الأحد 6 محرم 1443

شبهات الغلاة في التكفير حول العذر بالجهل

كتبه 
قيم الموضوع
(4 أصوات)

شبهات الغلاة في التكفير حول العذر بالجهل

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أما بعد:
    فإن ظاهرة الغلو في التكفير من الظواهر الخطيرة التي ينبغي الاهتمام بعلاجها، وربما كانت أولى بالعناية من كثير من مظاهر الفساد الأخرى لما لها من آثار سيئة على المجتمع الإسلامي ومسيرة الدعوة إلى الله تعالى، لذلك رأيت أن أكتب مقالات موجزة أرد فيها بعض شبه الغلاة المضللة وأفكارهم الخاطئة وآرائهم الباطلة التي لا تزال تروج في العالم، وتستغل لإضلال الشباب وحمله على تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وقد سميت هذه المقالات بشبهات الغلاة في التكفير ليعلم أننا لسنا ننكر التكفير الذي هو حكم شرعي خاضع للنصوص الشرعية والضوابط الفقهية، لأن تكفير من كفره الله ورسوله واجب كل موحد يبرأ من الشرك ومظاهره، ولكننا ننكر الغلو فيه بحيث يحكم على المسلمين بالكفر أو الردة ظلما وعدوانا، وهذا الغلو والتجاوز للحدود الشرعية له مظاهر في الواقع خلاصتها :
-التكفير بما ليس مكفر من المعاصي وكبائر الذنوب.
-تكفير من لم يتحقق تلبسه بأسباب الكفر التي دلت النصوص على أنها كفر.
-عدم مراعاة شروط إيقاع حكم الكفر على الأعيان وموانعه.
     وسأقتصر في هذا الكتاب على مناقشة جزئية مندرجة في الحالة الثالثة، وهي زعمهم أنه لا يشترط إقامة الحجة على المعين لتكفيره، وأنه لا أثر لعارض الجهل في ذلك، وذلك بدحض شبهات المخالفين التي كثر تردادها وتكرارها، وقد كتب كثير من أهل الإنصاف والاعتدال في هذه المسألة وحققوا الحق فيها من خلال النصوص الشرعية، وبيان مواقف الأئمة الأعلام منها، ولا شك أن الجواب عن الشبهات مما يكمل المقصود، ويزيد الحق جلاء ويحمي من عرضت له من الإذعان لها.
     ومما لا بد من التنبيه عليه هنا أن بعض المتحمسين للرد على الغلاة في التكفير قد أخطأوا الوجهة في النصيحة للأمة في هذه القضية الخطيرة، وجعلوا كل همهم التحذير من بعض الأفراد أو الجماعات الذين تبنوا آراء فيها غلو في التكفير، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم في تصنيف الناس وتبديعهم حتى خرج كثير منهم عن الإنصاف والاعتدال، وصاروا يلمزون من زلَّ في هذه القضية –من المعاصرين-بصفة الخوارج، حتى اجترأ بعضهم على بعض العلماء الكبار فوصفوهم بذلك.
    وليس كل من اختُلف معه في مثل هذه القضايا-على عظمها- يُبدع، سواء كان من علماء العصر أو من علماء القرون الماضية، ولكن يُبدع في هذه القضايا وغيرها من ظهر إتباعه لهواه، وتبيَّن تلاعبه بالنصوص الشرعية أو تَحريفه لكلام العلماء، وهؤلاء الغلاة يظنون أنهم يحفظون الشباب بغلوهم في تبديع المخالفين، والذي نراه في الواقع عكس ذلك، فهم يبدعون الداعية المعاصر لتبنيه لآراء قال بها جمع غفير من أفاضل المتقدمين والمعاصرين ممن لا يجرؤ الغلاة على الجهر بتبديعهم، فإذا وقف الناس على هذه الحقيقة كذبوا هؤلاء المُبَدِّعين في رأيهم في المسألة وفي حكمهم على مخالفيهم، وانقلبوا من الغلو في التبديع إلى الغلو في التكفير.
     وليس مثل هذا مما ينصر به الحق ويحفظ شباب الأمة، لأن الناصح لا يمكنه أن يحصي أسماء المخالفين أجمعين ليحذر منهم مهما اجتهد في ذلك، ومن أصول السنة أن لا يرد الغلو بالجفاء ولا ترد البدعة بالبدعة، بل الواجب لنصرة الحق بيانه بحججه، لأن الناس إذا عرفوا الحق تمسكوا به وإن قل من قال به، وإذا عرفوا الباطل اجتنبوه وإن كثر من قال به؛ ومهما كانت صفة القائلين به، وكم رأينا من الشباب الملتزم بمنهج السلف إجمالا -والذي رُبِّي على التقليد بدل إتباع الدليل- قد غرَّته شبهات المخالفين -أو أسماؤهم- وجرَّته إلى الغلو في التكفير لعدم تلقيه الحصانة العلمية التي تقيه من مهاوي الانحراف ومن الاستجابة للشبهات.
     وكثير من هؤلاء المتحمسين المشار إليهم قد أهملوا الجانب العلمي التأصيلي؛ فتراهم يركزون على مناقشة بعض الكتابات الأدبية المستندة إلى العاطفة الدينية؛ التي لا تؤثر غالبا إلا في العوام وأشباه العوام، ويتركون نقد كتب التنظير العقدي التي تصطبغ بالصبغة العلمية، ويستند أصحابها إلى الأدلة الشرعية!! وأقوال العلماء الربانيين من السلف والخلف!! وما أكثر هذه الكتب وما أكثر القائلين بما فيها.
    فهذا الكتاب إسهامٌ بحسب الطاقة في بيان الحق ورد شبه المخالفين، وتكميلٌ لجهود من سبق إلى الكتابة في هذا الموضوع؛ من الناصحين لله ولدينه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأصله كما ذكر مقالات سبق لي نشرها عبر صفحات الأنترنت، وقد أعدت النظر في مضمونها وترتيبها؛ ملتزما المنهجية العلمية من تقسيم الكتاب إلى مباحث ومطالب وفروع، وتوثيق النصوص المنقولة في الهامش، وتخريج الأحاديث من مصادر السنة المعتمدة، والترجمة لغير المشهورين من الأعلام، كما أضفت إليه مبحثا خاصا بتحقيق مذهب الطبري رحمه الله تعالى في هذه القضية، نسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
المبحث الأول : تحكيم العقل في العقائد
المطلب الأول : تقرير الشبهة  
     من شبهات من يجنح إلى تكفير المسلمين الواقعين في الشرك من غير اشتراط إقامة الحجة وإزالة عارض الجهل والشبهة عنهم، أن حقيقة التوحيد مدركة بالعقل متوصل إليها بالنظر غير متوقفة على إرسال الرسل، وهذا الزعم مذهب قديم قد قال به المعتزلة والماتريدية، وقد تمسك به كثير من المعاصرين مع انتسابهم للسنة وبراءتهم من مذهب الاعتزال والماتريدية.
    يقول أبو منصور الماتريدي الحنفي -مؤسس المذهب- في تفسيره لقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (النساء:165):« نفيه الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبل معرفتها الرسل، أما معرفة الله فإن سبيل لزومها العقل، فلا يكون لهم ذلك على الله حجة»(1). وقد اعتمد هذا الرأي -كما ذكرنا- كثير من الغلاة مع زعمهم الانتساب إلى السنة.
     ولَمّا قال ابن تيمية:« وهذا مذهب المعتزلة ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة»(2)، _ وقد عنى بأصحاب أبي حنفية الماتريدية منهم_  نقل بعض المعاصرين المذهب عن المعتزلة وجمهور الحنفية(3)، ليُصَيّره قولا لبعض أهل السنة، ثم بعدها شكك في وجود من لم تبلغه دعوة التوحيد ليصير خلاف من نازع في تحكيم العقل -وهم جمهور أهل السنة عنده -خلافا لفظيا، لأن اشتراط بلوغ الحجة عن طريق الرسل يصبح أمرا لا معنى له، لأنه شرط متحقق في كل عصر وفي كل مكان.
    وهذه طريقة من يحكم على من وقع بالكفر بالعذاب في الدنيا والآخرة، ويحمل قول الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) على العذاب الدنيوي العام.
   ومن الغلاة من رام ربط عدم العذر بالجهل مع قضية تحكيم العقل؛ من جهة التحسين والتقبيح العقليين على مذهب أهل السنة لا على مذهب المعتزلة، ذلك أن الفرق الإسلامية في هذه القضية طرفان ووسط، فالأشعري ومن تبعه نفوا الحسن والقبح العقليين مطلقا عن أفعال العباد قبل الشرع، وبالتالي لا يترتب على ذلك تحسين ولا تقبيح ولا تكليف ولا ثواب ولا عقاب إلا بورود الشرع، والمعتزلة ومن تبعهم أثبتوا الحسن والقبح لأفعال العباد بمجرد العقل وقبل ورود الشرع ورتبوا على ذلك التكليف والثواب والعقاب، وأهل السنة المحضة قالوا:إن من أفعال العباد ما هو متصف بصفات حسنة أو سيئة تقتضي الحمد أو الذم قبل الشرع، ولكن لا يعاقب أحد إلا بعد بلوغ الرسالة كما دل عليه القرآن في قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15)، وفي قوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (الملك:8-9)(4).
    وقد استنتج بعض هؤلاء الغلاة من مذهب أهل السنة المذكور :« أن القوم قبل البعثة وإقامة الحجة معذورون في أحكام وغير معذورين في أحكام أخرى؛ معذورون في أنهم لا يعذبون في الدنيا والآخرة حتى تقام عليهم الحجة الرسالية، وهذا من رحمه الله وفضله، وغير معذورين في اقترافهم الشرك وما ينبني عليه من أحكام مثل عدم دفنهم في مقابر المسلمين ولا الصلاة عليهم وعدم القيام على قبورهم والاستغفار لهم ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ولا يدخلون الجنة وهو أعظمها»(5).
    وهذه طريقة من ينفي العذاب الدنيوي والأخروي عمن وقع الشرك مع الحكم عليه بالشرك تعيينا من غير إقامة حجة، والذي يجمع الفريقين هنا هو الاعتماد على حجة العقل.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    الجواب عن هذه الطريقة في الاستدلال كما يلي :
الفرع الأول : لا حجة في العقل عند أهل السنة
    إن هذه الطريقة في الاستدلال معلومة الفساد عند أهل السنة والجماعة، إذ مما هو متقرر عندهم أن العقل لا حكم له قبل الشرع ولا بعده، وأن مناط التكليف هو الشرع، وقد تواترت بذلك النصوص الشرعية وأجمع عليه السلف، وهو أمر لا يخفى على من كان له إلمام بقضايا التوحيد، قال تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (يوسف:40) وقال سبحانه : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:21).
    والمخالفون دفعهم هذا الاعتقاد الفاسد إلى تأويل النصوص التي تدل على معتقد أهل السنة بتأويلات متكلفة وتخرصات وظنون كاذبة، كتخصيص الحجة التي يقيمها الرسل بتفاصيل الشرائع دون أصل الدين وتوحيد رب العالمين، وحمل العذاب المنفي في قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) على عذاب الاستئصال في الدنيا فقط، وأعجب من كل ذلك أن يتأول الرسول المبعوث بالعقل المبثوث.
الفرع الثاني : ثبوت الحسن والقبح لا يستلزم التشريع
    وأما ثبوت الحسن والقبح لبعض الأفعال قبل الشرع عند أهل السنة فلا يستلزم إثما ولا تكفيرا، ولا علاقة له بإثبات الأحكام الشرعية مطلقا، فما زيَّن به ذلك المستدل قولَه آيل إلى قول المعتزلة وإن خالفهم في العذاب الأخروي، لأنه رتَّب على التحسين والتقبيح أحكاما شرعية وهذا قول المعتزلة لا قول أهل السنة، وإذا كانت الأحكام المذكورة صحيحة في حق من لم يعرف دين الإسلام ولم يلتزم به في الجاهلية أو بعدها؛ فليس مستندها هو التحسين والتقبيح، ولا يلزم أن تكون صحيحة في حق من عرف الإسلام والتزم به التزاما مجملا، ثم وقع في شيء من نواقضه جهلا.
الهوامش
 / انظر: الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الحربي (ص:147) ط1-1413 دار العاصمة، الرياض.
2/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/492) تحقيق محمد رشاد سالم ط2-1411 ، السعودية.
3/ الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد لعبد الرحمن بن عبد الحميد (ص: 336) وما بعدها، ضمن مجموعة عقائد الموحدين، ط 1411، نشر مكتبة الطرفين بالطائف.
4/ انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/492-493).
5/ العذر بالجهل تحت المجهر لمدحت بن حسن آل فراج (ص:53) ط1-1414، مكتبة دار الحميضي، الرياض، السعودية، ودار الكتاب والسنة، كراتشي، باكستان.
المبحث الثاني : ظن حجية الفطرة في العقائد
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    ومن الغلاة من يستدل على عدم العذر بالجهل بقيام الحجة بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقد قال رسول الله  :« ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»(6). وجه ذلك أن الفطرة هي دين الإسلام، وهي مقتضية لمعرفة الله تعالى ومحبته وإفراده بالعبادة، فكانت مغنية عن الحجة الرسالية، وقائمة مقامها.
   وقد يُجعل هذا الدليل مدعما لدليل العقل ومقويا له، وقد يُذكر دليلا مستقلا بذاته.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: نعم إن المقصود بالفطرة في الحديث فطرة الإسلام كما فسرها أبو هريرة راوي الحديث، وكما دل عليها الحديث القدسي :« وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم»(7). لكن لا تلازم بين ثبوت خلق الإنسان على الفطرة وبين قيام الحجة عليه بحال، إذ لا يزعم أحد أن هذه الفطرة مغنية عن التعلم، وأنها تقوم مقام إرسال الرسل وإنزال الكتب.
    وفي تقرير هذا يقول ابن تيمية رحمه الله:« وإذا قيل إنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفا ونحو ذلك، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده، فإن الله تعالى يقول: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (النحل:78)، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام لمعرفته ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه»(8).
      ثم قال :« إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته حصل المقصود بذلك، وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة كالتعليم والتخصيص، فإن الله قد بعث الرسل وأنزل الكتب ودعوا الناس إلى موجب الفطرة من معرفة الله وتوحيده، فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة وإلا استجابت لله ورسله لما فيها من المقتضي لذلك، ومعلوم أن قول كل مولود يولد على الفطرة؛ ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك، فإن الله يقول: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (النحل:78)، ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر، ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك وتستوجبه بحسبها، فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل من معرفتها بربها ومحبتها له ما يناسب ذلك »(9).
الهوامش
6/ رواه البخاري (رقم:1292) -ترقيم مصطفى البغا- ومسلم (رقم:2658)-ترقيم فؤاد عبد الباقي-.
7/ رواه مسلم (رقم:2865)-ترقيم فؤاد عبد الباقي-.
8/ درء تعارض العقل والنقل بن تيمية (8/383-384).
9/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/460-461).
المبحث الثالث : الاستدلال بآية الميثاق
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    وأشهر ما يلبس به الغلاة في نفي العذر بالجهل الاستدلال بقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف:172) ومع أن وجه الاحتجاج بها هو عين وجه الاحتجاج بالفطرة، إلا أن الغلاة يعتمدون عليها ويطيلون في شرحها ونقل كلام العلماء فيها، لما في ألفاظهم من عبارات متشابهة، ولما في كلام المفسرين فيها من إطلاقات موهمة.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
الفرع الأول : بيان معنى الآية وعدم منافاتها للعذر بالجهل
    وتمهيدا للجواب نلخص مذاهب أهل السنة في تفسيرها، إذ لهم فيها قولان مشهوران، أحدهما: أن معنى "الأخذ" في الآية هو إيجادهم قرنا بعد قرن، ومعنى "الإشهاد" نصب الأدلة القاطعة على ربوبيته واستحقاقه للعبادة، ومعنى "قالوا بلى" هو إقرارهم بربوبيته وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم في حياتهم بعد خلقهم، وهذا الإقرار خلقوا عليه وجبلوا لا يمكن لأحد جحده، وليس المراد أنه إشهاد لجميعهم في يوم واحد ولو كان ذلك مقصودا لما كان فيه حجة عليهم، لأنه لا يذكره أحد عند وجوده في الدنيا، وممن اختار هذا التفسير ابن تيمية وابن القيم(10).
    والقول الثاني: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر وأشهدهم على أنفسهم وأجابوه بلسان المقال ولا بلسان الحال، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل، وإخبار الرسل يحصل به اليقين بوجوده، وذهب إليه الشنقيطي رحمه الله(11).
    وبعد هذا التوضيح يتبين أنه لا حجة في الآية مطلقا على عدم العذر بالجهل؛ لا على القول الأول ولا على القول الثاني، لأن القول الأول راجع إلى معنى الفطرة وقد علم الجواب عنه، والقول الثاني اشترط فيه تذكير الرسل.
    قال الشنقيطي رحمه الله:« فمن ذلك قوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فإنه قال فيها حتى نبعث رسولا ولم يقل حتى تخلق عقولا وتنصب أدلة وتركز فطرة، ومن ذلك قوله تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: 165) فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة »(12).
    فإن قيل فكيف تفسرون الآية بعدها : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (الأعراف:173) قيل : ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد، إحداهما دعوى الغفلة وهي حجة المعطلين الحاجدين للفطرة لوجود الخالق، والثانية إتباع الآباء وهي حجة المشركين، وهذا يقتضي أن الفطرة وحدها حجة في بطلان الشرك، ومع ذلك فليس في ذلك نفي للعذر بالجهل، قال ابن تيمية رحمه الله :« وهذا لا يناقض قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) فإن الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذورا في التعطيل ولا الإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب، ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا (إلا) بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب »(13).
الفرع الثاني : تحريفات صاحب الجواب المفيد
      بعد أن بينا أن آية الميثاق تدل على ثبوت الفطرة، وأنها على قول أهل السنة لا تكون حجة موجبة للعذاب في الدنيا أو الآخرة؛ نأتي إلى كشف بعض تحريفات الغلاة لنصوص العلماء وتعمد البتر المغير للمعنى. ومنهم صاحب الجواب المفيد الذي نقل مجموعة من النصوص المنتقاة من كلام ابن القيم(14) ، ونحن نوردها في سياقها ليبين البتر وأثره.
     قال ابن القيم في كتاب الروح وهو يناقش قول من زعم خلق الأرواح قبل الأجساد:« وزاد الجرجاني(15) بيانا لهذا القول، فقال حاكيا عن أصحابه أن الله لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن، وما لم يكن بعد مما هو كائن كالكائن؛ إذ علمه بكونه مانعا من غير كونه شائع في مجاز العربية أن يوضع ما هو منتظر بعد مما لم يقع بعد موقع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله تعالى: (ونادى أصحاب النار) (ونادى أصحاب الجنة) (ونادى أصحاب الأعراف)، [قال: فيكون تأويل قوله وإذ أخذ ربك وإذ يأخذ ربك وكذلك قوله: وأشهدهم على أنفسهم  أي ويشهدهم مما ركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم، ويجب به الثواب والعقاب، وكل من ولد وبلغ الحنث وعقل الضر والنفع وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب، صار كأن الله تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل] على حدوثه، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره ليس كمثله»(16).
