الاثنين 5 رجب 1432

حكم المظاهرات وحكم من مات فيها

كتبه 
قيم الموضوع
(3 أصوات)

(نسخة مزيدة ومنقحة مؤرخة في 24 ربيع الآخر 1432 الموافق لـ29 مارس 2011))

   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد فهذه أمور كثر السؤال عنها هذه الأيام لها صلة بما يجري في بلدان المسلمين من الفتن جمعتها وأجبت عنها على وجه الاختصار، ومن غير ذكر للأدلة لكونها معروفة عند عامة المسلمين فضلا عن أهل العلم وطلابه:

 

حكم المظاهرات وحكم من مات فيها

 

السؤال الأول: هل هذه المظاهرات الجارية في بعض دول المسلمين مشروعة أو لا؟

 

   المظاهرات في هذا الزمان مما اعتبر من حقوق الناس، يعبرون بها عن آرائهم، ويحتجون على ما يرونه منافيا لمصالحهم، وقد جرى عليها الكفار في بلدانهم، وهم يمارسونها غالبا بصفة سلمية، وقد ترافقها الاشتباكات التي تخلف جرحى، ونادرا ما تخلف قتلى، ثم إن المسلمين قلدوهم في هذه الوسيلة، واقتدوا بهم فيها ككثير مما قلدوهم فيه لانبهارهم بحضارتهم، وشعورهم بالضعف والهزيمة النفسية أمام ما حسبوه تقدما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وسبب ذلك جهلهم بما في دينهم، وتفريطهم في أحكامه، وتركهم الوسائل التي شرعها الله ورسوله للإصلاح، فإنها وافية بالغرض، كافية في تحقيقه، وعدم معرفتهم لها واستعمالهم إياها لا يدل على عدم وجودها، فمثلهم في هذا كقول القائل:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما  ***  والماء على ظهورها محمول

