طباعة
لثلاثاء 5 ذو القعدة 1431

أصول الدعوة (الدرس الرابع)

كتبه 
قيم الموضوع
(6 أصوات)

الأصل الرابع : اعتبار الدعوة إلى التوحيد أولى الأولويات

   ومما يتميز به أهل السنة عن غيرهم في العصر الحاضر، وفي كل زمان أنهم لا يقدمون شيئا في دعوتهم على التوحيد قولا ولا عملا، وهو أولى الأولويات عندهم، لأنهم يعتقدون أن التوحيد هو أصل الدين وهدف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء والمرسلين، بل هو الغاية من خلق الإنس والجن كما أخبر به المولى عز وجل، ولأنهم يعتقدون أنه بالتوحيد (توحيد العبادة) تكون النجاة في الآخرة، وأن تحقيقه شرط للتمكين في الدنيا، خلافا للفرق الضالة التي حرفت معنى التوحيد حسب هواها، وخلافا لأهل المناهج الجديدة الأخرى التي ترجئ قضايا التوحيد وتراها من أسباب التفريق بين المسلمين، أو ترى قضايا الحكم والسياسة أولى منها قولا أو حالا، ومنهم من يصرح بأن قضايا التوحيد مفرقة للشمل وأنها أمور قديمة وخلافات تاريخية.

 

أصول الدعوة (الدرس الرابع)

 

أدلة الأصل

1-قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات/56]) فغاية خلق الناس هي عبادة الله عز وجل، والداعية إلى الله الذي يريد الخير للناس ويعلم أن الله تعالى إنما خلقهم ليعبدوه ويراهم منصرفين عن العبادة واجب عليه أن يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وتوحيده وغلا كان غاشا لهم.

2-وقال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [النحل/36])  وإن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء عليهم السلام والذين تحملوها هم خلفاؤهم وورثتهم، فينبغي أن يكون هدفهم واحدا وهو ما ذكر في هذه الآية، مع علمنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بشريعة متكاملة شملت جميع أمور الحياة ، فإن عنوان دعوته كان الدعوة إلى التوحيد الله تعالى واجتناب الطواغيت، لأنه لا ينفع الالتزام بالشريعة مع مقارفة الشرك.

3-وقال جل شأنه : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء/48]، ولما كان الشرك أخطر معصية وقعت فيها البشرية كان أول واجب للدعاة محاربة الشرك ومظاهره، والأوامر والشرائع الأخرى كلها من حقوق التوحيد توابعه. وقال عز وجل : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام/88]، فلا ينفع مع الشرك عمل ولذلك وجب تحقيق التوحيد للانتفاع بسائر الأعمال .

4-وقال سبحانه على لسان المشركين وهو يصفون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم : (أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)  [ص/5]، وهذه شهادة من المشركين الذين فهموا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولخصوها في الدعوة إلى التوحيد.

5-عن معاذ رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :« يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله. قلت : الله ورسوله أعلم . قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا » [ متفق عليه ]. والذي لا شك فيه أن حقوق الله عز وجل كثيرة لكن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأمر جامع يدخل فيه كل الحقوق.

6-وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله » [متفق عليه]النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدعوة والتبليغ ثم بالقتال لمن أبى حتى يأتوا بالهدف ويستجيبوا له وهو قول لا إله إلا الله.

7-وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أرسله إلى اليمن :« فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله » وفي رواية « أن يقولوا لا إله إلا الله » ، وهذا نص صريح في القضية المطروحة ولا أصرح منه فإنه لو كان ثمة شيء أهم من التوحيد لبينه صلى الله عليه وسلم.

تقرير الأصل

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله بتصديقهم بما أخبروا وطاعتهم فيما أمروا …فالدعوة إلى الله تكون بدعوة العبد إلى دينه، وأصل ذلك عبادته وحده لا شريك له، كما بعث الله بذلك رسله وأنزل به كتبه"([1]). وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:" التوحيد أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى …فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل"([2]).