     فهذا الكلام الذي بين معكوفين هو ما نقله منسوبا لابن القيم، وهو من كلام الجرجاني المذكور، وإن فيه عقيدة اعتزالية حيث جعل العقل موجبا للثواب والعقاب، ومع كل ذلك فقد تكلم ابن القيم، في هذا الكتاب تعليقا على كلام الجرجاني، بما ينقض ما أراده الناقل من قيام الحجة بمجرد الميثاق والعقل، وهذا نصه كاملا :
     قال ابن القيم رحمه الله :« [ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين؛ ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة وينقطع به العذر وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك]، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم مما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم وأمره ونهيه ووعده ووعيده »(17).
    ومن هذا النص نقل صاحب الكتاب المذكور ما هو بين معكوفين وترك ما بعده ونرك من كلام ابن القيم أيضا قوله:
   « الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ  (النساء:165)».
   وقوله :« الثامن قوله تعالى: أفتهلكنا بما فعل المبطلون  أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار»(18).   
الفرع الثالث : تلبيس صاحب العذر بالجهل تحت المجهر
    وأما صاحب العذر بالجهل تحت المجهر فلنا مع كلامه في هذا الموضوع وقفات:
الأولى : بعد أن قرر أن من وقع في الشرك فهو مشرك باتفاق، لأن الخلاف واقع في العذاب لا في الاسم قال :« وهذا الموضع ضل فيه كثير من العقول والأفهام لظنها أن قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) حجة في إعذار من يقع في الشرك بالله، وأنه ما زال مسلما موحدا مع انغماسه في الشرك، وقطعوا بنجاته في الدارين إلا أن تقام عليه الحجة الرسالية، ويرد على الزعم الباطل هذا البحث الذي بين أيدينا الذي اتفق عليه العلماء: على أن من وقع في الشرك من أهل الفترات الذين هم في غياب عن الشرائع، وفي طموس من السبل فهو مشرك لنقضه حجية الميثاق والفطرة وأن العقل حجة على هذا »(19).
   وجوابه فيما يلي:
1-أن تسمية أهل الشرك الذين ليسوا بمسلمين بالمشركين، وملازمة وصف الشرك لهم فليست متوقفة على حجية الميثاق أو الفطرة والعقل، فنحن نسمي المشرك مشركا ونسمي اليهودي يهوديا والمجوسي مجوسيا لانتسابه لهذا الدين، ولعدم إقراره بالتوحيد الذي جاء به الرسول  .
2-وإذا أثبت بالحجج واتفاق العلماء أن المشركين مشركون! فلا يلزم من ذلك أن يحكم بالشرك على أعيان المسلمين المقرين بالشهادة والملتزمين بالإسلام وشعائره؛ إذا جهلوا بعض صور العبادة فأشركوا فيها مع الله غيره.
الثانية : مع قوله :« فلو لم تكن آية الميثاق حجة مستقلة في الإشراك فبأي حجة حكم العلماء بها عليهم بالشرك؟ »(20).
     والجواب واضح من أنهم يحكمون عليهم بالظاهر منهم، والذي يفهم من هذا التساؤل أنه لولا آية الميثاق لكان هؤلاء المشركين في عداد المسلمين!! لكن من يقول هذا؟ بل هم مشركون ونحن مستغنون عن الاستدلال على ذلك.
الثالثة : قال أيضا :« وما الحال فيمن وقع في الشرك بعد بعثة الرسول  وكل تراثه محفوظ وآيات الله وأحاديث نبيه تتلى عليهم ليل نهار، والموحدون في كل بيت من بيوتهم ». ومعنى كلامه أنا إذا حكمنا بالشرك على أصحاب الفترات فالحكم على هؤلاء (المسلمين) أولى .
    الجواب عن هذا أن يقال : نعم من كان في بيته موحدون يدعونه ويبينون له التوحيد فقد قامت عليه الحجة، أما مجرد تلاوة القرآن والحديث فلا تقوم بها حجة، لأنه يحتاج إلى تفسير وبيان وليس كل الناس يفهم القرآن.
    ولا بأس أن أنقل في ختام هذا البحث كلاما لسيد قطب رحمه الله يقرر فيه ما قاله علماء أهل السنة:« ولكن الله سبحانه رحمة منه بعباده، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف ـ كما قال  ـ بفعل شياطين الإنس والجن الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط ضعف. رحمة من الله بعباده قدَّر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا، كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف، واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات.
     ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات، ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها، ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة»(21).
الهوامش
10/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/482-491).
11/ أضواء البيان للشنقيطي (2/394-396) ط1-1426 دار عالم الفوائد، مكة المكرمة.
12/ أضواء البيان للشنقيطي (2/396).
13/ درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/490-492) الكلام نفسه ورد في أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/1011-1014) .
14/ الجواب المفيد (ص:330) .
15/ هو فيما يظهر أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني ويعرف بالجماجمي نسبة لحي بجرجان قال السهمي:« له من التصانيف عدة منها في نظم القرآن مجلدتان، وكان رحمه الله من أهل السنة، روى عن العباس بن يحيى العقيلي، روى عنه أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي» تاريخ جرجان للسهمي (ص:146) ط-1369 مجلس دائرة المعارف النعمانية. وكتاب نظم القرآن من مصادر الكشف والبيان للثعلبي (ت:427) وقد سمعه من الطوسي مباشرة كما في مقدمة الكتاب(1/84) ولمكي بن أبي طالب انتخاب كتاب نظم القرآن وإصلاح غلطه، ولم أظفر بسنة وفاته وتلميذه أبو النظر توفي سنة 344 كما في الوافي بالوافيات (1/210) تحقيق ريتر ط1381.
16/ الروح لابن القيم (2/549-550)، تحقيق بسام العموش ، ط1-1406، دار ابن تيمية الرياض .
17/ الروح لابن القيم (2/555).
18/ الروح لابن القيم (2/556).
19/ العذر بالجهل تحت المجهر لمدحت آل فراج (ص:42-43).
20/ العذر بالجهل تحت المجهر لمدحت آل فراج (ص:43).
21/ في ظلال القرآن لسيد قطب (3/1395-1396) ط32-1423، دار الشروق.
المبحث الرابع: عدم التفريق بين المسلمين والمشركين الأصليين
المطلب الأول : تقرير الشبهة
         ومن الشبه التي يتمسك بها المخالفون عدم التفريق بين المسلمين الواقعين في الشرك والمشركين الأصليين، وقياسهم عليهم في عدم العذر بالجهل، وخلاصة هذه الشبهة عندهم أن الله تعالى وصف المشركين بالشرك قبل قيام الحجة الرسالية في نصوص كثيرة كقوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6) فوصفه بالشرك قبل أن يسمع كلام الله تعالى الذي تقوم به الحجة ، وقال : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (البينة:1) فوصفهم بالشرك قبل أن تأتيهم البينة.
    ويعللون عدم قيام الحجة عليهم بظواهر هذه النصوص، إضافة إلى ما هو متقرر معروف من أن النبي  أرسله الله تعالى بعد فتور الرسالات قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:19).
   ثم انقسم هؤلاء الغلاة إلى فريقين منهم من قال بالتلازم بين الشرك والقتال إلا عذاب الآخرة فيحتاج إلى قيام الحجة، ومنهم من قال لا قتال في الدنيا ولا عذاب في الآخرة حتى تقام الحجة، إلا أنهم كفار لا يصلى عليهم ولا يصلى خلفهم ولا تناكح بينهم وبين المسلمين ولا توارث.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    والجواب عن هذا الاستدلال أن وصف الشرك الوارد في حق الكفار والمشركين الأصليين الذين لم يشهدوا لله تعالى بالوحدانية ولمحمد  بالرسالة، لا يجوز إيقاعه على المسلمين عينا، والتسوية بين المشركين والمسلمين في الاسم (الكفر) فضلا عن الحكم (القتال والعذاب الأخروي) ظلم وجور وخلاف الأدلة الشرعية، ويدل على ذلك ما يأتي:
الفرع الأول : دلالة النصوص على اختلاف الحكم الأخروي
     فأما المشركون الأصليون فالصواب الذي تؤيده النصوص الشرعية أنهم يستحقون وصف الشرك لعدم توحيدهم قبل قيام الحجة، ولا يحكم عليهم بالنار إلا بعدم قيامها، وذلك لصحة الحديث في امتحان أهل الفترة.
    وأما المسلمون الملتزمون بشريعة الإسلام إجمالا الواقعون في الشرك جهلا، فإنهم معذورون وخطأهم مغفور لهم، ولا يصح أن يقال إنهم يمتحنون بدليل النصوص الكثيرة الواردة في العذر في حقهم، كحديث صاحب الوصية الجائرة الذي غفر الله له، ومن كان مغفورا له في الآخرة فهو مسلم في الدنيا، ولا يمكن أن نصفه بالشرك في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة.
   قَالَ النبي « أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِى ثُمَّ اسْحَقُونِى ثُمَّ اذْرُونِى فِى الرِّيحِ فِى الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّى لَيُعَذِّبُنِى عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا. قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِلأَرْضِ أَدِّى مَا أَخَذْتِ. فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقَالَ خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ - أَوْ قَالَ - مَخَافَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ»(22).
    واختلاف الحكم الأخروي من أبين الحجج على اختلاف الأحكام الدنيوية، إذ لا يدخل الجنة في الآخرة إلا مسلم في الدنيا، ولا يمتحن أحد يوم القيامة إلا لأنه لم يكن مسلما في الدنيا.
الفرع الثاني : قيام الحجة على أهل الجاهلية
    ثم إننا لا نوافق على ما يزعمه المخالفون من أن أهل الجاهلية الذي وصفوا بالشرك لم تكن الحجة قائمة عليهم، إذ الصواب أن الحجة كانت قائمة عليهم كما ذهب إليه ابن عطية والنووي وغيرهما(23) ، وعلى ذلك دلائل منها:
    أن إقامة الحجة لا تحتاج إلى وجود رسول ضرورة، بل يكفى أن يوجد من يعلن بدعوته، قال الشوكاني في تفسير قوله: (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص:47): «ومعنى الآية أنا لو عذبناهم لقالوا طال العهد بالرسل ولم يرسل الله إلينا رسولا، ويظنون أن ذلك عذر لهم، ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد إليهم»(24).
    ومنها أنه قد كان في أهل الجاهلية من يعبد الله تعالى ولا يشرك به شيئا كزيد بن عمرو بن نفيل، فقد صح عن رسول الله  : أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل (بلدح) وذلك قبل أن ينزل على رسول الله  الوحي فقدم إليه رسول الله  سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منه وقال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه(25) ، وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:« رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معاشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري»(26).
    ومن الدلائل قول النبي  :«رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السُّيُوبَ»(27) ، وقوله:« أبي وأبوك في النار »(28) ، وقوله:« اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّى فَلَمْ يَأْذَنْ لِى وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِى»(29) ، ومعنى هذا أن والديه في النار، وهذا يدل على أهل الجاهلية ليسوا من أهل الفترات، لأنه قد ثبت أن أهل الفترة يمتحنون.
   ومنها قوله تعالى:  وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ  (آل عمران: 103). قال الطبري: «وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم بالإيمان الذي هداكم له»(30).
    وفي الصحيح أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال:«لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين »(31).
   ويلزم من يصر على قياس المسلم الذي عرضت له شبهة في مفهوم العبادة بالمشرك الأصلي ومشركي أهل الجاهلية أن يحكم على الجميع بالنار، وهذا ما التزمه بعضهم ممن لا يفرق بين أحكام الدنيا والآخرة، ولا يشترط إقامة الحجة بإطلاق، وهذا الرأي أقيس وإن كان أكثر بعدا عن الحق.
الفرع الثالث: محل الاستدلال بالآيات النازلة في أهل الشرك
     ولا يمنع أحد من الاستدلال بالآيات الواردة في الكفار الأصليين على فساد الشرك وبيان أسباب الكفر، فلا نزاع في إثبات كفر النوع (إلا نزاع القبوريين ولا عبرة به)، لكن النزاع في إيقاع اسم الشرك والكفر على المعين من المسلمين، لذلك فإن من لغو الكلام قول بعض الغلاة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، ومن التلبيس التمسك بأنه استدل بها العالم الفلاني والفلاني، لأنهم استدلوا بها على فساد الكفر لا على تكفير المعين.
   قال السعدي رحمه الله : « وما ذكرته من مساواة جهلة اليهود والنصارى وجميع الكفار الذين لا يؤمنون بالرسول ولا يصدقونه بجهلة من يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويعتقد صدق كل ما قاله في كل شيء ويلتزم طاعته، ثم يقع منه دعاء لغير الله وشرك به، وهو لا يدري ولا يشعر أنه من الشرك، بل يحسبه تعظيما لذلك المدعو مأمورا به، ما ذكرته من المساواة بين هذا وبين ذاك فإنه خطأ واضح، دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على التفريق بين الأمرين»(32).
   وبعد أن أطال الشيخ العثيمين في التفريق بين النوعين، قرر أن كل نوع يعامل في الدنيا بحسب الظاهر منه، فقال :" فالأصل فيمن ينتسب إلى الإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره»(33).
الهوامش
22/ رواه البخاري (3266) ومسلم (2756) واللفظ له.
23/ انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (4/72)ط1-1422، دار الكتب العلمية، وشرح صحيح مسلم للنووي (3/79) ط1-1347، المطبعة المصرية بالأزهر.
24/ فتح القدير للشوكاني (ص:1104) دار المعرفة بيروت.
25/ رواه أحمد (2/89) وقال الألباني في صحيح السيرة (1/34) وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
26/ رواه البخاري (رقم: 3616).
27/ رواه البخاري (رقم:3333) ومسلم (رقم: 2856).
28/ رواه مسلم (رقم: 203).
29/ رواه مسلم (رقم: 976).
30/ تفسير الطبري (5/657) تحقيق التركي ، ط1-1422، دار هجر، الجيزة مصر.
31/ رواه مسلم (رقم:214) وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (رقم:158).
32/ الفتاوى السعدية (ص:578)، ط2- 1402، مكتبة المعارف الرياض.
33/ مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمبن (2ـ/133)، جمع فهد السليمان، ط- 1413، دار الوطن الرياض.
المبحث الخامس: التشكيك في إسلام الناس
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    ولتأكيد عدم الفرق بين المشرك الأصلي وبين المسلم بحث كثير منهم حقيقة الإسلام وكيفية انتقال العبد من الشرك إلى التوحيد.
    فقرر كثير منهم أنه لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين للدخول في الإسلام، بل لابد من تحقق شروطها وعلى رأس هذه الشروط العلم بمعناها، وكذلك لابد من العمل بمقتضاها، وربما أوردوا كلاما لبعض أهل العلم يؤيدون به كلامهم كقول المودودي :« إذا كان الإنسان لا يعرف ما الإله، وما معنى الرب، وما العبادة، وما تطلق عليه كلمة الدين، فلا جرم أن القرآن يعود في نظره كلاما مهملا لا يفهم من معانيه شيئا، فلا يقدر أن يعرف حقيقة التوحيد أو يتفطن إلى ماهية الشرك، ولا يستطيع أن يخص عبادته بالله سبحانه أو يخلص دينه له »(34). وقرروا أنه لابد من الكفر بالطاغوت لصحة الإيمان، وبناء على ذلك يقولون إن هؤلاء الذين تدافعون عنهم ولا تريدون تكفيرهم ، ليسوا من المسلمين وأنه لا فرق بينهم وبين المشركين الأصليين واليهود والنصارى، لأن شهادتهم غير صحيحة لم تتوفر فيها شروط القبول.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الفرع الأول: عدم التسليم بجهل العامة للمعنى الإجمالي للشهادة
    إن اشتراط العلم بمدلول كلمة التوحيد أمر لا غبار عليه، لكن من قال إن المسلمين يجهلون معنى الشهادة جهلا تاما كما يجهلها الأعجمي الذي لا يفهم العربية، فإن فهم المعنى الإجمالي لهذه الكلمة موجود في المسلمين اليوم جميعا عربيهم وأعجميهم، من سلم من الوقوع في مظاهر الشرك ومن لم يسلم، كما أنهم ملتزمون الالتزام المجمل بالشريعة وهذا هو المطلوب للحكم عليهم بالإسلام.
الفرع الثاني: لا تلازم بين الجهل ببعض النواقض وبين العلم بمعنى الشهادة
   والوجه الثاني من جواب الشبهة أن يقال: إن جهل بعض المسلمين لبعض مظاهر الشرك أو بعض نواقض الإسلام؛ لا يعني أنهم يجهلون مدلول كلمة التوحيد بإطلاق وأنها لا تنفعهم، كما أنَّ عملهم بما يناقض الشريعة جهلا أو تأوُّلا لا يعني أنهم غير ملتزمين بها، فشرط العلم متحقق في الجملة، لكن يقع التقصير في بعض جزئياته، وقد تقع المخالفة العملية منهم دون شعور بمناقضة ذلك للتوحيد، لذلك يشترط أهل السنة إقامة الحجة على المعين قبل تكفيره.
الفرع الثالث: المطالبة ببيان حد العلم المجزئ
   ويقال لمن عاند في هذا ما هو حد العلم المطلوب؟ هل تقصدون أن يكون عالما بمعنى لا إله إلا الله معرفة مفصلة على نحو معرفة العلماء الربانيين، فهذا لا يقوله عاقل، ويلزم منه تكفير كثير من الغلاة في التكفير؛ لأنهم يخطئون في تفسير كلمة التوحيد حيث يخصونها بالحاكمية، ويلزم منه تكفير جميع علماء الأشعرية الذين يفسرون كلمة التوحيد بالقدرة على الاختراع ونحو ذلك، وهذا لا يقوله أحد له حظ من العلم أو يدري ما يقول.
   قال حافظ حكمي في شرحه لشروط لا إله إلا الله: «ومعنى استكمالها اجتماعها في العبد والتزامه إياها بدون مناقضة منه لشيء منها، وليس المراد من ذلك عدّ ألفاظها وحفظها، فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له اعددها لم يحسن ذلك، وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله والله المستعان»(35).
الفرع الرابع : لازم الشبهة تكفير المسلمين بالعموم
   لابد أن يتنبه من احتج بهذه الحجة (عدم فهم الناس لكلمة التوحيد وتحقيق شروطها) أن لازم كلامه ليس فقط تكفير من وقع في مظاهر الشرك جهلا، بل تكفير جميع المسلمين الذين لم يحققوا تلك الشروط على وفق ما يتخيله ونحو ما يتصوره، وهذا قد التزمه طوائف من الغلاة في التكفير كجماعة التكفير والهجرة وأهل التوقف والتبين، وهو لازم لغيرهم ممن قد يتبرأ منهم ويشاركهم في هذه الحجة.