   وعليه فهذه المظاهرات ولو زعم زاعم أنه مفضية إلى خير، أو شهد الواقع لبعضها بأنها قد أفضت إلى شيء من الإصلاح، فإنها غير مشروعة في الإسلام، إذ من المعلوم أنه كما ينبغي أن تكون المقاصد مشروعة فكذلك الوسائل إليها يتعين أن تكون مشروعة، والغاية عندنا ولو كانت مشروعة لا تبرر الوسيلة غير المشروعة، فكيف إذا كانت الغاية ضربا في عَماية، أو كانت الديمقراطية ؟ .
أما أنها غير مشروعة في نفسها بقطع النظر عما يترتب عليها فلأنها تقليد للكفار ومتابعة لهم في أهوائهم، وذلك غير جائز لقول الله تعالى:
( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)(البقرة:120) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"، رواه أبو داود عن ابن عمر، والمظاهرات فرد من أفراد التشبه بهم، والنهي عن التشبه بالكفار قد بلغ مبلغ التواتر المعنوي كما لا يخفى على من له عناية بالحديث .
    ولو افترضنا خلو هذه المظاهرات من الدليل المجيز والدليل المانع بحيث تصبح محل نظر بناء على ما يترتب عليها من المصالح والمفاسد كما هو مقرر في مبحث أهل الأصول في مسألة المصالح المرسلة؛ لكان المتعين تركها لأسباب كثيرا ما ترافقها كلا أو بعضا، ولمآلات كثيرا ما تعقبها، قد تجتمع كلها، أو يحصل بعضها، ولأن هناك وسائل أخرى تغني عنها، وتحقق الغرض الذي يبتغيه أهل الحق، العارفون بالشرع، الذين يضعون واقع الأمة ومنزلتها من معرفة دينها واستعدادها لإقامته موضع الاعتبار، فالقول بمنعها يدخل أحيانا في كونها لا نفع من ورائها، أو لأن ضررها أعظم من نفعها، ويدخل أحيانا أخرى في باب سد الذرائع إلى الفساد، وهو أصل من أصول الأحكام، دل عليه الكتاب والسنة، وقول عامة أهل العلم، ولا ريب أن الفساد موجود في بلدان المسلمين، وهو متفاوت الدركات، وليس هذا موضع الحديث عنه، لكن الفساد لا يدفع بفساد أعظم منه، وأذكر هنا بعض هذه المفاسد التي لا مناص من حصول بعضها في هذه المظاهرات، وقد يحصل جميعها، كما هو الواقع في ليبيا وقد تلتحق بها اليمن وقبلها العراق وأفغانستان، مع الإشارة إلى أن تفصيلها وبيان أدلتها يحتاج إلى كلام واسع لا يسعه المقام:   
    من ذلك أنها من أسباب نشر الاضطرابات والترويع، وتعريض الناس للجرح والقتل، وقد تؤدي إلى تقاتل المسلمين وتفرقهم، كل فريق ينتصر لجهة، ولأنها كثيرا ما تفضي إلى إتلاف الأموال والمنشآت وانتهاك الأعراض والحرمات، وإخراج الناس من ديارهم وأموالهم، والأدلة على حرمة ما ذكر لا تخفى .
    فإن قيل يمكن أن تكون سلمية، لا يحصل فيها شيء من ذلك؛ فالجواب أن ذلك متعذر غالبا لأنها فضاءها مفتوح، والمشاركة فيها غير مقصورة على أناس معينين، أو ليس موضعها الشوارع والساحات حيث لا يتأتى ضبط المشاركين فيها وإن ضبطوا فلا يتأتى التحكم فيهم، ولا فيما يفعلون ويقولون، ومن ثم فإنها لا تقف عند مطالب محددة، وكثيرا ما يدخل فيها من لا غرض له غير النهب والسلب والإتلاف والتدمير، بل وإفساد الغرض الذي من أجله تظاهر الناس إن كان مشروعا
    ومنها أنها من أسباب إفقار الناس بترك أعمالهم، وتعطيل مصالحهم، وخروجهم من ديارهم، ثم يضطرون إلى عون هيآت الإغاثة التي يسيطر عليها الكفار، تواتيهم الفرصة للتمكين لسمعتهم، والترويج لباطلهم، وقد عشنا من ذلك فصولا دامية في غير بلد فهل من مدكر؟، أو لا يكفي ما يجري في الصومال والسودان منذ سنين، ثم هذا الذي يجري في ليبيا واليمن وغيرهما؟، تصبح الدولة التي تكون من أغنى الدول بين عشية وضحاها فقيرة يتكفف المسلمون فيها ويتطلعون إلى الإغاثة، حتى إذا انتهت تلك المظاهرات وجد الناس أنفسهم كالقابض على الماء، والمتعلق بالسراب، وأضحت دولتهم بعد ذلك الاستنزاف مضطرة إلى جلب القروض والمساعدات من الدول الكافرة لبناء ما تهدم وإصلاح ما فسد ولإسكات الجوعى وتوفير العمل وغير ذلك، فتقع بذلك في قبضة سكين الكفار من جديد .
