طباعة
الاثنين 13 شوال 1434

(28)الحقوق المادية للطفل: التربية العاطفية

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

المبحث الثامن : التربية العاطفية

    تحتل العاطفة مساحة واسعة في نفس الطفل الناشئ، ولها دور كبير في تكوينه وبناء شخصيته، فإن روعيت هذه الناحية في مراحل نموها نشأ إنسانا سويا ومتزنا، وإن أخل المربون بها وبقواعدها زيادة ونقصانا أدى ذلك لا محالة إلى اختلال في سلوك الطفل وطريقة تفكيره، وربما كون له ما يسمى بالعقد النفسية ([1]).

   ومسؤولية هذه الرعاية تقع على الوالدين أساسا قبل غيرهما، ولابد للآباء أن يعلموا أن العلاقة بينهم وبين أولادهم ليست علاقة عسكرية، علاقة أوامر ونواهي جافة لا رحمة فيها ولا شفقة، ولابد أن يعلموا أن الطفل يحتاج إلى الحب والحنان في المراحل الأولى من ولادته، ويظل محتاجا إلى ذلك طول مدة طفولته.

(28)الحقوق المادية للطفل: التربية العاطفية

   وإن عدم إشباع هذه الحاجة الفطرية للطفل والتفريط فيها والغفلة عنها يؤدي لا محالة إلى عدة عوارض وأمراض نفسية منها: انعدام الثقة بالنفس وظهور القلق والإنطواء على الذات، الذي يؤدي بالطفل إلى الاستقلال بمشكلاته وإلى الكبت والكظم الذي يضر به ويؤثر على سلوكه سلبا، وربما يصبح الطفل لا يهتم بشعور والديه انتقاما منها، والشيطان يزين له أن والداه لا يحبانه فيبغضهم، ويصبح يتكلف العقوق لهما، كما قد يؤدي ذلك إلى تعلق الولد بغيرهما من الأقارب الذين يظهرون له المودة والعطف والحنان فيبرهم ويفرط في بر والديه، ويؤدي الفقر العاطفي في أكثر الأحيان إلى القسوة والعنف في التعامل مع كل من حوله وسوء الظن بهم.

   وهذا الجانب من تربية الأطفال قد نبه عليه علماء التربية القدماء والمحدثون، الشرقيون والغربيون، ونحن في هذه المقالة نحاول جمع بعض النصائح التربوية وبعض الأمور التي يرشد إليها الآباء، ليحققوا التوازن المطلوب في التربية العاطفية، وذلك من خلال النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية .

أولا : تقبيل الأولاد والمسح على رؤوسهم

   ومن أبرز مظاهر الرأفة بالأطفال وإظهار المحبة لهم والعطف عليهم تقبيلهم والمسح على رؤوسهم، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك واعتبره من مظاهر الرحمة الواجبة بالأطفال ، وأنكر على بعض الأعراب خشونتهم وتركهم لهذا الأمر ، فقد قبل رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حفيده الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَكان عِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ ([2]). وفي حديث آخر "قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ فَقَالُوا نَعَمْ فَقَالُوا لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ"([3]). وهذا التشديد من النبي صلى الله عليه وسلم في العبارة يدلنا على أهمية هذا الأمر الذي قد ينظر إليه الأعراب الغلاظ في أخلاقهم وتقاليدهم منافيا لتمام حزمهم وكمال شخصيتهم ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك علامة نزع الرحمة من القلوب ، ودلهم بالقول والفعل إلى هذا الأمر وهو سيد المربين صلى الله عليه وسلم وأكملهم حزما ورجولة .

   ولم يقصر النبي صلى الله عليه وسلم تعامله هذا مع أولاده وأحفاده، بل كان عاما مع صبيان المسلمين ، لأنه صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة للعاملين، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم([4])، فتأمل كيف كان يلقي السلام على الصبيان ولا يحقرهم ويمسح على رؤوسهم إظهارا للرحمة بهم والعطف عليهم ، وعن جابر بن سمرة وهو من صغار الصحابة قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْأُولَى أي صلاة الظهر -ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا قَالَ وَأَمَّا أَنَا فَمَسَحَ خَدِّي قَالَ فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا أَوْ رِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ([5]). والجؤنة وعاء يضع العطار فيه متاعه .

