طباعة
لثلاثاء 26 جمادة الثاني 1431

أصول الدعوة (الدرس الثاني)

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

الأصل الثاني : اعتقاد بقاء الدين محفوظا في كل زمان

     من أهم الأصول المنهجية المرتبطة بقضايا الدين عموما والدعوة خصوصا اعتقاد بقاء المنهج والدين محفوظا في كل زمان يتوارثه العلماء الربانيون العاملون، فكما يعتقد المسلمون عموما أن القرآن محفوظ، فكذلك أهل السنة يعتقدون أن الفهم الصحيح للقرآن موجود في كل زمان لا يمكن أن يضيع، وقد تكفل بذلك رب العزة سبحانه حتى تبقى حجته قائمة على العباد وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، وأخبر بأن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، الأمر الذي يجعل أهل السنة لا يقبلون رأيا جديدا في قضايا الدعوة كما لا يقبلون في العقيدة والفقه أي قول محدث جديد، لأن القضايا المنهجية الكلية أولى بالحفظ من المسائل الجزئية . ومفهوم التجديد عندهم هو إحياء ما اندرس من معالم الدين والسنة، وليس هو الاختراع والابتداء للأشياء الجديدة البحتة.

 

أصول الدعوة (الدرس الثاني)

أدلة الأصل

1- قال الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)  [الحجر/9])

   فقد تكفل المولى عز وجل بحفظ القرآن، وما ذاك إلا لحفظ الدين كله لأن القرآن هو كتاب الإسلام ومصدره، ومن حفظ القرآن حفظ السنة التي هي له شرح وبيان وحفظ اللغة العربية التي لا يفقه الكتاب والسنة إلا بها، ومن حفظ القرآن أن سخر له المولى عز وجل رجالا يحفظونه في الصدور  ورجالا يفسرونه حق تفسيره وينفون عنه تأويلات المحرفين وأقاويل الجاهلين.

2- وقال سبحانه : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران/110])

    فشهد الله عز وجل لهذه الأمة بالخيرية ثم بين سبب ذلك، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد الإيمان ، والأمر والنهي بهما يقام الدين ويضمن له البقاء ويحفظ من الزوال .

3- وقال جل شأنه : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة/143]

    ولا تكون هذه الأمة وسطا عدلا إلا بقيامها بالحق، ولا تكون شاهدة على الناس إلا إذا قامت على الحق وثبتت عليه إلى قيام الساعة.

4- وقال سبحانه: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء/115]   

      فكل من سلك سبيلا غير سبيل النبي صلى الله عليه وسلم واتبع غير سبيل المؤمنين من بعده وقامت عليه الحجة استحق هذا الوعيد، ومحل الشاهد في قوله: (سبيل المؤمنين) فإن الناس ملزمون باتباع سبيلهم، والمقصود بالمؤمنين المؤمنين السابقين، وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

5- وقال سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)  [الفتح/28]

    وهذا الظهور ليس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحسب بل في كل الأزمان، لأنه لم يرد ما يخصص هذه الآية.

6-وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" (متفق عليه).

    وهذا النص صريح في استمرار بقاء الطائفة الناصرة للحق إلى قيام الساعة وهو من أقوى أدلة حجية الإجماع ، ومن خذلهم هو من هو في صفهم يتظاهر أنه منهم، فليس جميع المنتسبين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائفة المنصورة، وليست كل أمة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الطائفة بل هي الطائفة التي تقوم بالحق وتدعو إلى الحق وتظهره .

7- وقال صلى الله عليه وسلم:" إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها"([1]).

    هذا من الأدلة الواضحة على أن الدين محفوظ فمهما اندرست معالم الحق وانمحت رسوم السنة، فإن الله تعالى يغرس غرسا يستعملهم في طاعته، من العلماء والأمراء والمجاهدين والعباد وغيرهم من يجدد لها أمر دينها، أي يردها إلى الأمر الأول لا بمعنى الإحداث والابتداع، فإن الدين محفوظ لا تمر حقبة زمنية خالية من دعاة الحق، ومن خالف هذا يكون مكذبا لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم. وأهل السنة والجماعة يتمسكون بهذه القاعدة في جميع أحوالهم ولأجل هذا هم لا يقبلون أي رأي جديد لم يسبق إليه العلماء، ومن درر كلام الإمام أحمد وصية لابنه عبد الله: "إياك أن تقول قولا ليس لك فيه إمام "فلا يقبلون قولا جديدا في مسائل الفقه والعقيدة وكذلك في قضايا الدعوة وخاصة الأمور الكلية التي هي أولى بالحفظ من القضايا الجزئية .

