).
(8) الملالي، المرجع السابق (ص:71) التنبكتي،المرجع السابق (ص:371)
(9) الوادي آشي، الثبت، تحقيق عبد الله العمراني، دار الغرب الاسلامي بيروت،الطبعة1- 1403هـ(ص:439)، الملالي، المرجع السابق (ص:333)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:127)
(10) الملالي، المرجع السابق (ص:54، 55-56)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:342).
(11) الملالي، نفسه(ص:55)
(12) ابن صعد، المرجع السابق (ص:52)، التنبكتي،المرجع السابق (ص:574).
(13) الملالي، المرجع السابق (ص:50-51، 52-53، 54)
(14) الملالي، نفسه(ص:48، 55)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:574).
(15) الملالي، المرجع السابق (ص:309)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:568).
(16) التنبكتي، المرجع السابق (ص:564)
(17) ابن القاضي المكناسي، جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام بمدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط-المغرب، ط-1973م (ص:128-129)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:130-132)، ابن مريم، المرجع السابق (ص:45-47)
(18) التنبكتي، المرجع السابق (ص:575)، مخلوف، المرجع السابق (ص:268)
(19) ابن عسكر، دوحة الناشر لمن كان بالمغرب من أهل القرن العاشر، تحقيق محمد حجي، مطبوعات دار المغرب الرباط، ط2-1397، 1977 (ص:121) التنبكتي، المرجع السابق (ص:579)
(20) التنبكتي،المرجع السابق (ص:584-585)، ابن مريم، المرجع السابق (ص:247، 259).
(21) الملالي، المرجع السابق (ص:368، 369) و(363).
(22) الملالي، المرجع السابق (ص:343-344) و(363).
(23) التنبكتي،المرجع السابق (ص:572)، مخلوف، المرجع السابق (ص:266)
(24) الملالي، المرجع السابق (ص:365).
(25) الملالي، نفسه (ص:362) التنبكتي، المرجع السابق (ص:571)
(26) الملالي، نفسه (ص"555-557، 115).
(27) ابن عسكر، المرجع السابق (ص:121، 122).
(28) ابن القاضي، درة الحجال في اسمال الرجال، تحقيق محمد الأحمدى أبو النور، دار التراث (القاهرة) - المكتبة العتيقة (تونس)، ط1- 1391 هـ ، (ج2/ص:141).
(29) ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر، تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط2- 1408 هـ- 1988 م (ج1/ص644).
(30) الغزالي، معيار العلم، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، ط-1961 م (ص:44).
(31) التهانوي،كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم،تحقيق علي دحروج، ترجمة عبد الله الخالدي، مكتبة لبنان ناشرون – بيروت، ط1 - 1996م (ج1/ص 44).
(32) ابن قتيبة، أدب الكاتب، تحقيق محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بدون (ص9).
(33) الجويني، التلخيص في أصول الفقه، تحقيق عبد الله النيبالي، مكتبة الباز ط1-1417، (ج3/ص152)، الباقلاني، التقريب والإرشاد، تحقيق عبد الحميد أبو زنيد، مؤسسة الرسالة ط2-1418 (ج1/ص68).
(34) الباجي، إحكام الفصول، تحقيق عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي ط2-1415، (ج2/ص536).
(35) علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، دار المعرفة الجامعية ط3-1999 (ص180) وانظر: ابن تيمية، شرح العقيدة الأصفهانية،تحقيق حسنين مخلوف، دار الكتب الحديثة مصر بدون (ص114).
(36) محي الدين محسَّب، الثقافة المنطقية في الفكر النحوي نحاة القرن الرابع الهجري نموذجا، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الرياض، ط1-2007، (ص: 53).
(37) سليمان بن علي الضحيان، الاعتراض المنطقي على الحد النحوي، مجلة جامعة أم القرى لعلوم اللغات وآدابها، العدد السابع محرم 1433 يناير 2012م، (ص: 17).
(38) انظر: وائل بن سلطان الحارثي، علاقة علم أصول الفقه بعلم المنطق، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، ط1-2012م، (ص339-340).
(39) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع ابن قاسم، المكتب التعليمي السعودي بالمغرب، بدون، (ج9/ص184)، علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام (ص89-91).