ثانيا : مباشرة اللعب مع الأولاد ومداعبتهم

   ومن مظاهر تقوية الروابط العاطفية بين الآباء والأولاد مباشرة اللعب معهم ومداعبتهم والمزاح معهم، وهذا أمر لم يهمله قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم مع علو مقامه وشرفه ، وهو أمر يأنف كثير من الآباء عنه ويعتبرونه مما ينقص من أقدارهم عند أولادهم، وهو في الواقع مما يزيد من تعلق الأولاد واحترامهم للآباء ما لم يتجاوز الحدود الشرعية والمعقولة ، ومن الأحاديث الثابتة في هذا قول شَدَّادٍ بن الهاد : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا قَالَ شداد فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ قَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ([6]). وحفيد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان صغيرا لا يعقل معنى الصلاة ، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم عوده مثل هذا لما فعله. ولا يخلو هذا الحديث من دلالة على شدة رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال وخاصة في تعليله لطول سجوده وقوله :« فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ ».

   وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يمزح مع الأطفال ولا يقول إلا حقا ، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمازحه ويقول له :« يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ »([7])، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :« ينبغي أن يكون الرجل في أهله كالصبي فإذا التمس ما عنده وجد رجلا »([8])، كالصبي أي في الأنس والبشر وسهولة الخلق والمداعبة مع أولاده ، وهذا لا ينافي كمال الرجولة كما سبق، واستعمل عمر بن الخطاب رجلا على عمل، فرأى عمر يقبل صبيا له، تقبله وأنت أمير المؤمنين! لو كنت أنا ما فعلته، قال عمر: فما ذنبي إن كان نزع من قلبك الرحمة! إن الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء؛ ثم عزله عن عمله وقال له : أنت لا ترحم ولدك فكيف ترحم الناس([9]).

ثالثا : نصح الأولاد وإظهار الحرص عليهم

   ومن المهم جدا أن يظهر الآباء حرصهم على أبنائهم وخوفهم عليهم وعلى مصالحهم ، فإذا أراد تعليمه شيئا أو تحذيره من أمر، فعليه أن يسوقه في قالب النصيحة التي تظهر في الرأفة والشفقة ، ويستعمل العبارات اللينة والمقدمات التي تستعطف الولد وتجعله أسرع قبولا لما يريد منه والده أو مربيه-، وإلا فإن الطفل قد يتوهم أن أباه يريد فقط أن يسلط عليه ويفرض عليه آراءه أو أن يحرمه من أشياء فلا يمتثل للأمر ، أو يتظاهر بالاستجابة والقبول أمام والده فإذا غاب الوالد خالف أمره.

   ومما يرشدنا هذه المعاني وصية لقمان الجامعة لحقوق الله وحقوق الناس التي قص علينا ربنا عز وجل في القرآن الكريم، حيث قال :] وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[ (لقمان:13) فابتدأها بهذه العبارة التي لها أثر سحري في نفوس الأولاد :"يا بني " وكررها في بقية النصائح التي أعقبتها مرتين.

   ومنه أيضا وصية نبينا صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس حيث قال له :« يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»([10]). ونصيحة الولد عموما من علامة الرحمة به الشفقة عليه ، ومن أخل بها انطبق عليه وعبد النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال :« لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا»([11]).

رابعا : مواساة الأولاد وتفقد أحوالهم

   ومن الأمور المهمة في باب التربية العاطفية تفقد أحوال الطفل والسؤال عن احتياجاته ، وكذلك مواساته في أحزانه ومشاركته في أفراحه، ومما يؤثر عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ما رواه أنس بن مالك أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَلَهَا ابْنٌ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُكْنَى أَبَا عُمَيْرٍ وَكَانَ يُمَازِحُهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَرَآهُ حَزِينًا فَقَالَ مَالِي أَرَى أَبَا عُمَيْرٍ حَزِينًا فَقَالُوا مَاتَ نُغَرُهُ الَّذِي كَانَ يَلْعَبُ بِهِ قَالَ فَجَعَلَ يَقُولُ أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ([12]).