تقرير قاعدة : الفهم الصحيح للدين موجود في كل زمان يحمله العلماء

    وقد قرر هذا المعنى الشيخ ابن باديس في مقال عنوانه ( لا تخلو الأرض من قائم لله بالحجة)، قدم به لخطبة لأحد ملوك المغرب السلفيين وهو السلطان سليمان بن محمد بن عبد الله المتوفي سنة 1822 م وكان سلفيا هو ووالده وهو الذي نشر وفرض العقيدة السلفية في المغرب الأقصى حيث قال:" من المعلوم عند أهل العلم أن مما حفظ الله به دينه وأبقى به حجته أن لا تنقطع الدعوة إلى الله في هذه الأمة والقيام على الحق والإعلان بالسنن والرد على المنحرفين والمتغالين والزائغين والمبتدعين، وأن أهل هذه الطائفة معروفة مواقفهم في كل جيل، محفوظة آثارهم عند العلماء. غير أن غلبة الجهل وكثرة أهل الضلال قد تحول دون بلوغ صوتهم إلى جميع الناس، فترى أنصار الباطل كلما ظهر داع من دعاة الحق في ناحية اعترضوه بسكوت من سكت من قبله؛ وأوهموا أتباعهم المغرورين بهم أن هذا الداعي جاء بدين جديد"([2]).  

     قدم بهذه المقدمة لئلا يغتر الناس بالمخالفين الذين يزعمون أن العلماء المصلحين المحاربين للبدع الداعين إلى السنن قد أتوا بدين جديد، وليبين لهم أن الدين الجديد هو البدعة، وليشرح لهم أن من حكمة الله تعالى أن حفظ لهم الدين ولا يزال في الناس علماء ناصحين، أقوالهم وآثارهم محفوظة عند أهل العلم وإن جهلها من جهلها .

     ولما كان من أسلحة المبتدعين الجامدين على بدع سابقيهم الاحتجاج على من يحيي السنن بأنه قد جاءهم بما لم يعرفه آباؤهم ولا أجدادهم فقد كتب ابن باديس رحمه الله مقالا نقل فيه أقوال السابقين من أهل العلم في إنكار البدع، وقدم لتلك النقول بمقدمة أكد فيها هذه القاعدة فقال:" كلما قام دعاة الإصلاح بالإنكار على البدع الفاشية والضلالات الرائجة وبينوا قبحها وضررها بالبراهين الساطعة، وأفحموا أهلها بالأدلة القاطعة صاح المتعايشون عليها من أتباعهم المغترين بهم، لو كان ما نحن عليه باطلا لأنكره العلماء المتقدمون قبل أن ينكره هؤلاء العصريون لكن المتقدمين رحمهم الله رأوه وسكتوا عليه ورضوا به ومضى على ذلك الزمن الطويل وعاش عليه الجيل بعد الجيل ، وقالوا مثل ما قال الأولون: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون24)، (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف23)، ولما كان هذا قد يغر الجاهل وشبه الجاهل فيحسب أن الأمر كما ذكروا، وأن العلماء المتقدمين سكتوا وما أنكروا أردنا أن ننقل لقراء السنة([3])، بعضا من إنكار أهل العلم على هؤلاء المتسمين بالفقراء([4]) الداعين لطريقة الزهد المتمسكين بالبدعة ليعرفوا سنة العلماء في الرد عليهم والتقبيح لحالهم ، والتحذير من ضلالهم فيعلموا أن العلماء الإصلاحيين المعاصرين ما جاءوا إلا بما يفرضه عليهم الدين من نصح المسلمين وإرشاد الضالين والذب عن سنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم"([5]).

   وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن أهل الحديث، وليس المقصود بأهل الحديث رواته لكن هم المتمسكون بالسنة عموما فيدخل فيهم العباد والفقهاء والمحدثون:" أما أهل العلم فكانوا يقولون هم الأبدال لأنهم أبدال الأنبياء، وقائمون مقامهم حقيقة ليسوا من المعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة، كل منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه، هذا في العلم والمقال، وهذا في العبادة والحال، وهذا في الأمرين جميعا" أي أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم لن يكونوا مثله صلى الله عليه وسلم في العلم والإصابة، وإن كان لكل واحد منهم قدر من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، فآحادهم يقع في الخطأ والله تعالى إنما يحفظ الصواب في جماعتهم وإجماعهم، ولا تجتمع هذه الأمة على خطأ حتى تقوم الحجة على الناس.