    وما رأينا ثورة من هذه الثورات إلا ولجأ متزعموها للكفار ليعترفوا بهم، أو ليساعدوهم ويناصرونهم في المنظمات والهيآت العالمية، بل وليمدوهم بالأسلحة، أو يقاتلوا معهم، ورأيناهم يمجدون الكفار، ويثنون عليهم، ويحملون أعلامهم، مما يقترب من الولاء الذي هو مخرج من الملة، وهل يعقل أن تكون هذه الثورات مفضية إلى خير وقد شجعها هؤلاء الكفار ومدوا لها العون، واعترفوا بها ؟ .
ونتج عن بعض هذه المظاهرات التطلع إلى حكم الكفار بمحاكمة المسلمين أمام محاكمهم وتسليمهم لهم، ومطالبة بعض المسلمين، بل وبعض المنسوبين للعلم بإقامة العدالة الدولية عليهم كما يقولون، وهؤلاء الحكام وإن كانوا ظالمين وفيهم جور كثير فإن تسليمهم إلى المحاكم الدولية ومقاضاتهم عندها لا يجوز ولا أعرف في هذا خلافا .
    ومما يستغرب منه والله أن يقول بعضهم عن دخول الكفار بطائراتهم وصواريخهم يضربون بها المسلمين ويخربون ديارهم ومنشآتهم إنه مما لا يتم الواجب إلا به فيكون واجبا، فسبحان الله ما تفعل الأهواء بأصحابها؟، وكما قيل حبك الشيء يعمي ويصم، ولم نسمع من هؤلاء من ذكر حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين"، فكيف بالاستعانة بالمشركين على المسلمين؟، ولم لم يعرجوا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك المشرك الذي أدركه وقد خرج في غزوة بدر وكان في الرجل جرأة ونجدة، فقال: "يا رسول الله جئت لأتبعك، وأصيب معك"، فقال له: أتؤمن بالله ورسوله"، قال: لا، فقال: "ارجع فلن أستعين بمشرك"، وهل يغني عن الثوار أن يقول لهم بعض المنسوبين للعلم إننا إنما استعنا بهيئة الأمم المتحدة، ولم نستعن بالكفار، فيقال: وما الأمم المتحدة غير أعضاء مجلس الأمن الدائمين الذين هم رأس حربتها، فإن وافقتهم بقية الدول فذاك وإلا عملوا ما أرادوا وكان القول ما قالت حذام .      
    ثم لنتساءل عن الغرض من هذه المظاهرات، إن الدافع إليها ليس إقامة حكم الله في الأرض، ولا الضيق بهذه المنكرات التي عمت وطمت، إن غرضها ذهاب الرئيس الفلاني، أو الوزير الفلاني، أو تغيير الحكومة، أو إسقاط النظام أو الإصلاح الاقتصادي والمالي وتحسين المعيشة وخفض أسعار السلع وتوفير مناصب الشغل ونحو ذلك، وهذه المطالب وإن كان معظمها مشروعا بلا ريب متى كانت موارد الدولة المالية كافية للتوسيع على مواطنيها، إلا أن هناك أمورا أولى أن تكون السبب في هذه المظاهرات لو كانت مشروعة، وكان الداعون إليها على الجادة، فإن الكليات الخمسة أو الستة التي يقال إن الديانات أطبقت على المحافظة عليها بتصدرها الدين، ومع ذلك فإننا لا نرى هذه المظاهرات وسيلة لذلك فكيف بالمطالب التي يرفعها المتظاهرون؟ .
    إن متزعمي هذه المظاهرات لا يرومون منها أكثر من تثبيت ما يدعى بالديمقراطية، وهي التي إن قامت على وجهها في بلدان المسلمين فقد تتحقق بها بعض المصالح، على أن الذي يتحقق منها غالبا هي مصالح دعاة الانحلال والفجور دون المصالح الشرعية، ومن تأمل الديمقراطية في بعدها وما يراد منها ألفاها لا تعدو أن تكون استبعادا لحكم الشرع من الحياة العامة، وإقرارا بمنهج أهل الكفر في سياسة الأمة، والإتيان على البقية الباقية من الشرع، المتمثلة في كون الشريعة هي المصدر الأول للقوانين، أو كونها المصدر الثاني، أو كون الإسلام دين الدولة، أو إلغاء الباقي من القوانين التي على وفق الشرع كقانون الأحوال الشخصية، فالغرض من هذه المظاهرات تثبيت الحكم الديمقراطي، والتسليم به لأن الشعب طالب به، وإقامة ما يدعونه بالدولة المدنية، ومن المعلوم أن الغرب الكافر لا يرغب في إقامة الديمقراطية في بلدان المسلمين إلا إذا حقق من ورائها مصالحه، وحصل على مرغوبه، وهو هيمنته المختلفة الأوجه، والواقع شاهد .
