لثلاثاء 10 ذو الحجة 1439

المقاصد الشرعية لأحكام عيد الأضحى مميز

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

المقاصد التشريعية لأحكام عيد الأضحى
محاضرة ألقيت مساء الثلاثاء يوم 3 ذي الحجة 1439هـ يوم 14 أوت 2018م في مسجد الإمام مالك بن أنس بلدية المقرية بالجزائر العاصمة
مقدمة في الحديث عن الحكم التشريعية
     الحمد لله الرحمن الحكيم مدبر أمر السموات الأرض السميع العليم؛ خلق الخلق ليبعدوه وبالألوهية يفردوه، وشرع شرائع الإسلام ، فيها الخير وصلاح الأنام ، والصلاة والسلام على النبي المختار وآله وأصحابه الأطهار ؛ أما بعد:
    فإن الحديث عن المقاصد التشريعية والحكم الإلهية من أهم القضايا الجديرة بالعناية؛ وذلك أنه يجلى محاسن الشريعة الإسلامية من حيث الإجمال؛ ويبرز ما في شرائع الرحمن من كمال؛ حيث يبين أن كل جزئيات الشريعة وتفاصيلها تنطوي على مصالح عائدة للأفراد أو مقاصد فيها الحفاظ على المجتمعات؛ مما يؤكد على كونها صالحة لكل الأمكنة ومصلحة في كل الأزمنة؛ وعلى أنها شريعة متكاملة، لا تتناقض في أحكامها، ولا تنافي شرائعها الفطرة الإنسانية ولا مقتضيات العقول البشرية.
    وأيضا فإن الأحكام الشرعية إذا ما قرنت بعللها ومقاصدها زادت ذلك العبد إيمانا بحكمة الله تعالى واقتناعا بشرائعه وأورثه مزيد رغبة فيها ومسارعة لامتثالها، وإن الله تعالى كان قادرا أن ينزل التشريعات مجردة عن ذكر حكمها وخالية عن الإشارة إلى مصالحها، ويكون فرضا محتما علينا الطاعة والامتثال، دون اعتراض أو سؤال، ولكن اقتضت حكمة الإله سبحانه ورحمته أن ينزل الشرائع في القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه في سياقات مختلفة وبأساليب متنوعة؛ مقرونة بالوعظ والتذكير والترغيب والترهيب ومتضمنة دلالات على العلل وإشارات إلى المصالح التشريعية الدنيوية والأخروية؛ التي تجعل العبد يعقل معنى الحكم أولا ويسارع إلى الطاعة والامتثال ثانيا.
    هذا وإن عيد الأضحى وما تضمنه من أحكام كبرى وجزئية جار في هذا السياق، وقد جرت العادة أن يذكر الناس في هذه الأيام الأضحية وصلاة العيد وأدابها والأيام العشر وفصائلها، فاخترت أن يكون موضوع محاضرتي حول المقاصد الشرعية التي احتفت بتشريع هذا العيد وتفاصيل أحكامه ومن علل مؤثرة وحكم ملائمة، قد علم بعضها وغفل كثير من الناس عن أكثرها، وكانت من غايات هذا الاختيار فضلا عن تحقيق ما سبق، التنبيه على أن العيد ليست مجرد عادات وتقاليد موروثة عن الأجداد، ونحن نرى في الناس من جهل أو غفل عن حكم العيد الكبرى فكيف بحكم تفاصيل أحكامه ، وصار بالنسبة إليهم عادة من العادات لا يلتمسون فيها من الله قربا يستشعرون فيها إيمانا، وقد حكى شكيب أرسلان عن أناس وجدهم في شمال إسبانيا في بداية القرن الماضي يذبحون الأضاحي في العاشر من ذي الحجة؛ مثل ما يصنع المسلمون، مع أنهم يدينون بالنصرانية الكاثوليكية؛ فلما سئلوا عن ذلك قالوا هي عادة من عادات أجدادهم، وكان هؤلاء من أحفاد المسلمين تحولوا عن دينهم مع طول الأمد بعد سقوط دولتهم، وقد حافظوا على هذه الشعيرة هم يجهلون أنها من شعائر الإسلام وأن أجدادهم كانوا مسلمين، وهكذا العبادات إذا خليت عن معانيها؛ يوشك أن تصبح طقوسا؛ سرعان ما يتخلى عنها الناس، أو تبقى مجرد مظاهر عارية عن تحقيق المصالح التي شرعت لأجلها في الدنيا والمعاد.