وصرح الشيخ ابن باديس بكون التوحيد هو أساس الدين فقال في تفسير قوله تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (الإسراء22):" هذا أساس الدين كله وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تقبل الأعمال إلا به، وما أرسل الله رسولا إلا داعيا إليه ومذكرا بحججه، وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة لا إله إلا الله وهي كلمته الصريحة فيه"([3]). وقال رحمه الله في موضع رد فيه على علماء الزيتونة إذ سكتوا على من يعلن بالعقائد الشركية في الإذاعة: "يعلم العلماء أن التوحيد هو الأساس الذي تبتني عليه أعمال الإيمان أعمال القلوب وأعمال الجوارح ، وأن الله لا يقبل شيئا إذا انبنى على الشرك، وقد قال تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر65)، فما هي قيمة تلك المواعظ والإرشادات المذاعة على من يعتقد أن ابن عبد السلام (ولي من الأولياء) وأمثاله يتصرفون في الكون ويحكمون فيه وهو في قبضة أيديهم ؟ إن السواد الأعظم من العامة وهم الذين توجه إليهم تلك المواعظ والإرشادات أولا قد نخرت صدورهم تلك العقائد الشركية"([4]).

وقد بين في موضع آخر بأن همه الأول كان تطهير العقائد مما علق بها من مظاهر الشرك، قال رحمه الله:" لا يكون الإصلاح إلا بالانتقاد فلذلك وجدنا أنفسنا في خطتنا مضطرين إليه (أي لابد من التحلية والتخلية ولابد من بيان الحق والتحذير من الباطل)، وقد كانت منا انتقادات سياسية واجتماعية وأدبية ودينية، وكانت وجهتنا الأولى في النقد الديني هي الاعتقادات، ولقد كان همنا الأول تطهير عقيدة التوحيد من أوضار الشرك القولي والفعلي والاعتقادي، فإن التوحيد هو أساس السلوك ولذلك ابتدئ بـ"إياك نعبد" قبل "اهدنا" في فاتحة القرآن العظيم. هنا اصطدمنا بزعماء الطرق وشيوخ الزوايا الاصطدام المعروف، لأنه إذا خلص التوحيد توجه الناس إلى ربهم الذي خلقهم وتركوهم واعتقدوا فيهم أنهم مخلوقون مثلهم لا يضرون ولا ينفعون إلى غير ذلك مما ينتجه التوحيد الصحيح من تحرير العقول والأرواح والقلوب والأبدان"([5]). وقد بين كذلك أن علاج أوضاع الأمة الإسلامية يمر حتما بطريق إصلاح العقائد فقال :" فالإيمان والتقوى هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا، لأننا إذا التزمناهما نكون قد أقلعنا عن أسباب العذاب …ولنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشرك وأخلاقنا من الفساد وأعمالنا من المخالفات"([6]). 

تطبيقات خاطئة 

    من الناس من يخالف قوليا وعمليا هذا الأصل العظيم، ومنهم من يخالف عمليا فلا تجد في دعوته الدعوة إلى التوحيد وإن أقر أن أهم شيء هو التوحيد، فالدعوة إلى التوحيد ليس مجرد شعار بل هو قول وعمل كما كان دأب النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء الربانيون من بعده. وهذه بعض النماذج للمخالفين لهذا الأصل.

أولا: الشيعة

   من المنحرفين في هذا الباب الشيعة المتأخرون الذين جعلوا الإمامة وبحث الخلافة أهم قضية في الإسلام، حتى رفعوها فوق التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :" إن القائل بأن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين كاذب بإجماع المسلمين سنيهم وشيعهم، بل هو كفر فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام"([7]). 

ثانيا : المودودي

   ونحن إذ نذكر بعض الأسماء ليس مقصودنا التشهير ولكن أن نعرف الحق والباطل، فهذه الأفكار ربما ننقلها عن واحد لاعتبار ما ولكن الذين يتبنونها أكثر من ذلك بكثير، وربما يكونون قد أخذوها عنه، وتتبع جميع من أخطأ أمر لا يفيد والذي يفيدنا هو أن نعرف الحق فنتبعه، وأن نعرف الباطل فنجتنبه ونحذره، فعلى الطالب العلم أن يهتم بالحقائق لا الأشخاص. 

  قال المودودي:" لعله قد تبين لكم من كتاباتنا ورسائلنا أن غايتنا النهائية التي نقصد من وراء ما نحن بصدده الآن (أي الجماعة التي أنشأها في باكستان) من الكفاح إنما هو إحداث الانقلاب في القيادة"([8]). وقال أيضا:"غاية الدين الحقيقية إقامة نظام الإمامة الصالحة الراشدة"([9]). 

