الأربعاء 27 ربيع الأول 1432

الثقافة اللغوية المتداولة بتلمسان تأليفا وتدريسا

كتبه 
قيم الموضوع
(3 أصوات)

الثقافة اللغوية المتداولة بتلمسان

تأليفا وتدريسا

من خلال كتاب البستان لابن مريم التلمساني (ت:1020)

 
 

   إن الغرض من هذا المقال هو الوقوف على المقومات النصية للثقافة اللسانية المتداولة في مراكز العلم بحاضرة مدينة تلمسان، من خلال ما صوره لنا أحد الآثار العلمية الفريدة في باب التأريخ العلمي، وهو كتاب البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان([1])، للمؤرخ ابن مريم التلمساني.

 

   ونقصد بالمقومات النصية الآثار والمؤلفات العلمية في علوم اللغة التي كان عليها الاعتماد في الدرس اللساني، ذلك أن الفكر اللغوي التعليمي لا يمكن رسم معالمه إلا بتتبع الآثار الموضوعة فيه ومناهجها وموضوعاتها ومحتوياتها العلمية. وكذلك كل النشاطات العلمية المندرجة في الإطار التعليمي، ونعني بالتعليمي هنا ما يقابل العلمي، وهو ما تدل عليه بجلاء ووضوح صفحات كتاب البستان من خلال حديث مؤلفها عن أنشطة التدريس الشرعي وما تفرع عنه من دراسات لغوية.

 

الثقافة اللغوية المتداولة بتلمسان تأليفا وتدريسا

 

 

   وقد اعتمدنا في تحليل الثقافة اللغوية المتداولة على فهرس الكتب المذكورة في البستان، الذي أعده الشيخ المحقق محمد بن أبي شنب، وانتهجنا في ذلك منهجا تحليليا من خلال محاولة التفسير الكمي لهذه المؤلفات، مع فحص السياقات التي وردت فيها من أجل فصل الكتب المؤلفة عن الكتب المدرسة. ويحسن بنا قبل الشروع في المقصود أن ننبه على ملاحظ منهجية مهمة تضبط العمل وتحرر المقصد:

 

1-إن الصورة التي يقدمها ابن مريم في كتابه عن النشاط اللغوي في تلمسان ليس من الضروري أن تكون مطابقة لواقعه مطابقة تامة، وإنما هي نظرة إلى الواقع التعليمي من وجهة معينة، وهي فن التراجم، وهو ما يعني أن الوصول إلى حقيقة ذلك الواقع البعيد عنا زمنيا يحتاج منا إلى دراسة متكاملة عن هذه المؤلفات: استقراء وتمحيصا. فما نطلبه بهذه الدراسة إنما هو جزء من الصورة العامة.

 

2-أن ما ذكره ابن مريم من مؤلفات لغوية إنما ذكره وفق مبدأ المناسبة، لأنه لم يكن من مقصوده حصر المؤلفات في فن من الفنون الشرعية وتوابعها من لغة ومنطق وحساب ومواقيت وغير ذلك، وعليه فإن النتائج التي يمكن أن يفرزها التحليل إنما تعني هذا المؤلف وحده، ولا يمكن علميا تعميمها على مؤلفات أخرى في التاريخ العلمي لمدينة تلمسان.

 

3-قمنا بتقسيم قائمة المؤلفات اللغوية المذكورة في البستان بحسب تخصصاتها في علوم اللغة، وأسفر التقسيم عن بيان الفروق بين بعض الفنون المتقاربة بعضها من بعض، مما لا يكاد يميز بينه في كثير من كتب موضوعات العلوم، والتقسيم المعتمد هو التالي: النحو-الصرف-البلاغة-العروض-الإعراب-شروح الشواهد.

 

4-كان لابد من مراجعة التراجم واحدة واحدة، إذ تبين أن ابن مريم قد أقحم جملة من التراجم مما لا علاقة له بتلمسان، وإنما لأغراض أخرى، كترجمة خليل بن إسحاق الجندي (ص96)، وترجمتي يوسف بن عمر الأنفاسي، ويوسف بن محمد ابن النحوي في آخر الكتاب (ص297)، فكان لابد من التأكد من الاعتماد على تراجم التلمسانيين فقط تفاديا لبناء البحث على واقع غير الواقع التلمساني.

 

الواقع العام لتدريس علوم اللغة بمدينة تلمسان:

 

   يظهر ابن مريم من خلال تراجم كتاب البستان نشاطا تعليميا كبيرا لعلوم اللغة العربية على غرار العلوم الشرعية الأخرى، فالتراجم المختلفة توضح بجلاء عدم انفصال التكوينين: اللغوي والشرعي بعضهما عن بعض.

 

   ويظهر أن التعليم كان ينقسم بحسب نظرية علوم المقاصد وعلوم الآلات، أو علوم المنقول وعلوم المعقول، يظهر ذلك من خلال الترتيب الزمني للعلوم المدرسة، فقد كان يعمد جملة من الشيوخ المترجمين إلى برمجة مجموعتين من الدروس بين الصيف والشتاء كما يتبين من ترجمة ابن زاغو:"ولازمته مع الجماعة في المدرسة اليعقوبية للتفسير والحديث والفقه والأصول شتاء، والعربية والبيان والحساب والفرائض والهندسة صيفا"(ص49). وقد تكرر هذا في أكثر من موضع من البستان، مثل ترجمته لعبد الله بن محمد الشريف الحسني(ص119)، مما يشعر أنه كان نظاما عاما للتدريس.