حكمة تشريع العيدين : الفطر والأضحى
    إن للأمم المختلفة جميعها عربها وعجمها أعيادها الخاصة بها، وهي أعياد لها مناسبات معينة ترتبط بشعائر دين أو معتقدات أو إحياء ذكرى عظيم من عظمائها أو نحو ذلك، ونبينا صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة التي كانت عاصمة دولته الفتية وأراد وضع مقومات الحضارة الجديدة ووجد لأهل المدينة عيدين معظمين عندهما؛ ولعلهما كانا النيروز والمهرجان المعروفين عند الفرس وغيرهم، والذي كان أحدهما في بداية الربيع وهو أول السنة الشمسية، والآخر في بداية الخريف، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بإلغاء هذين العيدين واستبدلهما بالعيدين الإسلاميين الفطر والأضحى، فقد صح أَنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم الْمَدِينَةَ وَلأهلها يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟» قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ ". (رواه أبو داد والنسائي) ولهذا الاستبدال حكمتان بارزتان:
    الحكمة الأولى تحصيل تمييز الأمة الإسلامية عن الأمم الأخرى، وهذا التمايز للمسلمين عن أهل الديانات السابقة والحضارات الأخرى؛ قد عُلم في تفاصيل الشريعة باسم مخالفة الكفار والمشركين، وهو تمايز يمس الأمور الدينية العقدية وغيرها مما يعد من الشعارات، ولا تزال الأمم عبر التاريخ وإلى عصرنا هذا تسعى للحفاظ على العناصر التي ترمز إلى تاريخها وثقافتها وتُميزها عن غيرها، ولما جاءت هذه العولمة التي هي في حقيقتها أمركة العالم اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، رفضتها دول عريقة كثيرة حتى من المعسكر الغربي مثل فرنسا، فرفضت المناهج التربوية الأمريكية، وقد تدخل رئيسها السابق فرنسوا ميتران شخصيا لمنع تسويق مأكولات مكدونالد الأمريكية في باريس؛ واعتبر ذلك تهديدا للثقافة الفرنسية، وإذا كانت الأمم تسعى للحفاظ على هويتها من خلال المأكولات واللباس والقبعات، فكيف بالأعياد المرتبطة بالمعتقدات الدينية، ونبينا صلى الله عليه وسلم قام باستبدال هذين العيدين بغيرهما في هذا السياق الذي نسميه بمصطلح معاصر "التمايز عن الآخر"، ويسمى بالمصطلح الشرعي "مخالفة الكفار"، وشواهد هذا المقصد الشرعي أكثر من أن تحصر، وقد ألّف فيه شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا حافلا سماها "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم".
   والحكمة الثانية من إلغاء أعياد الجاهلية قطع ذرائع الشرك وأسبابه، وذلك أن الحضارة الإسلامية إنما بُنيت على عقيدة التوحيد وأحيت الملة الحنيفية الخالصة من شوائب الشرك، ومنه فإنه لابد أن تكون شعائرها وأعيادها نابعة من هذه العقيدة سالمة من كل ما يضادها، وما دامت أعياد الأمم والحضارات كما سبق قد ارتبطت بمناسبات دينية أو صاحبتها طقوس ذات صلة بمعتقدات أهلها أو فيها إحياء ذكرى عظماء سابقين، فإن إبطال هذين العيدين واستبدالهما بغيرهما فيه قطع لمظاهر الشرك وأسبابه ووسائله ولو احتمالا، وأدلة مقصد سد ذرائع الشرك كثيرة جدا، ومنها ما هو متعلق بالأعياد والمواسم، فقد ثبت في السنن أن رجلا نذر عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ (اسم مكان) فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالُوا: لَا قَالَ: «فَهَلْ كَانَ فِيهِ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟» قَالُوا: لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوف بِنَذْرِك فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . (رواه أبوا داود وابن ماجة).
