طباعة
الجمعة 6 ربيع الأول 1431

نصائح للمتخرجين

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فهذه مجموعة من النصائح وجهت لبعض الطلبة المتخرجين من كلية الشريعة بجامعة الجزائر عام 1429هـ، رأيت أن أصوغها وأهذبها -بعد تفريغها- في مقال يسهل تناوله بعد أن نقلت في كثير من المنتديات مسموعة،وقد كانت تلك النصائح مقسمة على خمسة محاور، أولا : ماذا يعني التخرج من الجامعة بالنسبة إلينا ؟ ثانيا : أسباب الاستمرار في الطلب، ثالثا : نصائح في باب الدعوة إلى الله تعالى، رابعا : نصائح خاصة بمنهج التدريس ، وأخيرا : محاذير لا بد من التوقي منها .

  

نصائح للمتخرجين


أولا : ماذا يعني التخرج من الجامعة بالنسبة إلينا ؟


    أول شيء نبتدئ به أن نطرح هذا السؤال ماذا يعني التخرج بالنسبة إلى أحدنا؟ هل هو الوصول إلى النهاية؟ أم هو بداية عهد جديد في طلب العلم؟ الذي لا شك فيه أن التخرج من الجامعة لا يعني الوصول إلى النهاية، لأن العلم المحصل عليه في السنوات الدراسية ليس هو كل العلم المراد تحصيله، وإنما هو بعضه بل هو مفاتيح في العلوم ومبادئ في العلوم الشرعية التي هي بحر لا ساحل له. والطالب بعد تخرجه أصبح الآن طليقا يطلب العلم بكل حرية بعيدا عن كل قيد يعطله أو يقطعه، إذ بإمكانه أن يختار لنفسه برنامجا مفيدا ينتفع به أكثر من برامج الجامعة التي تعتورها آفات كثيرة في التحصيل؛ ومن أظهرها كثرة المواد العلمية المقررة في السنة الواحدة وتزاحمها وقلة الحجم الساعي المخصص لهذه المواد الدراسية.

   وإن أقل ما يكون قد حصله الطالب من دراسته النظامية المبادئ التي تمكنه من الاستمرار في الطلب، وتجعله يعي أسس المنهج الصحيح في التحصيل، وهو المنهج الذي سار عليه العلماء في تكوينهم قديما وحديثا، فالطالب الذي تخلص من التزامات الجامعة يستطيع أن يتفرغ لدراسة العلوم الشرعية علما بعد آخر دون تزاحم، ويمكنه أن يدرس في الفنون كتبا حتى يكملها، فعلى كل طالب منا أن يضع لنفسه برنامجا طويلا المدى يدرس فيه العلوم الشرعية جميعها شيئا فشيئا، وعليه أن يصبر على هذا البرنامج ولن يندم بإذن الله تعالى، لأن هذا هو الطريق الموصل إلى إتقان العلوم والتمكن منها.

    الإلمام بمبادئ العلوم يفترض في المتخرج من الجامعة أنه قد حصله، وهو إذا أتم ذلك على أحسن وجه يحتاج إلى إعادة تنظيم لتلك المعلومات والفوائد التي حصلها، لأن المقررات الجامعية لا تعتمد على كتب جامعة ألفها العلماء وإنما هي مذكرات تحوي نتفا من مسائل العلم، ويتأكد ذلك في واقعنا حيث نجد المتخرج في أكثر الأحيان قد حصل مسائل في الأصول ومسائل في الحديث وأخرى في الفقه، والذي يريد أن ينظم تلك المسائل المدروسة ويضم إليها ما أسقط وترك في تلك المقررات عليه أن يدرس كتبا في تلك العلوم وضعها العلماء المتخصصون.