    ولنفرض أن النظام في دولة ما قد تغير فهل سيقوم على أنقاضه نظام يتبع الحق ويقيم العدل؟، كيف يكون ذلك والشعوب المسلمة على ما ترى من الجهل بدينها، وما تنادي يه في هذه المظاهرات أكبر دليل على ذلك، إن كثيرا من المسلمين لا يعرفون الضروري من أمور الدين، وإن أحرزوا معارف كثيرة من أمور الدنيا، فكيف يقوم فيها حكم الله ووضعها على ما تعلم؟، لقد تركت هذه الشعوب تفعل ما تشاء من المعاصي، بل وفرت لها سبلها، وألقي حبلها على غاربها، ومع ذلك اعتبرت هذا تضييقا على الحريات السياسية، وهناك تضييق بالفعل، فكيف لو قيل هذه أحكام الله وأقيمت في العري والقمار والزنا والربا والخمر والدخان، وكيف لو قيل لها هذا شرعه سبحانه في تارك الصلاة وفي قاتل النفس والسارق والقاذف، وهذه هي قيود الشرع في عمل المرأة وخروجها وفي اختلاط الرجال بالنساء، وهذا نهيه في البيع عند النداء يوم الجمعة، وغير ذلك ؟ .  
- ومن الفساد الذي يترتب على هذه المظاهرات كما هو معروف واقع أنها وسيلة إلى دخول الكفار بلاد المسلمين وتمزيقها وفرض الحظر عليها، وانتهاب ممتلكاتها، وتجميد أموالها، والاستفادة مما لحقها من التدمير والتخريب، فتغدو سوقا لمنتجاتها وشركاتها التي تعيد بناء ما خرب، وتروج لبيع أسلحتها التي استنفذت في اقتتال المسلمين، بل إن بعض دول المسلمين تشارك في دفع تكاليف الحرب، ومن المضحكات المبكيات أن الدول الكافرة لا تتحدث عن ثروات وأموال قادة المسلمين إلا عندما تثور عليهم شعوبهم ليجمدوها، ثم يستولوا عليها، وكثيرا ما يتم ذلك بطلب من الثائرين . 
- ومن ذلك أن اعتبار المظاهرات مشروعة يؤدي إلى استعمالها في وجه الصالح من الحكام كما تستعمل ضد الفاسدين منهم، وأول راض سيرة من يسيرها، ولا ريب أن حكام المسلمين ليسوا سواء فيما هم عليه من الجور ومخالفة للحق، فالتسوية بينهم في هذا الأمر ظلم لهم، ولا أريد أن أذكر أمثلة فإنها غير خافية، إن من يقر وسيلة لعموم المسلمين - ومعظمهم جاهل بدينه - لا يمكنه منعهم منها متى رأوا ذلك، لأن مرجعهم في النهوض ضد الحاكم ليس الشرع، بل ما يرونه هم، وما يقدرونه، وما يقال لهم من المحرضين في وسائل الإعلام، والمواقع التي تسمى اجتماعية، أولئك الذين يبثون الشائعات، ويروجون للفتن، ولعلنا سنكتشف بعد حين الجهات التي تقف وراء هذه الفتن كما وقفنا من قبل على كثير مما دبر لنا فلم نعتبر، وما يذكر إلا أولو الألباب .  
- ومن ذلك أن هذه المظاهرات تجري تحت راية عمياء، فلا قائد لها، ولا راية معروفة لها، ولا يعرف على التفصيل المقصود منها، وإنما يقال عنها في كل بلد دخلته ثورة الشباب، فكل مشارك قائد يقرر وينظر ويتوعد ويهدد، وأنى لك أن تعرف ذلك وقد تعاون فيها الكافر والمؤمن، والبر والفاجر، والعارف والجاهل، واختلط فيها الحابل بالنابل، والرجال والنساء، وقد رأينا من يقول من المسلمين الجاهلين بدينهم: تعانق الصليب والهلال، بل جمع بعضهم بين المصحف والصليب، التقى الجميع على المطالبة بتنحية رئيس أو وزير أو حكومة، لكنهم لا يعلمون ما بعد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وأنى لهم أن يتفقوا على ما وراء ذلك والحال أن تنحي هذا أو ذاك وحده لا يعني بحال تحقق الإصلاح الذي ينشدونه، وهو على كل حال ليس الإصلاح الذي يتوق إليه المؤمن، ويتعين عليه أن يسعى إليه .