    ونحن لا نقول أن إقامة دولة إسلامية أمر غير واجب بل هو أمر واجب، ومن ضروريات الدين لكن أولى الأولويات وغاية الدين وهدف الدعوة هو إقامة التوحيد، ولا يمكن أن تقوم الخلافة الراشدة إلا بإقامة التوحيد على أرض الله تعالى.

   وقال رحمه الله:" ولأجل ذلك ما زالت الغاية المنشودة من رسالة الأنبياء عليهم السلام في هذه الدنيا أن يقيموا فيها الحكومة الإسلامية وينقذوا فيها ذلك النظام الكامل للحياة الإنسانية الذي جاءوا به من عند الله، ولذلك سعى كل نبي وكل رسول لإحداث الانقلاب السياسي"([10]). ولو كان هذا هو هدف النبي صلى الله عليه وسلم من دعوته لقبل من قريش لما عرضوا عليه الملك ثم يفرض عليهم الحكم الإسلامي، ولكننا نجد كثيرا من هؤلاء المخالفين يقررون أنه بعد إقامة الحكم الإسلامي يعطون للناس حرية المعتقد وتبديل الدين، وربما يستدلون بقوله تعالى (لا إكراه في الدين) ويفسرون القرآن على غير وجهه، لأن الآية خاصة باليهود والنصارى الذين يدفعون الجزية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من بدل دينه فاقتلوه"(رواه البخاري).

 ثالثا: جماعة الإخوان المسلمين

   أما دعوة حسن البنا فهي أوضح من أن يدلل عليها فالعمل والقول كله يوضح أن هدف دعوته هو إقامة الدولة الإسلامية، وليس للتوحيد مكان في خطبه ورسائله، وقد بين ذلك في مقالات منها "غاية الإخوان المسلمين" و"إلى أي شيء ندعو الناس؟"([11]). وقال في المقال الأول منهما:"الإخوان المسلمون يعملون ليتأيد النظام بالحكام ولتحيا من جديد دولة الإسلام، ولتشمل بالنقاء هذه الأحكام ولتقوم في الناس حكومة مسلمة تؤيدها أمة مسلمة". والهدف نفسه يسعى إليه أتباعه إلى اليوم وإن اختلفت وسائلهم وخطتهم في الوصول إلى الهدف ([12]).

  ويقول الدكتور القرضاوي :" أريد بالحركة الإسلامية ذلك العمل الشعبي الجماعي المنظم للعودة بالإسلام إلى قيادة المجتمع وتوجيه الحياة …وهي عمل شعبي يقوم أساسا على الانبعاث الذاتي والاقتناع الشخصي …فينطلق من حبه لدينه …إلى استكمال النقص والإسهام في إحياء الفرائض المعطلة من الحكم بشريعة الله ، وتوحيد الأمة الإسلامية على كلمة الله …وتحرير الأرض الإسلامية من كل عدوان أو سيطرة غير إسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية الواجبة شرعا إلى القيادة من جديد …"([13]).

   وكتابه هذا كله في الأولويات التي ينبغي تقديمها في المرحلة القادمة على حد تعبيره، ولا ذكر للتوحيد أو توحيد العبادة ولا للتحذير من الشرك، بل له في مواضع أخرى كلام يهون فيه من أمر التوحيد، ويجعله من الأمور المفرقة والأمور التاريخية التي انقضى زمانها وكأن التوحيد هو مجرد نفي القول بخلق القرآن أو الرد على منكري القدر.

   وإنه من المهم أن نعرف الحق بدلائله وأن نطلع على نماذج من الضلال، لأن كثيرا من الناس اليوم لا يعرفون من الحق إلا شعارات ولا يعرفون حقائق الباطل ولا صوره، فيقول أحدهم أنا سلفي وهو لا يفهم من السلفية إلا الشعارات، ويقول فلان إخواني قطبي وقد يفرق بينهما، وهو لا يدري ما معناهما ولا ما الفرق بينهما، إنما هي كلمات يسمعها من هنا وهناك ويرددها كالببغاء، وهذا موجود في العامة وفي كثير ممن يعدون من الخاصة مع الأسف الشديد.

 

فروع أخرى لهذا الأصل

 

الفرع الأول : أول واجب هو توحيد العبادة

   أي توحيد العبادة لأن توحيد المعرفة ( أي وجود الله ووحدانيته في ذاته وصفاته ) لا يكفي ، وتوحيد العبادة نتيجته وثمرته اللازمة له ، فإن كان في توحيد المعرفة نقص وجب الرجوع إلى تصحيحها لتصح العبادة ، ويبقى الواجب الأول هو التوحيد .