    ويقرر رحمه الله أن من الناس من يجدد الدين في العقائد، ومنهم من يجدده في السلوك ومنهم من يجدده في البابين معا، فيجوز في المجدد أن ينصر الحق والسنة في باب من الدين، وإذا نظرنا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب نجده جدد الدين وبين السنة في قضايا التوحيد التي كثرت فيه مؤلفاته واشتهر به، والشيخ الألباني جدد علوم السنة وأحيا البحث في أسانيدها والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله صاحب هذا الكلام مع أنه تضلع في كل العلوم لم يكن مجددا في جميعها فهو مشارك في علم الحديث غير مجدد فيه مثلا، وإنما جدد الدين في ميدان الفقه والعقائد، ثم قال رحمه الله:" وكانوا يقولون هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة الظاهرون على الحق لأن الهدى ودين الحق الذي بعث به رسله معهم هو الذي وعد الله بظهوره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا"([6]).

     قد يعترض معترض هنا فيزعم أن ما ذكر ابن تيمية ليس أمرا جليا، فإننا نرى أهل الضلال هم الأكثر والسواد الأعظم، وثمة جهات وأزمان لا نعلم فيها مصلحين مجددين، فمن هو المصلح في الهند أو إفريقيا الغربية أو الشرقية في القرن الفلاني؟؟ فهذه الحجاز عم فيها الشرك حتى جاء الشيخ ابن عبد الوهاب فجدد دعوة التوحيد بها، وفي الجزائر عم الشرك والضلال حتى جاء علماء الجمعية فجددوا الدعوة، فكيف السبيل إلى الجمع بين الواقع الثابت في التاريخ ودلالة النصوص؟

والجواب عن هذا من أوجه:

الأول: مستفاد من كلام ابن تيمية حين قال:" وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها، لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم، إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة، فكيف يشترط فيما هو من توابعها؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم، ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم، مع قيام فاعله بما يجب عليه كان التفريط منهم لا منه"([7]). فإعراض الناس وصدودهم عن سماع الحق لا يكون مانعا من إقامة الحجة ولا قادحا في كون الدين محفوظا، وقد يصدع بدعوة الحق فرد لا يستجيب له أحد من أهل جهته فيكون صدعه هذا كافيا في إقامة الحجة وحفظ الدين وإن لم يبلغنا خبره لعدم استجابة الناس له.

الثاني: مستفاد من كلام ابن باديس:" غير أن غلبة الجهل وكثرة أهل الضلال قد تحول دون بلوغ صوتهم إلى جميع الناس "([8]). فقد تبقى دعوة المجدد محصورة في مكان ما، أما البعيدون عنه فلا يقبلون دعوته لأن أهل الباطل قد شوهوها وأثاروا حولها الشبهات ونبزوا أصحابها بالألقاب الشنيعة.

الثالث : أننا نقدم دلالة النصوص على الواقع، لأن الواقع ينقله البشر وقد يقع الخلل في نقلهم، وعدم علمهم ليس علما بالعدم، ومن بحث في التاريخ المدون وبطون الكتب وجد آثارا وإشارات وأخبارا لا تخلوا من دلالة على وجود جنس المصلحين الذين يحفظ بهم الدين، ففي الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي وفي عهد العثمانيين كان الدين محفوظا ولا شك، فهذا عبد القادر الراشدي القسنطيني المتوفى سنة 1870م صاحب تحفة الإخوان في تحريم الدخان، نقل صاحب الرحلة الورثيلانية (ص 697) ما يدل على أنه كان سلفي المعتقد في الصفات فأوذي بسبب ذلك([9]). فقد أزيح من القضاء واتهم بالتجسيم لإثباته الصفات واتهم بالاجتهاد لأنه لم يلتزم بمذهب مالك، فهذا كان من أشهر الناس في زمانه ومع ذلك أكثر الناس اليوم لا يعلمون عنه شيئا، بل هناك من كان أكثر شهرة من قاضي قسنطينة، السلطان المغربي محمد بن عبد الله الذي حكم المغرب من سنة 1757إلى 1790 ثم ابنه سليمان إلى الذي حكمها إلى سنة 1822 أي ما يقارب السبعين سنة كلها قضاها المغرب الأقصى تحت حكم السلفية، ومع ذلك قل من الناس يسمع بخبرهم، فإذا جهل الناس خبر دولة عمرت عقودا كانت على طريقة السلف فجهلهم بالأفراد متوقع من باب أولى .