حكمة التكبير والصلاة في العيدين
    وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذين العيدين بين مظاهر الفرح والذكر لله تعالى، وهذا الجمع مندرج في المقصدين المذكورين وخادم لهما فهو مظهر من مظاهر التمايز عن الآخرين، كما أن فيه ربطا للعيدين بعقيدة التوحيد، وفيه معنى الجمع بين حق الله تعالى وحق النفس، والجمع بين حاجة الروح وحاجة المادة، ففي العيدين الإسلاميين نجد مظاهر الذكر لله تعالى وتوحيده وتعظيمه في التكبير المشروع فيهما، وكذا صلاة العيدين مجتمعة مع مظاهر الفرح واللهو واللعب كما هو معلوم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما كان الحبشة يلعبون يوم عيد في المسجد:" العبوا يا بني أرفدة لتعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة" (رواه أحمد والحميدي واللفظ له)، ولما عجب أَبُو بَكْرٍ من غناء الجاريتين في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجابه نبينا بقوله: "يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلَّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا" (رواه ابن حبان). ومعنى التعليل في الخبرين ظاهر وتعلق التكبير والصلاة بالعيدين معلوم، ومن خلال هذا الجمع خرجت أعياد الإسلام عن كونها مجرد اجتماع على اللهو واللعب فجمعت بين المعاني السابقة وحصل فيها التمايز التام عن غيرها.
    وقد زاد بعض أهل العلم مناسبة لجعل صلاة العيد تشرع في المصلى خارج المدينة، ولمخالفة طريق في الذهاب والإياب وهي إظهار شوكة المسلمين وكثرة تعدادهم ببروزهم الجماعي إلى المصليات، وفي سياق إبراز هذه الكثرة أمر بإخراج الصبيان والنساء، فكأن هذا الخروج بمثابة الاستعراض للقوة إلا أنه لا حمل فيه للسلاح، ولكن فيه لما هو أهم وهو القوة البشرية مع التكبير والتهليل وهي القوة الإيمانية، وقد صرح بعض العلمانيين أن خروج المصلين للعيد وهم يكبرون في الشوارع كان يدخل الرعب في قلوبهم، وعدُّوا ذلك من مظاهر الإرهاب الإسلامي.
حكمة اختيار عيد الفطر
   ذكرنا فيما سبق أن الأعياد لابد أن ترتبط بمناسبة من المناسبات؛ وأعياد المسلمين كذلك، فلعيد الفطر مناسبة طبيعية وأخرى شرعية، فأما الطبيعية فهي فرح المسلم بالفطر بعد صوم رمضان، وفرح الفقير بما يصله من صدقات، وأما المناسبة الشرعية فهي فرح المسلم بأداء فريضة الصيام التي هي ركن من أركان الإسلام، وفرحه بأن مد الله تعالى في عمره وعمر أهله سنة أخرى حتى أدى هذه الفريضة، وذكر هذه المعاني ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة .
حكمة اختيار عيد الأضحى
    وأما عيد الأضحى فهو مرتبط بذكرى إمام الملة الحنيفية إبراهيم عليه السلام وقصته مع ولده إسماعيل عليه السلام وهو أمر معلوم مشهور، ويصادف يوما هو أفضل الأيام عند الله تعالى، كما جاء في الحديث :"أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ويوم القَرِّ" (رواه أبو داود وابن حبان) وهو اليوم الذي وصفه الله تعالى بيوم الحج الأكبر، وقد علّل العلماء كثيرا من أحكام الأضحى بالتشبه بالحجاج في أحوالهم.
حكمة التكبير المقيد في الأضحى
   وأما التكبير في الأضحى فعلته التشبه بالحجاج الذين أمروا به في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة : 203) وهو عند مالك والشافعي منسجم مع هذا التعليل حيث يبدأ التكبير من ظهر يوم النحر وهي أول صلاة بعد قطع الحجاج للتلبية وشروعهم في التكبير، ويستمر إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، وأما عند الحنفية وأحمد فيبدأ من فجر يوم عرفة لفعل جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقدموا التكبير بيوم اتباعا لا قياسا.
