قيم الموضوع
(0 أصوات)

*/ // -->

محاضرة افتتحت بها دورة علمية أقيمت بمسجد الفتح بباب الوادي في ربيع الثاني 1418 الموافق لشهر أوت 1997) .

الفصل الأول : تعديد الحلقات وتقليل الفنون

من أسباب نجاح الطالب في دراسته وتحصيله للعلم: عدم الإكثار من الفنون، فيطلب فنا بعد فن، وقد قالوا:« من طلب العلم جملة ذهب عنه جملة»، والأفضل في ذلك تفرغه لفن واحد حتى ينتهي من مقرر فيه، ثم ينتقل إلى فن آخر، لأن ذلك أجمع للقلب وأربح للوقت، إلا إذا وجد من يدرس فنين في زمن واحد، ورأى من نفسه قدرة على الاستيعاب فلا بأس بالجمع بينهما. وتتأكد هذه الأفضلية إذا كانت الحلقات في الفن الواحد مكثفة متعدّدة، وتعديد الحلقات في الأسبوع الواحد خاصة بالنسبة للحلقات التكوينية ضروري جدا.

فصول مهمة في منهج طلب العلم

 

قال ابن خلدون رحمه الله :» وكذلك ينبغي لك أن لا تُطوِّل على المتعلم في الفن الواحد والكتاب الواحد بتقطيع المجالس وتفريق ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة ففيه مجانبة النسيان وكانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة، لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه.. «(1).

وأزيد أمرا آخر يخص شباب أهل الزمان؛ وهو أن طول مدة الحلقات مظنة انقطاعهم وعدم مواصلتهم، إذ كثير منهم يتحمّس لطلب العلم عموما أو لذلك العلم بعينه؛ ولكن بُعدُ ما بين الحلقتين، وكثرة الشواغل بين الموعدين أمران كفيلان بإبراد ذلك الحماس، خاصة إذا كان الشيخ يدرس كتابا على الطريقة القديمة، أو كان يكثر الإملاء دون الشرح، أو يجمع المسائل ويسردها دون تصفية وتمحيص؛ فيمكث الشهر والشهرين في المسألة الواحدة دون تقدم، ويشرح المختصر ذي الورقات في عدد من السنوات …الخ.

ثم قال ابن خلدون رحمه الله تعالى:» ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا، فإنه حينئذ قلّ أن يظفر بواحد منها، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان جميعا ويستعصيان ويعود منهما بالخيبة، وإذا تفرغ الفكر لتعلم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله «(2).

أقول هذا الذي ينبغي أن يكون؛ تعديد الحلقات من طرف المدرسين، وتقليل الفنون بالنسبة للدارسين، ومن الخطأ في الفهم أن يقتصر الطالب على دراسة فن يدرس مرة واحدة في الأسبوع مثلا، ثم يقول :»هذا هو المنهج» «ومن طلب العلم جملة ذهب عنه جملة»!!، لأن هذا الأمر مرتبط بتدريس ودراسة هذا الفن يوميا، بالنسبة للمتفرغ لطلب العلم.

وكذلك بالنسبة للعلوم التي يريد الطالب أن يتوسع فيها لوحده بحثا أو مطالعة، فعليه أن ينصرف إلى فن واحد، وهو هنا أمير نفسه، يعكف على هذا العلم أطول مدة ممكنة أو حتى يتم ما أراده من مقررات، والله أعلم.

 

الفصل الثاني : ضوابط في دراسة الكتب المختارة للمبتدئ

من الأمور التي كان ينبغي أن تكون مسهلة للطلاب ودافعة لهم أن يتقدموا في طلب العلم في غياب الحلق والموجهين، تلك البرامج التي ينصح بها بعض العلماء وطلبة العلم، ولكن قد يُصيرُّها الطلبة المبتدئون في كثير من الأحيان من أكبر العوائق، وسبب ذلك نشرها دون أن يصحبها نصح أو توجيه أو تقييد أو إيضاح، فأصبح الواحد منهم يشرع في اتباع أول برنامج حصل عليه، فيحاول عبثا دراسة كل الفنون دفعة واحدة.

وإذا لم يجد الكتاب المذكور في ذلك البرنامج مكث الشهور أو قل السنوات ينتظر الحصول عليه ليطلب ذلك العلم، وإذا حصّل على برنامج مخالف للذي هو بين يديه وقد شرع فيه اضطرب وتساءل أيهما أصوب، وربما انتقل إلى الجديد منهما، وهذه آفة يعاني -وعانى -منها الكثير من الشباب الذين يريدون -أو أرادوا- أن يطلبوا العلم.

