طباعة
الأحد 5 رمضان 1439

لصوص رمضان الحلقة 1 مميز

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

محاضرة ألقيت في رمضان (1435) بمسجد أبي بكر الصديق بني مسوس -الجزائر العاصمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فإنه كان اقترح علي موضوع سراق رمضان فآثرت تغييره إلى لصوص رمضان لأنه بين اللفظين فرق دقيق في اللغة العربية ، إذ السارق هو الذي يسرق المال والمتاع خفية متسترا بظلام الليل أو غيره ، واللص هو سارق مجاهر ..ويمكن أن يقال إن اللص قاطع الطريق ..وهو ما بينه الثعالبي في فقه اللغة ؛ حيث ذكر أن السارق هو من يأخذ الأشياء من الأحراز ، وأما من يقطع على الناس الطريق فهو اللص..ولعل اللصوصية اعم وأنسب لهذا المقام ...والله أعلم.
ولصوص رمضان أنواع : إذ منهم من يسرق منك أجر رمضان وثوابه خفية وأنت لا تشعر، ومنهم من يأخذ منك هذا الشهر كله علانية، والواقع إني اخترت العنوان المذكور لأصيب النوع الثاني وهم اللصوص الصادين عن سبيل الله في رمضان ..فاللص في رمضان قد يسرق منك الأجر والثواب خفية وقد يسرق منك الأوقات التي هي محل العبادات والطاعات جهران منهم من يأتيك وأنت في العبادة فيأخذ منك أجرها أو بعضه، ومنهم من يأخذ منك وقتك فلا تصرفه في العبادة أصلا ، فعندما تحاسب نفسك تجدها بدلا من انفاق أوقات رمضان الثمينة في الطاعات المختلفة قد بذرته في لهو باطل مباح أو غير مباح ...ومن اللصوص نوع ثالث هو أكثر جرأة لا يكفيه أخذ الأجر أو أخذ الوقت حتى يأخذك أنت بشخصك كاملا فلا نجد لك أثرا في أماكن العبادة..
1-فأما مفهوم السرقة من أجر العبادة نجد له أدلة في السنة : فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: «هُوَ اختلاس يختلسه الشَّيْطَان من صَلَاة العَبْد» رواه البخاري، والاختلاس سرقة خفية ..والشيطان يسرق من صلاتنا بالالتفات الذي يكون بالجسم كما يسرق من صلاتنا بالتفات القلوب ...وقد يكثر القلب من الالتفات حتى لا يعقل صاحبه شيئا من صلاته، وليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها كما جاء في الحديث...والمقصود الاختلاس هنا اختلاس الأجر، فليس لك أيها العبد من صلاتك إلا ما عقلت منها: أي من أجرها وثوابها ..أما هي في حد ذاتها فهي موجودة حسا مجزئة حكما ..
هذا النص الوارد في الصلاة يمكن تطبيقه على الحج والصيام والصدقة وتلاوة القرآن وجميع الطاعات، والشيطان يجتهد أن لا يترك لعبد عبادة وإلا واختلاس منها شيئا
ومن الأحاديث الواردة في الباب حديث أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يتم ركوعها وَلَا سجودها ". رَوَاهُ أَحْمد...إن السرقة كلها سئية، والسراق كلهم سيئون ولكن أسوأهم سرقة الذي يسرق من صلاته، وذلك لأن السارق عادة إنما يأخذ مال غيره ليضيفه إلى نفسه، وهذا يسرق نفسه لا غيره فهو أسوأ، وأيضا فإن السارق يسرق لينتفع بالعين المسروقة انتفاعا دنيويا لو زائلا؛ والسارق من صلاته يسرق نفسه ولا نفع له دنوي وينقص أجره الأخروي، وربما يبطل صلاته فلا يجد شيئا عند ربه ..فهو بهذا الاعتبار أيضا أسوأ الناس سرقة ..
2-وأما سرقة الأوقات فربما لا نحتاج إلى إيراد نصوص فيها ..ومثال رفيق السوء مشهور، حيث تجده يملأ وقتك بالغيبة والخوض في أعراض الناس وأخبارهم والكلام الذي لا خير فيه ويصرفك عن قراءة القرآن وعن الأعمال البر...فكل من يشغلك بسفساف الأمور عن معاليها يعتبر قد سرق منك وقتك وبعض عمرك، وإذا كنت في رمضان فقد سرق منك أنفس أوقات عمرك ..