   ولا يستعجل الطالب في التحصيل، فإذا طالت مدة دراسة الكتاب فذلك أنفع له، وخاصة أن بعض العلوم معروفة بالطول ، فأما علوم الآلة فمحدودة في أصلها لولا ما اعتراها من الأمور الإضافية والملح، بخلاف علم الفقه فإن أبوابه عديدة ومسائله كثيرة ومدة دراسته من أوله إلى آخره لا بد أن تكون طويلة، بل ويبقى الطالب يعيش مع هذا العلم يراجع مسائله ويتفقه فيها ويردها إلى أدلتها من الكتاب والسنة إلى أن يتوفاه المولى عز وجل، وطلب العلم لا حد له ولا سن له، وقد قيل للإمام أحمد إلى متى المحبرة؟ فقال: إلى المقبرة، فيبقى الطالب دائما يحصل ، ويبقى دائما يعتبر نفسه طالب العلم لا أثر لتخرجه ولا لتصدره ولا إمامته في ذلك.

   الخلاصة أن التخرج لا يعني الوصول ولا يعني التوقف عن طلب العلم، وإن التوقف عن تحصيل العلم وترك طلب العلم بمثابة التولي يوم الزحف، لأن طلب العلم الشرعي والتخصص فيه من الفروض الكفائية، والفروض الكفائية تتعين على من قدر عليها وعلى من شرع فيها، كمن خرج إلى الجهاد تعين عليه لو كان ذلك الجهاد فرضا كفائيا ولو رجع بعد خروجه كان ذلك من الكبائر، وهو التولي يوم الزحف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في السبع الموبقات، وكذلك طلب العلم جهاد وتبليغه جهاد فمن تركه بعد الشروع فيه كان حكمه حكم من تولى يوم الزحف والله أعلم.

ثانيا: أسباب الاستمرار في طلب العلم

   لا شك أن انتساب الواحد منا إلى الجامعة الإسلامية كان سببا من أسباب تفرغه لطلب العلم ، إذ لولا ذاك لتخصص في علوم أخرى من العلوم الدنيوية، وذلك يمنعه من التفرغ لتحصيل العلوم الشرعية ومن التخصص فيها ، والآن بعد التخرج من الجامعة نحتاج إلى الحديث عن أسباب أخرى من أسباب الاستمرار في الطلب.

1-الدعوة إلى الله والخروج إلى الميدان  

   إن الذي يطلب العلم ليرفع الجهل عن نفسه هذا لا يحتاج إلى الانتساب إلى الجامعة، لأن ذلك العلم يستطيع أن يحصله في المسجد، والجامعة -في الأصل- مكان للتخصص ودراسة العلوم بتعمق، ومن انتسب إليها يفترض أن همته أعلى من ذلك وأن نيته رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، ومن أراد مواصلة طلب العلم بعد التخرج فعليه بالخروج إلى الميدان ولا يقل: "لست أهلا"، لأننا نقول له:" أنت لست أهلا لما لا تحسن وأنت أهل لكل ما تحسن، ويجب عليك أن تنصح وأن تنفع ".

    وبالتدريس تراجع ما حصلت فلا تنساه، لأن العلوم التي درسناها تذهب عن قلوبنا إذا لم نعد النظر فيها، وإعادة تدريس هذه الفنون يعتبر بمثابة المراجعة لها، وقد اعتمد هذه الطريقة بعض المشايخ المتخرجين من الجامعات فاستفادوا من ذلك كثيرا، خاصة من تخرج من الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ، لأن البرامج المقررة هناك كثيرة المادة وغزيرة الفوائد ، وقد وضعها علماء وألقاها مدرسون أكفاء، ومن زعم منا أن ما تلقاه في الجامعة التي انتسب إليها شيء قليل، فلا يضيع هذا القليل .