(40) الغزالي، المستصفى في أصول الفقه، تحقيق محمد الأشقر، مؤسسة الرسالة ط1-1417 (ج1/ص45)، الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق جميل صليبا، دار الأندلس بيروت ط11-1983، (ص103).
(41) انظر: يعقوب الباحسين، طرق الاستدلال ومقدماتها عند المناطقة والأصوليين، مكتبة الرشد ط3-1426، (ص:23)،عبد السلام بن محمد، التجديد والمجددون في أصول الفقه، المكتبة الإسلامية القاهرة ط2-1425 (ص:175).
(42) مسعود فلوسي، مدرسة المتكلمين ومنهجها في دراسة الأصول، مكتبة الرشد ط1-1425 (ص:332).
(43) القرافي،نفائس الأصول في شرح المحصول،تحقيق عادل عبد الموجود، مكتبة نزار الباز ط1-1416 (ج9/ص 3833).
(44) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، ط2-1402م (ج4/ص119)، وانظر: التفتازاني، شرح التلويح على التوضيح،دار الكتب العلمية بيروت ط1-1414، (ج1/ص20-21)، البناني، حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع دار الفكر بيروت، ط-1424م (ج1/ص22)، العطار، حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع دار الكتب العلمية بيروت بدون (ج1/ص32).
(45)جلال محمد عبد الحميد موسى، نشأة الأشعرية وتطورها،دار الكتاب اللبناني بيروت، بدون، (ص:409-410).
46-الجويني، البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم ديب ، مطابع الوفاء المنصورة 1991م (ج1/ص104) وانظر:حمد بن عبد اللطيف آل عبد اللطيف منهج إمام الحرمين في العقيدة، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الرياض، ط1-1414، 1993م، (ص:220).
(47) الآمدي، أبكار الأفكار، تحقيق أحمد المهدي، دار الكتب والوثائق القومية، ط2-1424م (ج1/ص208-214)، الرازي، نهاية العقول في دراية الأصول للرازي، تحقيق سعيد فودة، دار الذخائر بيروت، بدون (ج1/ص124-154).
(48) السنوسي، السنوسية الكبرى وشرحها، تحقيق بلكرد بوكعبر، دار البصائر، الجزائر،ط-2011 (184).
(49)عبد العزيز الفيلالي، تلمسان في العهد الزياني، موفم للنشر الجزائر-2007م (ص:476).
(50)عبد العزيز الفيلالي، المرجع السابق (ص:476-477).
(51) انظر: ابن مريم، المرجع السابق(ص:163، 173، 106، 210،  223).
(52) كما ألف القلصادي شرح تنبيه الانسان إلى علم الميزان كما في ابن مريم، المرجع السابق (ص:142).
(53)ابن مريم ، المرجع السابق (ص:24).
(54) ممن درسه محمد بن أبي مدين كما في ابن مريم، مرجع سابق (ص:259).
(55) ابن مريم، المرجع السابق (ص:255).
(56) انظر ترجمته في: ابن مريم، المرجع السابق (ص:276-279، 305-307)
(57) أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي دار الغرب الإسلامي ، ط1-1998 (ج1/ص119، 352).
(58) الملالي، المرجع السابق (ص:362) وقد حققه اسعيد أعليوان في جامعة الجزائر لنيل الدكتوراه الحلقة الثالثة.
(59) الملالي، المرجع السابق (ص361) التنبكتي، المرجع السابق (ص:572).
(60) الملالي، المرجع السابق(ص:361) التنبكتي، المرجع السابق (572).
(61) في الملالي، المرجع السابق (ص:361) أنّ المتن لأبي الحسن البقاعي (ت:885) وانظر باجي عبد القادر، إدرار الشموس على حياة وأعمال السنوسي، دار كردارة الجزائر، ط-2011 (ص:439-443).
(62) الملالي، المرجع السابق (ص:383، 385) السنوسي ، المنهج السديد المنهج السديد في شرح كفاية المريد للسنوسي، تحقيق مرزوقي، دار الهدى عين مليلة بدون، (ص:80 ، 334).
(63) السنوسي، العقيدة الوسطى وشرحها،تحقيق السيد يوسف أحمد، دار كردادة الجزائر ط-2011 (ص:75).
(64) السنوسي،مكمل إكمال الإكمال،دار الكتب العلمية بيروت بدون، (ج5/ص 323-324).