   ومن الناس من يخالف في ذلك –وهم المتكلمون- فيقول أن أول واجب هو المعرفة لكن هذا إذا كنت مع ملحد وما من مخلوق إلا ويقر بوجود خالق فالملاحدة قليلون ومنهم من يجعل أول واجب هو النظر حتى قال بعض المعتزلة إذا كان أول واجب قبل المعرفة هو النظر فما الذي يدفعني إلى النظر ؟الشك فأول واجب هو الشك في الله عز وجل!

  هنا أمر مهم ينبغي أن يحفظ من قال لكم أن ثمة شيء أهم من التوحيد يدعى إليه قبله فهو ضال ، مهما كان هذا الأمر، وفي زماننا هذا ظهرت طائفة تزعم أن ما سموه جرحا وتعديلا أهم من التوحيد ويقدم عليه، وهذا ضلال لا خفاء فيه، ومتبنيه خارج عن طريقة أهل السنة والجماعة وإن ادعى الدعاوى ورفع الشعارات وأشهر التزكيات، لأنه قد خالف أمرا قطعيا في دين الله تعالى.

 

الفرع الثاني : معنى التوحيد

   إذا اعتقدنا كمال الدين، وقد سبق تأكيد ذلك في القاعدة الأولى، فهل يمكن أن نتصور أنه أُهمل فيه بيان أول واجب فيه والذي لا نجاة إلا به والذي هو عنوان الرسالة وهدفها؟ أو أنه لم يوضح التوضيح الكامل؟ وإذا اعتقدنا أن الدين محفوظ فهل نتصور أن يضيع أصله ولبه، وأن يفهمه العلماء المتقدمون أجمعون؟ إن المعنى الصحيح لكلمة التوحيد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وتناقله العلماء عبر الأزمان، ومفهومه لا يقبل التبديل ولا التطوير ولا زعم الضياع، فهو أمر توقيفي لا اجتهاد فيه، ويدخل في التوحيد توحيد الربوبية ويتبع ذلك الأسماء والصفات، ويقسمه العلماء بعدة اعتبارات إلى قسمين أو ثلاثة أقسام أو أربعة أقسام المهم أن تكون جميع معانيه حاضرة.

المخالفون

1-والخلاف في معنى التوحيد خلاف قديم، يقول ابن القيم:" وقد تقسمت الطوائف التوحيد، وسمى كل طائفة باطلهم توحيدا، فأتباع أرسطو وابن سينا والنصير الطوسي عندهم التوحيد إثبات وجود مجرد عن الماهية والصفة. وأما الاتحادية فالتوحيد عندهم أن الحق المنـزه هو عين الخلق المشبه. وأما الجهمية فالتوحيد عندهم هو إنكار علو الله على خلقه بذاته واستوائه على عرشه وإنكار سمعه وبصره …وأما القدرية فالتوحيد عندهم إنكار قدر الله وعموم المشيئة للكائنات وقدرتِه عليهم، ومتأخروهم ضموا إلى ذلك توحيد الجهمية . وأمل الجبرية فالتوحيد عندهم هو تفرد الرب بالخلق والفعل وأن العباد غير فاعلين على الحقيقة ولا محدثين لأفعالهم ولا قادرين عليها …فهذا توحيد الطوائف ومن الناس إلا أولئك؟"([14]). وهذا باعتبار زمانه رحمه الله تعالى فوقد استقصى الفرق والطوائف جميعها.

  ومفهوم كلامه أن كل طائفة تجعل ضلالها توحيدا، لأنهم لا ديدن لهم إلا تلك الضلالة كالقدري يدندن حول بدعته صباح مساء، ويجعله قضية حياته، ويقول هي الدين ولو قيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى التوحيد قال هذا هو التوحيد، والتاريخ يبين لنا أن كل طائفة تزيغ عن الحق تهتم بجزئية من الجزئيات قد تخطئ فيها أكثر مما تصيب ثم تحصر فيها الدين وتجعل التوحيد هو تلك الجزئية.