   وبالتدريس يحقق الطالب ما كان متوقفا فيه من مسائل، وما كان قد أجَّل البحث فيه إلى وقت لاحق، وهذا معنى قول الشيخ العثيمين رحمه الله:"ما استفدنا إلا بعد أن تصدرنا"، وليس معنى هذا الكلام أنه لم يستفد شيئا قبلها، ولكن معناه الاستفادة الكاملة بالتفقه في العلوم التي حفظها في صغره وتحقيق المسائل، لأن التدريس يستدعي تحضيرا ونظرا في المسائل وتدقيقا فيها وتوسعا في فروعها، وكذلك المدرس ترد عليه أسئلة ويتوقع أسئلة تدفعه لزيادة البحث وهكذا.
ونضرب مثالا بمن يَدرس كتابا بمفرده فيصادف مسألة أغلقت عليه أو فيها بعض الإشكال، فهذا يستطيع أن يتجاوزها ، وهو ينوي الرجوع إليه في وقت لاحق، ولكنه إذا كان مقدما على عرض المسألة على الطلبة أو على شرحها للعامة فهنا يتوجب عليه أن يقف عندها ويبذل الجهد لفك الإشكال وإزالة الغموض.

2-مواصلة الدراسة الجامعية

   ومن أسباب الاستمرار في الطلب السعي إلى مواصلة الدراسة الجامعية (الماجستير والدكتوراه)، فلا بد أن تكون همتنا في طلب العلم عالية وكذلك في نيل هذه الرتب والشهادات، على أن هذه الشهادات في ميزان العلم ليس لها قيمة كبيرة في هذا الزمان، لكن لها وزنها بالنظر إلى كونها وسيلة من وسائل الدعوة، الشهادة العالية في هذا الزمان سلاح من أسلحة الدعوة، وأنت ترى العامة كثيرا ما يغترون ببعض الجهلة من أهل البدع لا لشيء إلا لكونه ينادى دكتورا، وإذا كان المبطل والجاهل يحمل شهادة الدكتوراه، فلماذا لا يحملها الذي عنده العلم أو شيء من العلم.

وإن مواصلة الدراسات العليا سبب من أسباب الثبات على طريق العلم، وعاصم من الشواغل، وطريق إلى التخصص في بعض العلوم الشرعية، ومن تخصص في فن حقق ما لم يحققه غيره ممن اكتفى بالمشاركة فيه والإلمام دون تخصص .

3-الوظيفة في السلك الديني  

    ومن وسائل الاستمرار في الطلب الوظيفة في السلك الديني، ولا شك أننا بحكم الواقع الذي نعيشه مطالبون بأن تكون لنا وظيفة ومصدر رزق نتقوت منه، والذي ينصح به طالب العلم أن لا يبتعد في الوظيفة عن ميدان تخصصه وإلا ذبل ومات، وفي القديم كان بعض العلماء يحذر من الوظيفة وذلك لما عاينوا من آفاتها، وهي تقترب في المعنى من نهي السلف عن التقرب من السلطان، لما في ذلك من الفتنة والصد عن قول كلمة الحق، لكن هذا لا يصلح في زماننا لأننا إذا قارنا بين المصالح والمفاسد نجد أن المصالح أكثر، وهذه العلل المذكورة يجوز أن يتمسك بها من كانت له كفاية من جهة الرزق، ومن تيسرت له سبل الدعوة إلى الله تعالى من دون انتساب إلى هذا السلك.

    وفي واقعنا اليوم الدعوة إلى الله تعالى مضيق عليها –أشد التضييق-إلا ما كان في الطرق الرسمية، فمن توظف في السلك الديني نفع وسد ثغرة وربما فتح المجال لإخوانه لينشطوا أيضا.

   ومن جهة أخرى على الطالب الجاد المستقيم على الطريق أن لا يترك هذا الباب لغيره من غير المجدين، ومن المرتزقة، وممن هم على غير طريق أهل السنة، فإذا لم يشغل طلبة العلم المناصب شغلها أهل البدع وأهل الجهل والمرتزقة بالدين، ومن هذا المنظار يتعين على الطالب أن يطلب هذه الوظيفة.