 

   ويظهر ابن مريم مسألة عامة أخرى، من خلال تحليته لمترجميه بأوصاف ونعوت، تشعر بأن القائمين على تدريس العلوم اللغوية لم يكونوا على مستوى واحد من الضبط، وإنما كانوا طبقات: فنراه يترجم لمحمد بن إبراهيم التازي بأنه كان:"إماما في علوم القرآن، مقدما في علم اللسان"(ص58)، ويصف شعيب بن أحمد بن جعفر أبا مدين بأنه كان:"علامة في الفقه والنحو واللغة والحساب"(ص115)، ويطري عبد الله بن محمد الشريف التلمساني بكونه:"نحويا جرى منه النحو مجرى الدم، حافظا للغة والغريب والشعر والأمثال"(ص120). ويأتي دون هؤلاء من اقتصر ابن مريم على وصفهم بالاشتغال الجاد بالنحو، مثل الشيخ ريان العطافي الذي نعته بال:"الفقيه الأستاذ النحوي"(ص101)، والشيخ سعيد بن أحمد المقري الذي يبدي ابن مريم موسوعيته في علوم الأدب إذ يقول إنه كان:"حافظا للغة العربية والشعر والأمثال وأخبار الناس ومذاهبهم وأيام العرب وسيرها وحروبها"(ص105). ويأتي دون هؤلاء طبقة كان لها اشتغال بالنحو على قدر الابتداء، وهو ما يعرف في فن التراجم العلمية العربية بالمشاركة والنظر، من أمثال الشيخ داود بن سليمان بن حسن الذي:"شارك في العربية وغيرها"، مع أنه كان حافظا لألفية ابن مالك (ص101). ولابد أنه كان لهذا التصنيف أثره في انصراف الطلبة بحسب ارتقائهم في الطلب إلى أفاضل الشيوخ وأعيانهم، وهو ما يشير إليه بوضوح نص ابن مريم في حديثه عن النحوي أبي عبد الله بن زيد المدرس بفاس (وما واقع التدريس بفاس ببعيد عنه في تلمسان)، بأنه كان:"يقرئ أولاد الشرفاء والعظماء لعلو قدره في النحو والقراءة"(ص117).

 

   ولم تكن الثقافة اللغوية المتداولة بتلمسان مغلقة على نفسها، بل تشير تراجم البستان إلى حركة مثاقفة بين المدن الإسلامية الكبرى إذاك، ولعل أهم الأقطار التي أشار ابن مريم إلى التواصل الثقافي اللغوي معها هي: فاس بالدرجة الأولى، ثم بجاية، ثم القطر الأندلسي. فقد أشار من خلال ترجمة الشريف عبد الله بن محمد التلمساني إلى أنه تخرج بنحويين كبيرين من فاس مدة إقامة والده الشريف بها، وهما أبو عبد الله بن زيد، وأبو عبد الله بن حياتي(ص117). ويأتي ذكر بجاية على أنها كانت قلعة من قلاع العربية بفضل مشايخها، وهو ما يشير إليه النص الذي ينقله ابن مريم عن الشيخ حسن أبركان متحدثا عن شيخه نصر الزواوي:"وكان شيخنا سيدي نصر لم يأت لتلمسان حتى أتقن علم العربية ببجاية على مشائخها"(ص82). وأما الأندلس، فيظهر أن التبادلات معها كانت إما عن طريق الرحلات كما هو الحال مع الإمام القلصادي الرحالة المشهور([2])، وإما عن طريق المباحثات والمطارحات بطريق الترسل، فهذا ابن مرزوق الحفيد يؤلف مؤلفا عنوانه:"المعراج في استمطار فوائد الأستاذ ابن السراج في كراس ونصف، أجاب فيه الإمام ابن السراج الغرناطي عن مسائل نحوية ومنطقية"(210). ولا يمنع هذا من وجود أثر مشرقي في هذه الثقافة، وإن كانت مخايله ضعيفة في كتاب البستان، إلا أن آثارا تدل عليه، منها ما ذكره ابن مريم في ترجمة ابن مرزوق الحفيد من أنه لقي:"المجد الفيروزآبادي صاحب القاموس والإمام محب الدين ابن هشام ولد صاحب المغني"(ص209)، وركز على علاقته بالمحب ابن هشام بذكر ملازمته إياه في العربية(ص210).

 

   وعلى كل فإن حركات المثاقفة هذه كانت تسمح بضخ دم جديد للحركة العلمية في مدينة تلمسان، على أن ذلك لم يف بالغرض لإحداث نهضة جذرية في العلوم ومناهج التدريس، لتجذر المنهج المدرسي التعليمي فيها، كما سيأتي بيانه في العنصر التالي.

