الأربعاء 7 صفر 1432

أصول الدعوة (الدرس الخامس)

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

الأصل الخامس: اعتقاد شمول الشريعة لجميع مناحي الحياة

 

    ومن أصول العقيدة الإسلامية المستصحبة في كل أبواب الدين اعتقاد شمولية الشريعة الإسلامية لكل ما يحتاج إليه الناس لصلاح دنياهم وأخراهم، فلا يوجد ميدان من ميادين الحياة يمكن فصله عن الشريعة، لا السياسة وقضايا الحكم ولا الاقتصاد والأمور التجارية، ولا قضايا التربية وعلم الاجتماع، ولا الطب ولا الصحافة ولا الرياضة الخ، وليس الدين مقصورا على العبادات فحسب أو العبادات وأحكام الأسرة كما يدعيه الملاحدة.

 

أصول الدعوة (الدرس الخامس)

 

تقرير الأصل

    أما أدلة هذا الأصل فهي مذكورة ضمن أدلة الأصل الأول( كمال الدين) فلا نطيل بإعادة ذكرها،  ومنها حديث سلمان رضي الله عنه، وقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء/59) إذ هذا التنازع قد يكون في كل الأبواب.

    وفي تقرير شمولية الإسلام يقول ابن القيم:« وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد، في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده، وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان ولا يتطرق إليهما تخصيص، عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين فروعه. فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا».

لذلك كان هذا الأمر من أصول العقيدة يجب أن يعلمه كل مسلم وأن يستصحبه في باب الدعوة، فتكون دعوته متسمة بالشمولية، وليس معنى قولنا فيما سبق إن التوحيد أولى الأولويات أن نهمل القضايا الأخرى، لأن الدين كل لا يتجزأ.

    ثم قال رحمه الله:« فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به. وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علما وعلمهم كل شيء، حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود والأكل والشرب، والركوب والنزول والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة والغنى والفقر والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت…وبالجملة فقد جاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته،ولم يحوجهم إلى أحد سواه، فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة، تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها أو إلى قياس أو إلى حقيقة أو معقول خارج عنها؟ من ظن ذلك، فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده»([1]).

   ويقول ابن باديس رحمه الله وهو يبين ما في القرآن:« فيه من علم مصالح العباد في المعاش والمعاد، وبسط أسباب الخير والشر والسعادة والشقاوة في الدنيا والأخرى، وعلم النفوس وأحوالها، وأصول الأخلاق والأحكام، وكليات السياسة والتشريع، وحقائق الحياة والعمران والاجتماع، ونظم الكون المبنية على الرحمة والقوة والعدل والإحسان إلى ما تقصر عن عده الألسنة وتعجز عن الإحاطة به الأفهام»([2]).

   وهذا الأمر لا ينبغي أن يبقى دعوى عاطفية مجردة عن التجسيد في الواقع، بل لابد من الرجوع إلى المصادر الحية الخالدة للشريعة الإسلامية لنتبين ذلك ولتبيينه للناس بعد ذلك، وفي هذا المعنى يقول الشيخ ابن باديس رحمه الله وهو يشرح قوله تعالى :] وكل شيء فصلناه تفصيلا [:« فكل ما يحتاج إليه العباد لتحصيل السعادتين من عقائد الحق وأخلاق الصدق وأحكام العدل ووجوه الإحسان كل هذا فصل في القرآن تفصيلا، كل فصل على غاية البيان والإحكام ، وهذا دعاء وترغيب للخلق أن يطلبوا ذلك كله من القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم في العلم والعمل ويأخذوا منه ويهتدوا به ، فهو الغاية التي ما وراءها غاية في الهدى والبيان» ([3]).

ولما كانت هذه العقيدة أصلا عظيما من أصول الإسلام فلابد أن يجتهد طلبة العلم في توضيحها والدعوة إلى تجسيدها في الواقع، وتيسير السبل المؤدية إلى ذلك من نشر العلم والدعوة إلى الاجتهاد، وكذلك لابد من توعية الناس بأنه لا شفاء لهم من أمراضهم الفردية والاجتماعية إلا بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية وتحكيمها في حياتهم اليومية.

التطبيـق الخطأ

1-أول المخالفين في هذا الأصل هم العلمانيون، لأن مفهوم العلمانية عندهم ليس هو فصل الدين عن الدولة والسياسة فحسب، بل فصل الدين عن الحياة، فيقولون لا دخل للحلال والحرام في الطب والرياضة والجراحة والصحافة والتجارة والقضاء الخ، وبسبب هذا المفهوم الخطأ للعلمانية وجدنا كثيرا من المسلمين قد وافقوا العلمانيين من غير أن يشعروا، وحتى أهل السياسة الذين جعلوا مشكلتهم مع العلمانيين في الحكم لم يسلموا، إذ تجد أكثرهم يعيش عيشة بعيدة عن أحكام الله تعالى، وأصبح يرمي الناصحين لهم من العلماء وطلبة العلم بكلام لا يختلف كثيرا عن كلام العلمانيين، الذين يرفعون شعار التخصص لتبرير دعاويهم الإلحادية.

2-وإضافة إلى هؤلاء نجد في المسلمين من يدعي الشمولية أصلا له وقناعة بنى عليها هدف دعوته، ثم هو يهدمه من حيث لا يشعر لجهله بالدين وأصوله، وسقوطه في حرب نفسية لا يثبت فيها إلا من عصم الله تعالى. فأصبح العلماء في العصر الحاضر بدل أن نواجهوا علمانية من لا يؤمن بالله تعالى ولا باليوم الآخر يواجهون ألسنة وأقلاما إسلامية تدعي رفع لواء الإسلام وهي تنطق بمثل كلام الأعداء.

3-وأصبح بعض الناس وهو يتكلم في السياسة الشرعية عن صلاحية الشريعة الإسلامية وتنظيمها السياسي لكل زمان يتلفظ بكلام لا نجد له معنى سوى إنكار وجود نظام إسلامي له ميزاته وخصائصه، كتعليل بعضهم لهذه الصلاحية بأن القرآن لم يبين في هذا المجال إلا الأسس والقواعد الكلية التي يبنى عليها تنظيم الشؤون العامة للدولة، وهي أمور قلما تختلف فيها أمة عن أمة أو زمان عن زمان، أما التفصيلات التي تختلف فيها الأمم باختلاف أحوالها أو أزمانها فقد سكت عنها لتكون كل أمة في سعة من أن تراعي فيها مصالحها الخاصة وما تقتضيه حالها([4]).

4-ومن المخطئين في هذا الباب الناس الذين يحصرون الدين في بعض الجزئيات يعقدون عليها الولاء والبراء، لا بمعنى التخصص، ولكن ما يحسنه هو الدين وما سواه ضلال كالإخوان الذين جعلوا الحكم هو همهم وما سواه مضيعة وقت، والتبليغية الصوفية الذين جعلوا همهم الأخلاق وما سواه ضلال، وهؤلاء الذين جعلوا الجرح والتعديل هو الدين وما سواه ضلال، وقد تكون دعوة بعضهم في أول الأمر لا حصر فيها لكن يجعلون ما يهتمون به أولوية ولكن مع التقادم يحدث الغلو والزيادة في الانحراف حتى تجزأ أمور الدين ويحصر في قضية واحدة.

 



[1]/ أعلام الموقعين لابن القيم (4/375).

[2]/ الآثار (1/41).

[3]/ الآثار (1/79).

[4]/ السياسة الشرعية لعبد الوهاب خلاف (21).

تم قراءة المقال 4896 مرة