 

ثالثا : نصائح في باب الدعوة إلى الله تعالى

1-وعلى الطالب أن لا يتردد في الترشح لكل مسابقة ولو كان مكان التوظيف بعيدا عن مسكنه وأهله ، وإن الطالب إذا كان في حيه ومدينته ربما وجد كثير من الطلبة الذين هم مثله أو خير منه؛ ممن يكون قد سد الثغرة وأدى الواجب، ولكن إذا خرج الطالب عن المدن الكبرى وما قاربها إلى منطقة نائية في الصحراء أو غيرها، فإنه ينتفع به بإذن الله تعالى ويهتدي الناس على يديه، ويفيد أكثر مما لو بقي في المكان الذي هو فيه، ومن يخرج إلى هذه المناطق النائية يصبح كلامه عند الناس كله فوائد، حتى الأخلاق التي اعتادها بحكم استقامته تعتبر علما بالنسبة إليهم، ولا يلزم من التصدر للتدريس أن يخوض في المسائل الكبيرة المشكلة والمعضلة، فالناس اليوم يحتاجون إلى مبادئ العلوم كتعليم أركان الإيمان والتوحيد والوضوء والصلاة وأحكام الصيام وأشياء لا تستطيع أن تقول أنا لست لها أهلا ، فالتعليم إذا ذُكر هذا هو المقصود منه أصالة وليس هو العلوم الآلية الصعبة، وهذه العلوم هي التي تنفع مدرسها أكثر وقد تكون سببا في نجاته ودخوله الجنة بإذن الله تعالى. 

2-ولا ينبغي للطالب أن يشترط لممارسة الدعوة شروطا ما أنزل الله بها من سلطان، بل التوظيف والرخصة ليسا شرطا لذلك، فعلى طالب العلم أن يقدم ولا يتردد ولا يضع من عنده شروطا تعجيزية، كمن يقول أنا أعلِّم بالقرب من منزلي وفي منطقة سهلية لا جبلية وليست بالحارة ولا الباردة، ومن يتخوف من مواجهة الناس الجاهلين الذين في أخلاقهم غلظة في عقائدهم انحراف ونحو ذلك ، ومن يتخوف من المناطق التي يشتد فيها الفساد.

3-ولا يلزم من الجلوس للإفادة أن يخطب في مسجد يسع الآلاف، وبل ربما يكفيه أن يجلس إلى أربعة من الناس أو خمسة يحفظهم القرآن أو يعلمهم التوحيد أو مبادئ اللغة العربية.

4-ليحذر الطالب من أن يشترط شيئا من حطام الدنيا كمن يشترط مسكنا فاخرا وسيارة …الخ قبل أن ينطلق في عمله، ومن فعل ذلك فإنما هو يريد أن يتكسب بالدعوة، فطالب العلم ينزه نفسه عن مثل هذه الأشياء ، ويعمل لوجه الله تعالى يحمل هم الدعوة ولا يريد من الدعوة أن تحمله ، ولا يريد من الناس جزاء ولا شكورا ، والناس إذا عرفوا قدر الداعية ورأوا تفانيه في إرشادهم وتعليم أولادهم وفي خدمتهم في آخرتهم، سخرهم المولى عز وجل لخدمته فيما هو ضروري من أمور دنياه، على الطالب أن يصبر ويخلص في علمه وعمله ودعوته، وليعلم أنه بذلك يصير جنديا من جنود الله تعالى، وإذا كان ذلك فلن يضيعه الله تعالى أبدا ، فعليه أن يعمل ولا يستعجل فرجا ولا ثمرة.

   ولنأخذ العبرة من قصة الشيخ العربي التبسي حيث أنه لما من "تبسة" إلى مدينة "سيق" وبعد مرور سنة ونصف وجاءه أعيان "تبسة" يطلبون رجوعه إليهم، فقبل الشيخ واشترط عليهم شروطا، أولها بناء مسجد جديد مستقل عن إدارة فرنسا ثم بناء مدرسة قرآنية وإنشاء جمعية خيرية، اشترط أشياء أسياسية للقيام بواجب الدعوة، ولم يشترط لنفسه شيئا.