2-وفي هذا القرن أعني القرن الرابع عشر قد حدث في الناس من سار على منوال هؤلاء فجعل همه وهدفه التي رمى إلى تحقيقه هو التوحيد الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم، فجعل التوحيد هو ما سماه بالحاكمية ، فأول واجب عندهم الحاكمية وهدف الرسالة المحمدية هو إقامة الحاكمية في الأرض، ومن هؤلاء أبو الأعلى المودودي المحدث الأول لهذا الفهم الجديد، وفيما يأتي شيء من أقواله، قال في موضع:« والذي نراه ونجزم به وندعو الناس إليه أن العبودية التي دعا إليها رسل الله الكرام من لدن آدم عليه السلام إلى سيدنا وسيد المرسلين وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم المراد بها أن يقر العبد وأن يعتقد أن ما من إله إلا الله الفرد الصمد والحاكم بين عباده السيد المطاع في بريته المشرع للدستور والقوانين"([15]).

    وقد صرح بإخراج توحيد الألوهية من معنى العبودية قبل ذلك حيث قال:" وكذلك ليس المقصود من عبودية الله أن يعتقد كونه تعالى خالقا للكون أو رازقا لمن في الأرض مستحقا للعبادة من جميع خلقه"([16]). ودلل على ذلك بقوله في موضع آخر بأن المشركين :" كانوا يذعنون له بالألوهية والربوبية، وكان الله هو الجناب الأعلى الأرفع الذي كانوا يذعنون له ويبتهلون إليه في مآل الأمر عندما يمسهم الضر أو المصائب، ثم كانوا لا يمتنعون عن عبادته والخضوع له"([17])، لكنه عاد في موضع آخر فقال:"خلاصة القول أن أصل الألوهية وجوهرها هي السلطة"([18]). ورأي سيد قطب رحمه الله لا يختلف كثيرا عن المودودي كيف وقد صرح في محاكمته بأنه استقى فكره من كتب المودودي ([19]).

   وإذا أخطأ العبد في معنى التوحيد وتصوره تصورا خاطئا، فإنه لن يعرف ضده الذي هو الشرك، وربما وقع فيه وهو لا يشعر ، وعلماء الكلام لما جعلوا التوحيد مجرد المعرفة ، فإن من جاء بعدهم ممن اقتصر على دراسة التوحيد من كتبهم وتركوا تفسير القرآن أصبحوا هم أهل الشرك ودعاته، فصار الواحد منهم يحفظ الكتب في التوحيد ومع ذلك يدعو غير الله ويذبح لغيره ويدعو الناس إلى الشرك  لأنه عندما يقرأ التوحيد يجد فيه أن الألوهية هي القدرة على الخلق والله هو الخالق، أين التعارض بين لا إله إلا الله وبين أن يسجد للقبر ويدعو صاحبه؟

الفرع الثالث: دعاة لكن يصدون عن دعوة التوحيد

  ومما يذكر به في هذا الموضع حال من يسمى في هذا الزمان دعاة وهم يحاربون التوحيد ويهونون من أمره، حيث تجدهم يقولون: إلى متى ستظلون هكذا تخاصمون الناس وتبلبلون أفكارهم بهذه الخلافات القديمة التي فرقت صفوف المسلمين وشغلتهم عن عدوهم، لقد تقدم الأعداء في كل المجالات حتى وصلوا إلى القمر ونحن مشغولون بهذه المسائل ، إن الأعداء يكيدون لنا ويخططون لنا لقد قالوا في مؤتمر كذا وكذا ولقد قال المستشرق الفلاني كذا إلى آخر هذه الزوابع التي يثيرونها لصد الدعاة إلى التوحيد([20]).

  ومن هؤلاء مرشد الإخوان عمر التلمساني :" فلا داعي للتشديد في النكير على من يعتقد كرامة الأولياء واللجوء إليهم في قبورهم الطاهرة والدعاء فيها عند الشدائد" وقال أيضا :"فما لنا وللحملة على أولياء الله وزوارهم والداعين عند قبورهم"([21]).

  ومنهم القرضاوي الذي يقول :" ويدخل في هذا الموضوع الإعراض عما لا ثمرة له ولا طائل تحته من البحث في الموضوعات التي شغلت العقل الإسلامي فترة أو فترات من التاريخ ثم لم يعد لها اليوم مكان، وذلك مثل موضوع خلق القرآن …ولهذا عجبت ممن يتحدث عن الزيدية أو الإباضية أو غيرهما من الطوائف بأنهم يقولون بخلق القرآن، فما ينبغي لهذه المشكلة أن تثار عند أي من الفريقين"([22]).