الفرع الخامس: توجيه كلام العلماء المستند إليهم في تقرير الشبهة
    ومن الجواب أن يقال إن هؤلاء العلماء الذين أسندوا إليهم تلك المقدمات؛ التي بنوا عليها التسوية بين المشركين والمسلمين الذين لم يحققوا العلم المفصل بمعنى الشهادتين، هل كانوا يقولون بأقوال الغلاة في التكفير على اختلاف مراتبهم في الغلو؟ الجواب: لا، بلا مرية، فهذا المودودي يقول في الكتاب نفسه:« ومن الحق الذي لا مراء فيه أنه قد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن، بل غابت عنهم روحه السامية وفكرته المركزية لمجرد ما غشي هذه المصطلحات الأربعة من حجب الجهل، وذلك من أكبر الأسباب التي تطرق لأجلها الوهن والضعف إلى عقائدهم وأعمالهم على رغم قبولهم دين الإسلام وكونهم في عداد المسلمين»(36)، وقال في موضع آخر : «يجب ملاحظة قضية تكفير المسلم والاحتياط في هذه المسألة احتياطا كاملا يتساوى مع الاحتياط في إصدار فتوى بقتل شخص ما، وعلينا أن نلاحظ أن في قلب كل مسلم يؤمن بالتوحيد ولا إله إلا الله إيمانا، فإذا صدر منه شائبة من شوائب الكفر فيجب أن نحسن الظن ونعتبر هذا مجرد جهل منه وعدم فهم وأنه يقصد بهذا التحول من الإيمان على الكفر، لأنه لا يجب أن نصدر ضده فتوى بالكفر بمجرد أن نستمع إلى قوله ، بل يجب علينا أن نفهمه بطريقة طيبة ونشرح له ما أشكل عليه ونبين له الخطأ من الصواب»(37).
الفرع السادس : الهدف من إلقاء هذه الشبهة
   ومقصود كثير منهم من تقرير هذه المعاني اعتبار مناقشة شروط التكفير وموانعه لغوا لا معنى له، لأن بحثها إنما هو في حق المسلمين؛ وهؤلاء المختلف فيهم عندهم مشركون أصليون. ويصبح جوابهم عن قول ابن حزم مثلا: «إن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع»(38) هذا فيمن ثبت إسلامه وهؤلاء الذين تدافعون عنهم لم يثبت إسلامهم.
تطبيقات بعض الغلاة
   بعد أن قرَّر صاحب المجهر أن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان، وهذا لا خلاف فيه قال :« ويبقى سؤال أريد من أخي القارئ الإجابة عليه، وهو من لم يخلع الأنداد أو الأوثان أو عبادة الطواغيت أو ارتضى طاغوتا يسوس العباد ويحكم فيهم بما شاء من تشريعات وأحكام دون الله ورسوله  فهل هذا كفر بالطاغوت أم آمن به؟»(39).
   وينبغي التنبه إلى أنه قال هذا في بحث كيفية انتقال العبد من الشرك إلى الإسلام، لا في بحث نواقض الإسلام أو أسباب الردة، وأهل الغلو عموما يخلطون في هذا الباب خلطا عظيما، وعلى قول صاحب المجهر فإننا إذا دعونا نصرانيا أو وثنيا إلى الإسلام؛ فإنه لا يكون مسلما حتى يكفر بالأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية جميعا، فإن أبى لم تنفعه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لست ألزمه بهذا فقد صرح بنحوه في كتابه(40). والذي يدفعهم إلى مثل هذا الخلط والتزام هذه اللوازم، هو ذاك السؤال الذي لم يجدوا له جوابا مقنعا، كيف تجعلون من أتى بالشهادة ومن لم يأت بها من اليهود والنصارى والمشركين سواء؟
   وصاحب المجهر بحث في أحكام الردة وفاته من نصوص الفقهاء قولهم :« وَإِذَا صَلَّى الْكَافِرُ أَوْ أَذَّنَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ مُرْتَدًّا وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْحَرْبِ »(41).
   وكذلك زعم أنه حقق مذهب ابن عبد الوهاب في المسألة، وفاته قول عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ(42):« وإنما تكلم الناس في بلاد المشركين الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين، ويجعلونهم أندادا لله رب العالمين ، أو يسندون إليهم التصرف والتدبير كغلاة القبوريين، فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم، والمعروف المتفق عليه : أن من فعل ذلك ممن أتى بالشهادتين يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردة ولم يجعلوه كافرا أصليا، وما رأيت ذلك لأحد سوى محمد بن إسماعيل في رسالته تجريد التوحيد المسمى بتطهير الاعتقاد، وعلل هذا القول بأنهم لم يعرفوا ما دلت عليه كلمة الإخلاص، فلم يدخلوا بها في الإسلام مع عدم العلم بمدلولها وشيخنا لا يوافقه على ذلك »(43).
الهوامش
34/ المصطلحات الأربعة في القرآن (ص:7) تعريب محمد كاظم سباق، ط5-1391، دار القلم الكويت.
35/ معارج القبول لحافظ حكمي (2/418) تحقيق عمر بن محمود، ط3-1415، دار القيم الدمام السعودية.
36/ المصطلحات الأربعة في القرآن (ص:11).
37/ أبو الأعلى المودودي، فكره ودعوته لأسعد جيلاني (ص:274) نقلا عن ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله القرني (72) ط1-1413، مؤسسة الرسالة بيروت.
38/ الفصل في الملل والنحل لابن حزم (3/292) تحقيق محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرةن ط2-1416، دار الجيل، بيروت .
39/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:69).
40/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:72).
41/ انظر: كشاف القناع للبهوتي (5/156) تحقيق محمد الضناوي، ط1-1417، عالم الكتب، بيروت، والمحرر للمجد ابن تيمية (1/73) ت التركي، ط1-1428، مؤسسة الرسالة.
42/ هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية عام 1225، وأقام بمصر ابتداء من سن الثامنة وبها طلب العلم على يد مشايخ نجد ومصر، وفي سنة 1264 رجع إلى نجد، من مؤلفاته مصباح الظلام وتأسيس التقديس في الرد على ابن جرجيس، وتوفي رحمه الله عام 1293، انظر مشاهير علماء نجد لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (93-120)، ط3-1394، دار اليمامة.    
43/ مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإسلام والإيمان لعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص:52-53) تحقيق عبد العزيز آل حمد، ط1-1424، مطبوعات الشؤون الإسلامية والأوقاف بالسعودية.
المبحث السادس: زعم عدم تأثير الجهل في أحكام الردة
المطلب الأول: تقرير الشبهة
   من شبهات نفاة العذر بالجهل إيرادهم كلام بعض أهل العلم المتأخرين في باب الردة، حيث لم يذكروا إقامة الحجة، وذكروا الاستتابة بعد الحكم بالردة(44) ، ومن اعتمد الشبهة السابقة مع هذه متناقض، إلا أن يقول إنما نذكر هذا جدلا أي إذا سلمنا لكم أن هؤلاء الواقعين في الشرك كانوا مسلمين فهم واقعون في أسباب الردة وهذه لا يعتبر فيها عارض الجهل، لأنه لا معنى للحديث عن ردة من لم يثبت إسلامه عنده، وإني أعلم علم اليقين أن بعضهم إنما يتصيد أي كلام فيه نفي العذر بالجهل، ولا يشعر أن الكلام الذي ينقله يدفع بعضه بعضا.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
   والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الفرع الأول : لا حجة في كلام غير معصوم
    لا حجة في كلام فقهاء المذاهب إلا إذا كانوا مجتهدين ثم اتفقوا على رأي، لأنه يكون حينئذ إجماعا معتبرا، وأما نقل كلام أصحاب المتون والشراح من المقلدة المتأخرين وتكراره فلا يفيد حجية إلا على المقلدين لتلك المذاهب.
    وليس في ذلك اتفاق كما سيأتي إذ من الفقهاء المجتهدين من نص على اشتراط العلم في غير الأمور المشهورة، كابن قدامة في الكافي الذي قال بعد أن ذكر أسباب الردة:« فإن كان ذلك لجهل منه لحداثة عهده بالإسلام أو لإفاقة من جنون ونحوه، لم يكفر و عرف حكمه ودليله، فإن أصر عليه كفر لأن أدلة هذه الأمور الظاهرة في كتاب الله وسنة رسوله، فلا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله وسنة رسوله»(45).
الفرع الثاني: نوع المسائل المذكورة في كتب الفقه
    الكلام عن الردة في كتب الفقه إن كان كلاما في حكم الأفعال والأقوال؛ وهو كفر النوع فهذا لا مدخل للعوارض فيه لا نفيا ولا إثباتا، لأن الذي يحتاج فيه إلى تفصيل هو الحكم على المعين، وإن كان تعدادا لأمور لا يقبل فيها دعوى الجهل كالقول بقدم العالم وتناسخ الأرواح أو الحلول أو ادعاء النبوة أو تجويز اكتسابها؛ فهذا سواء سكتوا فيه عن نفي العذر أو صرحوا بنفيه أمر لا خلاف فيه.
الفرع الثالث : معنى نفي العذر في كلام الفقهاء
   من الفقهاء من يصرح بنفي العذر وهو يقصد نفي الاعتذار بالجهل في الأحكام القضائية، فمعنى كلامه نفي قبول العذر لنفي العقوبة عند القاضي خاصة فيما يستوجب إقامة الحد دون استتابة، وليس المقصود نفي العذر مطلقا. ولهذا نعد من الخطأ نقل بعض الفقهاء "إنه لا يعذر أحد بدعوى الجهل" في هذا الموضع، فالعذر بالجهل شيء والاعتذار عند القاضي بالجهل شيء آخر، وفي سب الله تعالى أو دينه أو رسوله نص كثير من العلماء على عدم قبول أي عذر ولو زعم أنه زل لسانه ففي المعيار المعرب:« سئل ابن أبي زيد القيرواني عن رجل لعن الله، فقال:" إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني"، فأجاب ابن أبي زيد : "يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره، وأما بينه وبين الله فمعذور»(46). ولأجل هذا النظر القضائي المبني على الحكم بالظاهر منهم من نص على صحة ردة السكران مع أن السكران مغلق على عقله.
الفرع الرابع : عدم تسليم دعوى عدم اشتراط قيام الحجة
ومع ذلك نقول إن اشتراط قيام الحجة موجود في كلام الفقهاء، فقد تكلم بعضهم عن حالات استثنوها كمن نشأ في بادية بعيدة أو حديث عهد بإسلام، ونصهم على هاتين الحالتين دليل على اعتبار عارض الجهل، لأنه المعنى المشترك الموجود فيهما، ومن الكلام الذي أورده بعضهم في دلالة على هذا المعنى –وهو حجة عليه- قول السيوطي في الأشباه والنظائر:« كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس اليوم لم يقبل منه إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك»(47).
    وقد رأيت من المقلدة المعاصرين من أخذ بنص الفقهاء دون علته، فزعم أنهما حالتان لا ثالث لهما، ومعنى البادية البعيدة عنده على ظاهره!! على أن معنى "البعد" أمر نسبي، ومقصود العلماء ضرب المثال لا الحصر؛ إذ منهم من زاد عليها كابن قدامة في الكافي، وليس مرادهم ما يفهمه هؤلاء المقلدة في أمر البعد، إذ مرادهم البعد عن أماكن وجود العلم والعلماء، ومن عبَّر بالبعد عن المسلمين أو قراهم فمقصوده بعد أسباب العلم، ونحن في زماننا توجد مدن كبرى خالية من العلماء أو من الكفاية التي يحصل بها انتشار العلم، فهذه النصوص التي يكثر تردادها في متون الفقه وشروحه ليست نصوصا شرعية، وقد عبَّر بها الفقهاء عن معان أرادوها يجب الوقوف عليها.     
   ومنهم من أورد قول الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي السعودية السابق:« قسم يجحد ما علم أن الرسول جاء به وخالف ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به؛ فهذا يكفر بمجرد ذلك، [سواء في الأصول أو الفروع]، ولا يحتاج إلى تعريف ما لم يكن حديث عهد بالإسلام ».
     وهذا كلام صحيح لا غبار عليه لأن الحجة قائمة عليه، وهذا نص كلامه كاملا من الفتاوى والرسائل:« تنقسم الأشياء التي يرتد بها إلى ثلاث أقسام :
قسم يجحد ما علم أن الرسول جاء به وخالف ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به؛ فهذا يكفر بمجرد ذلك، سواء في الأصول أو الفروع، ولا يحتاج إلى تعريف ما لم يكن حديث عهد بالإسلام.
والقسم الثاني : ما يخفي دليله ؛ فهذا لا يكفر حتى تقام عليه الحجة من حيث الثبوت ومن حيث الدلالة ، وبعدما تقام عليه الحجة يكفر سواء فهم أو قال ما فهمت أو فهم ووضحت له الحجة بالبيان الكافي ؛ ليس كفر الكفار كله عن عناد؛ بل العناد قسم من أقسامه ....
والقسم الثالث : أشياء تكون غامضة فهذه لا يكفر الشخص، ولو بعد ما أقيمت عليه الدلالة ، وسواء كانت في الفروع أو في الأصول،..
   فعرفنا من هذا أنه لا تكفير لأحد إلا بعد قيام الحجة عليه. فالقسم الأول ظاهر، والقسم الأوسط هو محل هذا في الغالب، لا الثالث »(48).
   ومن أسباب الردة المعلومة تعطيل صفات رب العالمين، ومع ذلك فالثابت عن العلماء عدم تكفير الجهمية بأعيانهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه. واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوا به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع »(49).
الهوامش
44/ انظر العذر بالجهل تحت المجهر (ص:203-207) .
45/ الكافي لابن قدامة (5/320) تحقيق التركي ، ط1-1418، دار هجر جيزة مصر .
46/ المعيار المعرب للونشريسي (2/543)ط1-1401 ، دار الغرب الإسلامي.
47/ الأشباه والنظائر للسيوطي (1/303)، ط2-1418، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة والرياض.
48/ الفتاوى والرسائل (12/190) جمع وتحقيق محمد بن عبد البرحمن بن قاسم، ط1-1399، مطبعة الحكومة مكة المكرمة.
49/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/488-489).
المبحث السابع : زعم قيام الحجة بسماع القرآن
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    يتحدث المخالفون عن قيام الحجة لا للتكفير، ولكن للحكم بالعذاب الأخروي عند فريق منهم، وللحكم بالعذاب الأخروي والدنيوي (ويقصدون بالعذاب الدنيوي القتل والقتال) عند فريق آخر، فهم يشترطون إقامة الحجة لذلك ويفسرونها بسماع القرآن وربما يبالغون ويقولون بسماع الأذان، ويستدلون بقول الله عز وجل: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) ويقولون : فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ويقولون: فمن بلغه القرآن ووقع في الشرك فإنه مشرك يستحق العذاب.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
    والجواب عن هذه الشبهة من وجوه بيانها فيما يأتي:
الفرع الأول: تناقض بعض من اعتمد هذه الشبهة
   لا بد أن ننبه على أن بعضهم يتناقض في هذه المسألة، وذلك حين يقول في استدلاله:"فمن بلغه القرآن ووقع في الشرك فإنه مشرك"، ونسي أنه قرَّر قبل ذلك أن وصف الشرك يثبت عنده مع الجهل قبل قيام الحجة التي هي عنده سماع القرآن، وهذا مما يُبيِّن تهافتهم وعدم التأصيل العلمي لهذه المسألة عندهم.
    وكذلك يتناقض من يقول إن وصف الشرك يثبت قبل قيام الحجة، ثم لا يرضى بأن يحتج عليه بنحو قول الشيخ سليمان بن سحمان(50): «وأما التوسل على عرف غلاة عباد القبور واصطلاحهم الحادث، فهم (أي الوهابية) ينهون عنه ويكفرون من دعا القبور واستغاث بهم والتجأ إليهم بعد قيام الحجة عليهم»(51). ويقول إنما يقصد بقيام الحجة سماع القرآن (أو بعثة النبي  !!!). فيقال له: ما شأنك وتفسير كلام ابن سحمان وأنت تكفر من يستغيث بغير الله قبل سماع القرآن وقيام الحجة، ثم ندعو هذا القائل إلى تأمل قول ابن سحمان في كتابه منهاج أهل الحق والاتباع:« وأما قول السائل : هل كلٌّ تقوم به الحجة أم لا بد من إنسان يحسن إقامتها على من أقامها ؟ فالذي يظهر لي -والله أعلم-أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها، وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه، ولا ما ذكره العلماء في ذلك، فإنه لا تقوم به الحجة فيما أعلم»(52). وعند هؤلاء يكفي فيمن يقيم الحجة أن يحسن تلاوة القرآن.
الفرع الثاني: تحكم من خص هذه حجة ببعض الأحكام دون بعض
   وأما من جعل إقامة هذه الحجة الموصوفة للأحكام المذكورة أعلاه بعد ثبوت وصف الشرك والكفر عنده، فيقال لهم إن ظاهر الأدلة كقوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) نفي العذاب الدنيوي والأخروي، فما دليلكم على التفريق الذي أتيتم به، فإنَّ حمل العذاب المنفي على العذاب الأخروي دون الدنيوي تَحكُّم، وكذلك من حمل العذاب المنفي على العذاب الأخروي والدنيوي، ثم أثبت جميع أحكام الكفر الدنيوية من تفريق بين الأزواج وعدم توريث وعدم الدفن في مقابر المسلمين وتحريم الاستغفار إلا القتل؛ فقد أوغل في التحكم والتناقض.
الفرع الثالث: مقصد إرسال الرسل توضيح طريق الهداية
    ويقال بعد ذلك إن المقصود من إرسال الرسل توضيح طريق الهداية للناس،
وبيان التوحيد والتحذير من الشرك، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يرسل الرسل بألسنة أقوامهم ليحصل البيان قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم:4) ومقتضى هذا أن الحجة تقوم على من بُيِّنت له وفهمها، لا على من تليت عليه الآيات وهو لا يفهمها، ومنه فلا يجوز أن يقاس الأعاجم والمنتسبون إلى الشعوب العربية من أهل عصرنا على كفار العرب، أهل الفصاحة والبيان الذين خوطبوا بالقرآن.
     بل ثمة شرط آخر فوق مجرد الفهم؛ وهو زوال الشبه التي تحول بينه وبين الفهم الصحيح، قال ابن حزم رحمه الله:« وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه؛ فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئا، وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها »(53).
الفرع الرابع: إلزام تعميم هذه الحجة على الأعاجم
    من يقول: سماع القرآن أو بلوغ القرآن تقوم به الحجة، ويطلق الأمر كما هو موجود في كثير من الفتاوى والكتابات، يلزمه أن يعمم ذلك في الأعاجم الذين لا يفهمون العربية إطلاقا، فإن قال: لا بل هؤلاء لا بد أن تترجم لهم معانيه، قلنا: كذلك غيرهم من المنتسبين إلى الأمم العربية لا بد أن تشرح لهم معانيه اللغوية والشرعية التي خفيت عليهم.
   وقد يقال لنا هنا: إن هذا الذي حكيتموه عن المخالفين يقول به كثير من الفضلاء، فنقول: نحن نحب أهل العلم والفضل جميعا، لكن الحق أحب إلينا، وإن كان هؤلاء أهل علم وفضل؛ فمن خالفهم من أهل العلم والفضل أكثر منهم وأقدم، وكل يؤخذ من قوله ويرد، والعبرة بما صح في الدليل.
الهوامش :
50/ هو سليمان بن سحمان النجدي، ولد سنة 1266 بأبها ونشأ وتعلم العلوم الأولية ثم نزح به والده إلى الرياض عام 1280 ودرس على عبد الرحمن بن حسن وولده عبد اللطيف، وعاصر مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن ، ومن مؤلفاته الضياء الشارق والأسنة الحداد في الرد علوي الحداد، توفي بالرياض عام 1349، انظر مشاهير علماء نجد لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (290-317).