حكم تشريع الأضحية 
    إن تقديم الأضاحي ذبحا ونحرا يُعد من أعظم مظاهر العبادات وأفضل القربات، وقد قرنها ربنا عز وجل في كتابه بعمود الدين وهي الصلاة فقال سبحانه : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2) وقال : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الأنعام: 162)، ولم تنفرد شريعة الإسلام بهذه العبادة؛ بل هو أمر موجود منذ القدم عند جميع أتباع الديانات السماوية –كما وجد عند الوثنيين- وقد قال الله سبحانه (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (الحج: 34) فبين ربنا عز وجل أن النسك قد شرع في جميع الأمم، والغاية من تشريعه هو توحيد الله تعالى بذكره وشكره على نعمه التي من تسخير هذه الأنعام للبشر، وذلك أن الله تعالى هو الخالق الرازق فهو المستحق للعبادة والشكر سبحانه. والديانات الوثنية التي هي في الغالب تحريف للديانات السماوية السابقة لها، قد وجد فيها تقديم القرابين والأضاحي في أعيادها، ولكنها خالفت ما قصد إليه الرب سبحانه، فحرّفت هذه الشِّرعة في المتقرَّب إليه- فجعلت لله شركاء من الجن والبشر والشجر والحجر أو الشمس والقمر، وحرفتها في جنس القربان أحيانا، وفيما يفعل به أحيانا أخرى، فكان من الأمم من يحرم أكل القرابين المقدمة للآلهة؛ فيقومون بحرقها لتشمها الآلهة التي علموا أنها لا تطعم، وربما أطعموا بها حيوانات جعلوها مقدسة كالتماسيح عند قدماء المصريين، والعرب في الجاهلية أيضا كانوا يحرمون على أنفسهم تلك اللحوم فكانوا يضعونها على النصب ويلطخون بدمائها البيت والأصنام التي حوله، وفي تصحيح هذا الوضع أنزل الله تعالى قوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحج :36-37) وقد تضمنت هذه الآيات والتي قبلها مجمل مقاصد تشريع الأضحية وشرحها فيما يأتي:
المقصد الأول : تحقيق الإخلاص في هذه الذبائح خاصة، لأن الله تعالى سخر لنا هذه الأنعام وأباحها وأكثر ما يذبح هو بقصد الأكل والتجارة وإكرام الضيف، فأراد الله تعالى أن يكون شيء منها يذبح لوجه الله تعالى أصالة، وتكون مصلحة الأكل والإطعام تابعة ومصلحة التجارة ممنوعة، وهو من معنى التقوى المصرح بقصده في الآية، وهو من معنى ذكر اسم الله تعالى عليها، لأن التسمية واجبة عند كل ذبيحة، ولكن هذه تخص بكونها لله تعالى فيقال فيها اللهم منك وإليك. ولذلك كانت النية شرطا أساسيا في صحة الأضحية وقبولها، والنية تطلب لتمييز المقصود بالعمل وهو الله تعالى، وقبل ذلك لتمييز العمل بحد ذاته هل هو عمل عادي أم عبادي.
   ومن فروع هذا المقصد تحريم بيع لحمها أو أي جزء منها أو جعله أجرة للجزار، ومن صحت نيته لم يجد حرجا في التضحية بالماعز إذا لم يجد غيره وهو أحد الأنعام المباحة، وكذلك لم يمتنع أن يشترك في البقر والإبل خلافا لمن جعل قصده الأساس تسلية الأولاد ولعبهم بالخروف، أو كان قصده أن يرى الجيران أضحيته ويسمعوا ثغاءها.
المقصد الثاني: تحقيق الشكر لله تعالى على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، وقد تكرر في الآيات المن من الله تعالى بأنه رزقنا إياها، وسخرها لنا، وجعل لنا فيها خيرا دنيويا وأخرويا، وحق هذا المن بهذه النعمة أن يقابل بالشكر والإحسان، وقد صرح به في قوله (لعلكم تشكرون) وقوله (وبشر المحسنين) والشكر لهذه النعمة يكون بالقلب اعترافا وباللسان ذكرا وتكبيرا وبالجوارح ذبحا وتقريبا لبعض منها، وهي قربة مصنفة في القرب المالية المتعلقة بالوجد والسعة .