ومن جملة الضوابط التي ينبغي مراعاتها لتحصيل فائدتها ما يلي:

1- أن هذه البرامج تختلف بحسب البلاد وما توفر فيها من الكتب، وما أتقن فيها المشايخ والمتصدرون للتعليم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية مجيبا من سأله عن مثل ما نحن بصدد الحديث عنه :» وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم فهذا باب واسع وهو أيضا يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم ومن طريقه ومذهبه ما لا يتيسر له في بلد آخر«(3).

وقال الشوكاني وهو يذكر الكتب التي ينصح الطلاب بدراستها :» وهذا باعتبار هذه الديار اليمنية إذا كان طالب العلم فيها...فإذا كان ناشئا في أرض يشتغلون فيها بغير هذه المصنفات، فعليه الاشتغال بما اشتغل به مشايخ تلك الأرض مبتدئا بما هو أقرب تناولا«(4).

2- أن هذه البرامج التي يقدمها المعاصرون غالبا المقصود بها أن يسلكها الطالب إذا لم يجد الشيخ الموجه أو المدرس، أما إذا وجد الشيخ فالبرنامج برنامج الشيخ فيما يدرسه، وقد يستفاد هذا الضابط من كلام الشوكاني السابق حيث قال: »فعليه أن يشتغل بما اشتغل به مشايخ تلك الأرض«، إذ العلة في ذلك أنه يجد من يشرح له ذلك الكتاب ويوضح له معانيه. والذي نعيشه في هذا الزمان لا ينقضي منه العجب، الطالب عنده التحفة السنية بشرح الآجرومية، وهي مطبوعة في بلده مرارا وتدرس في حيه المرة بعد الأخرى، فلا يحضر تلك الحلقة عند من يدرسها، ثم يذهب يسأل ما هو أحسن المختصرات ملحة الإعراب أم الآجرومية ؟ وما رأيك في متممة الآجرومية؟ ومن درس قطر الندى مباشرة هل يمكنه فهمه؟ ما هو أحسن شروح الآجرومية ؟ ويا شيخ لو شرحت لنا كتاب كذا ..!!

لماذا كل هذا؟ ربما لأنه يريد التقيد بالبرنامج الذي سُطِّر منذ قرون من الزمان، أو جاءه من أقاصي البلدان، أو لأن تلك البرامج تعارضت لديه فهو لا يدري ماذا يصنع ومن يتبع(5)؟

3- أن ينبه الطالب إلى أن دراسة هذه الكتب المذكورة يكون واحدا واحدا، مرحلة بعد مرحلة، وأن يبين له هل يجب عليه حفظها أو تلخيصها أو تكرار قراءتها … الخ، إذ إنه من الخطأ أن تدرس كل الكتب التي حددت للمرحلة الأولى دفعة واحدة، وكم رأينا من وضع لنفسه جدولا يوميا أو أسبوعيا لدراسة هذه الكتب ولكن سرعان ما ينقطع ويجهد نفسه بلا نوال.

ومن الخطأ أيضا أن يقتصر على العلم الواحد فيدرس الكتب التي حددت للمراحل الثلاث أو الأربع الواحد بعد الآخر ، لأنه إما أن يسرع فيها فلا يفقهها جيدا، وإما أن يمكث معها وقتا طويلا ليهضمها-وأنى له ذلك-، فإنه لا يمكن للطالب مثلا أن يتقن علم الأصول، وليس لديه اطلاع على الفقه، وكيف يتمكن من الفقه ولا اطلاع له على الأصول.

وأيضا فإنه لا يحسن بالطالب أن يدرس علما فيتعمق فيه ويكون في الوقت نفسه أُمِّيا في علم آخر، فيتبع مثلا مراحل دراسة علم الحديث بطولها وقد تأخذ منه سنوات ولا يدرس مبادئ التوحيد ولا فقه العبادات والله أعلم.

4-أن يعلم أن الانتقال من كتاب إلى كتاب علامة الضجر والسآمة ومقدمة الانقطاع عن الطلب، قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في الحلية :« لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب، فهذا من باب الضجر »، قال الشيخ العثيمين رحمه الله: « التنقل من مختصر إلى آخر أو كتاب فوق المختصر إلى آخر هذه آفة عظيمة، تقطع الطالب طلبه وتضيع على الطالب أوقاته، كل يوم له كتاب ، بل كل ساعة له كتاب ، وهذا خطأ، إذا عزمت أن يكون قرارك الكتاب الفلاني فاستمر، لا تقل اقرأ فصلا في هذا الكتاب ثم تقول انتقل إلى آخر، فإن هذا مضيعة للوقت.