 

علوم اللغة في حاضرة تلمسان:

 

   يشير ابن مريم من خلال تراجمه إلى أن الأوساط العلمية بتلمسان كانت تتعاطى تقريبا كل العلوم اللغوية المتداولة في الثقافة العربية الإسلامية، وإن كان تعاطيها بنسب متفاوتة، ويظهر من خلال النظر في التناسب الكمي بين هذه الفنون أنها تتراتب تصاعديا بحسب الحاجة إليها في العلوم الشرعية فهما وتأليفا، فليس غريبا والحال هذه أن نجد علم النحو على رأس العلوم المتداولة، يليه علم البلاغة، وهما أقرب العلوم اللغوية إلى الحاجة الشرعية من جهة فهم النصوص الشرعية، فالأول يوقف الطالب على معاني الكلام العربي من جهة الوضع، والثاني من جهة الاستعمال والتنكيت، فالأول يصحح الكلام، والثاني ويوجهه ويحرر مقاصده. ثم تتابع العلوم من هذه الحيثية على ما نذكره تفصيلا فيما يأتي:

 

1-علم النحو: أهم العلوم اللغوية التي وقع بها الاشتغال بتلمسان وكل العالم الإسلامي، وعلة هذا الأمر أن مصطلح علم النحو كان في أول وضعه مواطئا لما نسميه اليوم علم اللسان، بمعنى أنه كان يعالج اللسان العربي باعتباره منظومة دلالية على كل المستويات: صوتها وصرفها وتركيبها ودلالتها، وهذا ما يوضحه المخطط العام لكتاب سيبويه، وهو عمدة الدرس النحوي العربي حيث ضم كل هذه التخصصات، وقد جعلت هذه التخصصات تتحرر وتستقل عن العلم الأم بفعل النضج والاكتمال، لينفرد علم النحو بعد ذلك بدراسة المستوى التركيبي من اللسان.

 

   ويعتبر جمال الدين ابن مالك الطائي صاحب الألفية في النحو مفصلا في تاريخ الدرس النحوي من ناحيتين: الأولى استقرار الدرس النحوي في دراسة التراكيب دون ما سواها، والثانية: انحصار البحث النحوي في الناحية التعليمية دون الناحية العلمية شكلا ومضمونا، أما من حيث الشكل فإن الهيئات التي وضع عليها ابن مالك مؤلفاته (النظم، وترتيب الأبواب) جمدت التأليف النحوي حتى لم يكد أحد من المؤلفين من بعده يخرج عنها، وأما من حيث المضمون فقد أسس ابن مالك نحوا جديد يمكن أن يقال عنه إنه نحو ممنطق من جهة، ومبسط من جهة أخرى، وهما العيبان اللذان قضيا على أصالة البحث اللغوي العربي، فالمنطق أخرج النظر إلى الحقائق اللغوية عن منطقها الأصلي وهو منطق التبليغ، وأما تبسيط الحقائق فأدى إلى تحريف مفاهيمها، فالحقيقة لا تبسط والجواهر لا تغير.

 

   لم يخرج التداول العلمي التلمساني في علم النحو تقريبا عن نحو ابن مالك، وإنما كان استمرارا له وتكريسا لمفاهيمه على وجه جعل منه مذهبا لأهل المغرب كما أن فقه مالك مذهب لهم في الشرع. وتجسد ذلك في تواتر شديد لمؤلفات ابن مالك المنثورة والمنظومة، وما وضع عليها من شروح، وقد ذكر منها ثلاثة كتب مشهورة وهي:

 

أ-الألفية: التي سماها ابن مالك(ت:672) الخلاصة، وهي أشهر الكتب النحوية المتداولة كما يظهره البستان، وتسيطر على التداول العلمي، حفظا ودراسة وشرحا، فأما الحفظ فلا يكاد ابن مريم يغفل التنبيه عليه في ترجمة من التراجم، كترجمة الحسن بن مخلوف أبركان الذي كان:"يقرأ ألفية ابن مالك قراءة حسنة"(ص87)، وحدو بن الحاج سعيد المناوي الذي كان:"عارفا بألفية ابن مالك"(ص95)، وداود بن سليمان بن حسن (ص105)، وغيرهم. كما تعد الألفية حلقة ضرورية في الدراسة النحوية، يقرؤها الطلبة على الشيوخ بصفة منتظمة باستعمال نظام الدولة، أي النصيب من الأبيات الذي يدرس كل يوم، كما يبينه النص التالي في ترجمة أحمد بن عيسى أبركان:"ودخل عليه مرة أخرى فاستفتح دولته في ألفية ابن مالك"(ص24). ويذكر ابن مريم جملة من الشيوخ المتخصصين في تدريس الألفية، من أمثال أحمد بن عيسى أبركان(ص24)، حدو بن الحاج سعيد المناوي (ص95)، وابن مرزوق الحفيد (ص208).

 

   وتتوفر مجموعة من الشروح على الألفية، عليها الاعتماد في التدريس، بل ربما اقتصر على بعضها في حل ألفاظ الألفية، كما هو الحال عند الحسن بن مخلوف أبركان الذي كان:"يقرأ ألفية ابن مالك قراءة حسنة، يقتصر في النظر على شرحها للمكودي"(ص87). ومن الشروح المعروفة المتداولة: شرح المرادي المعروف بتوضيح المقاصد والمسالك، يقول القلصادي في معرض حديثه عن شيخه ابن مرزوق الحفيد:"وحضرت عليه بعض الألفية وبعض المرادي عليها"(ص222)، وفي ترجمة ابن النجار التلمساني:"وحضرت عليه... بعض الألفية والمرادي"(ص221). ويأتي ذكر الشرح المشهور: أوضح المسالك لابن هشام في سياق ترجمة زيان بن أحمد بن يونس الجيزي في سياق الحديث عن صحبته للّقاني:"أخذ عنه هذه المرة المغني لابن هشام وتوضيح ألفية ابن مالك"(ص102)، إلا أن ترجمة الجيزي لا تظهر بوضوح اشتغاله بتلمسان دراسة أو تدريسا مما يجعلنا نتحفظ في إضافته إلى الموضوع.