المقصد الثالث : الأكل منها وإطعام الأهل، وهو منصوص صراحة لتحقيق مصالح منها : الحفاظ على المال من الضياع ومخالفة أهل الجاهلية ودخال السرور على الأهل، وهذا الأكل من تمام الشكر لله تعالى ومن معاني الهداية لأن الأمم قد ضلت عن الدين وضلت إذ حرمت على نفسها من هو حلال، وظنت أن للإله حاجة إلى هذه اللحوم والدماء. فقال سبحانه (فَكُلُوا مِنْهَا) وهذا الأمر دائر بين الإباحة والندب وحمله بعض الشافعية وابن حزم على الوجوب، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يأكل من أضحيته، بل كان يصبح صائما حتى يطعم من أضحيته فَعَن بُرَيْدَة قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ، وَلَا يَأْكُلُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يَرْجِعَ فَيَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ». (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْن مَاجَه وأحمد واللفظ له)، والحكمة من هذا التأخير للفطر إظهار الاعتناء بالأضحية والتبرك بها، ولم يثبت أنه كان يأكل من كبدها رواية، ولكنها أسرع ما يمكن طهيه.
المقصد الرابع : إطعام الفقراء وصلة الأرحام والجيران، قال فيه تعالى: (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) وفي هذا الإطعام تحقيق معنى الحفاظ على المال ومعنى مخالفة أهل الجاهلية إضافة إلى تحقيق التكافل الاجتماعي وتقوية الروابط بين أفراد المجتمع، وفي تفسير القانع والمعتبر أقوال منها أنها الفقير سواء المتعفف أو السائل ومنها أن القانع هو الفقير والمعتر هو من لم تكن له ذبيحة وإن لم يكن فقيرا، والقول الثاني أشمل من الأول يحقق معنى إكرام الجار وصلة الأرحام زيادة على الرحمة بالفقراء.
    وقد اتفق الفقهاء من السلف والخلف على جعل نصيب من الأضحية للفقراء ثم اختلفوا في تحديده ، فمنهم من قال هو الثلث أخذا من الآية وجعل للأكل ثلثا والثلث الآخر للهداية، ومنهم من جعل حق الفقير النصف واستدل بقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: 28)، ومنهم من اعتمد حديث :"كلوا وادخروا وتصدقوا" (متفق عليه) فجعل للفقير الثلث، وزاد ثلثا للادخار مع أنه داخل في معنى الأكل، وهو استدلالهم فيه ضعف لأن سبب ذكر الإدخار في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتصدقوا بها في عام جاع فيه الناس وقلّت الأضاحي، ثم إنه رفع النهي أرخص في الادخار، بهذا الحديث والتقسيم الأول أولى لشموله للهدية التي هي صلة للأرحام والجيران.
    واعتبارا لهذا المقصد قد قال بعض الشافعية فيمن أكل جميع الأضحية ولم يتصدق منها بشيء أنه يعيد أخرى، وقال آخرون بل يخرج قيمة حق الفقير واختلفوا فيه، فقيل قيمة نصفها، وقيل ثلثها، وقيل أقل ما يصح أن يتصدق به.
المقصد الخامس : احياء ذكرى أبي الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام والاقتداء بهما في معاني الطاعة والامتثال والبذل والتضحية، التضحية بالنفس وبالمال والجهد والوقت.
محاضرة المقاصد التشريعية لأحكام الأضحى ج 5 والأخير
(فيه مقاصد صفات الأضحية وحِكم المفاضلة بين الأضاحي وحكم توقيتها وحكم تشريعها على الموسر وعلى الكفاية)
مقاصد صفات الأضحية
    إن هذه الأضاحي عبارة عن قربان يتقرب به إلى الله تعالى وهدية تهدى للعظيم جل جلاله، وللقربان والهدايا صفات لابد أن تتوفر فيها؛ إذ ليس كل شيء صح ملكه حسن تقديمه هدية وقربانا، وهذا معلوم عند العقلاء فيما يقدم من هدايا للبشر عموما وللعظماء منهم خصوصا، ولذلك فإن لهذه الأضحية صفات واجبة يشترط أن تتحقق فيها وإلا لم تكن صالحة، وصفات أخرى مستحبة كلما تحققت فيها كانت أفضل من غيرها، واعتبار هذه الصفات وجوبا واستحبابا داخل في معنى قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32). فهذه الأضحية المقدمة للعظيم لابد أن تكون عظيمة كاملة لا حقيرة ناقصة، وبناء على هذا المعنى فإنه يشترط فيها ما يلي :
أولا : أن تكون من بهيمة الأنعام، لأنها أنفس الحيوانات التي يمتلكها الإنسان بقصد النماء وينتفع بها أكثر من غيرها، ولذلك وجبت فيها الزكاة دون سواها.