   ويقول أيضا:" مشكلة المسلمين ليست في الذي يؤول آيات الصفات وأحاديثها وإن كان مذهب السلف أسلم وأرجح، بل الذي ينفي الذات والصفات جميعا من عبيد الفكر المستورد من الغرب والشرق، مشكلة المسلمين ليست فيمن يقول استوى على العرش بمعنى استولى أو كناية عن عظمة سلطانه تعالى، بل فيمن يجحد العرش ورب العرش "([23]).

   ونتنبه إلى أن الشيخ القرضاوي ممن يثبت الصفات لله رب العالمين وممن سلم اعتقاده من الشركيات ومع ذلك يهون من هذه القضايا كل هذا التهوين، فلا تسأل عن غيره ممن لم يعرف التوحيد على وجهه.

 الفرع الرابع : لا نجاة ولا نصر إلا لمن نصر التوحيد

   إن هؤلاء المخالفين لا يمكن أن يصلوا على ما يرمون إليه إلا بإصلاح قلوب الناس، وقلوب الناس إنما تصلح بتعبيدها لله تعالى عز وجل، وكما قيل أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم، وفي هذا يقول الشيخ صالح الفوزان :" إن أية دعوة لا تقوم على هذا الأساس ويكون منهاجها قائما على منهج الرسل ، فإنها ستبوء بالخيبة ، وتضمحل وتكون تعبا بلا فائدة، وخير دليل على ذلك تلك الجماعات المعاصرة التي اختطت لنفسها منهاجا للدعوة يختلف عن منهاج الرسل…فجماعة تدعو إلى إصلاح الحكم والسياسة وتطلب بإقامة الحدود وتطبيق الشريعة في الحكم بين الناس وهذا جانب مهم ولكنه ليس الأهم، إذ كيف يطالب بتطبيق حكم الله على السارق والزاني قبل أن يطالب بتطبيق حكم الله على المشرك ، كيف يطالب بتطبيق حكم الله بين المتخاصمين في الشاة والبعير قبل أن يطالب بتطبيق حكم الله على عباد الأوثان والقبور وعلى الذين يلحدون في أسماء الله وصفاته فيعطلونها عن مدلولها ويحرفون كلماتها ..أهؤلاء أشد جرما أم الذين يزنون ويشربون الخمر ويسرقون؟!!! إن هذه الجرائم إساءة في حق العباد، والشرك ونفي الصفات إساءة في حق الخالق سبحانه، وحق الخالق مقدم على حقوق المخلوقين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستقامة (1/466) :» فهذه الذنوب مع صحة التوحيد خير من فساد التوحيد مع عدم الذنوب » فإن الله تعالى أخبر أن الحاكمية والسلطة التي هي محور دعوة هذه الجماعة التي أشرنا إليها لا تتحقق إلا بعد تصحيح العقيدة بعبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه . قال الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور/55] وهؤلاء يريدون قيام دولة إسلامية قبل تطهير البلاد من العقائد والوثنية المتمثلة في عبادة الموتى والتعلق بالأضرحة بما لا يختلف عن عبادة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى …إن تحكيم الشريعة وإقامة الحدود وقيام الدولة الإسلامية واجتناب المحرمات وفعل الواجبات كل هذه الأمور من حقوق التوحيد ومكملاته وهي تابعة له فكيف يعتنى بالتابع ويهمل الأصل"([24]). 

   وقد يقول بعضهم لماذا يلزموننا بإهمال الأصل، فنحن ندعو إلى هذا وهذا على حد سواء، ونحن نقول الجمع هو دعوتنا ، والواقع يبين غير هذا ولا عبرة بتصرفات الأفراد في الحكم على المناهج، لأنه يوجد من ينتسب إلى السلف والسلفية وهو لا يدعو إلى التوحيد ولا غيره، ودعوة السلف بريئة منه.

   وطبيعة منهج أهل التكتلات والانتخابات تأبى ذلك ، لأن من كان همه جمع الأنصار والأصوات سوف يرى في الجهر بقضايا التوحيد تفريقا للصف وبلبلة للأفكار، ومنه فإنه لا يمكن أن يجمع بين هدفه الذي سار فيه والدعوة إلى التوحيد وسيتجلى له مع مرور الوقت أن الدعوة إلى التوحيد صارت عقبة من العقبات ومشكلة من المشكلات كما سبق نقله عن بعضهم.