 

  وبالمقابل فقد أوضح صاحب البستان بعض جهود التلمسانيين في خدمة الألفية تأليفا، وقد وقفنا على جملة من الأعمال وهي: "شرح ألفية ابن مالك" للقلصادي(ص143)، و"إيضاح المسالك على ألفية ابن مالك" لابن مرزوق الحفيد(ص211) الذي يقول عنه ابن مريم إنه انتهى إلى اسم الإشارة أو الموصول في مجلد، إضافة إلى أرجوزة لابن مرزوق أيضا في اختصار الألفية(ص211).

 

وعلى كل، فإنه يمكن أن نقول إن ألفية ابن مالك هي أهم نص نحوي وقع عليه الاشتغال بتلمسان كما توضحه معطيات البستان، ويكفينا من ذلك عبارة قوية الإيحاء ينقلها ابن مريم في ترجمة محمد بن سعيد الورنيدي:"وكان رضي الله عنه يقول: ألفية ابن مالك عندنا كخبز الجلوس"(ص266).

 

ب-التسهيل: يعد كتاب تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك(ت:672) من كتب المتأخرين الكبيرة نسبيا، ويحتوي على اختيارات مؤلفه النحوية، ولعل هذا ما جعل مؤلفه نفسه يبادر إلى شرحه وإيضاح مسائله، إلا أن المنية وافته قبل أن يتمه، فتداول على إتمامه كل من ولده بدر الدين ابن الناظم، وبهاء الدين ابن عقيل، وأثير الدين أبي حيان، إلى جانب من تصدى لشرحه كاملا، كأبي حيان وناظر الجيش والأزهري وغيرهم.

 

   ويظهر كتاب التسهيل بصفة معتبرة على صفحات البستان دراسة وتدريسا وشرحا. ولم يكن كبر حجمه ونثر مسائله ليحول بين التلمسانيين وحفظه، فهذا علي بن محمد الأنصاري يتعاهد محفوظاته، ومنها التسهيل (ص139). ويأخذ الشيوخ الكتاب على مشايخهم بحثا وتحقيقا ونظرا كما أخذه ابن عرفة على بعض الشيوخ (ص191)، والقلصادي على ابن مرزوق (ص208)، وعن شيخه الآخر محمد الشريف التلمساني-وهو غير صاحب المفتاح-(ص222).

 

   كما يدرس الكتاب مصحوبا بأحد شروحه، ومنها شرح المؤلف ابن مالك، كما في ترجمة محمد بن العباس التلمساني نقلا عن ابن غازي:"قرأت عليه جملة صالحة من شرح التسهيل لمؤلفه"(ص223). وكذلك القلصادي الذي أخذه عن ابن مرزوق(ص208)، إلا أن نقل ابن مريم عن القلصادي مبهم العبارة، فهو يسمي الكتاب شرح التسهيل غير منسوب لابن مالك أو لابن مرزوق نفسه الذي ألف شرحا على التسهيل، وبالعودة إلى رحلة القلصادي تترجح عندنا الفرضية الأولى، فالنص عنده أوضح وهو يقول:".. وشيئا من شرح التسهيل لابن مالك.. وأكثر التسهيل لابن مالك"[3].

 

   وأما عن التآليف على التسهيل، فقد ذكر ابن مريم منها اثنين: شرح التسهيل لابن مرزوق، ناقلا ذلك عن السخاوي[4]، واختصار شرح أبي حيان على التسهيل لمحمد الشريف التلمساني-غير الأصولي- والظاهر أنه يقصد كتاب التذييل والتكميل.

 

ج-الكافية: يشتهر بهذا الاسم في ميدان النحو متنان: الكافية في النحو لابن الحاجب (ت:646) التي شرحها الرضي الاستراباذي، والكافية الشافية في النحو والصرف لابن مالك، وهو نظم في أكثر من ألفين وسبعمائة بيت اختصر منها صاحبها خلاصته الألفية. ونحن نرجح أن يكون المقصود بالذكر عند ابن مريم الثانية في نقله عن القلصادي في ما أخذ عن ابن مرزوق:"وتسهيل ابن مالك والألفية والكافية"(ص208)، بحكم عطفها في نصي القلصادي[5] وابن مريم على الألفية من غير بيان ولا تخصيص، مما يرجح أن تكون هي المقصودة.

 

د-الجمل في النحو: لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي(ت:339)، من الكتب الأصول المعتمد عليها بأرض المغرب، ولعل الذي جعل المغاربة يكثرون من الاعتماد عليه أنه كتاب تعليمي، وقد اشتهر هذا الكتاب في الأوساط التدريسية بشكل كبير، ووضعت عليه شروح وتقييدات كثيرة جدا، فهو كما يقول القفطي:"كتاب المصريين وأهل المغرب وأهل الحجاز واليمن والشام"[6]، وله عند المغاربة عناية خاصة، إذ يذكر اليافعي أنه وضع له عند المغاربة وحدهم مائة وعشرون شرحا[7].

 

   ويظهر من كتاب البستان أن هذه العناية لم تزل مستمرة: دراسة وتصنيفا، فأخذ الكتاب أبو يحيى ابن الشريف التلمساني عن شيخه ابن حياتي(ص128)، وأخذه القلصادي عن شيخه ابن النجار التلمساني(ص221)، وعن شيخه الآخر محمد الشريف التلمساني(ص222)، وأما الشروح فقد نقل ابن مريم شرحا واحدا للقلصادي (ص143).