خامسا : تقديم الهدايا والعطايا

   ومما يخدم هذا الجانب تقديم الهدايا والعطايا ، وإن للهدية أثر في نفوس جميع الناس، وفي نفوس الأطفال لها تأثير أخص ووقع أكبر ، وفي الحديث: « تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ»([13])، وهدية الأطفال لها طعم خاص مهما كان نوعها لعبا كانت أو لباسا أو حلوى ، ومهما كان سن هذا الطفل ، ومما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا المضمار أنه كَانَ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِأَوَّلِ الثَّمَرِ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَفِي ثِمَارِنَا وَفِي مُدِّنَا وَفِي صَاعِنَا بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ الْوِلْدَان([14]). لكن لا ينبغي أن يكثر منها حتى لا تهون في نفس الطفل وتفقد من أثرها، فلا بد أن تكون بحسب المناسبات ومن حين إلى الآخر.

سادسا : ضرورة العدل بين الأولاد

     ومما هو مهم مراعاته في باب العطايا والهدايا الحذر من إظهار التفريق بين الأولاد، فإن في ذلك ضررا كبيرا على عاطفة الطفل وتكوين شخصيته وأخلاقه ومعاملاته لولديه فيما بعد، عن النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا قَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا قَالَ لَا قَالَ فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ([15])، وكيف لا يكون جورا وظلما في حق بقية إخوانه ؟ إذ كيف يكون شهورهم وهم يرون هذا التمييز والتفضيل.

   وهذا العدل كما مطلوب وواجب في العطايا والهدايا، فكذاك هو مطلوب في المعاملة، عن أنس رضي الله عنه قال كان رجل جالس مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه ابن له فأخذه فقبله ثم أجلسه في حجره ، وجاءت ابنة له فأخذها إلى جنبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا عدلت بينهما ([16])، أي هلا عدلت بينهما في التقبيل ، فدلنا هذا أن العدل مطلوب حتى في المعاملة بين الأولاد ذكورهم وإناثهم ، والتقصير في هذا الأمر عواقبه وخيمة على أخلاق الأولاد وأقل ما يورثه إيثار بعض الأولاد على البعض إيغار صدورهم وإثارة التحاسد فيما بينهم .

سابعا : احترام الأولاد وتقديرهم

   إن الطفل في حاجة إلى أن نشعره بقدر من الاحترام والتقدير ورفع الشأن، وإشباع هذه الحاجة يعني قبوله اجتماعيا وزرع الثقة به واكتساب ثقته، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يلقي السلام على الصبيان، ويكنيهم كما كنى أبا عمير، ويسمح لهم بحضور مجالس الكبار العلمية ، فينبغي الحذر من تحقير الولد واحتقار عمله ، ولا بد من الحرص على تشجيعه ورفع معنوياته لا كسرها ، وإذا تقدم في السن يشرك في الرأي ويشاور في الأمور التي تهمه أو يمتحن فيما لا يهمه لتصويب رأيه إن أخطأ ويشكر ويجازى إن أصاب .

   وقد أشارت بعض الدراسات النفسية إلى أن الأسوياء (الأطفال الأصحاء نفسيا) كان آباؤهم يلتفتون إلى محاسنهم ويمدحونهم على أعمالهم الحسنة أكثر من انتقاد أخطائهم ويشاركونهم في اللعب والعمل كالأصدقاء ، والطفل يميل إلى من يقدره ويحترمه ويبدي الإعجاب بعمله وقوله لذلك فإنه إن لم يجد ذلك عند والديه ومعليمه فقد يجده عند من يشجعه على الخطأ والانحراف([17]). ولا ينبغي على الوالد أو المربي أن يفرض على الوالد أن يكون مثله في كل شيء، بل يحاول إقناعه بما هو صواب ليمتثل، خاصة في الأمور المتعلقة بالسلوك الطبعي الذي لا مخالفة فيه للشرع.

ثامنا : الحذر من إظهار التسخط من الولد

   إن الأولاد نعمة من نعم الله تعالى العباد ، قال تعالى :] يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[ (الشورى:49-50) فينبغي للآباء أن يحمدوا الله على هذه النعمة وأن يظهروا فرحهم بأولادهم وأن يحذروا من إظهار التسخط منهم ، سواء كانوا ذكورا أو إناثا، وسواء كانوا قليلين أو كثيرين ، وسواء كانوا أصحاء أو مرضى ، وقد سبق أن الطفل يتأثر بشعور أمه وهو جنين في بطنها ، فكيف بعد ولادته وهو يسمع كلام والديه وينظر إلى معاملتهما له، وأكثر ما يظهر ذلك ممن كان له بنات أو أولاد كثيرين أو بهم عاهة من العاهات، وذلك من الجهل والظلم والتعدي، ولأن الأولاد كما ذكرنا هبة ربانية يجب شكرها والصبر عليها، وإذا ما ابتلي العبد فالرضا بما قدر الله تعالى للعبد واجب .