ثانيا : أن يكون لها سن لابد أن تتجاوزه، ولعل ذلك حتى تكون كاملة الخلق، محترمة الهيئة، وإلا فإنه لا يليق أن يهدى صغير لا لحم فيه، وقد حددت الأسنان تحديدا لا يجوز تعديه تعليقا للحكم بالمظنة كما هي عادة التشريع، ومنه فإنه لو وجد في الأبقار مثلا ما هو دون السن وهو أعظم خلقة وأكثر لحما من التي بلغت السن، فإنه لا يجزئ اتباعا للنص والاتفاق.
ثالثا : أن تكون سليمة من العيوب التي تنقص من قيمتها وكمالها، وقد ورد النص بأربعة أجناس من العيوب، العوراء البين عورها ومثلها العمياء، والعرجاء البين عرجها ومثلها المقطوعة الرجل، والهزيلة التي لا لحم فيها ولا مخ في عظمها، والمريضة البينة المرض كالجرباء والمجنونة. واختلاف الفقهاء في التفاصيل راجع لتحقيق المناط فيما يعد نقصا مؤثرا أو غير مؤثر في الكمال والقيمة.
ومن الصفات المستحبة
أولا : السلامة من العيوب التي لا تنقص من قيمتها ، وذلك أن الجميع اتفقوا على أنها كلما كانت أكمل كانت أحسن ، وحتى ولو كانت تلك العيوب لا تمنع الإجزاء باتفاق ككسر اليسير من القرن أو قطع اليسير من الأذن أو الحولاء ونحو ذلك.
ثانيا : السمن وكثرة اللحم والغلاء، وقد قال ابن عباس في تفسير الآية :"تعظيمها تسمينها واستحسانها" ولا شك أن سمنها وكثرة لحمها يزيد في قيمتها، وفي توسيع تحقيق مقصد الإطعام منها.
ثالثا : جمالها وحسنها ، ومما هو مندرج في معنى تعظيم الأضحية حسنها وجمالها في شكلها ولونها، وهو متفق عليه إجمالا بين الفقهاء؛ وإن اختلفوا في اللون المفضل، وعند بعضهم يقدم في الشياه البيضاء ثم الصفراء ثم العفراء ثم الحمراء ثم السوداء، وقد اختلفوا في تفسير الأملح الذي ضحى به الرسول صلى الله عليه وسلم هل هو الأبيض أم الأغبر ، وورد في الحديث :"دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين" (رواه أحمد).
حكم المفاضلة بين الأضاحي
اختلف العلماء في المفاضلة بين الأضاحي فذهب مالك إلى تفضيل الضأن اتباعا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لا اعتبارا للمعاني ، ثم علل ذلك بكثرة الذبائح والهدايا المقدمة، وكثرة الذكر والتكبير عند الذبح، وطيب اللحم بالنسبة لغيره .
وذهب جمهور العلماء إلى تقديم الإبل ثم البقر ثم الضأن ثم الماعز ، وهذا التفضيل معلل بعدة علل تندرج في معاني التعظيم التي سبقت الإشارة إليها ، وهي :
أولا : الغلاء فإنه قد سبق أن الأضحية قربة مالية؛ وكل ما كان أغلى من الأضاحي كان أنفس وأحرى أن يتقرب به للعظيم.
ثانيا : كثرة اللحم ، وهذا فضلا عن تحقيقه لمعنى العظم في الجثة؛ فإنه أبلغ في تحقيق مقصد إطعام الفقراء ومقصد إكرام الأقارب والجيران.
ثالثا : جودة اللحم ، وهذا يبقى محل اجتهاد تنزيلي لأن من يرى الضأن أطيب من البقر قد يخالف في هذا، والناس كالمجمعين على أن لحم الضأن أطيب من الماعز ، وأن لحم الذكر من الأنعام أطيب من لحم الأنثى منها.
    ولتفضيل لحم الذكر على الأنثى معان غير طيب اللحم وهو غلاؤه، وفيه معنى آخر اقتصادي وهو عدم الإضرار بالثروة الحيوانية ؛ إذ لا يخفى أن في الحفاظ على الإناث هو حفاظ على تكاثر الأنعام، وامكانية تعويض ما يذبح كل عام.