 

د-الإيضاح: لأبي علي الفارسي (ت:377)، وهو المعروف بالإيضاح العضدي، لأن مؤلفه أهداه لعضد الدولة البويهي، وهو من كتب النحو المهمة لما لمؤلفه من مكانة في الدراسات النحوية، وقد نص القفطي على أنه غطى على شهرة الجمل نفسه[8]. وكان للمغاربة عناية واضحة بالإيضاح، وإن لم تدان عنايتهم بالجمل للعلة التي ذكرناها، وهي غلبة المنهج التعليمي على الجمل، ولم يمنع ذلك من أن تتوافر هممهم على دراسة الإيضاح كما هو واضح من عبارات البستان، فقد نقل عن أبي يحيى ابن الشريف أنه أخذ الإيضاح عن أبي عثمان سعيد العقباني(ص128)، وعن أبي الفرج ابن أبي يحيى بن الشريف أنه أخذ أوائل شرحه لابن أبي الربيع عن شيخه ابن مرزوق الحفيد(ص205)، وأخذ أواخر الإيضاح عن ابن مرزوق أيضا: القلصادي(ص208).

 

ھ-الكتاب: يعد كتاب سيبويه(ت:180) أهم عمل نحوي عربي على الإطلاق، وهو عمدة كل من جاء من بعده من المؤلفين: مادة ومنهجا، إلا أن أثره ضعف مع امتداد الزمان، بسبب انغلاق مباحثه على الناظرين فيه، ودخول عناصر معرفية ومنهجية أخرى بفعل الاحتكاك بالمنطق اليوناني من قبل النحاة المتأخرين. ولا ينكر أحد أنه كان للمغاربة اهتمام بالغ بالكتاب من خلال الشروح التي وضعوها عليه، بل لقد تأخر الاشتغال بالكتاب نسبيا في المغرب مقارنة بالمشرق، إذ يذكر لنا صاحب سلوة الأنفاس أن أبا زيد المكودي المتوفى سنة(807ھ) هو آخر من أقرأ كتاب سيبويه بفاس([9])، وهذا تاريخ متأخر نسبيا. وليست معطيات البستان ببعيدة عن هذا التاريخ، فقد ذكر ابن مريم كتاب سيبويه في سياق التدريس في ثلاث مناسبات، واحدة منها بتلمسان في سياق ما درسه أبو الفرج ابن أبي يحيى ابن الشريف عن شيخه ابن مرزوق، ومنه:"جميع كتاب سيبويه"(ص205). فإذا أخذنا في الحسبان أن ابن مرزوق الحفيد توفي سنة (842ھ)، فإن هذا قد يشير إلى أن تلمسان كانت من آخر حواضر العلم المغربية التي درس فيها هذا الكتاب العظيم إن لم تكن آخرها على الإطلاق.

 

و-المتون النحوية: من أهم ما يميز الاتجاه المدرسي في فنون التعليم، حصر مباحث العلوم في المتون الصغيرة التي تقتصر على رؤوس المسائل وتجانب الشواهد والاستدلالات، ولئن كانت هذه الصورة مرحلة من مراحل التعليم-لا ريب-، فإن الخطأ كامن في الوقوف عليها، وحصر البحث العلمي فيها. وهذا فعلا ما نلمسه من الثقافة النحوية العامة في كتاب البستان، إذ يشير ابن مريم إلى جملة من المتون التي كان يشغل بها الطلبة حفظا وتدريسا وشرحا.

 

   وأهم هذه المتون على الإطلاق: المقدمة الآجرومية لمحمد بن آجروم الصنهاجي(ت:723)، ولا شك أن هذا المتن كان يدرس بشكل شائع حتى إن عدد مرات ذكره في البستان لا دلالة له، إلا أنه يهمنا أن نشير إلى أن ابن مريم يبين أن من الشيوخ من يعرف بتدريسه من أمثال حدو بن الحاج سعيد المناوي (ص95). وذكر ابن مريم إضافة إلى ذلك شرحين من شروحه أولهما للقلصادي (ص143)، والثاني لمحمد بن يوسف السنوسي سماه الدر المنظوم (ص247).

 

   كما ورد ذكر متن آخر وهو ملحة الإعراب لأبي محمد الحريري(ت:516) شرحه القلصادي (ص143). هذا ولم يخل الكتاب من ذكر بعض المتون التي وضعها علماء تلمسان أو النازلون بها، فقد جاء في ترجمة القلصادي (891) أن له مختصرا مفيدا في النحو (ص143)، وهو التأليف الذي قرأه عليه تلميذه ابن الأزرق(ص141). كما ورد في ترجمة محمد بن عبد الكريم المغيلي (ت:909) أن له كذلك مقدمة في العربية (ص256).

 

ي-كتب أخرى: وقد ذكر ابن مريم في سياق التراجم كتبا أخرى اعتنى بها بعض الشيوخ، أو تفردوا بمعرفتها ككتاب شرح الكافية للرضي، الذي تفرد بمعرفته زيان بن أحمد بن يونس الجيزي (ص102)، وكتاب المقرب لابن عصفور(ت:669) الذي درسه أبو يحيى ابن الشريف عن شيخه ابن حياتي (ص128).