5-وعلى الطالب في هذه المرحلة أن يكثر من قراءة سير العلماء القدماء والمعاصرين، فإن لذلك أثره البارز في تكوين شخصيته العلمية والدعوية، وعليه أن يقرأ أيضا كتب آداب الدعوة وأخلاق الدعاة، وأن لا يدع أبدا قراءة كتب آداب طالب العلم، لأنه ما زال طالب علمٍ، ولأن كثيرا من الآداب التي يذكرها العلماء في هذه المؤلفات لا يجد تطبيقها العملي إلا بعد التخرج والتصدر، كقول الحق والمجاهرة به والتحذير من المداهنة فيه والصبر على الأذى، فهذه آداب إنما يحتاج إليها في الغالب بعد أن يجلس إلى الناس، وآداب طالب العلم على العموم هي عينها آداب الداعية إلى الله تعالى لأن الداعية طالب علم ولا بد.

6-وعلى الطالب أن لا يترك بابا من أبواب الدعوة يمكن ولوجه إلا ولجه، التدريس والصحافة والأنترنت والعمل الخيري وغير ذلك ، وإننا نجد مجال الكتابة والتوجيه في الصحف مفتوحا، وبل وباب الفتوى وحل المشاكل الاجتماعية وأصبح كل من هب ودب يدلي فيها بدلوه، والمرجع في هذه الأمور إلى أهل العلم الذين حصلوا علم الكتاب والسنة، فعلى طالب العلم إذا وجدا سبيلا على جريدة من الجرائد أن يسد الباب على هؤلاء الجهال المرتزقة الذين جعلوا من هذه الكتابة سببا للرزق لا للدعوة إلى الله تعالى، حتى أن بعضهم أصبح يكتب ما يشتهيه الناس ويطلبونه.

   وكذلك من وجد سبيلا إلى العمل الخيري فعليه أن يغتنمه، وكذلك التدريس في المتوسطات والثانويات، فإن من لم يجد السبيل إلى الإمامة أو تورع عنها فلا حجة له في ترك قطاع التعليم، فهو من أبواب الدعوة إلى الله تعالى، وفي الواقع نسمع عن متبرجات يدرسن مادة التربية الإسلامية، ومن تخصصه الأدب العربي يدرس العلوم الإسلامية، وطالب العلم الشرعي خريج الجامعة أولى بهذه المناصب، لأنها تخصصه وهو يحكم برامجها ويفهم مضمونها، ويستطيع أن يبلغها وأن يعدِّل الخلل الموجود فيها.

 

رابعا : نصائح خاصة بمنهج التدريس

    إذا اتفقنا على أن من وسائل الثبات على العلم تعليم الناس الخير، وأن من الغايات النبيلة التي طلبنا العلم لأجلها رفع الجهل عن أنفسنا ونفع غيرنا ، فها هنا نصائح متعلقة بالتدريس، وسنقتصر على أمور عملية:

1-التحضير ثم التحضير، وهنا الاستفادة العظمى، والذي لا يحضر لا يستفيد ولا يفيد، وهذا التحضير نوعان : التحضير الشامل للموضوع المراد تدريسه أو للكتاب المراد شرحه، والتحضير اليومي عند الإلقاء، الأول تحضير لجمع المادة العلمية الإحاطة بالموضوع وتقدير عدد الحصص التي يستغرقها للتدريس، والثاني تحضير لترتيب المادة العلمية ولحفظها ولكيفية إلقائها، ولا بد أن تولى عناية خاصة لترتيب المعلومات لأن ذلك مما ييسر الفهم والاستيعاب على المستمعين، ويُجتنب المدرس التكرار الممل لهم.