51/ الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق (ص:93) ط1-1433، مطبعة المنار بمصر .
52/ منهاج أهل الحق والاتباع لابن سحمان (ص:85) تحقيق عبد السلام بن برجس، ط1-1417، مكتبة الفرقان، عجمان، الإمارات العربية المتحدة.
53/ الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/74) تحقيق أحمد شاكر، منشورات دار الآفاق، بيروت.
المبحث الثامن : دعوى قيام الحجة ببلوغها دون فهمها
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    وتبعا للشبهة السابقة يقول بعضهم: إنه لا يشترط في إقامة الحجة فهمها، بل يكفي بلوغها، لأن الله تعالى أخبر أن المشركين قامت عليهم الحجة ومع أنهم لم يفهموها؛ نزل القرآن وسمعوه وجاءهم النذير صلى الله عليه وسلم وأنذرهم واستمروا على كفرهم فلم يعذروا، ولهذا قال :« والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار»(54) ، وقال تعالى في وصف الكفار : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(البقرة:171) ومع ذلك قامت عليهم الحجة فأخبر أن مثلهم مثلُ من يسمع الصوت ولا يفهم المعنى كمثل الغنم التي ينعق لها الراعي فتسمع الصوت ولا تفهم النداء، ومنهم من يؤيد مذهبه ببعض متشابه كلام ابن عبد الوهاب في هذه القضية حيث قال رحمه الله :« وقيام الحجة نوع وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها»(55).
المطلب الثاني : جواب الشبهة  
    والجواب عن هذه الشبهة من وجوه بيانها فيما يأتي:
الفرع الأول: المقصود ببلوغ الحجة فهمها
   إن فهم معاني الآيات والأحاديث ضروري لقيام الحجة كما سبق، أما بلوغها دون فهم فلا يعقل أن يكون لها أثر في قيام الحجة وتغير الأحكام، لذلك يعبر بعض العلماء بقولهم بلوغ الدعوة بدلا من بلوغ القرآن، ويقولون أما الذين لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة عليهم فأمرهم إلى الله عز وجل.
الفرع الثاني: الأدلة تدل على ضرورة الفهم
   أن الله تعالى قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) (التوبة:115) فقال:(حَتَّى يُبَيِّنَ) وهذا هو قيام الحجة لا مجرد قراءتها، فإن شوش بعضهم بقوله:" إنه قال "حتى يُبَيِّنَ "، ولم يقل حتى يتيبن"، فيقال له: بَيَّن فتبَيَّن، بدليل قوله تعالى : (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) (النساء:115).
الفرع الثالث: التفريق بين فهم المعنى وفهم الانتفاع
   ولا يصلح هنا التمسك بالآيات التي تنفي الفقه والفهم عن الكفار، لأن المقصود نفي الفقه والفهم المورِّث للانتفاع، لا نفي فهم المعنى المراد، مثله مثل نفي السماع عنهم، كقوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنفال:23) فهل يقال إن الحجة قامت عليهم من غير سماع. وهذا هو مراد ابن عبد الوهاب الذي قال في موضع:« فإذا كان المعين يكفَّر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر»(56).
    وهذا المنهج هو الطريق الذي ينبغي أن يسلك مع النصوص المتشابهة أو التي ظاهرها التعارض، وكذلك في شرح كلام العلماء وفهم مرادهم، وإلا كيف يصنع المخالف بقول ابن عبد الوهاب:« وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم ، فكيف نكفر من لم يشرك بالله ...» وفي بعض النسخ "لأجل جهلهم وعدم من يفهمهم"(57).
الفرع الرابع : توجيه حديث السماع بالرسول 
   أما الاحتجاج بقوله :" والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"(58) ، على أنه يكفي السماع به دون السماع بموضوع دعوته وفهم مراده فمن أبعد الأمور.
    قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ: «وإذا بلغ النصراني ما جاء به الرسول  ولم ينقد لظنه أنه رسول الأميين فقط، فهو كافر وإن لم يتبين له الصواب في نفس الأمر، كذلك كل من بلغته دعوة الرسول بلوغا يعرف فيه المراد والمقصود فرد ذلك لشبهة أو نحوها فهو كافر، وإن التبس عليه الأمر وهذا لا خلاف فيه»(59).
      وقال الألباني رحمه الله:« (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة) هذا كقول النبي  «من رآني في المنام فقد رآني»(60) ، ففي هذا الحديث المعنى من رآه على صورته التي خلقه الله جل وعلا عليها، وفي حديث (لا يسمع بي) المعنى سمع بي على ما بعثني الله جل وعلا عليه، فإذا كان هناك سماع محرّف، سماع ليس فيه وصف لما جاء به النبي على ما جاء به النبي فهو من جنس رؤية النبي - - على غير صورته، فلا يكفي ذلك في معرفة الحق، لأنه لابد أن يكون في إيضاح الحجة وإقامتها أن يكون الدين واضحا، لا يكفي أن يسمع ببعض الحجة ولا يفهم معناها»(61).
      وكذلك من وقع في الشرك من هذه الأمة إذا سمعوا شيئا من أخبار أهل السنة، فإن ذلك لا يكفي ما لم تقم عليهم الحجة؛ بمعنى بيان الدلائل.
الفرع الخامس: تناقض المستدل بهذه الشبهة
   عندما تناقش هؤلاء الغلاة تتيقن أن كل همهم هو الوصول إلى التكفير بأي طريق، وهذا ما يوقعهم في التناقضات الصريحة، ومن ذلك أنهم يقولون في ثبوت وصف الإسلام لا بد من الفهم المفصل للشهادتين ولا يكفي الفهم المجمل، وقد يكفرون من أخطأ في اللفظ ولو حقق المعنى، وأما في باب النواقض فيعكسون القضية تماما، فلا يشترطون لا الفهم المجمل ولا المفصل.
الفرع السادس: من كلام العلماء فيمن تقوم به الحجة
    ومما يبين لنا جليا مراد العلماء الذين فرقوا بين فهم الحجة وقيامها، وأنهم لا ينفون اشتراط مطلق الفهم، حديثهم عمن تقوم به الحجة من أهل العلم، وقد سبق أن نقلت كلام ابن سحمان في ذلك، وهذا كلام عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ:«تعريف أهل العلم للجهال بمباني الإسلام، وأصول الإيمان والنصوص القطعية والمسائل الإجماعية حجة عند أهل العلم، وتترتب عليه الأحكام، أحكام الردة وغيرها ....إذ النقل والتعريف يتوقف على أهل العلم، كما أن بيان المعاني المقصودة والتأويلات المرادة يتوقف على أهل العلم وتقوم الحجة بهم»(62).
الهوامش/
54/ رواه مسلم (رقم:153).
55/ الدرر السنية في الأجوبة النجدية جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (10/94) ط6-1417.
56/ مؤلفات ابن عبد الوهاب، الرسائل الشخصية (7/244).
57/ الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/104).
58/ رواه مسلم (رقم:153).
59/ مصباح الظلام لعبد اللطيف آل الشيخ (ص: 326).
60/ رواه البخاري (رقم:6593) ومسلم (رقم:2266).
61/ نقلا عن شرح مسائل الجاهلية لصالح آل الشيخ (ص:118) تفريغ أشرطة موجود في برنامج الشاملة.
62/ مصباح الظلام لعبد اللطيف آل الشيخ (ص: 207).
المبحث التاسع: التفريق بين أصول الدين وفروعه
المطلب الأول : تقرير الشبهة
    تبعا للشبهة السابعة أيضا منهم من يقول إنما نقصد أن الحجة تقوم ببعثة الرسول  وإنزال القرآن أو سماع القرآن في أصول الدين لا فروعه، ثم يحملون كلام العلماء الوارد في إثبات العذر بالجهل على ما يعتبرونه فروعا دون المسائل التي هي من أصول الدين.
المطلب الثاني : جواب الشبهة
   والجواب عن هذه الشبهة فيما يأتي:
الفرع الأول: ما هو ضابط الفرق بين الأصول والفروع
   لا بد لمن يتمسك بهذه الشبهة أن يشرح لنا ضابط التفريق بين الأصول والفروع، لنشاركهم في النظر في آحاد المسائل هل فيها العذر بالجهل أم لا، ولنتمكن نحن أيضا من فهم كلام العلماء على وجهه.
   فإذا قالوا نحن نريد المصطلح المشهور بين أهل الكلام كالمعتزلة ومن تابعهم، من أن الأصول هي العقائد والفروع هي الفقه، قيل ليس هذا التفريق معتمدا عند أهل السنة ولا يجوز أن يحمل كلامهم على معان قد أنكروها وزيفوها.
   وإن قالوا الأصول هي الأمور المعلومة من الدين بالضرورة سواء من العقائد أو الفقه، والفروع هي ما دون ذلك من المسائل الاجتهادية والخفية، قيل الظهور والخفاء من الأمور النسبية التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فما كان ظاهرا في زمان قد يخفى في آخر، وما كان ظاهرا في مكان قد يخفى في مكان آخر، وهذه النكتة تحل عقدا كثيرة عند المخالفين لو فقهوها.
الفرع الثاني: لا أثر للتقسيم في قضية العذر مهما كان ضابطه
    ومما يرد به أيضا أن هذا التقسيم لا أصل له عند علماء السلف، وهو باطل بدلالة الأدلة الشرعية العامة في إثبات العذر بالجهل، التي توضح أن الجهل حيثما وجد ولا يمكن دفعه يكون سببا لرفع المؤاخذة في الدنيا والآخرة، ولا تفريق فيها بين مسائل الأصول والفروع بأي تفسير من التفسيرات، بل أكثر الأدلة واردة في أصل الدين وفي الأمور الاعتقادية، فكيف لا تكون شاملة لها.
الفرع الثالث : الإلزام بتكفير الفرق الإسلامية
   ومما نطرحه إلزاما للمخالفين المتمسكين بهذه الشبهة، ما تقولون في الفرق الإسلامية المعتزلة والمرجئة والشيعة والأشاعرة والقدرية والخوارج، هل خلافهم في الأصول أم الفروع؟ وإذا كان خلافهم في الأصول - وهو الحق - فهل تكفرونهم أم لا؟
   أما من يحمل كلام ابن تيمية في التفريق بين التكفير المطلق والتكفير للمعين -الوارد أكثره في الفرق الإسلامية- على المسائل الفرعية، فيلزمه أن يعد مسائل الصفات والإيمان والقدر مسائل فرعية ولا قائل بهذا، فإن هذه المسائل أصلية في الدين مشهورة وأدلتها متواترة.
   وأما من فرَّ من هذا اللازم فصرح بتكفير الفرق الإسلامية؛ فكذلك لازم قوله رد كلام ابن تيمية جملة وتفصيلا، لا حمله على المسائل الخفية، لأن أكثره وارد كما ذكرنا في الفرق الإسلامية، وإذا كان المخالف يصف من يأبى تكفير الفرق إلا من أقيمت عليه الحجة بالإرجاء فيلزمه أن يصرح برمي ابن تيمية بذلك.
الفرع الرابع: عدم التفرق لا يلزم منه المساواة بين مسائل الدين
   بعض الغلاة أراد أن يلزم من أنكر أثر التقسيم المذكور في العذر بالجهل بالتسوية بين مسائل الشرك والمعاصي، وبين التوحيد وإماطة الأذى عن الطريق(63) .
    وليس ذلك بلازم فإننا لا ننكر أن مسائل الدين ليست في رتبة واحدة، إذ منها ما هو اعتقدي ومنها ما هو عملي، ومنها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني، وأن خصال الإيمان متفاوتة، فمنها ما هو من أصله ومنها مل هو ما كماله الواجب، ومنها ما هو من كماله المستحب، ولكن الذي ننكره هو تخصيص العذر ببعض المسائل دون بعض.
    والذي لم يستطع المخالفون فهمه في هذا الأمر: أن قضية القطعية والظنية قضية نسبية، تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص. وفي تقرير هذا يقول ابن تيمية:« وأيضا فكون الشيء معلوما من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية؛ فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة، وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي  سجد للسهو وقضى بالدية على العاقلة وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة وأكثر الناس لا يعلمه ألبتة»(64).
    وتأمل مثلا قول ابن عبد الوهاب:« فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي كان حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة أو يكون في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف»(65) والصرف والعطف من أنواع السحر؛ فالصرف يُقصد به صرف الزوجين بعضهما عن بعض والعطف ضده، فهل هذه المسألة مسألة خفية في زماننا هذا في بلاد نجد والحرمين !!!
    والتفريق الصحيح المقبول هو المبني على اعتبار استفاضة العلم بالمسألة وسهولة طلبها، وليس على اعتبار التفريق بين مسائل معينة ومسائل أخرى، حتى إذا قيل لا يعذر في المسألة الفلانية، فذلك لأنها مسألة قد استفاض العلم بها استفاضةً تغلب على الظن عدم الجهل بها إلا من معرض مفرط.
   ونذكِّر في هذا المقام بما صنعه بعض الجهلة الأغبياء الذين وجدوا في كلام ابن عبد الوهاب تكفير بعض البدو في زمانه(66) ، فجاءوا إلى البدو في زمانهم بعد مرور قرنين من الزمان، يقولون لهم:" أنتم كفار، وعندنا أدلة من كلام ابن عبد الوهاب"(67).
   وفي بيان اختلاف العذر بالجهل باختلاف الأمكنة باعتبار شيوع العلم الصحيح من عدمه يقول الألباني رحمه الله :« هناك ثلاث مجتمعات :
الأول : الإسلامي الذي فهم العقيدة الصحيحة، فمن عاش في هذا المجتمع لا يعذر بجهله .
الثاني : المجتمع الكافر الذي قد يسلم بعض أفراده، فمن أين له أن يعرف العقيدة الصحيحة ؟ فهو معذور بجهله .
الثالث : مجتمع بينهما، فهو في الظاهر مسلم وعلامات الإسلام ظاهرة، لكن كبار أهله منحرفون عن العقيدة الصحيحة، فمن يتلقى أفراد هذا الشعب العقيدة الصحيحة ؟ فيكونون والحال هذه معذورين»(68).
الفرع الخامس: ابن تيمية لا يفرق بين الأصول والفروع في العذر
   كثير من المخالفين لا يعجبهم كلام ابن تيمية رحمه الله في إثبات العذر بالجهل، ومنهم من يزعم أن أصحاب الرسائل الجامعية شوشوا على الأمة عقائدها بإخراجهم لكلام ابن تيمية في هذه القضية، فإذا قيل لهم : هل ابن تيمية مخطئ؟ قالوا :" لا، لكن هم لم يفهموا كلامه"، فإذا قيل لهم: ما مراده عندكم؟ قالوا: "هو يعذر في الفروع دون الأصول"، وهذا الزعم يدفعه كلام ابن تيمية الذي يبطل التفريق بين الأصول الفروع، والذي ينص فيه على العذر بالجهل فيما هو عندهم من الأصول.
     أما التقسيم فقال فيه رحمه الله :« أما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد  هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق.
    وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من رسول الله ، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه. أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته ، وقد ثبت في الصحاح عن النبي  حديث الذي قال لأهله : " إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين . فأمر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال : ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب فغفر الله له"(69) ، فهذا شك في قدرة الله. وفي المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك وغفر الله له»(70).
    وأما نصه على إثبات العذر فيما هو من العقائد التي هي أصول عندنا وعندهم(الشرك الأكبر)، فموجود في المثال الذي ضربه في آخر كلامه السابق، وإن كان الغلاة لهم فيه تأويلات سنجيب عنها فيما يأتي، ومن نصوصه التي لا يقدرون على تأويلها قوله:« فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام.
      وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينته لنا لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم؛ لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم الله تعالى ودعائهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف»(71).
الهوامش:
63/ انظر العذر بالجهل تحت المجهر (ص:259).
64/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/118).
65/ الدرر السنية (10/93).
66/ انظر: الدرر السنية (10/82 ،113).
67/ انظر: كتاب منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع لابن سحمان (ص:14).
68/ فتاوى جدة (الشريط العاشر).
69/ رواه البخاري (3294) ومسلم (2756).
70/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/346).
71/ الرد على البكري لابن تيمية (2/731-732).
المبحث العاشر: الطعن في دليل عدم المؤاخذة بالخطأ
المطلب الأول : تقرير الدليل
     من الأدلة التي استدل بها العلماء على عقيدة العذر بالجهل دليل عموم رخصة الخطأ، الذي ثبت بنصوص جزئية كثيرة ومجموعها يورث القطع.
     قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تقريره:« فيقال : من كفَّره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفِّره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم. والدليل على هذا الأصل : الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، أما الكتاب : فقوله سبحانه وتعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ) (الأحزاب:5) وقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة:286)، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي : "أن الله تعالى قال:" قد فعلت" لما دعا النبي  والمؤمنون بهذا الدعاء"(72) ، .... و"أنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيه"(73) ، وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله تعالى قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان؛ فهذا عام عموما محفوظا، وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله تعالى يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه، وإن عذب المخطئ من غير هذه الأمة »(74).
   في هذا النص المنقول عن ابن تيمية رحمه الله توضيح لوجه دلالة هذه الأدلة على مسألة التكفير، لا يحتاج إلى أكثر من نقله، كما أن دلالته على مذهب ابن تيمية بَيِّن أيضا.
المطلب الثاني : اعتراضات المخالفين وجوابها
الفرع الأول : اعتراضات المخالفين
   اعترض المخالفون على من استدل بهذا الدليل بأن هذا العموم ليس محفوظا؛ بل هو عموم مخصوص فلا يدخل فيه الوقوع في نواقض الإيمان، واستندوا إلى كلمات للعلماء في تخصص هذه الرخصة بالمؤمنين دون غيرهم كقول ابن تيمية بأن هذه الرخصة للمؤمنين دون من كان مسلما في الظاهر وهو منافق في الباطن، أو من لم يكن مسلما أصلا(75).
    وقال صاحب المجهر وهو يستدل على تخصيص هذه الأدلة :« الدليل الثاني : قوله تعالى :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (التوبة:65) فهؤلاء القوم كما رجح ابن تيمية قالوا : هذا القول الذي علموا حرمته ولم يقصدوا الكفر ...فهؤلاء مع جهلهم بكفرهم لم يعذروا برخصة الخطأ»(76).
الفرع الثاني : جواب الاعتراضات
   أما الاعتراض الأول فجوابه أنا نقول بموجب الكلام المنقول عن ابن تيمية رحمه الله، فإن الكافر والمنافق كلاهما عمله حابط ولا حسنة له، وقد أشار إلى ذلك في قوله في النص المنقول:"وإن عذب المخطئ من غير هذه الأمة". والذي يدل على عدم الأمانة عند بعض المخالفين أنهم لا يشيرون إلى أن المردود عليه هو ابن تيمية رحمه الله إذ هو من استدل بهذه الآيات في قضايا التكفير كما نقلناه عنه بصريح العبارة.