   والكيس منا عليه أن يضن بأوقات هذا الشهر فيسعى لاغتنامها كلها في الطاعة، ولا يأذن لأي لص من اللصوص أن يأخذ منا شيئا منها مهما قل، وعلينا أن نحذر من صرف الوقت فيما يسبب قسوة القلب، ولا سيما في أول الشهر، فإن من فعل ذلك فخسارته ستكون مضاعفة، فإن من ابتلي بقسوة القلب في أول الشهر يوشك أن يحرم فضل رمضان جميعه..
    والمؤمن حريص على وقته وخصوصا الأوقات الفاضلة كشهر رمضان، الشهر الذي من أدركه فلم يغفر له كان من المبعدين عن الله تعالى –كما جاء في الحديث-. وذلك لما فيه من نفحات ربانية ونسائم إيمانية ، الجنان تفتح والقلوب ترق ، وأسباب المغفرة تكثر والأجور تضاعف والشياطين تصفد إلى غير ذلك من الأمور التي تجعل العبد مقبلا على الله تعالى قريبا من مغفرته ...فإذا لم يغفر له في هذه الحال ولم يكن من عداد العتقاء في هذا الشهر فمتى يغفر له؟
3-واللون الثالث هو قطع الطريق على عباد الله تعالى، فالمنادي الخفي يقول يا باغي الخير أقبل والمنادي الظاهر ينادي حي الفلاح والداعي من ورثة الأنبياء يقول ها هي أبواب الخير، ها هو منهج العيش في رمضان،  ها هي فضائل الصيام والقيام..ويقف في الجهة المقابلة قاطع الطريق اللص ليصرف الناس عن أماكن الطاعة ويضع الحاجز بعد الحاجز في طريقهم إلى الله تعالى، وهو ينادي ها هي طرق اللهو ، وها هي أماكن السهر والغفلة، فهذا يقول أقبل والآخر يقول أقبل، واللص يقوم بدعايته جهارا نهارا إنه يقطع الطريق في وضح النهار ...
ولهذا اللون عدة صور نحاول ذكرها في هذه الجلسة المباركة، وقبل ذلك نضرب مثالا فنحن نجد الناس يملأون المساجد في الليالي الأولى من رمضان في التروايح وغيرها لشدة الشوق والحماسة، ولكنهم دائما ينقصون ولا يزيدون لانطفاء وهج الشوق من جهة ولوجود اللصوص من جهة اخرى، ومن هؤلاء اللصوص لصوص اسمهم اللاعبون، وقد لاحظتم الفرق بينا في صلاة التراويح بين اليوم العادي واليوم الذي تجري فيه مباراة من مباريات كرة القدم، فهؤلاء اللاعبين الذين يأخذون الأجر باللعب وكلما انتصروا أخذوا أكثر، وكلما زاد عدد متابعيهم ازداد ربحهم ..
  وقد نجد لسرقة الناس من بيوت الله تعالى أصلا في كتاب الله تعالى، لكنه اصل سيئ جدا ..وهو خبر المنافقين الذين نزل فيهم قوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (التوبة 107)..فهذا المسجد الضرار بني قرب مسجد قباء لصرف المصلين عنه، ولتفريق جموع المسلمين، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه ..
  ويقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنفال:36] إن قاطع السبيل العادي يفعل ذلك لأخذ الأموال، لكن قطاع السبيل إلى الله ينفقون الأموال للوصول إلى أغراضهم، ومنهم من يستثمر في الصد عن سبيل الله ينفق أموالا طائلة ليسرقك أنت ومالك ، ولعل صورة ذلك جلية في القنوات الفضائية سواء التي لا تشاهد برامجها إلا بالاشتراك أو غيرها.
اللص الأول: الشيطان ولابد من البدء به، لأنه العدو الأول والقديم الذي أقسم وقال (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) فشأنه هو التزيين للناس واغتنام وقت غفلة قلوبهم ليصرفهم عن الطاعة، وإنه لا يزال يختلس من صلاتنا ومن صومنا ومن جميع عباداتنا فينبغي أن نكون على حذر منه.