 

السؤال الثاني: ما ذا يقال عن النتائج (المحمودة) التي قد تترتب على هذه المظاهرات؟

 

   إذا أفضت هذه المظاهرات والاحتجاجات إلى تنحي حاكم مستبد ومجيء غيره ممن هو أقل منه شرا؛ فهذا مما نحمد الله تعالى عليه، ولا نتردد في الاستفادة من الوضع الجديد في الدعوة إليه سبحانه، وهذا مما شاءه الله تعالى وقدره، ولا يعني ذلك أن الوسيلة إليه تصير مشروعة يجوز العمل بها، إن الواجب على المسلمين الاهتمام بأحكام الله الشرعية، والوقوف عند حدود الله مقاصد ووسائل، ومن تعداها فقد ظلم نفسه، فهذا ما ينبغي أن يصرفوا إليه جهودهم، أما ما يقدره الله وما يرتبه سبحانه على ما يجري في ملكه مما يشاء كونه؛ فذاك أمر آخر، وقد يؤيد الله الدين بالرجل الفاجر، وما الفجور بمشروع، وقد يتوب الناس بقارعة وما القارعة بمحبوبة لديهم  .

 

السؤال الثالث: كيف يصنف الذين يموتون في هذه المظاهرات ؟

 

   الذين يموتون في هذه المظاهرات إن كانوا مسلمين فإن لهم حكم من يموت في الفتنة نترحم عليهم، ونستغفر لهم، وإن كنا لا نقرهم على ما فعلوا، لأنهم لم يقيموا عملهم على العلم، ولو قدرنا أنهم أصابوا الحق فيما أقدموا عليه من المطالب؛ فإنهم خالفوا الطريق إليه، وقد يكون بعضهم ظالما لنفسه بتعريضها للهلاك، أو باعتدائه على الممتلكات، أو برفعه شعارات لا يقبلها الشرع، فيكون حكمه حكم الصائل وهو معروف، وقد يكون مظلوما إذا تجاوز الحاكم في مواجهته ما ينبغي مع مثله، إلا أن يخرج الناس على من ثبت كفره من الحكام، فيقتلون في جهاده بعد أن يقودهم من هو أهل، والحال أن له شوكة يغلب على الظن معها أنه يحقق الغرض المشروع بالخروج، ولا أحسب هذا متوفرا في أي بلد من بلدان المسلمين اليوم، لا فرق بين الوسائل التي تمكن الخارجين من ذلك، ولا المقاصد التي تراد من وراء الخروج، وهي إقامة الشرع، وأين المطالبة بالشرع في المظاهرات والاعتصامات؟، أما أن يقال إن الذين يقتلون في هذه المظاهرات شهداء؛ فهذا بعيد كل البعد عن الحق، ومن أطلق صفة الشهادة هنا فقد تجاوز الشرع، واستغل هذه الصفة العظيمة لتحريك العواطف، وشحن النفوس، والحض على الفتنة للانتقام، إن الشهيد من يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، فيقتله الكفار، وقد يوصف بذلك ولو لم يقاتل، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله عز وجل"، رواه مسلم عن أبي هريرة، وذكر غير هؤلاء في غير هذا الحديث، وقد تجاوز بعض المنسوبين للعلم في إطلاق هذه الكلمة المسلمين إلى غيرهم من النصارى والملحدين، يستعملون الألفاظ الموهمة التي تشعر أن كل من شارك في هذه المظاهرات فقتل فهو شهيد، فهذا إلى اللعب بالدين والاستهزاء به أقرب، ومن ذلك أن يقال عن الصحفيين الذين يقتلون في هذه المظاهرات إنهم شهداء، ولو قيل إنه عصاة لأنهم ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة لكان أقرب، فكيف إذا كانوا سببا في إشاعة الفتنة ونشر القدوة في الشر وخدمة أغراض الكفار علموا ذلك أو جهلوه؟، لكننا نترحم على جميع المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 