    وأما الاعتراض الثاني فجوابه : أن نقول نعم هؤلاء لم يجهلوا الحكم وعلموه كما بينه ابن تيمية، فإذا لم يكونوا جهالا ولا مخطئين فما وجه إيراد الآية لتخصيص عموم العذر بالخطأ والجهل، والآية إنما تدل على عدم عذر المستهزئ وليس هذا موضوع بحثنا، وربما تدل أيضا على أنه يكفي في قيام الحجة العلم بتحريم القول أو العمل ولا يشترط العلم بأنه مكفِّر.
     ومن كلام ابن تيمية الواضح في العموم أيضا قوله وقد سئل عمن يزعم سقوط التكاليف الشرعية عنه :« لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شر من قول اليهود والنصارى»(77) وذكر رحمه الله تعالى ألوانا من الموبقات التي يستبيحها هؤلاء الناس ثم قال:« لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء/165] وقال تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء/15] ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه ؛ أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا ؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية».
     ثم قال بعدها:« لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، فإذا كان هذا في التأثيم فكيف في التكفير، وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرا مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك ومثل هذا لا يكفر؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول ؛ ولهذا جاء في الحديث:" يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقول أدركنا آباءنا وهم يقولون : لا إله إلا الله وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا ولا صوم. فقال : ينجيهم من النار»(78). ثم ذكر حديث صاحب الوصية الجائرة، وهو موضوع المبحث التالي .
الهوامش:
72/ انظر: صحيح مسلم (رقم:126).
73/ انظر: صحيح مسلم (رقم:806).
74/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/489-490).
75/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/760، 768).
76/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:213).
77/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/401).
78/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/406-407).
المبحث الحادي عشر: شبهات حول حديث الوصية الجائرة
   ومن أدلة العذر بالجهل البينة حديث صاحب الوصية الجائرة، ولا يزال علماء السنة يعتمدون عليه، ولا يزال المخالفون القدامي من الفرق الإسلامية والمتأخرون من المنتسبين للسنة يردون دلالته ويعتذرون عن الأخذ به، وفيما يأتي بيانه مع وجه دلالته ثم بيان أجوبة المخالفين عنه.
المطلب الأول : تقرير دلالة الحديث على العذر بالجهل
   روى أبو هريرة أن النبي  قال :«كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ فَغَفَرَ لَه»(79).
    ومن العلماء الذين اعتمدوا على الحديث في تقرير عقيدة العذر بالجهل ابن تيمية رحمه الله، وقد قرر وجه دلالته في مواضع منها قوله:« فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالا في هذا الظن مخطئا، فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد وذلك كفر - إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره -»(80).
    وقال رحمه الله في موضع آخر:« والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة . ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال:" إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ففعلوا به ذلك فقال الله له : ما حملك على ما فعلت . قال خشيتك : فغفر له". فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك"(81). وكرر الاستدلال به في عدة مواضع من كتبه وفتاويه(82).
المطلب الثاني : رد أجوبة المخالفين عن الاستدلال بالحديث
   وقد أجاب المخالفون عن هذا الحديث بأجوبة كثيرة نذكر منها ما يأتي:
الفرع الأول : حمل لفظ "قَدِرَ" على معنى ضيق أو قضى
    من أشهر تلك الأجوبة وأقدمها قولهم بأن "قدر" في الحديث بمعنى ضيق أو بمعنى قضى، فيكون معنى الحديث والله لئن ضيَّق علي أو لئن قدَّر علي العذاب، وهذا التأويل جعله ابن تيمية من تحريف الكلم عن مواضعه وقال رحمه الله: « ...فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا. فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها وأنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك فلو كان مقرا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له؛ لأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب وهو قد جعل تعذيبه مغايرا لأن يقدر الرب. قال : فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين . فلا يكون الشرط هو الجزاء؛ ولأنه لو كان مراده ذلك لقال : فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذابا كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك : ولأن لفظ " قدر " بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة . ومن استشهد على ذلك بقوله :"وقدر في السرد" وقوله :"ومن قدر عليه رزقه" فقد استشهد بما لا يشهد له. فإن اللفظ كان بقوله:" وقدر في السرد" أي اجعل ذلك بقدر ولا تزد ولا تنقص وقوله:"ومن قدر عليه رزقه" أي جعل رزقه قدر ما يغنيه»(83).
    قال ابن حزم في الفصل:«وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه لو كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيق علي، وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله»(84).
الفرع الثاني : الزعم أنه محمول على حالة الذهول المذهب للعقل
    وقد ارتضى كثير من المعاصرين تأويل الحديث بأنه قاله في حالة الذهول والدهشة وشدة الفزع، فكان بمثابة الغافل الذي لا يدري ما يقول، وقد اختاره من شراح الحديث الحافظ ابن حجر(85). ومن العجب كيف ينقل صاحب عارض الجهل هذا المذهب عن النووي(86) بواسطة صاحب الأحاديث القدسية عن القسطلاني في إرشاد الساري، وكتاب النووي عنده وقد نقل منه هذا المذهب منسوبا إلى طائفة لم يبينها، ثم قال أيضا:« وقد اعتمده الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب». واستند إلى ما جاء في الدرر السنية (10/ 245-246) :"فهذا الرجل قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة من فعل به ما أمر أهله أن يفعلوه، فهذا الرجل لما كان مؤمنا بالله في الجملة، ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة، وهو: أن الله يثيب، ويعاقب بعد الموت، فهذا عمل صالح، فغفر الله له بما كان معه، من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإنما أخطأ من شدة خوفه».
    لكنه بتر أول الكلام وعزاه إلى الدرر السنية(1/246) وهذا صنيع غير مرضي، ولعله لم يقف عليه وإنما نقله عن غيره من غير تثبت؟
    وهذا الكلام برمته منقول مختصرا من كلام ابن تيمية(87) ، وهذا يبين أنه لم يفهم كلامه إذ لا تنافي بين كونه قال ذلك جاهلا، وبين كون دافعه هو شدة الخوف.
   ومن قال إنه كان بمثابة الغافل الذي لا يدري ما يقول فجوابه أنه تأويل بلا سند فليس في متن الحديث ما يعضده، بل فيه ما يرده وهو قوله :"فغفر الله له"، لأن المغفرة تكون لمن كان عاقلا قاصدا للفعل مختارا لا لمن ارتفع عنه التكليف، ثم إنه لما اعتذر قال:"خشيتك" ولم يقل :" ذهلت، ولم أكن أدري ما أقول" والذي يفهم من هذا التأويل أنها زلة لسان حدثت في حال قوة الخوف، وهي حال لا تدوم ولو كان ذلك لاستدرك ولفهم ذلك أولاده ولما نفذوا وصيته.
   ومن كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة قوله:« إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله، ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله ، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها، فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول ، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر، وذلك لأن الكفر: إما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله ، وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة، واستدلوا بقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، وبقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) إلى قوله: (بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
    واستدلوا أيضا: بما ثبت في الصحيحين والسنن، وغيرها من كتب الإسلام، من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله  قال: "إن رجلا ممن كان قبلكم، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا الرجل قائم. قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال خشيتك ومخافتك، فما تلافاه أن رحمه". فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل به ذلك، لا يقدر الله على بعثه، جهلا منه لا كفرا ولا عنادا، فشك في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه، وكل من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى من يعرفه بذلك من أهل العلم، والله أعلم»(88). فصرح باعتماد الحديث دليلا على العذر بأن وجه دلالته هي وقوعه في الشك جهلا لا عنادا .
الفرع الثالث: تخصيص دلالته بالعذر في باب الصفات   
     ومنهم من قال بأن هذا كان موحدا كما جاء في بعض الروايات، وأن خطأه كان في الصفات، والخلاف في تكفير منكر الصفات ثابت والعذر فيها جائز.
     فنقول له نعم كان موحدا لذلك كان من مقتضى عذره دخول الجنة لا الامتحان، لكن لا نسلم أن خطأه كان متعلقا بصفة القدرة فحسب؛ بل كان متعلقا بأصل من أصول الاعتقاد؛ وهو الإيمان باليوم الآخر والقدرة على البعث، والكفر لا يكون فقط بالوقوع في الشرك بالله تعالى؛ بل يكون بالقول والعمل والاعتقاد والشك، وهذا شك في البعث وفي قدرة الله تعالى، وأي فرق بين الشرك بالله والشك في المعاد.
الفرع الرابع : لما تطرق إليه الاحتمال بطَلَ به الاستدلال
     ومنهم من أكثر من تعداد الأقوال في تأويله عمن يعرف وعمن لا يعرف، وقد أبلغها بعضهم إلى سبعة أقوال، ليبين أن حمل الحديث على ظاهره كما هو فهم ابن تيمية وابن حزم من قبله ومن تبعهما ليس فهما متفقا عليه، ولبيان أن العلماء قد استشكلوا لفظ الحديث لمعارضته للقواطع عندهم، فدل على سقوط الاستدلال به.
   والجواب أنه ليس من شرط صحة الاحتجاج بالحديث أن يتفق الناس أولهم وآخرهم، سلفيهم وخلفيهم على معناه، والأصل إعمال الحديث وحمله على ظاهره، وأما الاستشكال فيكون مقبولا إذا ما عورض الحديث بأدلة نقلية أخرى، أما إذا كان مصدره ما يسميه الخلف معقولات قطعية فإنه لا عبرة به.
    قال صاحب المجهر:« إن تأويل العلماء لهذا الحديث وصرفه عن معناه الظاهري لخير بيان أن ظاهر الحديث غير مراد، وأنه معارض لأصولهم الكلية، وهم ينزلون قضايا الأعيان على مقتضى القواعد الكلية، فإن كان من أصولهم : إعذار الجاهل لقالوا جميعا: أن هذا الرجل جهل قدرة الله وكان جاهلا وعذر بجهله، وكفوا أنفسهم مؤنة التأويل، لأن التأويل عندهم شر لا يذهبون له إلا في حالة الضرورة، عندما تصطدم قضية من قضايا الأعيان أو دليل جزئي مع القواعد والأصول الكلية»(89).
     من الجواب على هذا الكلام أن يقال: من هم هؤلاء العلماء الذين تأولوا الحديث!؟ وهل صحيح أنهم يعدون التأويل شرا لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة؟ أليس أكثرهم يتأولون آيات الصفات وأحاديث لمجرد ما يتوهمونه من قطعيات المعقول؟
   نعم لو أجمع العلماء على التأويل وبطلان الظاهر؟ لكان قوله سديدا لأن الإجماع دليل شرعي معتبر، فأما والخلاف ثابت فلا حجة في كلامهم، لأنا نقول لصاحب المجهر لماذا لا يكون قول ابن قتيبة والخطابي الذي نقله هو الصواب، وقد حملا الحديث على ظاهره، لكني على يقين أنه نقل كلامهما ولم يفهمه.
الهوامش:
79/ رواه البخاري (رقم:3294) ومسلم (رقم:2756).
80/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/409).
81/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/231).
82/ انظر: مجموع الفتاوى (7/619) و(8/12) و(12/490) و(23/347) ومنهاج السنة النبوية (5/337) والاستقامة (1/164) والرد على البكري (2/394) والصفدية (1/233) وبغية المرتاد (1/308-310) و(1/342)..
83/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/410).
84/ الفصل في الملل والنحل لابن حزم (3/296).
85/ فتح الباري لابن حجر (6/523) إشراف ابن باز ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، بدون.
86/ عارض الجهل (ص:429).
87/ وهو في مجموع الفتاوى (12/491).
88/ الدرر السنية (10/ 239-240).
89/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:251).
المبحث الثاني عشر : المنازعة في دليل الإجماع على العذر بالجهل
    من الأدلة المعتمدة في إثبات العذر بالجهل في العقائد دليل الإجماع، والمقصود به إجماع السلف وعلماء أهل السنة المتقدمين، ولأن خلاف المعتزلة ومن يحكم العقل في التوحيد حادث منذ ظهورهم، وقد اعترض عليه المخالفون بادعاء إجماع آخر على خلافه، وفيما يأتي نقل الإجماع وبيان اعتراض المخالفين ورده .
المطلب الأول : نقل إجماع السلف على العذر بالجهل
    وممن نقل هذا الاتفاق شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال:« ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول»(90). وسبق نقل قوله: « فيقال : من كفَّره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفِّره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم. والدليل على هذا الأصل : الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار»(91).
    ومن أقدم من نقل الإجماع ابن حزم رحمه الله :« وبرهان ضروري لا خلاف فيه؛ وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم، وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامدا، وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عمدا كذلك أو زاد فيها كلمة عمدا، فإنه كافر بإجماع الأمة كلها، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى ، ويبدل كلامه جاهلا مقدرا أنه مصيب، ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق، ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافرا ولا فاسقا ولا آثما، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من تقوم الحجة بخبره ، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كافر بذلك لا محالة، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة»(92).
    وممن نص على هذا الاجماع أبو بكر ابن العربي في شرحه للبخاري، وهذا نصه : «الجاهل والمخطئ من هذه الأمة، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً، فإنّه يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبيّن له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، مما أجمعوا عليه إجماعاً قطعيّاً يعرفه كلّ المسلمين من غير نظرٍ وتأمّلٍ .. ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع»(93).
المطلب الثاني : دعوى الإجماع على عدم العذر بالجهل
     قد اعترض المخالفون على دليل الإجماع المنقول بادعاء إجماع على حلافه وقد نقلوا لإثبات ذلك عدة نصوص عن العلماء ، ويلاحظ أن المخالفين على اختلاف مذاهبهم قد اعمدوا دليل الإجماع -إلا من قال منهم بكفر من يُحَكِّم الإجماع في دين الله تعالى، لأنه من تحكيم الرجال(94) -، فالذين يقولون: بكفر من وقع في الكفر جهلا ويستبيحون قتله ويشهدون له بالنار يدعون الإجماع على قولهم، والذين يكفرونه ويستبيحون قتله ولا يشهدون له بالنار يحتجون بالإجماع، وكذلك الذين يكفرونه ويقولون لا قتال ولا عذاب في الآخرة حتى تقام عليه الحجة.
    وفيما يأتي نقل تلك النصوص المعتمدة عندهم مع مناقشة الاستدلال بها واحدا واحدا:
الفرع الأول : نص ابن القيم رحمه الله تعالى
   ومن أقدم النصوص التي اعتمد عليها نفاة العذر في دعوى الإجماع نص لابن القيم في طريق الهجرتين يقول فيه رحمه الله:« اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام»(95) ، ثم قال :« والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل »(96).
    والجواب عن هذه الشبهة على النحو الآتي:
أولا : إن كلام ابن القيم وارد في المشركين لا في من وقع في الشرك وأسباب الردة من المسلمين، وهو أيضا في من بلغته دعوة الإسلام منهم، بدليل قوله :« إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة»، وكلامنا هو في من لم تبلغه حقيقة الدعوة من المسلمين، إذن هذا الاتفاق خارج عن محل النزاع من وجهين، أحدهما : أنه في الكفار لا في المسلمين ، والثاني أنه في الذين بلغتهم الحجة منهم لا فيمن لم تبلغه الحجة، وكلامنا في المسلم الذي لم تبلغه الحجة.
   أما حكم من لم تبلغه الدعوة من الكفار عند ابن القيم فقد صرح أنه لا يعذب، قال رحمه الله في المصدر نفسه: « وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عليه حتى تقوم حجته بالرسل»(97).
ثانيا : أكثر المستندين إلى هذا الإجماع واقعون في التناقض؛ لأنهم ينقلون عن بعض المتأخرين إجماعين أحدهما على تكفير الجاهل، والآخر على حمل العذر على عذاب الآخرة، مع إثبات الامتحان، وكلام ابن القيم المنقول صريح بأنهم كفار وفي النار، وهذا لا يقول به إلا الصنف الأكثر غلوا من المخالفين، وإن كان مذهبهم أقيس من غيره كما ذكرنا قبل.
ثالثا : مما يؤكد لنا أن كلام ابن القيم السابق في الكفار الذين لم يدخلوا في الإسلام أصلا، هذا الكلام الذي يفرق فيه بين أحوال أهل البدع، وينص فيه على عدم تكفير الجاهل المقلد الذي عجز عن العلم، قال ابن القيم:« من كفر بمذهبه كمن ينكر حدوث العالم وحشر الأجساد، وعلم الرب بجميع الكائنات، وأنه فاعل بمشيئته وإرادته، فلا تقبل شهادته؛ لأنه على غير الإسلام، فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم؛ فهؤلاء أقسام:
أحدها ؛ الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى وحكمه حكم "المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ".
القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذته ومعاشه وغير ذلك فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته.
القسم الثالث : أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليدا وتعصبا أو بغضا أو معاداة لأصحابه؛ فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل»(98).
رابعا : إن هذا الإجماع المتوهم معارض بإجماع قديم منقول على عذر المسلمين الواقعين في الشرك جهلا نقله ابن حزم وابن العربي وابن تيمية رحمهم الله.
الفرع الثاني : نص القرافي
     منهم من نقل عن القرافي أنه قال في شرح التنقيح:« ولذلك لم يَعْذر اللهُ بالجهل في أصول الدين إجماعاً»(99). وجوابه من وجوه:
الأول: أنه قال ذلك في بحث حكم الاجتهاد في العقائد أو التصويب والتخطئة فيها، في معرض رده على الجاحظ والعنبري إذا قالا بالتصويب، ومن الأصوليين من فهم من ذلك تصويب اليهود والنصارى أو عدم تأثيمهم إذا اجتهدوا، وهذا ما فهمه القرافي وتمام كلامه يدل على ذلك حيث قال:« فكذلك إذا حصل الكفر مع بذل الجهد يؤاخذ الله تعالى به، ولا ينفعه بذل جهده؛ لعظم خطر الباب وجلالة رتبته، وظواهر النصوص تقتضي أنه من لم يؤمن بالله ورسوله ويعمل صالحاً فإن له نار جهنَّم خالداً فيها، وقياسُ الخصمِ الأصولَ على الفروع غَلَطٌ لعظم التفاوت بينهما». وعلى هذا فلا خلاف فيما قال وهو خارج عن محل النزاع.
الثاني: عندما تكلم القرافي في الفروق عن المسلم المخطئ في أصول الدين لم يدع الإجماع بل جعل عدم العذر هو المشهور من المذاهب، وهو المشهور عند الأشعرية لأن حقيقة الكفر عندهم هي الجهل والإيمان هو المعرفة. وهذه عبارته: «ومن أقدم مع الجهل فقد أثم خصوصا في الاعتقادات فإن صاحب الشرع قد شدد في عقائد أصول الدين تشديدا عظيما بحيث إن الإنسان لو بذل جهده واستفرغ وسعه في رفع الجهل عنه في صفة من صفات الله تعالى أو في شيء يجب اعتقاده من أصول الدياناتولم يرتفع ذلك الجهل فإنه آثم كافر بترك ذلك الاعتقاد الذي هو من جملة الإيمان، ويخلد في النيران على المشهور من المذاهب»(100) ، وقد نقل هذا النص بعضهم ليبين أن القول المشهور عدم عذر الجاهل ونسي مذهبه في المسألة وهو أنه لا يحكم له بالنار وإنما بالامتحان !!