   وأما أمر البنات فلما كان كثير من الناس لا يرغبون فيهن، وربما يرون صعوبة في تربيتهن على الطريق المستقيم فقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر على ذلك بما لم يرغب به في حق من كان له ذكور، قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ وَأَطْعَمَهُنَّ وَسَقَاهُنَّ وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَتِهِ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([18])، بل أكثر من ذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ » ([19]).

   وأما الولد المريض والمعوق فهو محتاج إلى مزيد اعتناء وعطف وحنان نظرا لحالة النقص التي هو فيها، فإن أظهر له أولياؤه خلاف ذلك فإن يزداد مرضا وتتعقد حالته النفسية تعقدا يتعذر معه العلاج.  

   ومن مظاهر التسخط منهم الدعاء عليهم بأنواع الشر والسوء، وهذا خطأ جسيم في تربية الأولاد وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال :« لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ »([20]). والواجب هو الدعاء لهم بالهداية والخير لأن ذلك هو الذي ينبئ عن حرص الوالدين على أولادهما ومحبة الخير لهم والرحمة بهم.

تاسعا : الحذر من الإفراط في المحبة وتدليل الطفل

   ومع ذلك ينبغي التنبه إلى ضرورة حفظ التوازن في هذا الباب الحساس، فإن الحب المفرط للأبوين أيضا يعد انحرافا تربويا إذا أدى إلى تدليل الطفل وكسر شخصيته، وتعطيله عن القيام بنفسه وعدم إعداده لمواجهة صعاب الحياة، وكذا إذا أدى بهم إلى مملأتهم على أخطائهم وتلبية جميع رغباتهم وشهواتهم ما ينفع وما يضر ما يجوز وما لا يجوز، وكلا الأمرين من سوء التربية ولا شك، وهم يهينون أولادهم في حين يظنون أنهم يكرمونهم.

   قال ابن القيم وهو يوجه الآباء إلى الطريقة المثلى في تربية الأولاد:« ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة بل يأخذه بأضدادها، ولا يريحه إلا بما يجم نفسه وبدنه للشغل، فإن الكسل والبطالة عواقب سوء ومغبة ندم، وللجد والتعب عواقب حميدة إما في الدنيا وإما في العقبى وإما فيهما، ويجنبه فضول الطعام والكلام والمنام ومخالطة الأنام، فإن الخسارة في هذه الفضلات وهي تفوت على العبد خير دنياه وآخرته، ويجنبه مضار الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج غاية التجنب، فإن تمكينه من أسبابها والفسح له فيها يفسده فسادا يعز عليه بعده صلاحه، وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته له على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء»([21]).