  ومما يوضح بجلاء أن الله تعالى لا ينصر الأمة ما دامت غارقة في الشرك والبدع والمعاصي ما وقع لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد فقد كانت الملائكة تقاتل معهم ولكن لما عصوا الرسول خُذلوا وهزموا، هذه معصية لأمر واحد من أوامر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليست ابتداعا أو شركا . فكيف يكون حال غيرهم ممن هم أدنى منهم منزلة وواقعون فيما هو أكبر من المعاصي.

الفرع الخامس : لا يحكم شريعة الله تعالى إلا من عظم التوحيد وحققه

   ومن الحقائق التي لا بد أن تعلم ما حدث في بلاد الأفغان في أواخر أيام الجهاد ، وقد شارك فيه أهل السنة والجماعة إلى جانب الفصائل الأخرى ويذكر أنه كان هناك 15 جماعة فيهم الشيعة وفيهم القبوريون وفيهم الإخوان وغيرهم، وكان أهل السنة المحضة يسيطرون على إمارة "كنر" في الجنوب وكانوا يريدون تطبيق الشريعة فوجدوا معارضة من المجاهدين!! قال صاحب كتاب "الصفحات الغرر في الدفاع عن إمارة كنر" :"إن هذه المنظمات الحزبية رغم محاربتها للعقيدة فهي تصر على عدم تطبيق الشريعة "، فهؤلاء الطوائف لما كانوا يقاتلون من أجل إقامة شرع الله وإذا قيل لهم ندعو إلى التوحيد قالوا لا تفرق ولا تنفر، فلما وصلوا على المحك قالوا لا تطبيق الشريعة في الأرض المحررة حتى تفتح كابل، ولما دخلوا كابل قالوا لا تطبيق للشريعة حتى يتم الاتفاق على بنود عدة، وفي النهاية نجد أن الذين أقاموا شريعة الله سبحانه هم الذين كانوا يدعون إلى التوحيد وينهون عن الشرك وهم أهل السنة في كنر، يقول صاحب الكتاب :"فلما كانت كذلك وهاجرت إليها بعض الأسر الأفغانية وبدأ الرحيل يتزايد يوما بعد يوم صوب كنر فجاءت الحزبية المقيتة  بانحراف عقيدتها ومنهاجها وسلوكها فدكوها على أصحابها ودمروها على أهلها " وهذا في عام 1992م وبعد هذه المعركة ومقتل أمير الجماعة "جميل الرحمن" اضطر أهل السنة والجماعة أن يفروا من هذه البلاد.

   هذا هو الواقع وهذه نهاية كل من ينحرف عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم فالانحراف كالزاوية تكون ضيقة ثم تزداد بدلالة الزمن ففي بداية الانحراف يشتبه الأمر على كثير من الناس ولا يتنبهون لها إلا العلماء الراسخون ومع مرور الزمن يرآها كل أحد، قال شيخ الإسلام (8/425):"فالبدع تكون أولها شبراً ثم تكثر في الأتباع، حتى تصير ذراعاً، وأميالاً، وفراسخ".

 

والحمد لله رب العالمين.

 



[1]/ مجموع الفتاوى (15/157).

[2]/ مدارج السالكين (3/ 411).

[3]/ الآثار (1/95-96).

[4]/ الآثار (6/292-293).

[5]/ الآثار (5/75).

[6]/ الآثار (1/166).

[7]/ منهاج السنة النبوية (1/75).

[8]/ الأسس الأخلاقية (16).

[9]/ الأسس الأخلاقية (22).

[10]/ تجديد الدين (34-35).

[11]/ انظر رسائل حسن البنا (35،107،206).

[12]/ انظر واقعنا المعاصر (450).

[13]/ أولويات الحركة الإسلامية (9).

[14]/ مدارج السالكين (3/415-417).

[15]/ تذكرة الدعاة (7) وانظر تدوين الدستور الإسلامي (28).

[16]/ تذكرة الدعاة (6).

[17]/ المصطلحات الأربعة في القرآن (80).

[18]/ المصطلحات (128).

[19]/ انظر في ظلال القرآن (2/105-1006) (3/1346،1763) (4/1846).

[20]/ الطريق إلى الجماعة الأم (60).

[21]/ وفقات مع كتاب للدعاة فقط ().

[22]/ الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم (142-143).

[23]/ الصحوة الإسلامية (147).

[24]/ مقدمة منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله (9-10).

تم قراءة المقال 6506 مرة