الثالث: لا يصلح نقل المتأخر الإجماع على خلاف إجماع المتقدم، وخاصة إذا لم يكن المتأخر من أهل الخبرة بمذاهب السلف والأئمة المتقدمين، ومن خَبَرَ كتب الأصوليين المتأخرين علم أن لا قيمة للإجماعات المنقولة فيها، خاصة ما يورد منها في محل الاحتجاج على الخصوم.
الرابع: قال الشافعي:« لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته لا يسع أحدا قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله  القول بها فيما روى عنه العدل فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو بالله كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل والروية والفكر»(101).
    وهذا النص يبين لنا أن ابن حزم ليس أول من قال بالعذر بالجهل، وأنه ليس ثمة إجماع على نفيه كما يزعمه المخالفون.
الفرع الثالث : نص عبد الله أبا بطين
    ومنهم من أورد في دعوى الإجماع قول عبد الله بن عبد الرحمن أبا بُطين النجدي(102):« فالمدعي أن مرتكب الكفر متأولا أو مجتهدا مخطئا أو مقلدا أو جاهلا معذور، مخالف للكتاب والسنة والإجماع بلا شك»(103).
   وهذه دعوى عريضة فيها نفي جملة من الأعذار، ومن جوابه أن ممن نص على العذر شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب النجدي كما سيأتي نقله، فهل خرق الإجماع هو أيضا، ثم إن المتأخرين من النجديين قصارى أمرهم الاجتهاد في تفسير كلام الشيخ ابن عبد الوهاب، فمن أراد تحقيق المذهب الصحيح لمؤسس الدعوة النجدية فعليه أن يعلو في السند ويطلبه من كلام ابن عبد الوهاب نفسه، لأن من جاؤوا بعده قد اختلفوا اختلافا كبيرا:
1-فأبناء الشيخ عبد الله وحسين وحمد بن ناصر لهم رأي آخر، وهو أن من وقع في الكفر والشرك جهلا لا يُكفَّر لعذره بالجهل ولا يحكم له بالإسلام، ويوم القيامة يمتحن؟(104).
2-وعبد الله أبا بُطين المذكور ينفي العذر بالجهل ويصرح بالتكفير والحكم بالنار لمن وقع في الكفر جهلا، وهذا مناقض للقول الأول في الاسم والحكم الأخروي(105).
3- وكثير من المعاصرين يقول من وقع في الكفر والشرك جهلا يكفر عينا بظاهر حاله ويوم القيامة يمتحن. وهذا مخالف للقول الأول في الاسم وموافق له في الحكم الأخروي، وموافق للقول الثاني في الاسم مخالف له في الحكم الأخروي، ومع ذلك فالمؤلفون منهم ينقلون من كلام أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب وأبي بطين ما يوافق اختيارهم.
4-ويفرق بعضهم بين الكفر والشرك فيحكمون بالشرك على الجاهل وتنزل عليه أحكام الكفر في الدنيا دون الآخرة ويقولون بالامتحان، ولا يحكمون بالكفر إلا بعد قيام الحجة، ومقتضى ذلك أن تنزل عليه أحكام الكفر في الدنيا والآخرة ومنها الخلود في جهنم.
    فأين هو إجماع أبا بطين المدعى؟ والمستدل به؟
الفرع الرابع : آراء الفقهاء المتأخرين
   ومن طريقة بعض القاصرين في الاعتراض على الإجماع الذي نقله ابن حزم وابن تيمية نقل خلاف المتأخرين من المتمذهبين وغيرهم، ولا أدري ما فائدة نقل إجماع المتقدمين؟ إذا كان يفسد بمجرد خلاف المتأخرين والمعاصرين؟
    إن الإجماع إذا صح بنقل إمام معتمد يكون حجة على كل من جاء بعده، ولا يكون خلافهم دليلا على عدم صحة الإجماع، ولو جاز ذلك لم يتم إجماع إلى يوم القيامة.
    ثم إن ما ينقلونه من إجماعات على لسان المتأخرين يفسد بإثبات خلاف واحد ممن تقدمهم كابن حزم وابن تيمية، فكيف وهما ينقلان إجماعا، فإن قيل إن المتأخرين إنما ينقلون إجماع السلف قبل ابن حزم وابن تيمية، قيل وكذلك ابن حزم وابن تيمية ينقلون إجماع السلف وهما أعلم وأخبر بالمنقول عن السلف من هؤلاء المتأخرين المتمذهبين الذين أكثر عنايتهم بكتب أصحاب مذاهبهم، والطريقة المعروفة في نقد الإجماع أن ينقل خلاف عن إمام أقدم من الناقل، وأنى لهم ذلك إلا أن يكون معتزليا أو ماتريديا أو أشعريا جهميا يحد الإيمان بالمعرفة والكفر بالجهل بالله تعالى.
الفرع الخامس: دعوى إحداث الخلاف في عصر الرسائل الجامعية
     ومن أغرب ما قرأته لبعض الغلاة في تقرير هذا الإجماع أن الخلاف إنما أحدثه بعض المعاصرين من خريجي الكليات الشرعية وأصحاب الرسائل الجامعية، وأنهم لبسوا على الناس هذا الأمر بكلام ابن تيمية، وزعم صاحب "المجهر" أن أصحاب هذه الرسائل انحرفوا عن المنهج العلمي وجعلوا النصوص محكومة بآراء العلماء(106).
   والحقيقة أن من أهم الفروق بين أصحاب الدراسات الجامعية وأصحاب الكتابات الأخرى، أن أصحاب الدراسات الجامعية معروفة أعيانهم ويتمتعون باستقلالية في الفكر، ويكتبون بطريقة منهجية تعصمهم من التناقض، وأصحاب الكتابات الأخرى مجهولون أو يكتبون بأسماء مستعارة، وكتاباتهم متسمة بالتقليد وتسير على منهج "اعتقد ثم استدل"، ولذلك يظهر الانحراف والتناقض فيها جليا، وربما التزم أصحابها لوازم شنيعة تبرأ منها الشريعة، ومنها ما سبق بيانه في الشبهات السابقة.
   ولو كنت بصدد نقد كتاب معين لبينت من تلك التناقضات والانحرافات المنهجية الشيء الكثير، وقد سبق بيان تحريفات صاحب الجواب المفيد، وسأبين في هذا المقام بعضا منها، زعم صاحب المجهر في مقدمته(107) أنه لا ينقل إلا عن أهل السنة، ثم نقل في باب "الردة من كتب السلف"(108) عن أبي بكر الحصني الشافعي صاحب كفاية الأخيار المشهور بعدائه للسنة وأهلها(109) ، ولا أدري لو اطلع على ترجمته وكتاباته في العقيدة هل كان يعذره أم يكفره؟
    وفي الباب الرابع : قسم الفصل الأول : الذي خصصه لرد الشبه المستدل بها خطأ من القرآن إلى ثلاث شبهات، وإلى ثلاثة مباحث على النحو الآتي : الشبهة الأولى، المبحث الأول، المبحث الثاني، الشبهة الثانية، الشبهة الثالثة، المبحث الثالث!! فلا الشبهات اندرجت تحت المباحث، ولا المباحث اندرجت تحت الشبهات. والأمر نفسه كرره في الفصل الثاني(110).
    وجعل فصلا لتحقيق مذهب ابن تيمية وابن عبد الوهاب في العذر بالجهل، ولم يذكر من كلام ابن عبد الوهاب شيئا من نصوصه الآتي ذكرها إلا نصا واحدا هو حجة عليه(111) ، ومهمة من يزعم القيام بدراسة مجهرية، وأنه يحقق كلام عالم من العلماء في المسألة أن يستوعب نصوصه فيها، أو على الأقل تلك التي يتمسك بها من يوافقه في نفي العذر بالجهل.
   وذكر صاحب "عارض الجهل" فصلا عنوانه:" أدلة القرآن الكريم على عدم اعتبار الجهل والتقليد عذرا في مسائل التوحيد لمن بلغه القرآن "، وذكر أدلة كلها فيها نظر، وجلها لا تنطبق على عنوان الفصل لأنه خص عدم العذر في العنوان بمن بلغه القرآن، ثم أورد الأدلة التي يذكرها غيره لإثبات كفر المشركين قبل بعثة النبي !!! وأن ثبوت وصف الكفر لا يحتاج إلى إقامة حجة (أي لا يحتاج إلى بلوغ القرآن)، ومن تلك الأدلة قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:137)(112).
   وعندما أراد أن ينقل كلام محمد بن عبد الوهاب في القضية نقل كلاما من الدرر السنية وعزاه إلى (1/142) ، وذلك الكلام موجود في (10/142) وليس هو من كلام ابن عبد الوهاب بل هو من كلام حسين وعبد الله(115) ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأخطأ في العزو وفي المعزو إليه، مما يبين عدم رجوعه إلى المصدر المحال إليه.
   ونقل عن ابن عبد الوهاب كلاما آخر عزاه إلى الدرر السنية (10/333)، وذلك الكلام موجود في (10/336) لكنه من كلام حمد بن ناصر بن معمر(116) ، مع أنه نقل في موضع آخر من كتابه النص ذاته منسوبا إلى حمد بن ناصر ومعزوا إلى الموضع الصحيح من الكتاب!!!(117).
    ومما يشيعه بعض الناس في بعض البلاد أن العقيدة لا بد أن تتلقى بالإسناد المتصل؛ في إشارة منهم إلى إسناد معين في منطقة محددة ليست أرض الحجاز منها ولا الشام ولا مصر ولا العراق.
     وحقيقة هذا الزعم الدعوة إلى التقليد المحض لبعض المشايخ، والتحجير على الطلبة من أن تعلو همتهم في البحث في كتب العلماء المتقدمين، ومن الجواب عن هذا أن يقال : إذا كان الإسناد المطلوب إلى النبي  فنعم المطلوب، وأما إذا كان إلى غيره فإنا نقول إن محمد بن عبد الله  هو خاتم النبيين، وإن الله تعالى لم يبعث نبيا بعده، والعلماء المجددون للملة لا يختصون بعصر من العصور أو بلد من البلدان، وإن من أعظم الجهالة أن يفرض على أهل الدنيا أن يأخذوا العقيدة من أهل قرية واحدة سندهم ينتهي إلى القرن الثاني عشر وأهلها مختلفون.
   ومما يُرَد به على هؤلاء الذين يفرضون على الناس النزول في أخذ العلم بدل العلو فيه، ويفرضون التقليد على من أمكنه النظر والاجتهاد؛ أن هذا ليس من منهج أهل العلم وهذا من تحجير الواسع، وقد قال الشافعي رحمه الله :« وإنما يؤخذ العلم من أعلى »(118). وقال الشاطبي وهو يبين شرط الانتفاع بالكتب :« أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين»(119).
الهوامش:
90/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/407).
91/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/489).
92/ الفصل في الملل والنحل لابن حزم (3/296-297).
93/ محاسن التأويل للقاسمي (5/ 1307-1308).
94/ وهم جماعة التكفير والهجرة ومنظر فكرهم مصطفى شكري.
95/ طريق الهجرتين لابن القيم (ص:897) تحقيق محمد أجمل الإصلاحي، ط1-1429، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة.
96/ طريق الهجرتين لابن القيم (ص:897-898).
97/ طريق الهجرتين لابن القيم (902).
98/ الطرق الحكمية لابن القيم (1/464-465) تحقيق نايف بن حمد الحمد، ط1-1428، دار عالم الفوائد.
99/ شرح التنقيح للقرافي (345) ط-1424، دار الفكر، بيروت.
100/ الفروق للقرافي (2/261)، ط1-1418، دار الكتب العلمية بيروت..
101/ طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/283-284).
102/ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بُطين النجدي الفقيه المتفنن ، ولي قضاء الطائف سنة 1220 ، ثم قضاء القصيم عام 1248، من مؤلفاته الانتصار لحزب الله الموحدين وتأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس، وتوفي سنة 1282 بمدينة شقراء، انظر مشاهير علماء نجد (ص:235-238).
103/ الانتصار لحزب الله الموحدين لعبد الله أبا بطين (ص:46) نقلا عن عارض الجهل (ص:574).
104/ الدرر السنية (10/136-137).
105/ الدرر السنية (10/352).
106/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:11).
107/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:11).
108/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:205).
109/ هو أبو بكر بن محمد الحسيني الحصني، الدمشقي تقي الدين: فقيه شافعي وصوفي وصف بالتعصب للأشاعرة وبالحط من الحنابلة وكان يجهر بتكفير ابن تيمية رحمه الله تعالى في الجوامع والمجامع وحدثت بسببه فتن في دمشق، ومن مؤلفاته كفاية الأخيار شرح غاية الاختصار في الفقه الشافعي و"دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الامام أحمد" توفي سنة 829 انظر الضوء اللامع للسخاوي (11/81-82)، دار الجيل بيروت، والأعلام للزركلي (2/69)، ط15-2002م، دار العلم للملايين بيروت.
110/ انظر : العذر بالجهل تحت المجهر (ص:213-238) (239-258).
111/ العذر بالجهل تحت المجهر (ص:286).
112/ عارض الجهل (ص:233).
113/ انظر: عارض الجهل (ص:294) وكرر الخطأ (ص:591).
114/ حسين بن محمد بن عبد الوهاب تولى القضاء والإمامة بالجامع الكبير بالدرعية في عهد عبد العزيز بن محمد بن سعود ، وتوفي عام 1224، انظر مشاهير علماء نجد (ص:43).
115/ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عالم نجد بعد أبيه، برز في علوم شتى ، وله فتاوى وردود عديد توفي عام  1242 بمصر، انظر مشاهير علماء نجد (48-68).
116/ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر من أهل العيينة بنجد، نزل الدرعية وأخذ بها العلم عن محمد بن عبد الوهاب والحسين بن غنام، ومن تلاميذه سليمان بن عبد الله آل الشيخ وعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ وابنه عبد العزيز وعبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين ، توفي سنة 1225 بمكة المكرمة، انظر مشاهير علماء نجد (202-204).
117/ انظر: عارض الجهل (ص:294) وكرر الخطأ (ص:593-594).
118/ اختلاف مالك والشافعي -ضمن مجموعة الأم- (7/452) تحقيق محمود مطرجي، ط1-1413، دار الكتب العلمية، بيروت.
119/ الموافقات للشاطبي (1/148) تحقيق مشهور حسن آل سلمان، ط1-1417، دار ابن عفان، الخبر السعودية .
المبحث الثالث عشر: نسبة عدم العذر بالجهل إلى الطبري
     هناك عبارة لابن جرير وردت في كتابه التبصير في معالم الدين، وعبارات أخرى في التفسير، توهَّم المخالفون دلالتها على مذهبهم، وربما تمسكوا بها لنقض الإجماع المنقول على العذر بالجهل، وقد أشكلت هذه العبارات على كثير من الباحثين، حتى سلم بعض من يرى العذر بالجهل دلالتها على عدم العذر، وفيما يأتي بيان حقيقتها. وعدم دلالتها على مذهب المخالفين في كل الأحوال.
المطلب الأول : كلام الطبري في التفسير وتوجيهه
الفرع الأول : كلامه في التفسير
    أما نصوص الطبري في التفسير فكثيرة، منها ما ورد في تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأعراف: 30) حيث قال رحمه الله:«وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعمَ أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسَبُ أنه هادٍ وفريق الهدى فَرْقٌ، وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية»(120).
الفرع الثاني : توجيه النص
   وجواب من تمسك بها النص: أن هذا الكلام في ظاهره مشكل، لكن إذا ما تدبر معناه ووضع في سياقه صار لا إشكال فيه لأنه متفق مع عقيدة السلف، وذلك أن مراده أن الكفر لا يختص بمن تبين له الحق على وجهه ثم عانده، بل يتعدى إلى من أعرض عنه فلم يرد سماعه أو لم يرد تفهمه، فبقي في الجهالة وهو يحسب أنه على الهدى، وهذا المعنى متفق عليه ولا علاقة له بقضية العذر بالجهل التي تختص بمن لم تبلغه دعوة الحق أصلا.
   ويؤكد هذا الفهم ما يلي :
أولا : سياق الآيات، فسياق الآيات في الكفار الأصليين من مشركي العرب الذين كانوا ينكرون البعث ويطوفون عراة ويزعمون أن الله أمرهم بذلك، وقد قامت عليهم الحجة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى في الآية المذكورة (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)  [الأعراف : 30] وإنما حقت عليهم الضلالة بقيام الحجة عليهم وإعراضهم عنها.
ثانيا : الآيات الموافقة لها في المعنى، وهذا المعنى المذكور مقرر في مواضع أخرى في القرآن الكريم، حيث ذكر الكفار الذين قامت عليهم الحجة وأنهم يحسبون أنهم مهتدون ومصلحون ويحسنون صنعا، فقال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) (الزخرف: 36-37) وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) (البقرة:11-13) وقال سبحانه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) (الكهف:103- 106).
   فهذه الآيات متفقة على أن ظن الكافر أنه على هدى لا ينفعه، وهي واضحة في سياقاتها أنها فيمن جاءته الحجة فأعرض عنها.
   وقد استدل بعضهم بآية سورة الكهف على تكفير المتأويلين فرد عليهم ابن حزم بتأمل سياقها وأنها ورادة في الكفار المخالفين لدين الإسلام وقال :«وآخر الآية مبطل لتأويلهم»(121).
ثالثا : موقف الطبري من الآيات الدالة على العذر بالجهل
  ومما يحتم علينا حمل كلام الطبري على المعنى المذكور دون غيره: الرجوع إلى تفسيره للآيات الدالة على العذر بالجهل، حيث حملها جميعا على ظاهرها دون تأويل لمعناها أو اعتراض على مدلولها، ومن ذلك:
1ـ ففي تفسير قوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء:15) قال: «وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم»(122).
2ـ وفي تفسير قوله تعالى: ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (النساء:115) قال رحمه الله:«يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يشاقق الرسول"، ومن يباين الرسولَ محمدًا صلى الله عليه وسلم، معاديًا له، فيفارقه على العداوة له"من بعد ما تبين له الهدى"، يعني: من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم»(123).
3ـ ومن أوضح نصوصه ما ذكره في تفسير قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (التوبة: 115) حيث قال: « يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم، في استغفاركم لموتاكم المشركين، بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهيّ، فأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائنٍ مطيعًا أو عاصيًا فيما لم يؤمَرْ به ولم ينه عنه »(124).
رابعا : مقارنة كلامه بكلام غيره من أهل العلم
   وكلام الطبري رحمه الله تعالى متفق مع كلام غيره من علماء أهل السنة الذين حملوا دلالة الآية على الإعراض، وقد قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة:« فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: (ويحسبون أنهم مهتدون)، قيل لا عذر لهذا وأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ظن أنه مهتد فإنه مفرط بإعراضه عن إتباع داعي الهدى، فإذا ضل فإنما أتي من تفريطه وإعراضه، وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها فذاك له حكم آخر، والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه»(125).
    وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان:« هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى؛ لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار لجاجاً في الباطل وعناداً، فلذلك كان غير معذور»(126).