   ومن لم يحضِّر درسه يخشى عليه أن يقع في القول على الله بلا علم، وكثيرا ما يكون ذلك سببا لخروجه عن الموضوع، ولا بد أن نعلم أن الدرس الذي يلقى في ساعة ربما يحتاج إلى خمس ساعات من التحضير جمعا وترتيبا وتثبتا الخ ...
   وننبه هنا أنه ليس من مقاصد التدريس أن يأتي المدرس بمعلومات كثيرة وجديدة أو معقدة، ومن جعل هذه مقاصده فليعلم أنه يفسد ويصعب الدين والعلم على الناس، والمطلوب منهم تيسير العلم وتوصيله إلى الناس بأقرب الطرق.
والكتب التي لم يَدرسها الطالب، ولم تكن صورة واضحة في المنهجية التي يسير عليها فعليه أن يستعين بسماع أشرطة العلماء والمدرسين الذين شرحوها، ومن قرأ شروحهم أو سمعها تيقن أنه ليس المهم تكثير المعلومات والإتيان بالجديد وشرح المسائل المعقدة كما يتصوره كثير من الناس، بل علينا أن نكون ربانيين، نعلم الناس صغار العلم قبل كباره كما قال ابن عباس.

2-ومما ننصح به الطالب أن لا يختار في تدريسه مشروعا طويلا، ولو كانت له همة عالية حتى يجرب نفسه فيما هو أدنى منه، بعض الطلبة يبدأ حياته الدعوية بشرح صحيح البخاري ، وهذا في تقديري لا يصلح؛ لكن إن قال للناس نقرأ كتاب الإيمان من صحيح البخاري فهذا لا بأس به، وذلك لأن المشروع الطويل غالبا الناس يملونه والمدرس يسأم ولا يستطيع المداومة خاصة مع عدم التحضير الذي ذكرناه سابقا أعني التحضير الشامل.
والمدرس الذي يبدأ في مشروع ثم لا يكمله وينتقل إلى غيره ربما كان في صنيعه فتنة للطلبة ، ويصدهم عن العلم بكثرة انقطاعه تنقله .

3-وننصح المدرس المبتدئ أن لا يكثر من المشاريع دفعة واحدة، لأنه في الغالب لا يقوى على المداومة عليها، تحضيرا وإلقاء، فينطبق عليه قولهم من طلب العلم جملة ذهب عنه جملة.

4-ولا ينبغي أن يختار موضوعا لم يدرسه من قبل أو علما لم يتقن مبادئه ليدرسه للعامة أو للخاصة، وليعلم أن مثل هذا الصنيع مما يصعب العلم على طالبيه، فلا يُقدم المدرس إلا على تدريس المسائل التي هضمها وأحاط بها ويمكنه أن يقربها لسامعيه، وربما يحسن أن يكون مثل هذا –أعني المواضيع التي لم تدرس من قبل-مع الأقران بقصد الاستفادة، و هذه المجالس تسمى مجالس المذاكرة وهي مفيدة جدا إذا تحقق فيها الإخلاص، ولقاء الرجال تلاقح الأفكار كما يقولون.


خامسا : محاذير  


   وفي الأخير نتعرض إلى بعض المحاذير :

1-وأول ما نبدأ بها داء الغرور ، فعلى الطالب أن يحذر من هذا الداء الخطير الذي يستولي على القلوب ويفسد الأعمال، سواء بالشهادة أو بالعلم المحصل أو بالتصدر والتفاف الناس، وهو داء يقطعه عن حضور حلق العلم وعن سؤال من هو أعلم منه، وليذكر دائما أن من آفة التصدر استثقال الطلب ليجاهد نفسه ، وليتذكر أن العلم بحر لا ساحل له.