 

2-علم الإعراب: ينفصل علم الإعراب عن علم النحو من حيث الغاية والمقصد، فهو ينتمي إلى العلوم التفسيرية التطبيقية، ويمكن تعريفه بأنه:"علم بيان تفسير الكلام"([10]). ومن أهم الكتب النظرية الموضوعة في هذا العلم كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لجمال الدين ابن هشام الأنصاري(ت:761)، الذي كان للمغاربة به عناية واهتمام، حيث نال هذا الكتاب حظه من الدراسة والشرح، ويأتي ذكره في البستان في مواضع متعددة، ويعرف بالنسبة إليه علماء، فمحب الدين ابن هشام ليس إلا "ولد صاحب المغني"(ص209)، وتقي الدين الشمني إنما هو "شارح المغني" (ص221)، كما نال المغني حظه من الدراسة، إذ أخذه زيان بن أحمد بن يونس عن شيخه اللقاني(ص102)، وكذلك أخذ بعضه أبو الفرج ابن الشريف عن شيخه ابن مرزوق الحفيد.

 

   وقد وضع أبو عبد الله الرصاع على المغني تأليفا بارعا، بأن استخرج منه إعرابا للقرآن الكريم عن طريق تجريد إعراب ابن هشام للمواضع التي أعربها من القرآن، يقول ابن مريم:"وأفرد الشواهد القرآنية من مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري، ورتبها على السور وتكلم عليها" (ص283)، والمقصود بالذكر ههنا كتاب: الجمع الغريب في ترتيب آي مغني اللبيب([11]).

 

  وأما فيما يخص الإعراب التطبيقي فيشير البستان إشارة لطيفة ومفيدة إلى أنه كانت تعقد مجالس خاصة لإعراب القرآن، إذ ينقل ابن مريم عن القلصادي أنه حضر على شيخه ابن مرزوق: إعراب القرآن (ص208)([12]).

 

3- علم الصرف: يعتبر علم الصرف قسيم علم النحو بالمعنى الدقيق، وإلا فإنه كان موضوعا من موضوعات علم العربية (علم النحو بمعناه القديم)، ولذلك نجد أن المؤلفات النحوية القديمة ككتاب سيبويه ومقتضب المبرد وأصول ابن السراج لا تخلو من مباحث صرفية تكاد تأتي على جملة موضوعات هذا العلم. وقد بدأ استقلال هذا العلم عن العلم الأم في التأليف ابتداء من "كتاب التصريف" لأبي عثمان المازني، وهو الكتاب الذي شرحه ابن جني في "المنصف"، لتتوالى بعد ذلك التآليف الصرفية متونا وشروحا، مختصرات ومبسوطات.

 

   ومن المستغرب-والحال هذه-أن كتاب البستان لم يأت تقريبا على ذكر أي مؤلف من المؤلفات في علم الصرف على كثرتها، واهتمام علماء المغرب بها وضعا وشرحا، اللهم إلا متنا واحدا، وهو لامية الأفعال لابن مالك الطائي، حيث ذكر ابن مريم أن محمد بن العباس التلمساني قد وضع عليها شرحا(ص223).

 

  ولا نجد لهذا الأمر تفسيرا إلا أن نقول إن التلمسانيين كانوا يكتفون بما يرد من المباحث الصرفية في كتبهم النحوية المعتمدة كالألفية والتسهيل والكافية والجمل والإيضاح وغيرها مما ذكرناه، كمباحث الصيغ والجموع والإعلال والإبدال والإدغام والإمالة والوقف وإسناد الأفعال إلى الضمائر وغير ذلك من المباحث، وإن كنا لا نجزم يقينا بغياب هذا اللون من المؤلفات عن الواقع العلمي بتلمسان جملة، فقد أسلفنا القول في الملاحظ المنهجية، بأن ابن مريم إنما يذكر المؤلفات مناسبة لا استقراء، إلا أن العجيب ألا يذكر المؤلفات المستقلة.

 

4-علم البلاغة: من العلوم التي كانت محل تطورات ظاهرة في الدراسات اللغوية العربية: علم البلاغة الذي يقصد منه الوقوف على قوانين التبليغ الفعال، فقد كان هذا العلم بالغ الأهمية في القرون الإسلامية الأولى بفعل ارتباطه بنصين مهمين:

 

أ-النص القرآني: وكان محور النظر البلاغي فيه هو مسألة إعجاز القرآن التي تعد من المسلمات المعرفية عند العلماء المسلمين، وقد كان الغرض هو كشف أوجه هذا الإعجاز من جهة اللسان والخطاب.

 

ب-النص الأدبي: أي الشعر والنثر، وذلك في نطاق الحركة النقدية التي عرفتها الآداب العربية، إذ استعانت هذه الحركة بالمعارف اللغوية المختلفة، ومن ضمنها بل من أهمها البلاغة.

 

    وكانت البلاغة العربية في عصورها الزاهية تنطلق-مثل سائر العلوم الإسلامية-من منطق البيان، الذي يقتضي أن للمتكلمين قوانين يرجعون إليها تخص الخطاب باعتباره منطقا مفردا للتواصل. ولكن غزو المنطق الأرسطي للعالم الإسلامي بفعل ترجمات مؤلفات أرسطو، أصاب هذا المنطق العربي الأصيل في صميمه، ليحوله إلى منطق عقلي محدود، ضيق معطيات البلاغة في حدود منطق القضايا (موضوع/محمول). وأخذت المؤلفات البلاغية تنحو هذا المنحى ابتداء من كتاب مفتاح العلوم للإمام السكاكي، وهو الكتاب الذي تحول إلى بؤرة للنشاط البلاغي، مخلفا وراءه تحفا أسدل عليها الزمان ستاره إلى عهد غير بعيد، كدلائل الإعجاز وأسرار البلاغة للجرجاني.