خامسا : لوازم باطلة لمن يحمل كلامه على نفي العذر بالجهل
   إن من حمل كلام الطبري رحمه على نفي العذر بالجهل في التوحيد دون حالة الإعراض؛ تلزمه لوازم باطلة تظهر من تحليل عبارات الطبري، وهذا توضيحها :
1- أنه أثبت العذاب على المعاصي والضلال وسوى بينهما ولم يفرق، فهل للمعاصي حكم العقائد عند هذا المستدل؟ وإذا دخلت المعاصي فدخول القضايا الخفية المتعلقة بالتوحيد من باب أولى، فهل للمسائل الخفية حكم المسائل الظاهرة عند هذا المستدل؟
2- أنه أثبت العذاب مطلقا دون التفريق بين الدنيوي والأخروي ، فهل هذا المستدل النافي للعذر يقول بإثبات العذاب الأخروي في حق الجاهل الذي لا يعذره ؟ والطبري في آخر كلامه أكد على التفريق بين الفريقين في الأسماء والأحكام، أي فريق مؤمن مهتدي ناج وفريق كافر ضال معذب، فهل هذا المستدل يوافق على ذلك؟ أم يقول إنه كافر في الدنيا وأمره إلى الله في الآخرة أو يمتحن، أو يقول هو مشرك لا كافر لينفي أحكام الآخرة؟
3- أنه سوى بين المعاند وغيره فإن لم يكن ذلك الغير المعاند لزم أن يكون كل من ضل لجهل أو تأويل، فيلزم المستدل أن يكفر كل من المتأويلين من الفرق الإسلامية، وربما يلزمه تكفير الفقهاء المخطئين لأن الكلام شامل للمعاصي.
المطلب الثاني : كلام الطبري في التبصير في الدين وتوجيهه
الفرع الأول : نص كلام الطبري
  أما كلام الطبري في كتاب التبصير فطويل جدا ننقل منه الجزء الذي يستند إليه المخالفون، قال رحمه الله: « فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقةً في الدلالة عليه غير مختلفةٍ، ظاهرةً للحس غير خفية، فتوحيد الله تعالى ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله، وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة، فلن يعدم دليلاً دالاً وبرهاناً واضحاً يدله على وحدانية ربه جل ثناؤه، ويوضح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر الله جل ذكره أحداً كان بالصفة التي وصفت بالجهل [به](127) وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه -تعالى ذكره- والخلاف عليه بعد العلم به، وبربوبيته في أحكام الدنيا وعذاب الآخرة فقال –جل ثناؤه-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف:103-105)، فسوى –جل ثناؤه- بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عاملٌ بما يرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له، الجاحدين ربوبيته مع علمهم بأنه ربهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب»(128).
الفرع الثاني : توجيه النص
    وهذا النص لا يختلف في مدلوله ومعناه عن نصوص التفسير، المحمولة على أهل الإعراض عن تفهم حجج الدين الحق من أهل الكفر المباينين لملة الإسلام، فقد حكم عليهم في هذا الكتاب بالكفر وما يتبعه من أحكام الدنيا والآخرة بعد البلوغ؛ لأن حجج إثبات الخالق والصفات الواجبة له والملازمة لإثبات وجوده كالقدرة والعلم والخلق واضحة ومتفقة وغير مختلفة؛ فهي مفيدة للقطع وقاطعة لكل عذر في حق من بلغته على وجهها.
   وظاهر كلام الطبري رحمه الله في هذا الكتاب اعتبار حجية العقل في هذه القضية، أي في حق الكفار الذين جهلوا دين الله تعالى، وذلك أنه قال في موضع بعدها: « أما ما لا يصح عقد الإيمان لأحد، ولا يزول حكم الكفر عنه إلا معرفته فهو ما قدمنا ذكره، وذلك أن الذي ذكرنا قبل لا يعذر بالجهل به أحد بلغ حد التكليف، كان ممن أتاه الله تعالى ذكره رسول أو لم يأته رسول، عاين من الخلق غيره، أو لم يعاين إلا نفسه»(129).
   ورغم أننا لا نوافق الطبري على قيام الحجة بالعقل بمجرده على من لم يعرف الإسلام ولم يأته نذير(130) ، فإننا نقول ليس في كلام الطبري أن المسلم المقر بدين الله تعالى وبشرائعه إذا جهل أمرا يتعلق بالتوحيد أو الصفات أنه يكفر بجهله.
    ويؤكد هذا التخصيص أي بالكفار الأصليين ما يأتي :
أولا : أنه حكم بإلحاق هذا الجاهل بأهل العناد في عدم الاستجابة للحجج، ولا يصح ذلك إلا في حق المعرض من أهل الأديان غير الإسلام، قال في آخر الكلام المنقول:«وذلك لما وصفنا من استواء حال المجتهد المخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله، وحال المعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المتفقة غير المفترقة لحواسهما، فلما استويا في قطع الله –جل وعز- عذرهما بما أظهر لحواسهما من الأدلة والحجج، وجبت التسوية بينهما في العذاب والعقاب».
ثانيا: يؤكد إرادته أهل الملل الأخرى غير الإسلام وصفه لهذا الجاهل بالمجتهد المخطئ، ولا أتصور المخالف في المسألة يعتقد كفر المجتهد المخطئ من أهل الإسلام، ولا أظنه ينسب ذلك للطبري وإلا كفر كثيرا من أهل السنة فضلا عن جميع أعيان الفرق الإسلامية، والطبري لا يُكفِّر المنتسبين إلى الفرق وإن كان يصف أقوالهم بالكفر، ودليل عدم تكفيرهم نسبته إياهم إلى أمة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا : استدلال الطبري بالآيات من سورة الكهف كذلك يبين مراده، حيث قال رحمه الله في تفسيرها في جامع البيان:« والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ عنى بقوله( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) كلّ عامل عملا يحسبه فيه مصيبا، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الإجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أيّ دين كانوا»(131).
   وتمثيله في التفسير بالرهبان والشمامسة تأكيد على ما ذكرنا، ثم قرر في تمام تفسيره نحوا مما ذكر في تفسير آية الأعراف وفي كتاب التبصير، وقد ظهر لي أنه يناقش مذهب الجاحظ الذي نفى الإثم والمؤاخذة عن المجتهد من أهل الملل الأخرى.
رابعا: أنه فرَّع على التأصيل بعد الفراغ منه فقال:«وإذا كان صحيحاً ما قلنا بالذي عليه استشهدنا، فواجبٌ أن يكون كل من بلغ حد التكليف من الذكور والإناث وذلك قبل أن يحتلم الغلام أو يبلغ حد الاحتلام، وأن تحيض الجارية أو تبلغ حد المحيض - فلم يعرف صانعه بأسمائه وصفاته التي تدرك بالأدلة بعد بلوغه الحد الذي حددت، فهو كافرٌ حلال الدم والمال، إلا أن يكون من أهل العهد الذين صولح سلفهم على الجزية، وأقهروا فمن عليهم ووصف عليهم خراجٌ يؤدونه إلى المسلمين، فيكون من أجل ذلك محقون الدم والمال وإن كان كافراً»(132).
   أما ما هو داخل في محل نزاع فقد نص الطبري في هذا الكتاب على اعتبار العذر فيه، فقال: « ولله تعالى ذكره أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسع أحد من خلق الله قامت عليه الحجة بأن القرآن نزل به، وصح عنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه به الخبر منه (خلافه)، فإن خالف بعد ثبوت الحجة عليه به من جهة الخبر؛ على ما بينت فيما لا سبيل إلى إدراك حقيقة علمه إلا حسا فمعذور بالجهل به الجاهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والفكر، وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره أنه سميع بصير...»(133).
    وقال قبل هذا:«وأما ما أدركت حقيقة علمه منه حساً، فغير لازمٍ فرضه أحداً إلا بعد وقوعه تحت حسه، فأما وهو واقعٌ تحت حسه فلا سبيل له إلى العلم به، وإذا لم تكن له إلى العلم به سبيلٌ، لم يجز تكلفيه فرض العمل به، مع ارتفاع العلم به؛ وذلك أنه من لم ينته إليه الخبر بأن الله تعالى ذكره بعث رسولاً يأمر الناس بإقامة خمس صلواتٍ كل يومٍ وليلةٍ، لم يجز أن يكون معذباً على تركه إقامة الصلوات الخمس. لأن ذلك من الأمر الذي لا يدرك إلا بالسماع، ومن لم يسمع ذلك ولم يبلغه؛ فلم تلزمه الحجة به، وإنما يلزم فرضه من ثبتت عليه به الحجة»(134).
الفرع الثالث : نص لابن تيمية موافق لكلام الطبري
   ولابن تيمية رحمه الله كلام بين في هذا السياق يتفق مع موقف الطبري رحمه الله، حيث حكم بالتسوية بين الكفار المعاندين والجاهلين، وفي الوقت نفسه فرَّق بينهم وبين الجاهلين من المسلمين، فقال رحمه الله: « وهذا مما يظهر به الفرق بين المجتهد المخطئ والناسي من هذه الأمة في المسائل الخبرية والعملية، وبين المخطئ من الكفار والمشركين وأهل الكتاب الذي بلغته الرسالة، إذا قيل إنه غير معاند للحق؛ فإن ذاك لا يكون خطؤه إلا لتفريطه وعدوانه لا يتصور أن يجتهد فيكون مخطئا في الإيمان بالرسول، بل متى اجتهد -والاجتهاد استفراغ الوسع في طلب العلم بذلك- كان مصيبا للعلم به بلا ريب.
      فإن دلائل ما جاء به الرسول ودواعيه في نهاية الكمال والتمام، الذي يشمل كل من بلغته، ولا يترك أحد قط إتباع الرسول إلا لتفريط وعدوان فيستحق العقاب، بخلاف كثير من تفصيل ما جاء به، فإنه قد يعزب علمه عن كثير من خواص الأمة وعوامها؛ بحيث لا يكونون في ترك معرفته لا مقصرين ولا مفرطين فلا يعاقبون بتركه، مع أنهم قد آمنوا به إيمانا محملا في إيمانهم بما جاء به الرسل، فهم آمنوا به مجملا ومعهم أصول الإيمان به ....
    فلهذا كان المخطئ بالتأويل من هذه الأمة والفاسق بالفعل مع صحة الاعتقاد، كل منهما محسنا من وجه مسيئا من وجه، وليس واحد منهما كالكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن كانوا في ذلك على درجات متفاوتة، بل كل منهما ليس تاركا لما أمر به من الاعتقاد والعمل مطلقا ولا فاعلا لضده مطلقا؛ بل المتأول قد آمن إيمانا عاما بكل ما جاء به الرسول واستسلم لكل ما أمره به، وهذا الإيمان والإسلام يتناول ما جهله، ويدعوه إلى الإيمان والإسلام المفصل إذا علمه، لكن عارض ذلك من جهله وظلمه لنفسه ما قد يكون مغفورا له وقد يكون معذبا به»(135).
   وينقل هذا الكلام أيضا في الرد على من سوى بين المشركين ومن وقع في الشرك من هذه الأمة.
الهوامش:
120/ تفسير الطبري (10/149).
121/ انظر الفصل لابن حزم (3/141).
122/ تفسير الطبري (14/526).
123/ تفسير الطبري (7/483-484).
124/ تفسير الطبري (12/47).
125/ مفتاح دار السعادة (1/208) تحقيق علي حسن عبد الحميد، ط1-1416، دار ابن عفان، السعودية.
126/ أضواء البيان للشنقيطي (2/352).
127/ زيادة يدل عليها السياق وبها يستقيم، وليست في المطبوع وأثبتها بعض الباحثين من المخطوط، انظر أصول الدين عند الطبري لطه محمد رمضان (ص:83) ط1- 1426، دار الكيان، الرياض.
128/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:116-118) تحقيق علي بن عبد العزيز الشبل، ط1-1416، دار العاصمة، الرياض.
129/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:132).
130/ وله نصوص أخرى في التفسير مقتضاها عدم حجية العقل، ولذلك توقف طه محمد رمضان في وجه التوفيق بينها في كتابه أصول الدين عند الطبري (ص:92-93).
131/ تفسير الطبري (15/428).
132/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:121).
133/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:132-133).
134/ التبصير في معالم الدين للطبري (ص:115-116).
135/ جامع الرسائل لابن تيمية (1/244-245) تحقيق محمد رشاد سالم، دار المدني جدة.
المبحث الرابع عشر: نسبة عدم العذر بالجهل إلى ابن تيمية
     من الشبهات التي يلبَّس بها على كثير من الناس نسبة القول بالتكفير إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، الإمام الثقة المحقق الذي كتب الله تعالى لكلامه القبول عبر العصور، وذكرنا من قبل أن بعض الغلاة اضطربوا لظهور الرسائل الجامعية التي جمعت شتات كلام ابن تيمية ووضحت منهجه بجلاء، وقد اضطربوا أيضا في تأويل كلامه وصرفه عن ظاهره، وقبل بيان فساد تلك التأويلات ننقل شيئا من كلامه في إثبات العذر بالجهل.
المطلب الأول : من نصوص ابن تيمية في العذر بالجهل
  ينبغي أن يعلم أن كلام ابن تيمية في بيان العذر بالجهل ودلائله وأحواله كثير جدا، لا يسعه مثل هذا الذي توخينا فيه الاختصار، لكن نذكر ما يفهم به موقفه ويحصل به اليقين بإذن الله تعالى.
الفرع الأول : نص في حق الجهمية
    قال ابن تيمية :«ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا، فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله»(136).
الفرع الثاني: اختلاف الحكم باختلاف الأزمنة والأمكنة
   قال ابن تيمية:« وبينا أن المؤمن الذي لا ريب في إيمانه قد يخطئ في بعض الأمور العلمية الاعتقادية؛ فيغفر له كما يغفر له ما يخطئ فيه من الأمور العملية، وأن حكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حق الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله، كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وأن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة»(137).
الفرع الثالث: نص في حق الباطنية
   قال بعد أن ذكر مقالات الباطنية :« فهذه المقالات هي كفر لكن ثبوت التكفير في حق الشخص المعين موقوف على قيام الحجة التي يكفر تاركها، وإن أطلق القول بتكفير من يقول ذلك فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد مع أن ثبوت حكم الوعيد في حق الشخص المعين موقوف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه، ولهذا أطلق الأئمة القول بالتكفير مع أنهم لم يحكموا في عين كل قائل بحكم الكفار بل الذين استمحنوهم وأمروهم بالقول بخلق القرآن وعاقبوا من لم يقل بذلك إما بالحبس والضرب والإخافة وقطع الرزق بل بالتكفير أيضا، لم يكفروا كل واحد منهم وأشهر الأئمة بذلك الإمام أحمد، وكلامه في تكفير الجهمية مع معاملته مع الذين امتحنوه وحبسوه وضربوه مشهور معروف»(138).
الفرع الرابع: نص في حق من زعم سقوط التكاليف
    وسئل عمن يزعم سقوط التكاليف الشرعية عنه، فقال:« لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه. وهو شر من قول اليهود والنصارى»(139) ، وذكر رحمه الله ألوانا من الموبقات التي يستبيحها هؤلاء الناس ثم قال:«لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه؛ أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية»(140).
الفرع الخامس: نص فيه تمثيل بمن جحد الشرائع الظاهرة
   قال ابن تيمية:« أما كونه عند المستمع معلوما أو مظنونا أو مجهولا أو قطعيا أو ظنيا أو يجب قبوله أو يحرم أو يكفر جاحده أو لا يكفر ؛ فهذه أحكام عملية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فيها فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له ؛ فإن من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة وكان حديث العهد بالإسلام أو ناشئا ببلد جهل لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية. وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له؛ فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم؛ فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع»(141).
الفرع السادس: حكم الإسلام لا يزول إلا بعد إقامة الحجة
    قال رحمه الله:« وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة»(142).
الفرع السابع: نص فيه عدم التفريق بين الكفر والحكم بالنار
   قال ابن تيمية :« فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين: "أحدهما " أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق فنفي الصفات كفر والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة أو أنه على العرش أو أن القرآن كلامه أو أنه كلم موسى أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث. و" الأصل الثاني " أن التكفير العام - كالوعيد العام - يجب القول بإطلاقه وعمومه. وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه »(143).
الفرع الثامن: نص في منكر المتواتر والمجمع عليه
   وقال رحمه الله :« ومن أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة عليه»(144).
الفرع التاسع : نص في حق من وقع في الشرك الأكبر
   قال رحمه الله :« فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام»(145).
المطلب الثاني: تأويلات المخالفين لكلام ابن تيمية ودفعها
  وللمخالفين عدة تأويلات أشهروها في وجه هذه النصوص البينة وغيرها(146)، ومن تلك التأويلات ما يأتي:
التأويل الأول : حمل كلامه على المسائل الخفية دون الظاهرة
    ومن بين تلك التأويلات المعتمدة عند كثير من المخالفين حمل كلام العلماء عموما وشيخ الإسلام ابن تيمية خصوصا على العذر بالجهل في المسائل الخفية دون الظاهرة، ومنهم من يعبر بالعذر في الفروع دون الأصول، وقد بينا في المبحث التاسع بطلان هذا التأويل، وأن هؤلاء المخالفين قد غفلوا عن أن الخفاء والظهور أمران نسبيان يختلفان باختلاف الزمان والمكان، وأوردنا هناك من نصوص ابن تيمية كلامه في الرد على البكري الذي يقضي على هذا الاحتمال، لأنه في الشرك الأكبر، ولا أظهر من مسائل التوحيد والشرك –وأعدت بعضه في الفرع التاسع-.
   ومما يردها أيضا من النصوص المذكورة سابقا النص الثالث -المذكور أعلاه-الذي ورد في معرض ذكر مقالات الباطنية التي هي كفر ظاهر بلا شك، والنص الرابع أيضا الوارد في الجواب عمن يعتقد سقوط الواجبات وعدم تحريم المحرمات البينة، والنص الثامن أيضا فيه إشارة إلى ذلك؛ لأن القطع إنما يستفاد من الإجماع والتواتر(147).
التأويل الثاني: حمل كلامه على باب الصفات دون غيرها
   ومن تلك التأويلات حمل مذهب ابن تيمية على العذر بالجهل في مسائل الصفات أو القضايا العلمية دون مسائل الشرك في العبادة أو القضايا العملية، وكأن صاحب هذا التأويل شعر بأن التفريق بين الأصول والفروع أو المسائل الظاهرة والخفية سيلزم منه تكفير المخالفين في الصفات والقدر والوعد والوعيد، وكلام ابن تيمية في الحكم على الفرق الإسلامية بين واضح، وأنه لم يكفر الجهمية والمعتزلة والخوارج ونحوهم، والجواب عن هذا كالجواب عن سابقه بأن من نصوص ابن تيمية ما هو شامل لقضايا توحيد العبادة؛ فلا مجال لحمل كلامه على غيرها من القضايا.  
التأويل الثالث: أن ابن تيمية قال ذلك لمصلحة الدعوة
    ومن التأويلات الباردة التي أشهرت في وجه هذه النصوص المستشهد بها من كلام ابن تيمية الزعم أن ابن تيمية قال هذا:"سياسة" لا اعتقادا، بمعنى مراعاة لمصلحة الدعوة، لأنه كان مستضعفا وكان لابد له من مداراة حتى يزول الاستضعاف.