     ثم إن الفرد الذي يحفظ به الدين لا يشترط أن يكون مستقيما في كل الأمور، فقد نجد بعض الناس في الجزائر وغيرها من كان سلفيا في العقيدة ينهى عن التأويل والتفويض، لكن في أمور الفقه كان مقلدا محضا فهذا قد حفظ به الله تعالى الدين في باب العقيدة، وبعض الناس تجده في الصفات مفوضا لكنه في الفقه يدعو إلى الاجتهاد وينهى عن التقليد فهذا حفظ الله به الدين في الفقه، الخلاصة أن دين الله تعالى محفوظ وإن جهلنا نحن من سخره الله لذلك، فلا يعني ذلك أن الله صلى الله عليه وسلم قد أخلف وعده.

   ومن ثمار هذه القاعدة أننا لا نقبل شيئا جديدا، لم يكن موجودا في عهد السلف، لأن الحق محفوظ في كل زمان، وبهذا يظهر انحراف كثير من الناس ممن ينسب الحق والفهم الصحيح للدين إلى شخص معين من غير السلف، كانتساب الأشاعرة إلى الأشعري والماتريدية إلى الماتريدي.

التطبيقات الخاطئة

    فمن انتسب إلى شخص متأخر يزعم أنه هو صاحب الفهم الصحيح دون غيره طاعن في حفظ الدين وذلك كمن انتسب في العقائد إلى الأشعري أو الماتريدي، وفي القضايا الدعوية إلى حسن البنا أو الشيخ فلان وعلان.

ومن أمثلة ذلك قول ابن عاشر في نظمه :

         وبعد فالعون من الله المجيد     في نظم أبيات للأمي تفيد

         في عقد الأشعري وفقه مالك    وفي طريقة الجنيد السالك

    قال الشارح أضاف العقيدة إلى الاشعري لأنه واضع علم العقائد!أي أن الصحابة في لو أجري لهم امتحان في العقائد لأخذوا صفرا، لأن بداية العقيدة كانت مع الأشعري، والإمام مالك الذي يأخذون عنه الفقه حسب قولهم إما ضعيف في العقيدة غير متخصص فيها أو جاهل بها تماما ! فهذا تضليل منهم للسلف وزعم أن الفهم الصحيح والحق لم يكن محفوظا وهكذا كل من انتسب إلى شخص معين يزعم أن الفهم الصحيح عنده وأن المنهج يؤخذ منهم فهو على غير جادة أهل السنة والجماعة وفي قضايا الدعوة سبق أن نقلنا كلاما لمن دعا إلى الرجوع إلى ما كان عليه فلان، ونحن نقول كيف كان الأمر قبله؟ هل كان محفوظا أم ضائعا؟ ونحن إذ نستشهد بكلام العلماء في هذه القضايا كابن باديس وابن عبد الوهاب وابن تيمية فلأنهم منارات نفهم بها كلام الله ولأننا نجعلهم دلائل على حفظ الدين في كل زمان.

     كذلك ما أحدث في هذا الزمان على يد جماعة محمود الحداد المصري في الحجاز (التي تفرقت شذر مذر) فقد جاءوا بمنهج جديد في الدعوة يركزون فيه على تبديع المخالفين والغلو في الهجر وألغوا من الشريعة مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات، فبدعوا سلف الأمة وخلفها وكل من له خطأ في العقيدة ولو في جزئية من الجزئيات، فلما تبين له أن ابن تيمية والذهبي وابن القيم أنصفوا كثيرا من العلماء الذين عندهم أخطاء في العقائد ولم يخرجوهم من السنة ؛ زعم أنهم من أهل التمييع وممن يقول بالموازنة البدعية! (ولما باح هذا المغرور بتبديع أعلام السنة والحديث تفرقت طائفته ولا تزال في تفرق مستمر؛ ليس بسبب اختلاف الأصول ولكن بسبب الاختلاف في الأشخاص) .