  وعليه أن يحذر الغرور الذي يجعله يتكلم بلا علم وأن يتذكر دائما أن القول على الله بلا علم كبيرة عظيمة قدمها بعض العلماء على الشرك بالله تعالى ، وأن نصف العلم لا أدري، وأن الأئمة الكبار كانوا يجيبون بهذه الكلمة :"لا أدري "، فإذا سئل عما لا علم له به رد العلم إلى الله تعالى وسجل السؤال ليبحث عن الجواب عنه وبهذه الطريقة يستفيد بإذن الله تعالى.

2-وعلى الطالب أن يجعل دعوته وشهرته على قدر علمه، وعليه أن لا يتبع الكثرة فإنها تغر وتفسد النية وربما كانت سببا في الانحراف عن المنهج الصحيح، فالشهرة لا تطلب وإن كانت ملازمة للتصدر ، وينبغي أن تنمو مع نمو العلم المحصل عليه، وإن الشهرة إذا كانت أكبر من العلم صارت فتنة لصاحبها وتدخل عليه الغرور وسائر أمراض القلوب. ومثله كمثل رجل ضعيف البنية يحمل حجرا كبيرة ، ولنعلم أنه يوجد في بلادنا كثير من الناس من حدث له ما ذكرت فافتتنوا وفتنوا غيرهم .

   فمن الناس من يصلح أن يكون معلما في حلقة في المسجد لا أكثر ومنهم من يصلح أن يكون إماما لمسجد الحي ومنهم من يستحق أن يكون مرجعا لأهل منطقته ، ومنهم من علمه يؤهله لأكثر من ذلك ، والعلماء الكبار لما كانوا راسخين في العلم واخترقت شهرتهم الآفاق لم تضرهم.

3-وعلى الطالب الداعي إلى الله تعالى أن يحذر من الداءين الخطيرين المال والشرف، قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ" (رواه الترمذي وصححه)، وعليه أن يحذر من أهل المال وأهل الشرف أيضا، فأما من أراد منهم أن يخدم الدين فكن له عونا وهاديا مرشدا، وأما من يريد أن يزيد في شرفه بصحبة أهل العلم ويريد أن يستعبد طلبة العلم بماله فإياك وإياه .

4-ومن الأمور المهمة في باب الدعوة إلى الله تعالى أن يعامل الداعي الناس جميعا معاملة شرعية عادلة لا تمييز فيها ، فليحذر من أن يكون مثل بعض من الناس الذين أصبحوا أئمة طائفة معينة من الناس وزمرة ومتميزة عن غيرها (في الفكر أو المظهر) فكانوا مصدر حزبية وتفرق في البلاد وفي بيوت الله تعالى ، فالداعي والإمام طبيب والطبيب لا يميز بين الناس الذين يقصدونه ، ورحمته بالمريض المبتلى أكثر من رحمته الصحيح المعافى.

5-أخي الطالب إن الطريق الدعوة إلى الله تعالى مليئة بالعوائق والابتلاءات، فتسلح بالعلم واجتهد بالعبادة واسأل الله تعالى الثبات ، وامض في طريقك ولا يهمك ما يكيد به لك المعادون ويروجه عنك الحاسدون، ولك الأنبياء وفي نبينا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، ولك في سير العلماء الصالحين ما تتسلى به في طريقك الذي سلكته فاحذر أن يشغلك عن مهمتك مرضى القلوب وأن يصدوك عن الخير الذي أنت فيه ، وإن داء التجريح في أيامنا هذه قد استفحل أمره وقد وصل القرى والأرياف وصد كثيرا من ضعاف النفوس عن مواصلة طريق الدعوة وجرف آخرين من أهل الأهواء إلى الانضواء تحت لوائه ، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل والزم غرز العلماء تكن من الناجين ، والتزم طريق الوسطية والاعتدال بلا غلو ولا انحلال ، نسأل الله تعالى أن ينفعنا جميعا بهذه الكلمات وأن يهدينا ويهدي بنا وأن يجعلنا هداة مهتدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 

 

تم قراءة المقال 6138 مرة