أما إذا كان هناك موجب، كأن لم تجد أحدا يدرك في هذا المختصر ورأيت شيخا موثوقا بإتقانه وأمانته يدرس مختصرا آخر فهذا موجب لا حرج عليك أن تنتقل من هذا إلى هذا »(6).

 

الفصل الثالث: ضرورة الحفظ

 

ويكفي للدلالة على فضل الحفظ أن أوائل حملة هذا الدين من المحدثين كانوا يوصفون بالحفاظ، وجاء بعدهم بل وكان في عصرهم علماء أجلاء في مختلف الفنون وكانوا حفاظا لعلومهم، رغم أنهم لم يعرفوا المختصرات ولا شروحها ولا حواشيها. فالعلم والحفظ لا يفترقان ولا يمكن لأحد أن يفرق بينهما كما أن العلم والفهم لا يفترقان، فإن هذه أمور متفق عليها لا نزاع فيها. وقد رأيت كلاما لابن الجوزي مُهمّا في هذا الباب أَبَيت إلا نقله، قال رحمه الله :« ينبغي لطالب العلم أن يكون جل همه مصروفا للحفظ والإعادة، فلو صحّ صرف الزمان إلى ذلك كان أولى؛ غير أن البدن مطية وإجهاد السير مظنة الانقطاع، ولما كانت القوى تكل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لا بد منه، مع أن المهم الحفظ وجب تقسيم الزمان على الأمرين فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل ويوزع الباقي بين عمل النسخ والمطالعة وبين راحة البدن وأخذ لحظه، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء، فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر الغبن وبان أثره، وإن النفس لتهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخف عليها، فليحذر الراكب من إهمال الناقة ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق، ومع العدل والإنصاف يأتي كل مراد، ومن انحرف عن الجادة طالت طريقه..»(7). هذا كلام ابن الجوزي في الحفظ وهو الذي يضرب به المثل في كثرة التصنيف، بل اسمع إليه يتكلم عن عدد الكتب التي طالعها وهو بعد في الطلب أي قبل تصدّره، قال رحمه الله : « ولو قلت إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعدُ في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لم يعرفه من لم يطالع»(8).

وإذا قلنا الحفظ مهم فلا بدّ للطالب أن يحفظ من العلوم ما ينفعه وأن يشتغل بالأهم فالأهم، ولا أهم من كتاب الله تعالى وسنة النبي r ، ثم بعد ذلك مبادئ العلوم -من توحيد وفقه ونحو وأصول - التي أخذها عن شيوخه أومن الكتب التي درسها، كان المأمون يوصي بعض بنيه فيقول:«اكتب أحسن ما تسمع، واحفظ أحسن ما تكتب، وحدّث بأحسن ما تحفظ»(9).

الفصل الرابع : مفهوم العلم والملكة العلمية

ومما ينبغي النصح به والإرشاد إليه اجتناب الكتب المعقدة في لفظها والخالية من الاستدلال في مادتها، التي ألفت في عصور الانحطاط والجمود، وإن من الآثار السيئة الناجمة عن اعتماد تلك الكتب في التعليم نسيان مقصد العلوم جميعها وهو فقه الكتاب والسنة، وتضييع ملكة الفهم للنصوص الشرعية.

قال الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى:» وإنما ننبه في هذا المقام إلى أسوأ أثر لهذه الطريقة الشائعة اليوم هو القضاء على الملكة العلمية لأنها شغلت المعلم والمتعلم معا بالكتاب عن العلم، إذ أصبح همهما كله مصروفا إلى تحليل الكتاب وفك عباراته والقيام على اصطلاحاته الخاصة، وفي ذلك بعض ما يستغرق الوقت، ولا يبقى سعة لإدراك قواعد العلم وتطبيق جزئياته على كلياته، وبعيدا جدا على من يدرس علما على هذه الطريقة أن تستحكم ملكته فيه، وكيف تستحكم ملكة الفقه مثلا لمن يقرأه من مثل مختصر خليل على هذه الطريقة فيمضي وقته في تحليل عباراته وتراكيبه المعقّدة، وربط المعمولات بالعوامل البعيدة، وإرجاع الضمائر المختلفة إلى مرجعها، والطفرة بالذهن من مذكور ومقدّر. هذا كل ما يَشغل وقت المعلم والمتعلم، وهم في الحقيقة لا يدرسون علم الفقه وإنما يدرسون كتابا في الفقه«(10).