الحكم المتعلقة بتوقيت الأضحية
أما أول وقت ذبح الأضاحي فهو وقت الضحى بعد أداء صلاة العيد ، وفي ذلك معنى الموافقة للحجاج، فإن الحاج يكون ابتداء من الفجر أو طلوع الشمس مشغولا بأداء المناسك؛ من طواف ورمي وحلق، ولا يفرغ من ذلك إلا في الضحى، وكون الذبح بعد الصلاة أبلغ في مشابهة الحجاج من جهة كونه بعد اجتماع على ذكر الله تعالى.
   وحكمة مشابهة الحجاج في مناسكهم حكمة معتبرة وليست موهومة، يؤكدها تعدد الفروع الواردة على وفقها، ومن ذلك نهي من نوى الأضحية أن يمس من شعره وأظفاره شيئا بدءا من الفاتح ذي الحجة، والحديث في صحيح مسلم، ولا يجد الناظر تعليلا لهذا إلا علة موافقة الحجاج .
وأما مدُّ وقته إلى ثلاثة أيام بعد العيد –على الراجح-وهي أيام التشريق كاملة؛ فهو أيضا معلل بموافقة الحجاج، فهم يذبحون الهدي فيها وهي أيام أكل وشرب وذكر مشبهة بالعيد، ولذلك نهي عن صومها كما نهي عن صوم العيد، وفي توسيع وقت الذبح إلى أربعة أيام تخفيف على الناس من أجل إقامة هذه الشعيرة؛ خاصة من لم يجد أضحية مناسبة قبل العيد أو شغل عن شرائها بسفر أو عمل، كما أن توزيع الذبح على أربعة أيام –لو حصل-من شأنه تسهيل التوزيع على الفقراء وتنظيمه ، كما يمكن استغلال هذا التوسيع في الوقت إذا أردنا تنظيم عملية الذبح في المذابح، وفي المدن الكبرى الحاجة ملحة إلى مثل هذا التوسيع من جانب الحفاظ على النظافة؛ وتسهيل عملية جمع بقايا الضحايا التي ترمى.
حكمة تشريع الأضحية على الموسر وعلى الكفاية
   اختلف العلماء في حكم الأضحية هل هو الوجوب أم السنية، وأقوى ما يتمسك به القائل بالوجوب كونها شعيرة من أعظم شعائر الدين التي ينبغي إظهارها في جميع الأمصار، وآثار أكثر الصحابة تؤيد من ذهب إلى السنية (سنة مؤكدة) والنصوص الصحيحة فيها احتمال، لكن الجميع اتفق على أمر مهم وهو أن هذه السنية أو الوجوب متعلقان بالوجد والسعة فلا ينبغي للمرء أن يتكلف ما لا يستطيع أو ما يوقعه في الحرج ؛ الحرج مرفوع عن المكلف في جميع تفاصيل الشرع الحنيف سواء كان بدنيا أو ماليا، وإن من المقاصد التي رمى إليها الشرع كما سبق إطعام الفقراء وتحقيق معنى التكافل الاجتماعي وتقوية الروابط بين أفراد المجتمع ، فلو فرض على الغني والفقير ، الواجد وغير الواجد لضاع هذا المعنى ووقع الناس في العنت.
    وإظهار هذه الشعيرة يكفي بشرعيتها على أهل كل بيت ، وإن كان فيه أكثر من قادر عليها، فهي عند من يقول بالوجوب واجب كفائي وعند أكثر من قال بالسنية سنة كفاية، والزيادة على هذا قد يدخل الناس في التباهي فتفسد النيات، فعن عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويُطعمون، حتى تباهى الناس فصارت كما ترى» رواه الترمذي وصححه..ولعل من حكم تشريعها على معنى الواجب الكفائي أو السنة الكفائية تجنب التبذير بتكثير استهلاك اللحوم في مدة وجيزة، وتجنب استنزاف الثروة الحيوانية حيث إنه إذا كثر الطلب وغلت الأسعار يلجأ الناس إلى التضحية بالإناث، ولا ننسى أن من مقاصد الأضحية إطعام الأهل والهدية لمن ضحى ومن لم يضحي..وفرض ذلك على كل قادر يعطل هذا المقصد والله أعلم. 

تم قراءة المقال 2378 مرة