    والقاعدة أن كل من يأتينا في أي زمن بفكرة جديدة في التعامل مع قضايا الاعتقاد أو الدعوة أو الفقه فلا يقبل منه ذلك، ومعنى دعوة التجديد كما سبق هي رد الدين إلى ما كان عليه الأولون أما اختراع الأقوال الجديدة أو اتباع المتشابه من نصوص القرآن والسنة أو آحاد السلف فليس من منهج أهل السنة في شيء، كمن يذهب إلى آية نزلت في الكفار فيجعلها في المسلمين ومن يذهب إلى آثار السلف في الجهمية والرافضة وينزلها على من أخطأ في مسألة فقهية، الشاهد من كل هذا أن التطبيقات الخاطئة كثيرة ينبغي الحذر منها.

فروع أخرى لقاعدة حفظ الدين

الفرع الأول : حفظ القرآن ألفاظه ومعانيه

    أما حفظ حروف القرآن وألفاظه فمن لب العقيدة الإسلامية من شك في ذلك كان كافرا مرتدا، ولقد زعم ذلك كثير من أهل الرفض فكان ذلك رفضا منهم للإسلام، إذ كان ذلك منهم طعنا في أصل الدين وتكذيب لله تعالى ولرسوله الكريم وطعن في أصحابه صلى الله عليه وسلم الذين بلغوا هذا الدين، والذي ينبغي التذكير به هنا ما من طائفة ضالة إلا وهي تقدح في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بطريق أو بآخر فالروافض والخوارج والمعتزلة صرحوا بذلك وغيرهم قد يصرح وقد لا يصرح، ذلك أمر لازم لهم أي لأصحاب البدع لأن الدين حفظ يقينا وأول من حفظ به هم الصحابة رضوان الله عليهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حفظ المعاني فأمر لازم أيضا فلا معنى لحفظ كلام يجهل معناه أولا يعرف أحد معناه ، ولقد جهل في هذا الموضع وتعدى أهل التفويض الذين زعموا أن في القرآن ما لا يُعلم معناه أو يعلم أحد معناه ، وهذا كما مقرر في كتب التوحيد إما طعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بلغ ما يفهم أو كتم ما علم ، وإما طعن في الصحابة الذين آمنوا بما لم يفهموا أو كتموا ما علموا، فلا يجوز أن يمنع إنسان من تفسير آية من القرآن بزعم أنه لا أحد يعلم معناها، لأنه يزعم أن القرآن ضاع فهمه، ولا فرق بين تضييع الحروف وتضييع المعاني، والأمر أوضح من أطيل فيه في هذا الموضع والله أعلم.

الفرع الثاني: حفظ السنة النبوية واللغة العربية

    ومما ينبغي اعتقاده تبعا لحفظ معاني القرآن وحفظ الشريعة عموما أن السنة النبوية قد دونت وأنها قد حفظت فلم يضع منها شيء عن السلف الصالح رضي الله عنهم، لأنها ترجمة لمعاني القرآن واعتقادنا لحفظ السنة معناه أن كل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله فقد دون وحفظ وهو موجود في دواوين السنة المعتمدة، فلا يوجد حديث نافع لنا في ديننا أو دنيانا قد ضاع ولم يصل إلينا، كما لا يوجد حديث مكذوب قد رواه البخاري ومسلم أو صححه الأئمة، بل الدين محفوظ والاختلاف في صحة بعض الأحاديث هو من بيان الحق وحفظ الدين، وقد ذكر ابن الصلاح نقلا عن البيهقي أن من جاء في زمانه -منتصف القرن الخامس- بحديث لم يقبل منه لأن الأحاديث التي صحت والتي وقفت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أهل الحديث، إذ كيف لا يكون الحديث موجودا في القرون الأولى ويوجد في القرن الخامس؟ وقال:" ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها"([10]). فهذه السنة محفوظة بالرواية وبجهابذة علماء الحديث الذين بينوا الصحيح من الضعيف.

     وكذا اللسان العربي قد حفظ لأنه إذا لم يحفظ لم يحفظ الكتاب والسنة، فإن من حفظ القرآن الكريم حفظ السنة، ومن حفظهما حفظ اللسان العربي، وفي هذا يقول الشافعي رحمه الله تعالى:" ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه، والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عنه أهل الفقه"([11]).