(65) الأبي، إكمال إكمال المعلم،دار الكتب العلمية بيروتبدون، (ج5/ص323- 324).
(66) الملالي، المرجع السابق(ص55)
(67) الونشريسي، المعيار المعرب، تحقيق محمد الحجي دار الغرب الإسلامي ط1-1401هـ، (ج11/ص 319).
(68) القلصادي، رحلة القلصادي،تحقيق محمد أبو الأجفان، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، ط- 1978م،(ص:102، 104، 117)، التنبكتي، المرجع السابق،(ص:190، 119،369، 575، 585)، المراغي، الفتح المبينفي طبقات الأصوليين، المكتبة الأزهرية للتراث 1419هـ، (ج3/ص:6، 18،19،33،41،57،87،94)، ابن مريم، المرجع السابق (ص:106، 205-206، 222، 43، 251).
(69) القلصادي، المرجع السابق (ص:87، 100، 117، 122) التنبكتي، المرجع السابق (ص127)، ابن مريم، المرجع السابق (ص:205-206) المراغي، المرجع السابق (ج2/ص129 ،152 ،220) (ج3/ص:44)، مخلوف، المرجع السابق (ص:219 ،259).
(70) الأبي، المرجع السابق (ج5/ص 364).
(71) الأبي، المرجع السابق (ج4/ص 3).
(72) السنوسي، شرح صحيح البخاري، تحقيق بن عزوز عبد الله، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في تخصص الكتاب والسنة من قسم العقائد والأديان، عام 1431-1432، الموافق 2011-2012م (ص:172).
(73) السنوسي، المرجع السابق (ص:211-212).
(74) الملالي، المرجع السابق (ص:359) ، التنبكتي،المرجع السابق (ص:572)
(75) صاحب التحقيق وضع في العنوان إلى باب علامة الإيمان حب الأنصار.
(76) الملالي، المرجع السابق (ص:359-360) التنبكتي، المرجع السابق (ص:571).
(77) الملالي، المرجع السابق (ص:360)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:571) باجي عبد القادر، المرجع السابق (ص496).
(78) انظر: بن عزوز عبد الله، شرح صحيح البخاري قسم التحقيق (ص:93، 96).
(79) انظر: بن عزوز عبد الله، المرجع السابق (ص:92، 93).
(80) انظر: بن عزوز عبد الله، نفسه (ص:93، 94).
(81) انظر: بن عزوز عبد الله، نفسه (ص:96).
(82) انظر: بن عزوز عبد الله، نفسه (ص:92، 93، 95).
(83) انظر: بن عزوز عبد الله، نفسه (ص:94، 95).
(84) السنوسي، المرجع السابق (ص:121-122).
(85) البخاري ، صحيح البخاري تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1- 1422هـ (ج1/ص:10).
(86) البخاري ، المرجع السابق (ج1/ص:10).
 (87) السنوسي، المرجع السابق (ص:192).
(88) السنوسي، نفسه (ص:191).
(89) ابن رجب ، عبد الرحمن بن أحمد، فتح الباري شرح صحيح البخاري، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية ، ط1-1417، (1/18) وابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق محب الدين الخطيب، دار المعرفة بيروت، ط-1379 (1/48)
(90) السنوسي، نفسه (ص225-226).
(91) السنوسي، نفسه (ص192).
(92) ابن جزي، تقريب الوصول دار الكتب العلمية، بيروت ، ط1-1424 هـ - 2003 م (ص:146).
(93) السنوسي، مختصر في المنطق، تحقيق الدكتور ماحي قندوز، دار كردادة الجزائر، ط-2011(ص:169).
(94) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص/120).
(95) السنوسي، مختصر في المنطق (ص:178-179).
(96) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص:118-119).
(97) السنوسي، مختصر في المنطق (ص:179).
(98) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص131-132).
(99) السنوسي، مختصر في المنطق (179).
(100) البخاري، المرجع السابق (ج1/ص 11).
(101) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص:156-157) ما وضع بين قوسين() في الاقتباسات جاء مصحفا في الأصل.
(102) السنوسي، مختصر في المنطق (ص:181).
(103) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص:158).
(104) السنوسي، المرجع السابق (ص:253).
(105) السنوسي، نفسه (ص:250).


معلومات إضافية

  • الكاتب: مثال
تم قراءة المقال 301 مرة