الخميس 18 ربيع الثاني 1442

(36) التربية العقدية : الإيمان بالقدر مميز

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

المبحث الثامن : الإيمان بالقدر


   من الأمور المهمة التي ينبغي تلقينها للناشئة الإيمان بالقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، وليس معنى ذلك أن تلقن هذه العقيدة بطريقة علمية بالضرورة فضلا أن تكون جدلية، بل الواجب ربطها بالإيمان بالله تعالى وصفاته وبالعمل بمقتضياتها ولوازمها مباشرة، ويمكن تجلية هذه المقتضيات واللوازم في العناصر الآتية:
أولا : تعظيم الله تعالى بالعلم السابق
   أول القضايا المتعلقة بالقدر بالإيمان بكمال علمه سبحانه وشموله، فالمسلم يعتقد بأن الله تعالى علم ما كان قبل أن يكون وعلم ما سيكون، وما الناس عاملون وما هم إليه صائرون، وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض: قال تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (الأنعام38)، وقالصلى الله عليه وسلم:« كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»(رواه مسلم)، وقالصلى الله عليه وسلم:« إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ » (رواه أبو داود  والترمذي  وصححه). وهذه النصوص أو معانيها لابد من تكرار ذكرها والاستشهاد بها حتى تصبح راسخة في قلوب الناشئة.
ثانيا : التأكيد على تقدير الأرزاق والأعمار
   من القضايا المتعلقة بالقدر تعلقا مباشرا تقدير الأرزاق والأعمار، وهي قضايا نجد مناسبات كثيرة لإثارتها وبيانها في حياتنا اليومية تقريرا أو توجيها وتصحيحا أقوال الأولاد أو تصرفاتهم، كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يرسخ هذه المعاني في قلوب أصحابه، قالت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال صلى الله عليه وسلم :« قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ» (رواه مسلم). فهذا توجيه نبوي في أمر عملي وهو مبني على عقيدة القدر متجلية في العنصرين اللذين نحن بصدد الحديث عنها الأرزاق والأعمار.
   ولعل أبرز شيء عملي للإيمان بتقدير الأرزاق والأعمار يشرح للأولاد تحري الرزق الحلال، لأن المرء رزقه مقدر ومقسم على طول أيام حياته التي هي مقدرة أيضا، قال صلى الله عليه وسلم :« أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» رواه ابن ماجة  وصححه الألباني.
ثالثا : لا ينسب الشر إلى الله تعالى
    من الآداب التي لها صلة مباشرة بالإيمان بالقدر والتي ينبغي أن ينشأ عليها الأولاد؛ نسبة الخطأ دائما إلى أنفسهم ونسبة الشر أبدا إلى المتسبب فيه لا إلى الخالق سبحانه، وذلك تنزيها لربنا عز وجل مع الاقرار بأنه خالق كل شيء وقد قال تعالى : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (الصافات:96)، وقد أرشد ربنا سبحانه إلى هذا الأدب في قوله : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (النساء 78-79). وامتثل ذلك نبينا في دعائه حيث قال :"وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ (م:771) والحكمة من كل ذلك تنزيه الله تعالى عن الظلم، قال تعالى : (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (آل عمران182)، وقال سبحانه: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (فصلت: 46). فهذا أدب عملي لكنه ضروري جدا في تحصيل الاعتقاد السليم في قدر الله تعالى وقضائه.
رابعا : التوكل على الله وعدم خوف الناس
    من الأمور العملية اللازمة للإيمان بالقدر التوكل على الله تعالى في الأمور كلها، وعدم الخوف من كيد الناس الخوف الذي يجعل المرء يترك الواجب ويفعل المحرم، وهذا أمر لابد ان يلقن للأولاد نظريا بالكلام كما يجب أن يروه عمليا في سيرة المربي، وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم حيث علمنا ذلك بسيرته وبتعليمه ، ومما صج عنه في هذا المضمار وصيته الجامعة لابْنِ عَبَّاسٍ حيث قال له :" يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»(رواه الترمذي وصححه).
خامسا : الصبر على المصائب
   من أهم لوازم الإيمان بالقدر التي لابد أن يتربى عليها أولادنا تعليما ومشاهدة تلقينا وتدريبا الصبر على المصائب وعلى الشدائد ؛ وعدم الجزع فضلا عن اظهار الضجر وعدم الرضا بقدر الله وقضائه، وإن ذلك من أعظم ثمار هذه العقيدة كما قال الله تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد22-23)، فالكل بتقدير سابق سواء ما يسر أو ما يحزن ، فلا نبالغ في الحزن على ما فاتنا ولا نفرح بما أوتينا الفرح المؤدي إلى البطر ونسيان فضل الله تعالى.
   ومن الأحاديث التي ينبغي أن يُلقنها منذ نعومة أظفارهم قوله صلى الله عليه وسلم:« عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (مسلم)، نظرا لما له من أثر في سلوك الواحد منهم ولأن حياتنا لا تخلوا من أشياء سارة وأخرى ضارة فالتعود على الشكر والصبر لابد أن يكون من وقت مبكر، ومن الآداب المتعلقة بهذه الجزئية تكرارنا لعبارة قد الله وما شاء فعل حين يفوتنا أمر أو يحدث خلاف ما كنتا نؤمل ونرجو فنعلم ذلك أولادنا بتصرفاتنا، وبأمرنا به ونهيا عن ضده كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»(مسلم).
سادسا : التخويف بالخاتمة
    من أهم لوازم الإيمان بالقدر الإيمان بالايمان بالموت الذي كتبه الله تعالى على كل البشر ؛ والتيقن من جهالة موعده الذي أخفاه الله عنا ليورثنا ذلك عدم الأمن من مكر الله تعالى؛ إذ الأعمال بالخواتيم والكتاب لم يطلع عليه أحد، لذلك فالواجب على كل مؤمن كبيرا كان أو صغيرا صحيحا أو مريضا أن يطيع الله تعالى وأن يحرص على الثبات على الطاعة حتى لا يكون من الآمنين ويظفر بالخاتمة الحسنة التي تجعله في زمرة الناجين، قال تعالى: ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) (الأعراف:99)، وقال صلى الله عليه وسلم:« فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» (متفق عليه). والذي لا شك فيه أن الولد إذا نبه إلى هذه المعاني وعاش بها كان عقيدته سليمة وأعماله صحيحة وإن تعثر سارع إلى التوبة والتصحيح وهذا هو الإنسان المؤمن الصالح الذي ترمي التربية الإسلامية إلى تكوينه.

تم قراءة المقال 537 مرة