الفرع الثالث : حجية ما اتفق عليه العلماء ولزوم اتباع أقوال السلف

    إن ما اتفق عليه العلماء فهو الحق الذي لا شك فيه، لأن الدين محفوظ ومن زعم اجتماعهم على الخطأ فلازم زعمه أن الدين لم يحفظ في ذلك الزمان الذي اجتمعوا فيه على الخطأ، وهذا لا يجوز لأنه خلاف دلالة النصوص ولازمه أن حجة الله لا تقوم على الخلق، بل إن العلماء إذا اختلفوا فالحق لا يخرج عن أقوالهم لاستحالة إجماعهم على الضلالة فالدين يكون محفوظا حتى باختلاف العلماء والحجة قائمة به على العباد.

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن بين فضل السلف:"ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله"، لأن ضبط الاختلاف أيسر ما يكون في عصر السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، والإجماع المتيقن إنما كان في عصرهم، ثم يقول :"كالتفسير وأصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم، وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوما، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه"([12]). فالمعصوم هو إجماع السلف ولا عصمة لآحادهم.

   وإنه مما لا شك فيه أن خير الأزمنة من جهة ظهور الحق وكثرة أهله وافتضاح أهل الباطل وقيام الحجة على الناس، هو زمن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، أهل القرون المشهود لها الخيرية. لأن الظهور في تلك العصور كان لأهل السنة والجماعة فأهل تلك القرون هم أهل الفهم الصحيح للدين، بل بقيامهم به حفظ ووصل إلينا فمتى التزمنا بما كانوا عليه اهتدينا ومتى خالفنا ما كانوا عليه ضللنا، وفي هذا السياق قد يقول بعض الناس كيف نلتزم بما كان عليه السلف والسلف لم يتكلموا في كل الجزئيات خاصة تلك التي لم تحدث في زمانهم؟ أجاب عن هذا العلماء بأنه كما أن القرآن والسنة قد بيَّنا كل شيء لمن فقههما، فالسلف أيضا من تدبر كلامهم على قلته يجد فيه الجواب لكل ما يبحث عنه، فكما أن في القرآن دلالات العموم والقياس، فكذلك كلام السلف يستخرج منه آراء فيما لم ينصوا عليه بعينه في المسائل كما هو معلوم عند الفقهاء والأصوليين ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" فلم يبق مسألة في الدين إلا وقد تكلم فيها السلف فلابد أن يكون لهم قول يخالف ذلك القول أو يوافقه"، وذلك بالطريقة التي تسمى تخريجا عند الفقهاء، ومن أمثلتها مسألة جريان الربا في الأوراق النقدية المعاصرة فمذهب مالك أنه يجري فيها الربا رغم أنها لم تكن موجودة في زمانه، لأن علة الربا عنده في الذهب والفضة هي الثمنية ، يقول ابن تيمية: " وقد بسطنا في غير هذا الموضع أن الصواب في أقوالهم أكثر وأحسن وأن خطأهم أخف من خطأ المتأخرين، وأن المتأخرين أكثر خطأ وأفحش وهذا في جميع علوم الدين"([13]).

    وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تفريعا على ذلك :" فضبط ما روي عنهم في ذلك أفضل العلوم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه ، إلا أن يكون شرحا لكلام يتعلق بكلامهم ، وأما ما كان مخالفا لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه، وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة"، طبعا طالب العلم لا بد أن يقرأ كتب المتأخرين الذين رتبوا العلم المستمد من كلام هؤلاء في أبواب وفصول ومسائل، فقبل أن تقرأ كتاب الشريعة للآجري أو غيره من الكتب التي اعتنت بآثار السلف، لا بد أن تقرأ قبلها كتب ابن تيمية التي فيها الترتيب والتأصيل، لأنك لن تستطيع فهم آثار السلف على وجهها من دون ترتيب وشرح من تأخر عنهم، وإن من الأخطاء التي يقع فيها كثير من أهل زماننا أنهم يستندون إلى آثار يفهمونها كما يريدون دون رجوع إلى العلماء الذين أكثروا التعامل مع كلام السلف، كمن يستدل بآثار مبتورة عن واقعها وسياقها الزماني والمكاني أو بآثار يفسرها بغير اصطلاح أهل ذلك الزمان، ومن ذلك أن يقرأ بعضهم قول بعض السلف في آيات الصفات :" أمروها كما جاءت بلا تفسير فيظن أن المفوضة على حق، ومثل هذه العبارة "بلا تفسير" مأثورة عن ابن عيينة وأبي عبيد القاسم بن سلام ومحمد بن الحسن الشيباني لكن معناها من غير تفسير الجهمية الحادث الذي يخرج بالآيات عن ظاهرها، وإنما يفهم مثل هذا العلماء الذين لهم استقراء واسع لكلام السلف كابن تيمية، ومما يبين أن هذا هو مقصودهم أنك عندما تقرأ كتاب عثمان بن سعيد الدارمي في مناقشة بشر المريسي الجهمي المعطل لا تجد مصطلح التأويل بل التفسير، فالمبتدئ الذي يذهب إلى النصوص مباشرة واستقلالا يزل، ومن طلب الهداية فكلام السلف فيه الكفاية كما أن في القرآن والسنة كفاية.