 

  وكما أن المدرسة التلمسانية التفت حول نحو ابن مالك في علوم اللغة الوضعية، فكذلك كان حالها في البلاغة، إذ إنها تحومت حول المفتاح للسكاكي(ت:626)، ولم تستطع بحال الخروج من فلكه، ولا جرم؛ فقد وجدت فيه ما يوافق تمام الموافقة ما تجده في كتب المنطق التي كانت تعمر مجالس الدرس: جمل الخونجي، وإيساغوجي، وتلخيص كتاب أرسطو لابن رشد، والسلم المرونق، وغير ذلك، كما غاب ما يشجع على مدارسة المنطق البياني، إذ لا نكاد نجد في الكتاب أثرا للمؤلفات الأدبية، سواء مدارسة أو تأليفا.

 

   وأهم كتاب دار عليه الاشتغال هو تلخيص المفتاح للجلال القزويني(ت:739): إقراء وشرحا واختصارا ونظما، فشرحه عبد الرحمن بن زاغو المغراوي التلمساني(ص42)، وقد قرأ هذا الشرح أبو الحسن القلصادي على أحمد بن عبد الرحمن ولد المؤلف. ونظمه ابن مرزوق الحفيد(ص211). واختصره محمد بن عبد الكريم المغيلي(ص255) مضيفا على ذلك شرحا على اختصاره. وأما قراءته فقد نقلها ابن مريم عن جماعة منهم أبو الفرج الشريف الذي قرأه قراءة "تفقه" على ابن مرزوق الحفيد (ص206)، والقلصادي على محمد الشريف التلمساني(ص222). وتتوطد علاقة التلمسانيين بالتلخيص وصاحبه إذا علم أن ابني الإمام التلمسانيين قد لقيا في رحلتهما إلى المشرق الجلال القزويني نفسه صاحب تلخيص المفتاح.

 

   كما أتى النص على بعض الكتب الأخرى المنتمية إلى الاتجاه البلاغي نفسه، وهي الإيضاح لجلال الدين القزويني (ص118، 206)، والمصباح لبدر الدين ابن مالك المشهور بابن الناظم (ص206) كلاهما في سياق الإقراء والمدارسة.

 

5-علم العروض: يعد علم العروض من العلوم الآلية في اللغة العربية، إذ ليس يدرس ظاهرة لغوية، وإنما موضوعه هو شكل من الأشكال الأدبية الاستعمالية وهو النظم. ويأخذ النظم مكانته الوظيفية في الاتجاه المدرسي لحركة العلوم، من جهة سهولة ضبطه بالحفظ، ولذلك تكثر في هذا الاتجاه المنظومات المختلفة في العلوم والفنون والضوابط. ولعل هذا ما يفسر لنا سر اهتمام الوسط التلمساني بالعروض تأليفا وممارسة، من جهة استعماله في نظم العلوم ونظم المسائل والمراسلات، فينقل لنا ابن مريم في ترجمة ابن الحاج أنه:"كان شاعرا ماهرا في عروض الشعر، وكان معاصرا للإمام محمد بن غازي وكان يلغز كل واحد لصاحبه بالمسائل نظما، ويجيبه صاحبه بالنظم"(ص08)، ثم ذكر نماذج على ذلك. وكذلك جاء في ترجمة عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن موسى أنه:"كان علامة في الفقه... وعروض الشعر ماهرا فيه"(ص129). وعليه؛ فقد كان الاهتمام بعلم العروض وليد الحاجة المدرسية التربوية التي فرضها تنميط العلوم وحصرها في مباحث معينة لا تقبل الزيادة إلى أن تكون شرحا أو اعتراضا أو كشف اعتراض، وهو سبيل التقليد في كل زمان ومكان.

 

   ولم يكن الحال مع العروض على الاهتمام به بأحسن منه في غيره من العلوم، فقد دار الاشتغال كله تقريبا على القصيدة الخزرجية لعبد الله بن محمد الخزرجي الأندلسي(ت:626). وذكر ابن مريم من شروحها شرحين: أولهما للقلصادي(ص134)، والثاني لابن مرزوق الحفيد (ص210)، وعنوانه: المفاتيح المرزوقية في استخراج رموز الخزرجية. كما تفرد القلصادي بوضع مختصر مستقل في العروض(ص143). وتفسر قلة هذا النتاج بانغلاق المباحث العروضية من جهة ضبط الدوائر، وهو ما يجعل التجديد في هذا العلم مستبعدا في ذلك الزمان.

 

6-شرح الشواهد: يعتبر التأليف في شرح الشواهد من الأعمال العلمية المكملة للأنشطة التدريسية، إذ يعمد العلماء إلى وضع كتب يشرحون فيها الشواهد(الشعرية في الأغلب) التي تضمنها كتاب معين، ببيان قائلها ونصها، وما فيها من اللغة والغريب والإعراب والبيان واللطائف، وبيان وجه دلالتها على محل البحث. وقد اشتهرت من هذه الكتب مجموعة مؤلفات تحولت إلى شبه دوائر معارف لغوية، وأهمها: "خزانة الأدب" للبغدادي في الشواهد النحوية، و"معاهد التنصيص" لعبد الرحيم العباسي في الشواهد البلاغية، وغيرها.

