لثلاثاء 12 ذو القعدة 1431

حكم ركوب الأخطار للهجرة من الأوطان (أو الهجرة السرية)

كتبه 
قيم الموضوع
(30 أصوات)

السؤال:

   يا شيخ –أحسن الله إليكم- ما حكم هجرة المسلم من بلاده إلى البلاد الأجنبية كأوروبا وأمريكا وكندا ونحوها للإقامة هناك، مع وجود المخاطر كركوب البحر وهو مرتجّ، أو ركوب وسائل غير صالحة كقوارب قديمة، أو ركوب خشبة، أو مطّاط، أو الاختباء في السفن الكبيرة أو الصغيرة للتسلل إلى تلك البلاد، وما حكم من يعين على ذلك بالمال أو بالمجّان، علمًا بأن هذا الفعل يقوم به الذكور والإناث، أفْتونا أثابكم الله تعالى.

 

 

حكم ركوب الأخطار للهجرة من الأوطان (أو الهجرة السرية)

 

 

الجواب:

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فإن الأعمال المذكورة في السؤال لا تجوز في شريعة الإسلام، لأسباب:

 

الأول: لا يجوز للمسلم أن يسكن في بلاد الكفار، لما فيه من إذلال نفسه لهم، وخضوعه لأحكامهم المخالفة للإسلام، وهذا يؤدي به – مع مرور الوقت – إلى ذوبانه فيهم، فإن لم يَذُبْ هُوَ كُليّة، ذابت زوجته وأولاده، خاصّة البنات في تلك البيئة الفاسدة، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:97)، ومعنى الآية أن الذي يبقى في بلاد الكفار ولا يهاجر منها إلى حيث يكون حُرًّا في دينه هو ظالم لنفسه، وقد عرّض نفسه لتوبيخ الملائكة له عند الموت، ودخول جهنم يوم القيامة. وقال رسول الله صلى الله عليه سلم :"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" [رواه أبو داود، وغيره، وهو حديث حسن، كما في صحيح الجامع الصغير للألباني (1461)] . وقال صلى الله عليه سلم  : «بَرئت الذّمة ممّن أقام مع المشركين في ديارهم » [رواه الطبراني، وهو حديث حسن، كما في صحيح الجامع الصغير (2818)]. بل الكافر الساكن في بلاد الكفار يجب عليه إذا أسلم أن يهاجر إلى بلاد المسلمين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه سلم:"لا يقبل اللهُ عزّ وجلّ من مشرك بعد ما أسلم عَمَلًا، حتى يفارق المشركين إلى المسلمين" [رواه النَّسَائي، وابن ماجة، وغيرهما، وهو حديث حسن كما في صحيح الجامع الصغير (7748)] فالهجرة للإقامة في بلاد الكفار لا تجوز، هذا إذا كانت بوسائل آمنة، فكيف إذا كانت بالتسلل وبركوب الأخطار!!

 

الثاني: لا يجوز للمسلم أن يعرِّض نفسه للهلاك ولو كانت الهجرة واجبة أو جائزة، كالسفر للحجّ والعمرة،، أو الهجرة إلى بلاد المسلمين من أجل المعيشة، أو طلب العلم ونحو ذلك، قال الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 29-30) وقال نبي الله صلى الله عليه سلم:" من بات فوق بيت ليس له إجَّار فوقع فمات، فبرئت منه الذّمة، ومن رَكِبَ البحر عند ارتجاجه فمات فقد برئت منه الذّمة» [رواه أحمد (20748)، وأبو داود (5041)، وغيرهما وهو حديث صحيح]. ومعنى إجّار: الجدار المحيط بالسطح، فمن مات في مثل هاتين الحالتين فليس بشهيد. وقال تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 197)، وجاء رَجُلٌ على ناقةٍ إلى المسجد ليصلي فقال: يا رسول الله أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وأَتَوَكَّلُ؟ فقال له رسول الله «اِعْقِلْها وتوكّل» [ورواه الترمذي (2517)، وهو حديث حسن] أي اتّخّذِ الأسباب وتوكّل على الله تعالى.

 

وقد عذر الله تعالى نَوْعًا من المسلمين في تَرك الهجرة من بلاد الكفار فقال سبحانه: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) (النساء:98-99)، فإذا كان الله تعالى سمح لهؤلاء المستضعفين بترك الهجرة الواجبة ولم يكلفهم ركوب المهالك من أجلها، فماذا يُقال فيمن يركب المخاطر في زماننا من أجل لقمة العيش وفي بلاد الكفار؟ (الهجرة السرية) إنَّ هذا لَعَجَبٌ عُجَاب!!.