فإذا شرع أحدنا في قراءة القرآن جاءه بالنعاس وحدثه بأنه متعب يحتاج إلى القيلولة، فمن شعر بهذا فعليه بالاستعاذة وتجديد الوضوء وتغيير المكان..وكثيرا ما نخصص وقتا للتلاوة فيأتينا مذكرا بما نسينا من مشترايات لنترك التلاوة، فإن قيل أوليس الشياطين تصفد؟ قيل نعم وللتصفيد له معنيان،..أحدهما أنه تقييد حقيقي فيكون خاصا بالمردة الكبار، والثاني أن يكون بمعنى إضعاف حركتها ووسوستها، وكلاهما لا يلغي وجود الوسوسة، ومن ثبت ولم يترك القراءة جاءه سائلا عن معنى آية ليوقفه عن التلاوة ويخرجه إلى المكتبة ليبحث عن تفسيرها، وإذا فشل في إخراجه جاءه من جهة الاخلاص فيأمره برفع صوته وتحسينه ليسمع من حوله، فإذا لم ينجح قال له أنت تقرأ حزبا في نصف ساعة فلِمَ لا تحاول أن تقرأ فيها ثلاثة أجزاب، ليُذهب عنه لتدبر فلا تزيده التلاوة إيمانا ويوقعه في الهذرمة التي يأثم بها ولا يؤجر.
وفي صلاة التراويح سيذكره بالبرامج التلفزيونية وغيرها، وقد يزين له تكلف التنقل إلى مسجد بعيد لزيادة الأجر أو حسن صوت القارئ، حتى يدخل عليه الملل مع مرور الليالي، وقد يسول له التهاون في قيام بعض الليالي ويعده بالاستدراك في العشر الأواخر وإصابة ليلة القدر، وهو يعلم أن التهاون في أول رمضان يسبب تتابع التهاون في آخره، وأن اتباع الهوى يحرم العبد من التوفيق لإصابة ليلة القدر، وقد يزين لبعضهم ترك القيام في أول الليل اختيارا للأفضل وهو التهجد؛ فيضيع عليه الكل، ومن تلبيسه أنه يشغله عن التراويح بالسهر في المحرمات فتكسوا قلبه غشاوة فلا يتمكن من القيام للتهجد ولا لصلاة الصبح.
وإذا تحدثنا عن الصدقة فإنه بالرياء يذهب بأجرها كله، وربما يهم المرء بالصدقة في النهار فيأمره بتأخيرها لليل لأن عمل الليالي أفضل، فإذا جاء الليل قال له أخرها للعشر الأواخر فهي أفضل، فإذا دخلت العشر قال له: بل اتركها لقريب من الأقارب لتكون صدقة وصلة، ولعل القريب يكون مسافرا فيؤجلها مرة أخرى، والمرء الكيس يتصدق بالليل والنهار في العشر الأوائل والأواخر وعلى الأقارب وغير الأقارب.
وفي رمضان تكثر مجالس الذكر ولكن أكثر الناس مصروف عنها، لأن الشيطان قد أتاهم بوساوس عدة وافقت شيئا ما في قلوبهم، فبعضهم يقول له من هذا المدرس؟ ربما أنت أحسن منه علما واسقامة وسنة وقد يختصر له الأمر بأن لا يجلس إلا للعلماء، وقد يحقر في نفسه موضوع الدرس بأنه مجرد مواعظ وقصص من السهل نيلها من الكتب، ومن أعظم التلبيس الحادث في عصرنا أن يقال للمرء ما لك ولهذه المجالس وأنت الآن عندك قنوات تأتيك بالموعظة إلى بيتك وأنت جالس في الدفء على الأريكة، وإذا فاتك درس في قناة وجدت نظيره في أخرى ولا تنس الإعادة، ومن الناس من يلبس عليه من جهة الوقت فهذا بعد العصر لا يناسبه وذاك قبل العشاء يثقل عنه أو يتعبه، ومنهم من يشترط كون الدرس في مسجد حيه لا في غيره، وأعظم الناس حرمانا من يقال له إن دروس في رمضان كلها بدعة فلا ينبغي حضورها.
وللسلامة من هذا اللص القاطع يقول تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فعلينا بالاستعاذة والمداومة على الذكر والطهارة وإقلال الطعام بعد الافطار، لأننا إذا طعمنا في الليل أضعاف ما اعتدنا أكله، أزلنا التصفيد عن الشيطان وزدنا من نشاطه .

تم قراءة المقال 1925 مرة