فعلى الطالب في تحصيله للمبادئ -وبعده- أن يدرس الكتب الميسرة في لفظها، التي قصد أصحابها الإفهام وتقريب العلم لطالبه، لا الكتب الموجزة المختصرة الملغزة، التي ربما كتبها مؤلفها تذكرة لنفسه(11).

قال ابن خلدون :» ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم من تلك المختصرات إذا تمّ على سداده ولم يعقبه آفة؛ فهي ملكة قاصرة عن الملكة التي تحصل عن الموضوعات البسيطة المطولة، لكثرة ما يقع في ذلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة… فتصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوها صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكّنها، ومن يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له «(12).

وقد أصبح الناس أو أكثرهم يظنون أن العلم أو ملكة العلم هي مجرد الحفظ والاستحضار للتعاريف والأحكام وغيرها من المسائل المدونة، لا فَهْمُ القواعد وأدلتها مع حسن تطبيقها على جزئياتها، قال العلامة ابن باديس موضحا معنى الملكة وما ينبغي أن يؤخذ من الشيوخ :« فهم قواعد العلم وتطبيقها تحصل ملكة استعمالها، هذا المقصود من الدرس على الشيوخ، فأما توسيع دائرة الفهم والاطلاع، فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه بمطالعته للكتب ومزاولته للتقرير والتحرير »(13).

وقال حاجي خليفة :« اعلم أن من كانت عنايته بالحفظ أكثر من عنايته بتحصيل الملكة لا يحصل على طائل من ملكة التصرف في العلم، ولذلك ترى من حصّل الحفظ لا يحسن شيئا من العلم، ونجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر، ومن ظن أنها المقصود من الملكة العلمية فقد أخطأ، وإنما المقصود هو ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال من الدوال إلى المدلولات، ومن اللازم إلى الملزوم وبالعكس، فإن انضم إليها ملكة الاستحضار فنِعْمَ المطلوب، وهذا لا يتم بمجرّد الحفظ بل الحفظ من أسباب الاستحضار...»(14).

يقول البشير الإبراهيمي:» ...إن الأصولي الحقيقي هو الذي ينفق مما عنده أو يقرأ من أي كتاب كان ولا يفتتن بكتاب معين هذا الافتتان...، وفي وقتنا هذا نسمع علماء المعاهد المشهورة يتمدحون بمثل هذا ويصفون من يحسن إقراء التنقيح على هذه الطريقة بالأصولي المحقق«(15). ويقول ابن باديس رحمه الله تعالى:»الكتب التي تدرس فيها -المعاهد- هي الكتب القديمة المعقدة التي لا يتوصل الطالب إلى ما فيها من المعاني إلا بقطع طريق وعر شائك من الألفاظ، والمدرسون مضطرون أن يعلموا على مقتضى أسلوبهم العقيم، وإذن لا تكون لها نتيجة إلا بتبديل الكتب وتبديل الأساليب وانتقاء المدرسين وعدم التقيد بالمتخرجين منها- أي المعاهد«(16).

 

الفصل الخامس : الموازنة بين العلوم المقاصد والعلوم الآلية

 

المقصود بهذه الموازنة هو النظر في الوقت الذي يخصص لكل علم من العلوم، ومقدار التوغل في دقائقه، فإن كثيرا من الطلبة ممن لا موجّه له يتوغل في علم فيحصل من أصوله وفضوله دون تمييز، ويفني في ذلك حظا كبيرا من عمره على حساب علوم أخرى ربما كانت أولى بالعناية والتحصيل.

وربما تجد بعضهم يقضي السنوات الطوال بين اللغة والأصول، أو اللغة والحديث، ولم يعط لعلم التوحيد حظا ولا للفقه نصيبا، فهذا أيضا من المحذور الذي ينبغي التنبه له في طريق الطلب. قال العلامة ابن خلدون:« وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالها فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة ذلك الغير فقط، فلا يُوسّع فيها الكلام ولا تفرع فيها المسائل، لأن ذلك يخرج بها عن المقصود... وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها، مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني.

وهذا كما فعله المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق لا بل وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلا واستدلالا وأكثروا التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة لذاتها، وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة إليها في العلوم المقصودة بالذات، فتكون لأجل ذلك من نوع اللغو وهي مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بهذه الآلات والوسائل فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد»(18).

وفي هذه الفقرة تأكيد لما ذكرناه في قضية المتون المطولة، ونُصرة لفكرة تصفية العلوم من الأمور الدخيلة عليها والمسائل التي خالف فيها المتأخرون مذاهب المتقدمين سواء من حيث العرض أو الترجيح والله أعلم.