   يقول ابن رجب :" فلا يوجد في كلامهم من بعدهم من الحق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة ، ولا يوجد في كلام المتأخرين من الباطل إلا يوجد في كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله ، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يلم به. فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر منهم"([14]).

التطبيقات الخاطئة

1-اعتقاد كثير من الجهلة أن المتأخرين أعلم بمسائل الدين من السلف الصحابة والعلماء المتقدمين، كما قال ابن رجب:" وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين ، إن هؤلاء كلهم أقل كلاما ممن جاء بعدهم، وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح ، وإساءة ظن بهم ونسبة لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوة إلا بالله…  "([15]). فكثرة الكلام لا تدل على كثرة العلم، فإن كلام السلف قليل لكن علمهم غزير، ومن هذا التقرير فإنه لا يجوز أن يعتقد أنه يأتي في هذا الزمن أو بعده من هو أعلم من أبي بكر وعمر أو أعلم من مالك والشافعي بل السلف الصالح هم أعلم الأمة وأهداها.

2- تجويز إحداث الأقوال الجديدة في الفقه والتفسير الجديد ([16]). لآي لقرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كمن يعتمد ما يسمى تفسيرا علميا للقرآن من غير مراعاة أقوال العلماء السابقين ، فيغلو في مجاراة الاكتشافات والنظريات الكونية ويتكلف في تنزيل الآيات والأحاديث عليها حتى لو أداه ذلك إلى الخروج عن أساليب العرب ولغتهم وعن فهوم السلف وإجماعهم.

 3- تجويز الاجتهاد في مسائل لم يختلف فيها السلف بل اتفقوا عليها واختلف فيها المتأخرون([17]). كمن يخوض في مسائل السياسة ويقول إن مسألة اشتراط القرشية في الخليفة الأعظم مسألة ظنية لأن الخوارج خالفوا فيها، فيدرس المسألة على أنها خلافية ويخلص إلى ترجيح رأي الخوارج ، لأنه ما مهد بقوله إتهل خلافية إلا لهذه الغاية، فهذا الزاعم قد ضلل أهل السنة في هذه القضية وزعم أن الحق قد ضاع في جميع العصور وحفظ عند الخوارج، فكأن الخوارج عنده في هذه المسألة هم الطائفة المنصورة!! هذا مثال للتوضيح وإلا فالأمثلة في القضايا الفقهية والسياسية كثيرة نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق .

 


 

[1]/ أخرجه أبو داود (4291) وصححه الألباني في الصحيحة (599).

[2]/ الآثار (4/183).

[3]/ أي الجريدة التي كان يصدرها العلماء وهي أول جريدة أصدرتها جمعية العلماء  ثم أصدرت الشريعة ثم الصراط وأخيرا البصائر .

[4]/ الصوفية يسمون أنفسهم الفقراء ثم حشروا أنفسهم مع أهل الزكاة  .

[5]/ الآثار (5/109).

[6]/ مجموع الفتاوى (4/97).

[7]/ مجموع الفتاوى (28/125).

[8]/ الآثار (4/183).

[9]/ تحفة الإخوان (39-40).

[10]/ المقدمة مع التقييد (156).

[11]/ الرسالة (42).

[12]/ مجموع الفتاوى (13/24).

[13]/ مجموع الفتاوى (13/27).

[14]/ فضل علم السلف على الخلف (41-42)

[15]/ فضل علم السلف على الخلف (39-40).

[16]/ انظر مجموع الفتاوى (13/59).

[17]/ انظر مجموع الفتاوى (13/26).

تم قراءة المقال 4749 مرة