عاشرا : الاعتدال في أمر التأديب والعقوبة

   ومن الأمور المؤثرة على نفسية الولد الانحراف في أسلوب التأديب وتسليط العقوبة عليه ، والكلام في ضوابط التأديب والعقوبة أمر يطول والاستطراد فيه يخرجنا عن باب التربية العاطفية ، ولكن نحاول تسليط الضوء على بعض الأمور والمخالفات التي لها تعلق مباشر بما نحن فيه، فنقول إن كثير من الآباء قد خرجوا بالتأديب عن مقصده التربوي الذي هو تقويم الخطأ إلى مقاصد أخرى توهموها كمن يمارس على أولاده إرهابا ويسومهم عذابا ثم يقول:" لابد من الحفاظ على الهيبة" ويقول :" أريد تربيتهم على الخشونة". وسيد المربين محمد صلى الله عليه وسلم قد استعمل كل الوسائل الشرعية ولم يصل إلى استعمال الضرب مع أهله لأن ذلك آخر وسائل التربية وقد لا يحتاج إليه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: « مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »([22]). والذي ينبغي أن يعلم أن المربي إذا اضطر إلى تأديب الولد لابد أن يعلمه بسبب التأديب حتى لا يتوهم أنه ظلمه، وكذلك عليه أن يجتنب العقوبة متى كان مغضبا لأنه قد يخرج عن حد العدل والإنصاف، ولابد أن يراعى سنه وفهمه ، وقد سئل الإمام أحمد عن ضرب المعلم الصبيان ، فقال :« على قدر ذنوبهم ، ويتوقى بجهده الضرب وإن كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه »([23]). والإكثار منها فساد في التربية يجعل الولد يتصور أن والده يبغضه، ويجعله يتعلم الكذب إلى غير ذلك من المفاسد، يقول العلامة البشير الإبراهيمي مؤكدا هذه المعاني :« ليحذر المعلمون الكرام من تلك الطريقة العتيقة التي كانت شائعة بين معلمي القرآن، وهي أخذ الأطفال بالقسوة والترهيب في حفظ القرآن، فإن تلك الطريقة هي أفسدت هذا الجيل وغرست فيه رذائل مهلكة ، إن القسوة والإرهاب والعنف تحمل الأطفال على الكذب والنفاق وتغرس فيهم الجبن والخوف ، وتبغض إليهم القراءة والعلم، وكل ذلك وكل ذلك معدود في جنايات المعلمين الجاهلين بأصول التربية» ([24]).

  وللعقوبة ضوابط شرعية لابد من احترامها حتى تبقي في حد التأديب، ولا تخرج إلى حيز التعذيب، منها : اجتناب ضرب المواضع الحساسة كالوجه لما فيه من التقبيح له والتأثير الذي لا يزول، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ »([25])، ومنها عدم مجاوزة الحد الشرعي للضرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم :« لَا يُجْلَدُ أحد فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ »([26])، والحدود حرمات الله تعالى، أما ما يتعلق بالأدب دون ذلك فلا ينبغي أن يتعدى به الحد المذكور قد نص على ذلك العلماء استدلالا بالحديث ([27]). ومنها : اجتناب الأساليب القاسية وغير الشرعية كالسب، وكالطرد من البيت، والحرق بالنار، والحرمان من الطعام لمدة طويلة ، لما في ذلك من الفساد وتضييع الحقوق الواجبة عليه.

 


/ انظر منهج التربية النبوية للطفل لمحمد نور سويد (310) دار ابن كثير دمشق .

/ رواه البخاري (5997) ومسلم (2318).

/ رواه البخاري (5998) ومسلم (2317) واللفظ له.

/ رواه ابن حبان في صحيحه (459) في باب : ما يستحب من استعمال التعطف مع صغار أولاد آدم.

/ رواه مسلم (2329).

/ رواه النسائي (1141) .

/ رواه أبو داود في سننه (5002) والترمذي وجامعه (1992) وصححه .

/ ذكره الهندي في كنز العمال (16/573) وعزاه لابن أبي الدنيا وعبد الرزاق في الجامع .

/ ذكره الهندي في كنز العمال (16/584) الحديث رقم (45949).

/ رواه الترمذي (2516) وصححه.

/ رواه الترمذي (1920) وصححه.

/ رواه أحمد (3/188) وأصله في الصحيحين.

/ رواه مالك في الموطأ (1685) والبخاري في الأدب المفرد (594) وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1601).

/ رواه مسلم (1373).

/ رواه البخاري (2650) ومسلم (1623) واللفظ له .

/ رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/89) رقم (5407) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2883).

/ كيف تربي ولدك (43).

/ رواه ابن ماجة (3659) وصححه الألباني.

/ رواه مسلم (2631).

/ رواه أبو داود (1532) وصححه ابن حبان (5742).

/ تحفة المودود في أحكام المولود لابن القيم (241-242) ط1-1971 مكتبة دار البيان دمشق .

/ رواه مسلم (2328).

/ الآداب الشرعية لابن مفلح (1/506).

/ آثار الشيخ البشير الإبراهيمي (2/113) دار الغرب الإسلامي.

/ رواه مسلم (2613) وأبو داود في سننه (4493) واللفظ له .

/ رواه البخاري (6848) ومسلم (1708).

/ انظر المنهج التربوي عند القابسي (93).

تم قراءة المقال 6928 مرة