 

   وقد ذكر ابن مريم أن ابن مرزوق الحفيد ابتدأ وضع تأليف يشرح فيه الشواهد التي اعتمدها شراح الألفية، أنجز منه مجلدا وصل فيه إلى باب كان وأخواتها(ص211). ويكتسي هذا العمل أهميته من جهة أن ابن مرزوق أراد منه أن يكون مرجعا موسوعيا لدارسي الألفية مهما كان الشرح الذي يعتمدون عليه، إذ إن المؤلفات في هذا الموضوع من قبله كانت تقتصر على شرح شواهد شرح واحد فحسب، كما صنع ابن هشام في "تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد"، الذي اقتصر فيه على شواهد "شرح ابن الناظم"، والفاسي في "تكميل المرام شرح شواهد ابن هشام"[13]، في اقتصاره على شواهد "أوضح المسالك". إلا أن فكرة كتاب ابن مرزوق قد عنت لإمام مشرقي هو بدر الدين العيني، فوضع كتابه "المقاصد النحوية بشرح شواهد شراح الألفية"، ولا يمكن معرفة إمكان اطلاع أحد الإمامين على عمل الآخر، خاصة وهما متقاربا الوفاة (توفي ابن مرزوق سنة842، والعيني سنة855).

 

خاتمة:

 

   أتينا في هذا المقال على شبه حصر لما أورده ابن مريم التلمساني في كتابه البستان من معلومات عن النشاط اللغوي تعليما وتدريسا بالحاضرة التلمسانية، مع محاولة تعليل ما أمكننا النظر فيه من هذه المعطيات، من جهة واقع تدريس علوم اللغة، ومن جهة المقومات النصية التي وقع عليها الاشتغال تأليفا وتدريسا، ونخلص مما تقدم إلى نتيجة مفادها أن الدرس اللغوي في تلمسان على ما كان يصطبغ به من حيوية وتنوع نسبي، لم يخرج عن تقاليد المنهج المدرسي الذي ميز بدايات عصور الانحطاط من جهة انغلاق البحث وانعدام التجديد فيه إلا في القليل النادر، ومن جهة انحصار النظر في مدونات معينة يغلب عليها الأسلوب التعليمي شكلا ومضمونا، وهو ما أضعف الملكات العلمية عند المسلمين بشكل كبير ومثير للاستياء. وكان من الآثار الوبيلة لهذا الجمود أن المعرفة الإسلامية بشكل عام، واللغوية على الخصوص تحولت إلى معرفة تاريخية تكاد تنعدم في واقع الناس ومعاشهم، بذهاب الملكات اللغوية، وفشو اللحن بين خاصتهم بله عامتهم، وضعف الاستعمال اللغوي وجنوحه نحو التعقيد والإغراب والإلغاز كما هو الحال في لغة الفقهاء والأصوليين والمناطقة وغيرهم من متعاطي الفنون المتداولة في المجال الإسلامي. وهي نتيجة توافق وتواطئ إلى حد كبير نتائج الدراسات التاريخية عن النشاط العلمي في القرنين الثامن والتاسع الهجريين.

 

مراجع الدراسة:

 

-إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط01، 1986.

 

-البستان بذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، ابن مريم التلمساني، اعتنى به محمد بن أبي شنب، المطبعة الثعالبية، الجزائر، دط، 1908.

 

-رحلة القلصادي، أبو الحسن علي القلصادي الأندلسي، تحقيق محمد أبو الأجفان، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، دط، 1978.

 

-سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، محمد بن جعفر الكتاني، تحقيق محمد حمزة بن علي الكتاني، دط، دتا.

 

-الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، شمس الدين السخاوي، دار الجيل، بيروت، ط01، 1992.

 

-علم الإعراب في التراث اللغوي عند العرب من القرن الثاني إلى القرن السابع الهجري: دراسة لسانية تاريخية، أحمد بلحوت، أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر، 2004.

 

-مرآة الجنان، اليافعي، حيدر آباد الدكن، الهند، 1337.

 

 

 

 


[1]-أثبتنا كل الإحالات على كتاب البستان في متن البحث لئلا نثقل حواشيه بالإحالات.

 

[2]-انظر ترجمة القلصادي في البستان ص141. وقد طبعت رحلته بتونس بتحقيق الأستاذ محمد أبو الأجفان.

 

[3]-رحلة القلصادي، ص97.

 

[4]-انظر الضوء اللامع للسخاوي(7/51).

 

[5]-انظر رحلة القلصادي، ص97.

 

[6]-إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين القفطي، (2/161).

 

[7]-مرآة الجنان، اليافعي، (2/332).

 

[8]-إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين القفطي، (2/161).

 

[9]-سلوة الأنفاس، الكتاني، (1/201).

 

[10]-علم الإعراب في التراث اللغوي عند العرب، أحمد بلحوت، أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر، ص517.

 

[11]-منه نسخة خطية بالمكتبة الوطنية بتونس، وأخرى بالزاوية الحمزاوية بالمغرب، وحققت منه أجزاء بجامعة أم القرى وكلية الشريعة بالمملكة العربية السعودية.

 

[12]-نص القلصادي في رحلته ص97:"وحضرت عليه نحو الربع من إعراب القرآن".

 

[13]-منه نسخة خطية بمكتبة قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر، ويعمل حاليا على تحقيقه الباحث عز الدين إسماعيل في رسالة دكتوراه بالجامعة نفسها.

تم قراءة المقال 4745 مرة