وبقي من كلامه نصيحة للمعلمين لا يحسن إخفاؤها حيث قال:« فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها، وينبهوا المتعلم إلى الغرض منها ويقفوا بها عنده»، فليتأمل هذا تأملا طويلا، وقد جعل حاجي خليفة كلام ابن خلدون، هذا في شرائط التحصيل فأحسن(18)، ومن لم يتنبه إلى هذا فهو محروم فكم من طالب ذهب يحصل علم النحو باعتباره وسيلة للعلم الشرعي وبعد زمن يكل ويمل، وإن استمر فإنه يستمر في دراسة علوم اللسان متخصصا فيها.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :« ثم ينظر ما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز والعلم غزير، وإن أقواما يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسنا لكن الأولى تقديم الأهم والأفضل، وأفضل ما تشوغل به حفظ القرآن ثم الفقه ، وما بعد هذا بمنزلة التابع »([1])(19).

والمقصود من كلامه واضح وموافق عليه إلا الحصر المذكور فإن علم التوحيد مقصد بل وعلم السلوك والأخلاق مقصد أيضا ولا تقل أهميتها عن الفقه والله تعالى أعلم.

وقال رحمه الله تعالى في موضع آخر :« وقد ثبت بالدليل شرف العلم وفضله إلا أن طلاب العلم افترقوا فكل تدعوه نفسه إلى شيء فمنهم من أذهب عمره في القراءات وذلك تفريط في العلم لأنه ينبغي أن يعتمد على المشهور منها لا الشاذ... ومنهم من يتشاغل بالنحو وعلله فحسب ومنهم من يتشاغل باللغة فحسب ومنهم من يكتب الحديث ويكثر ولا ينظر في فهم ما كتب، وقد رأينا في مشايخنا من كان يسأل في الصلاة فلا يدري ما يقول وكذلك القراء وكذلك أهل اللغة والنحو»([2])(20).

وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

الهوامش :

1/ المقدمة لابن خلدون (1032).

2/ المقدمة لابن خلدون (1032).

3/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/664).

4/ أدب الطلب للشوكاني (107).

5/ ومن استشار وفكر ما اضطرب ولا تحير ، فإنه من يسأل مثلا ما أقرأ في الأصول؟ الأصول من علم الأصول للعثيمين أم مبادئ الأصول لابن باديس ؟ أم تسهيل الوصول لعطية سالم والعباد؟ يقال له اقرأ أيها توفر لديك وأحسنها في نظري هو الكتاب الفلاني اعتن به حفظا وفهما فإذا فرغت منه اقرأ الآخر، فلا ينبغي أن يفرض التعارض حيث لا تعارض، ولا يجوز أن يتعصب الناس للكتب بعد أن تعصبوا للمذاهب.

6/ شرح حلية طالب العلم للعثيمين (85).

7/ صيد الخاطر لابن الجوزي (205).

8/ صيد الخاطر لابن الجوزي (441).

9/ تقييد العلم للخطيب البغدادي (141).

10/ مقدمة تفسير المعوذتين -مجالس التذكير- (397)

11/ قال الخضري بك وهو يتحدث عن بعض المختصرات الأصولية في كتابه أصول الفقه (ص:9):«إلا أن الاختصار قد بلغ حده حتى كاد الكلام يكون ألغازا ، وكأنهم لم يكونوا يؤلفون ليفهموا ، ولذلك احتاجت كتبهم إلى الشروح حتى تحل الألغاز وتبين معالمها ». وقال (ص:11):« وأما جمع الجوامع فهو عبارة عن جمع الأقاويل المختلفة بعبارة لا تفيد قارئا ولا سامعا ، وهو مع ذلك خلو من الاستدلال على ما يقرره من القواعد »

12/ المقدمة لابن خلدون (1029).

13/ آثار ابن باديس (3/90)

14/ كشف الظنون (1/55-56) وانظر الحطة في ذكر الصحاح الستة (47).

15/ مقدمة تفسير المعوذتين -مجالس التذكير- (398) ثم قال :» ولقد حاول جماعة من العلماء الحفاظ في القرون الأخيرة إصلاح هذه الحالة وإحياء طريقة الأمالي، فلم ينجحوا لافتتان جمهور المتعلمين بالكتب وانصرافهم عن العلم إلى الكتب في العلم «.

16/ آثار ابن باديس (4/39).

17/ المقدمة لابن خلدون (1038)

18/ كشف الظنون لحاجي خليفة (1/57).

19/ صيد الخاطر لابن الجوزي (178).

20/ صيد الخاطر لابن الجوزي (309-310).

تم قراءة المقال 5405 مرة