 

الثالث: لا يجوز للمسلم أن يَعْمَلَ عند الكافر ولو في بلاد المسلمين إذا كان في ذلك العمل تعاون على الإثم والعدوان كقطف العنب الذي يعصر منه الخمر، وكبيع الخمر والخنزير ونحو ذلك، كما لا يجوز للمسلم أن يعمل لدى الكافر فيما فيه ذُلٌّ للمسلم وإهانة له كتنظيف المراحيض، وغسل ثياب الكفار، ومسح أحذيتهم ونحو ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه سلم:"الإسلام يعلو ولا يُعلى" [رواه الدارقطني، وغيره. وهو حديث حسن، كما في صحيح الجامع الصغير(2778)] وقال صلى الله عليه سلم:" لا ينبغي لمؤمن أن يُذِلَّ نفسه" [الحديث رواه أحمد وغيره، وهو حديث صحيح، كما في صحيح الجامع (7797)] هذا إذا كان العمل في بلاد المسلمين وعَمِلَ المسلم عند كافر مسموح له بالإقامةِ في بلادهم، فكيف لا يكون الذُلُّ كبيرا إذا كان العمل في بلاد الكفّار؟.

 

الرابع: ما سبق لا يجوز للذكور، وأما الإناث فلا يجوز من باب أولى، لأن الإسلام قد أعطى المرأة حقوقها وصانها وحفظها من كل ما يعرّضها للأخطار والفتنة بها ومنها، فمن ذلك أنه أوجب عليها الـمَحْرَم أو الزوج إذا أرادت السفر ولو إلى الحجّ أو العمرة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه سلم:"لا يحل لامرأة مسلمة أن تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رَجُلٌ ذو حرمة منها" [رواه البخاري (1088)، ومسلم (1339)] وقال صلى الله عليه سلم:" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدًا، إلا ومعها أبوها، أو ابنها، أو زوجها، أو أخوها، أو ذو محرم منها" [رواه مسلم (1340)].

 

الخامس: لا يجوز التعاون على تسهيل هجرة المسلم للإقامة في بلاد الكفار خاصّة مع الأخطار، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:3).

 

السادس: المال الذي يأخذه المهرّبون على الصفة السابقة هو من الحرام، فيجب عليهم أن يتوبوا إلى الله تعالى من هذه الأعمال السيّئة، قال تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (البقرة:188).

 

ما هو الحل إذن؟

 

   أنا أعلم الأوضاع غير الحسنة التي يعيشها اليومَ كثيرٌ من المسلمين في بلدانهم، لكن هذا لا يدفعنا لمعالجتها بما يخالف الشريعة الإسلامية، وبما يؤدي إلى الهلاك والضرر، وإنما تُعالجُ بأمور:

 

أوَّلا: القناعة بالحلال ولو كان قليلا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه سلم:" قد أفلح من أسلم، وكان رزقُه كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه" [رواه مسلم (1054)] ومعنى كفافا: الكفاية بلا زيادة ولا نقص. وقال  صلى الله عليه سلم:"ما قَلَّ وكفى، خيرٌ مما كثُر وألْهى" [رواه أبو يعلى وغيره. وهو حديث صحيح كما في صحيح الجامع الصغير (5653)].

 

ثانيا: ترك الانبهار والإعجاب بما عليه البلدان الكافرة من غِنًى وسهولة العيش ورغده، بل لابدّ من الاعتبار بأحوالهم السيئة حيث خسروا الدّين والأخلاق، وتفككتِ العائلة عندهم، وانتشرت الجرائم والانتحار، وغير ذلك من الآفات، وعلينا الاستفادة منهم ما ينفعنا في أمور الدنيا بما لا يتعارض مع ديننا، لأن الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذها!.

 

ثالثا: على المسلم القادر أن ينشط في كسب قوته في بلده بأيّ عمل مباح، ولا يتكبّر على ذلك، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)، وقال رسول الله صلى الله عليه سلم:"لَأَن يأخذ أحدُكم حَبْلَهُ ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمةٍ من حطب على ظهره فيبيعها، فيَكُفَّ اللهُ بها وجهَهُ، خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطوهُ أو منعوهُ" [رواه البخاري (1470)، ومسلم (1042)].

 

رابعا: إن ضاقت السبل بالمسلم في بلاده فلا مانع من أن ينتقل إلى مكان آخر في إقليمه يحصل فيه على عمل حلال مناسب.

 

خامسا: فإن لم يجد فلا مانع من أن ينتقل إلى بلد إسلامي لذلك، لكن بشرط الابتعاد عن مخالفة وُلاة الأمور كالتسلّل إلى هناك، والعيش بدون أوراق رسمية، حتى لا يعرّض المسلم نفسه للضرر.

 

سادسا: المحافظة على الصلاة، والإكثار من الدعاء، فإنهما مفتاح الخير والرزق والبركة في الدنيا والآخرة .

 

سابعا: على من ولاه الله أمور المسلمين العمل على تسهيل سبل العيش للرعية في بلادهم، وعلى تسهيل تنقل المسلمين في أرض الإسلام الواسعة، التي أودع الله فيها خيرات كثيرة، والتي لو اسْتُغِلَّتِ استغلالًا مناسبًا لعاش المسلمون في غِنًى عن غيرهم في أكثر المجالات. أسأل الله تعالى أن يغيِّر أحوالنا إلى أحسن حال إنه سميع مجيب.

منقول من الموقع الرسمي للشيخ أبي سعيد حفظه الله

 

 

تم قراءة المقال 4623 مرة