     ويكفي لرد هذا الزعم أنه تخرص لا دليل عليه ولا موجب له، بل هو افتراء على ابن تيمية رحمه الله(149)، ومع ذلك نقول : لا ندري أكان من طريقة ابن تيمية المداهنة في أصل الدين؟ وما الذي يدفعه إلى مثل هذا هو الذي لم يداهن في قضايا أسهل من هذه، دخل بسببها إلى السجن كمسألة الطلاق الثلاث ومسألة شد الرحال. وهو الذي يقول:" فإن الشرك والقول على الله بلا علم والفواحش ما ظهر منها وما بطن والظلم : لا يكون فيها شيء من المصلحة"(149). ويقول رحمه الله : «ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة، ... ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره، كان مستحقا لعذاب الله...»(150).
    ولو فرضنا أنه كان مُكرها في حال لبين الحق في حال أخرى، وصرح بأنه يحكم بالكفر على من لم تقم عليه الحجة ولو مرة في حياته، ولا حجة لمن تمسك بقوله في الرد على البكري :" لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله " للتدليل على هذا التأويل، لأن معنى كلامه أنه لم يقابل الجهل بالجهل والافتراء بالافتراء، ومما يفند على الزعم أيضا أن المكره والمداري لا يجوز له أن يطنب في الاستدلال لمسألة لا يعتقدها.
التأويل الرابع: أنه يعذر فيما يوجب للعذاب الأخروي دون غيره
      ومن التأويلات المذكورة زعمهم أن الكفر الذي ينفيه؛ هو الكفر الذي يستحق صاحبه العقوبة في الدارين القتل في الدنيا والخلود في النيران في الآخرة دون اسم الكفر الذي تجري عليه بقية أحكام الدنيا(151).
     وهذا الزعم لا مستند له في كلام ابن تيمية، بل فيه ما يدل على ضده كقوله:« ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه؛ أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية»(152)، وقوله:"وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار : فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه»(153).
    وأصحاب هذا التأويل دائما يرجعون إلى كلام ابن تيمية في الكفار الذين لم تبلغهم الحجة، ويتركون كلامه في أهل الإسلام الذين وقعوا في الكفر، وهذا تضليل وتحريف لا يجوز، وذلك كقوله وهو يتحدث عن عدم توقف قبح الأفعال على الشريعة –كما يزعمه الأشاعرة-:« واسم المشرك ثبت قبل الرسالة»(154) فلا يُرى من تمسك بهذه الجملة وترك عشرات النصوص التي ربما استغرق بعضها الصفحات تفصيلا واستدلالا إلا متبعا لهواه.
التأويل الخامس : تخصيص كلامه بمن كان حديث عهد بالإسلام
     ومن التأويلات تخصيص كلامه بمن كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة.
   والجواب أن ذلك يذكر على سبيل المثال لا التقييد، والمقصود هو بيان أحوال مظنة الجهل هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تمثيله بالبادية البعيدة ليس المقصود به البعيدة المكان حصرا، بل البعيدة عن العلم، قال رحمه الله:« ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول »(155). وقال رحمه الله:«وأيضا فكون الشيء معلوما من الدين ضرورة أمر إضافي فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة»(156)، وقال:« ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئا عند الجهال لكلام أهل العلم والسنة؛ حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء، فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة»(157).
    وممن صرح بأن ذكر هذه الأحوال المراد به التمثيل لا الحصر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن:« وقد مثَّل العلماء هذا الصنف بمن نشأ ببادية أو ولد في بلاد الكفار ولم تبلغه الحجة الرسالية، ولذلك قال الشيخ: لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، وقد صنف رسالة مستقلة في أن الشرائع لا تلزم قبل بلوغها»(158).
الهوامش:
136/ تلخيص كتاب الاستغاثة لمعروف بالرد على البكري لابن تيمية (2 /494) تحقيق محمد بن علي عجال، طبعة مكتبة الغرباء الأثرية.
137/ بغية المرتاد لابن تيمية (ص:311) تحقيق موسى بن سليمان الدويش، ط3-1422، مكتبة العلوم الحكم، المدينة النبوية.
138/ بغية المرتاد لابن تيمية (ص: 353-354).
139/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/401).
140/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/406).
141/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (6 /60-61).
142/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/466) وكرر هذا المعنى (12/501).
143/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/497).
144/ تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري لابن تيمية (1/413).
145/ الرد على البكري لابن تيمية (2/731-732).
146/ وليس لابن تيمية نص متشابه قد يفهم منه عدم العذر بالجهل إلا بعض الكلمات المبتورة عن سياقها أو الخارجة عن محل النزاع، وقد أجبت عن بعضها في مواضع متفرقة من البحث، وأثناء مراجعة الكتاب قبل طبعه ورد إلي سؤال يتضمن طلب الرد على دعوى أحد الغلاة الإجماع على عدم العذر واعتمد في نقل رأي ابن تيمية على نص مبتور من الدرء في قضية الفطرة نقلناه كاملا فيما مضي، وبعض النصوص التي ظاهرها تكفير ابن تيمية للمعينين، وهذا المستدل ما زال يعيش في القرن الماضي والذي قبله يناقش ابن جرجيس وأمثاله؛ ممن كان يمنع تكفير المعين بإطلاق ولو بعد إقامة الحجة، لذلك لم أر فائدة زائدة في الجواب عن نقوله ودعاويه.
147/ ينظر أيضا في نقد نسبة هذا التفريق إلى ابن تيمية كتاب "إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي" (ص:330-341)، وهذا الكتاب من أجمع الكتب في هذا الموضوع ومن أحسنها ترتيبا وتنظيما، وقد شرفني مصنفه حفظه الله بمراجعته وتصحيحه قبل طباعته، ومن أراد الإحاطة بأدلة الفريقين في المسألة ومناقشاتها فليراجعه، وهو صادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات ط1-2012م.
148/ انظر : ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني (ص:230) ط1-1413، مؤسسة الرسالة، بيروت، وهذا الكتاب من أقدم الرسائل الجامعية التي لم ترق لبعض هؤلاء الغلاة؛ لما فيها من بحث علمي رصين ومتحرر من كل آثار التقليد وتقديس الأشخاص.
149/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (14/476).
150/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (35/372-374).
151/ انظر العذر بالجهل تحت المجهر (ص:278).
152/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/406).
153/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/497).
154/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/38).
155/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/407).
156/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/118).
157/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/204).
158/ مصباح الظلام لعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص:498).
المبحث الخامس عشر: نسبة عدم العذر بالجهل إلى الشيخ ابن عبد الوهاب
    ومن الشبهات أيضا الاستدلال بعبارات لابن عبد الوهاب ظاهرها عدم العذر بالجهل، وقبل التعرض لهذه العبارات وتوجيه العلماء لها أو ردهم عليها، نسرد كلام ابن عبد الوهاب المتكرر في نفي التكفير بالعموم ونفي تكفير من لم تقم عليه الحجة الرسالية منقولا من "الدرر السنية في الأجوبة النجدية ".
المطلب الأول : نصوص ابن عبد الوهاب في إثبات العذر
1-قال رحمه الله :«فإن قال قائلهم : إنهم يكفرون بالعموم فنقول : سبحانك هذا بهتان عظيم ؛ الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله، ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج»(159).
2-وقال:«وأما التكفير : فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا : هو الذي أكفر، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك»(160).
3-وقال أيضا:«فمنها : إشاعة البهتان، بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلاً عن أن يفتريه ومنها : ما ذكرتم : أني أكفر جميع الناس، إلا من اتبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، فيا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل ؟! وهل يقول هذا مسلم إني أبرأ إلى الله من هذا القول، الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراك ؛ فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة»(161).
4-وقال:« وأما القول : أنا نكفر بالعموم ؟ فذلك من بهتان الأعداء، الذين يصدون به عن هذا الدين؛ ونقول : (سبحانك هذا بهتان عظيم) [النور:16]»(162).
5-سئل الشيخ عما يقاتل عليه وعما يكفر الرجل به فأجاب بجواب مفصل جاء في أوله :« ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان، وأيضا نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر» ..
    وجاء في آخره:« وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه؛ فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا: لا نكفر من عبد الصنم، الذي على عبد القادر؛ والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله ؟! إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) [النور:16]»(163).
6-وقال:« وأما ما ذكر الأعداء عني، أني أُكَفِّر بالظن وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله»(164).
7-وقال:« وكذلك تمويه الطغام بأن ابن عبد الوهاب يقول : الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله فهو مسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفّر من أشرك بالله في إلهيته، بعدما نبين له الحجة، على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه، دون هذه المشاهد، التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها، وسعى في إزالتها؛ والله المستعان»(165).
8-وقال:«ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله، ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان، بعدما عرف أنها دين المشركين، وزينه للناس ، فهذا الذي أكفره، وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء إلا رجل معاند أو جاهل»(166).
9-قال وهو يعد مسائل البهتان التي نسبها ابن سحيم إليه: «وقوله أني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق »(167). وقد قال:"واعلم أن أشياء من الشرك الأكبر وقع فيه بعض المصنفين على جهالة لم يفطن له من ذلك قوله في البردة :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به     سواك عند حلول الحادث العمم"(168).
المطلب الثاني : النصوص التي يتمسك بها المخالفون
1-وقال ابن عبد الوهاب رحمه الله :« فمنهم من كذب النبي  ورجعوا إلى عبادة الأوثان، وقالوا: لو كان نبياً ما مات; ومنهم من ثبت على الشهادتين، ولكن أقر بنبوة مسيلمة، ظناً أن النبي  أشركه في النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا له بذلك، فصدقهم كثير من الناس; ومع هذا، أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك، ومن شك في ردتهم فهو كافر»(169).
2-وقال في رسالة اشتهرت بكشف الشبهات:« وأفادك أيضا الخوف العظيم فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل»(170).
3-وذكر في كتاب التوحيد حديث الذي وضع حلقة فقال  :« انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا »(171) وقال فيه مسائل : «الثالثة: أنه لم يعذره بالجهالة»(172).
4-وقال :« واجتهدوا في تعلم ما علمه الله لرسوله، وما علمه الرسول لأمته من التوحيد، ومن أعرض عن هذا فطبع الله على قلبه، وآثار الدنيا على الدين، لم يعذره الله بالجهالة»(173).
المطلب الثالث : تحقيق مذهب الشيخ والتوفيق بين النصوص
الفرع الأول : تأويلات المخالفين
   إن القائلين بعدم العذر بالجهل كثير منهم يتجاهل فيما يكتب أقوال ابن عبد الوهاب التي تدل على العذر ولا يسرد إلا ما ظاهره تأييد مذهبه، ومنهم من يشير إلى الاختلاف الظاهر، ثم يحاول دفع تلك النصوص بضرب من التأويل وهي في الغالب عين التأويلات التي تأول بها كلام ابن تيمية.
أولا : زعمهم أنه قال بالعذر من باب مصلحة  الدعوة
   فمنهم من يزعم أن ابن عبد الوهاب كان يداهن المخالفين في أول دعوته لمصلحة الدعوة، وهذا افتراء عليه كالافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية السابق ذكره، ونحن ندفع هذا التأويل بعد حسن الظن بهذا الإمام المصلح الناصح بأن أكثر فتاويه التي اعتمدنا مقرونة بذكر القتال، وذلك لم يحدث في أول دعوته، ومنها ما يصرح فيه بمضي عقود من الزمان على اشتهار دعوته كقوله: « إذا كانوا أكثر من عشرين سنة يقرون ليلا ونهارا سرا وجهارا : أن التوحيد الذي أظهر هذا الرجل هو دين الله ورسوله، لكن الناس لا يطيعوننا وأن الذي أنكره هو الشرك ، وهو صادق في إنكاره»(174) وقوله "هذا الرجل" إشارة إلى نفسه.
ثانيا : زعمهم أنه قال بالعذر لنفي القتال لا للتكفير
   ويزعم آخرون أنه يشترط إقامة الحجة للكفر المعذب عليه (القتال في الدنيا والخلود في النار يوم القيامة )، ولعلهم يؤيدون هذا التأويل بما ورد في النص السابع فيما نقلنا، ويزعمون أنه لم يحكم بإسلام من وقع في الشرك ولم تقم عليه الحجة.
   وجوابه أنه أيضا لم يحكم بكفره إذ خص الكفر بمن بينت له الحجة، وكلمة الكفر لها مدلول شرعي يتضمن أحكام الدنيا والآخرة، وليس في كلام ابن عبد الوهاب ما يوحي بأنه ثمة كفر معذب عليه، وكفر غير معذب عليه، وفي النص الخامس المنقول قد جمع ابن عبد الوهاب في كلامه بين من يكفر ومن يقاتل وصنفهم إلى أصناف ولم يذكر صنفا يكفره ولا يقاتله.
ثالثا : زعمهم أنه قال بالعذر في المسائل الخفية
    ومنهم من يحاول حمل كلامه في العذر على المسائل الخفية دون الظاهرة كالشرك الأكبر، وكلام ابن عبد الوهاب واضح في شموله لما يعتبرونه ظاهرا من المسائل، ومن ذلك تمثيله بمن يعبد الصنم الذي على قبر البدوي، وقد سبق أن ناقشنا قضية الظهور والخفاء وأنها أمور إضافية نسبية تختلف بالزمان والمكان.  
الفرع الثاني : التوجيهات المقبولة لكلام ابن عبد الوهاب   
   وهناك طرق أخرى سلكها بعض أهل العلم للجمع بين هذه النصوص هي في حيز المقبول وبعضها أمتن من بعض نذكرها فيما يأتي :
أولا : حمل كلامه في كتاب التوحيد وكشف الشبهات على كفر النوع، وحمل كلامه في المواضع الأخرى المذكورة في المطلب الأول على تكفير المعين(175).
   لكن هذا التوجيه قد يعترض عليه بأنه جمع لم يراع فيه إلا بعض نصوص ابن عبد الوهاب دون بقية النصوص، وأن حمل نص كشف الشبهات على كفر النوع فيه عسر. وقد يلزمنا المخالفون بمذهب من ينفي التكفير بإطلاق إلا كفر النوع كما كان حال كثير من خصوم أئمة الدعوة النجدية.
ثانيا : حمل كلامه في العذر على ما قبل قيام الحجة وعدم العذر على ما بعد قيام الحجة، وقد أشار إلى هذا بعض أئمة الدعوة النجدية، ومن ذلك ما جاء في الدرر السنية :« فإن الشيخ محمدا رحمه الله لم يكفر الناس ابتداء إلا بعد قيام الحجة والدعوة ، لأنهم إذ ذاك في زمن فترة، وعدم علم بآثار الرسالة، ولذلك قال لجهلهم وعدم من ينبههم، فأما إذا قامت الحجة، فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها»(176).
   وهذا تأويل جيد وخاصة بالنسبة لنص رسالة كشف الشبهات التي هي في أصلها خطاب موجه لأحد إخوانه الموافقين، أما بالنسبة لنص كتاب التوحيد الموضوع لتأصيل العقيدة ابتداء فهذا التأويل يبعد.
ثالثا : حمل كلامه في العذر على من لم تقم عليه الحجة وكلامه في عدم العذر على المفرط والمعرض عن سماع الحجة، وهذا أمتن توجيه لكلام ابن عبد الوهاب وقفت عليه، ولأنه تأويل شامل لجميع نصوصه المذكورة في المطلب الثاني وغيرها –على أن النص الأول فيمن ارتد ردة صريحة عن الإسلام-
   وقد سلك هذه الطريقة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله إذا قال معلقا على نص كشف الشبهات:« لا أظن الشيخ رحمه الله لا يرى العذر بالجهل، اللهم إلا أن يكون منه تفريط بترك التعلم مثل أن يسمع بالحق فلا يلتفت إليه ولا يتعلم، فهذا لا يعذر بالجهل، وإنما لا أظن ذلك من الشيخ لأن له كلاما آخر يدل على العذر بالجهل فقد سئل عما يقاتل عليه وعما يكفر الرجل به فأجاب ....» وذكر الشيخ رسالة ابن عبد الوهاب كاملة الذي يصرح فيها بالعذر بالجهل وأنه لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية(177).
    وعلق الشيخ العثيمين رحمه الله على نص كتاب التوحيد:« هذا فيه نظر لأن قوله  :"لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا" ليست بصريح أنه لو مات قبل العلم، بل ظاهره :"لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "أي بعدما علمت وأمرت بنزعها، وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، فنقول الجهل نوعان : جهل يعذر فيه الإنسان وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئا عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئا عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط، ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه ، فإن كان منتسبا للإسلام لم يضره، وإن كان منتسبا إلى الكفر فهو كافر في الدنيا لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح يمتحن فإن أطاع دخل الجنة وإن عصى دخل النار»(178).
   وكذلك النص الآخر –برقم 4- الذي يقول فيه :« ومن أعرض عن هذا فطبع الله على قلبه، وآثار الدنيا على الدين، لم يعذره الله بالجهالة» فهذا واضح انطباقه على المعرض عن سماع الحجة دون غيره.
    وإذا أصر المخالف على أن للشيخ ابن عبد الوهاب قولين مختلفين، قلنا إن قوله في موافقة الجماعة والدليل أولى من قوله في خلاف الجماعة والدليل، والله الموفق وهو يهدي السبيل.
خاتمة
     هذا آخر ما أردنا بحثه من شبهات مثارة حول قضية العذر بالجهل، وإن كانت ثمة شبهات أخرى فهي أقل شهرة وانتشارا من هذه فيما أحسب، ونسأل الله تعالى أن يهدينا ويهدي بنا ويجعلنا هداه مهتدين وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
159/ الدرر السنية (1/63).
160/ الدرر السنية (1/73)و(1/82).
161/ الدرر السنية (1/80).
162/ الدرر السنية (1/100).
163/ الدرر السنية (1/102-104).
164/ الدرر السنية (10/113).
165/ الدرر السنية (10/128).
166/ الدرر السنية (10/131).
167/ الدرر السنية (1/34) (10/14).
168/ الدرر السنية (12/111).
169/ الدرر السنية (8/118).
170/ الدرر السنية (1/71).
171/ رواه ابن ماجة (3531) وأحمد (4/445) واللفظ له، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1029).
172/ كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب (ص:30) تحقيق أبي مالك الرياشي، ط1-1429، مكتبة العلوم والحكم ومكتبة عباد الرحمن، مصر.
173/ نقلا عن ضوابط تكفير المعين عند شيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب لأبي العلا بن راشد بن أبي العلا الراشد (ص:161) ط1-1425، مكتبة الرشد، الرياض.
174/ الدرر السنية (10/115).
175/ ضوابط التكفير لعبد الله القرني (ص:231).
176/ الدرر السنية (10/434-435) نقلنا لهذا النص المقصود منه بيان موقف هؤلاء الأئمة النجديين من كلام ابن عبد الوهاب الذي ظاهره التعارض، أما تشبيه المسلمين قبل ظهور دعوة ابن عبد الوهاب بالفترة في الأسماء والأحكام فهذا مما لا يوافقون عليه .
177/ شرح كشف الشبهات للعثيمين (46-47) إعداد فهد بن ناصر السليمان، دار الثريا للنشر .
178/ القول المفيد شرح كتاب التوحيد للعثيمين (1/173) ط دار ابن الجوزي .

تم قراءة المقال 1758 مرة
المزيد في هذه الفئة : « في مواجهة التنصير