السؤال الرابع: إذا لم تكن هذه المظاهرات مشروعة فهل هناك وسائل غيرها للتغيير والإصلاح؟

 

  التغيير الحق الذي يثمر الثمرة التي نتطلع إليها هو الذي يبتدئ بالنفوس تعليما وتزكية وتصفية وتربية، هذه هي الركيزة الأساس لكل إصلاح، والاعتقاد قائم بأن ظلم الحكام وفسادهم وجورهم آت من أنهم جزء من مجتمعهم الذي لا يعرف عامته دينه، ولا ينتمي الكثير منه له إلا في الشكل والاسم والرسم، فالقول بأن هؤلاء الحكام قد فرضوا على شعوبهم مما لا يقبل، وقد يحصل ذلك في بعض الدول، فإن هذه الشعوب لو غلب خيرها شرها، وصلاحها فسادها؛ لظهر ذلك في قادتها وحكامها، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:126) إن الإصلاح الذي لا يضع في الاعتبار هذا المعنى هو من الخيال، البعيد المنال، وقد قال الله تعالى:(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال:52)، وقال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11) وكلما توجه المسلمون نحو الديمقراطية، واستبدلوها بمنهجهم الرباني كلما ابتعدوا عن التمكين لدينهم، وحكموا في حياتهم تقليد الكفار وأهواءهم، وحتى هذه الديمقراطية التي نرفضها لم يُقِمْها حكام المسلمين الذين رفعوا شعارها على وجهها في بلدانهم، لأن من مقتضياتها عند أصحابها ما فيه مزية للدعوة في الظاهر، وهو المساواة بين الناس في حق التعبير، وجعل المواطنة مناطا لتلك المساواة، ومبدإ تكافؤ الفرص، واختبار الحكام بحرية كما يقولون، وهذه أمور قد تستفيد منها الدعوة إلى الله بزوال المانع من إيصال الحق للناس، وقد لا تستفيد منها الدعوة كما نراه اليوم في بلاد الكفار حين شعروا بالخطر، فإن عمدة الكفار فيما يأتون ويذرون المصالح لا المبادئ، لهذا المعنى ترى بعض المنسوبين للعلم يريدون تحقيق الديمقراطية في بلدان المسلمين، ويجتهدون في الدعوة إليها، كما كانوا هم أو أسلافهم يدعون للاشتراكية، لأن فيها العدالة الاجتماعية كما يقولون، تحمسوا لذلك في وقت ما، ثم أفل نجم الاشتراكية وذهب ريحها، فتغيرت الأنظمة وتغير معها رأيهم، أما نحن فالذي ندعو إليه هو الإسلام، فإن تحقق ما يسمى بالديمقراطية وجاء حاكم أو نظام سياسي عامل الناس على قدم المساواة، فلم يفرق في المعاملة بين محق ومبطل، ومصلح ومفسد، وبر وفاجر اعتبرنا ذلك مخالفة للشرع، وتخليا عن الحق، غير أننا نستفيد من ذلك الوضع في الدعوة إلى الله، أما أن تصبح الديمقراطية مقصدا تدعو إليه فلا، ومن فعل  فقد ضل إذن وما هو من المهتدين .
    ورغم يقيني أن التعليم والتوجيه هو حجر الأساس في كل إصلاح، وبداية الطريق لكل فلاح؛ فإن المستيقن أيضا أن التعليم وحده بمختلف وسائله لا يكفي في الإصلاح، بل لا بد من عمل ميداني يمس الحياة العامة في كل جوانبها، وتظهر من خلاله النماذج الشرعية بتطبيق أحكام الله حسب الإمكان، ولا أتردد أن أقول وهو قول مُرٌّ: إن المسلمين فاتهم في الأمد المنظور إقامة حكم الله في أرضه عن طريق حكامهم، إلا أن يشاء الله فليلجأوا إلى هذا الذي يتيسر لهم، وليستفرغوا فيه جهدهم، فإنه من التمكين الذي يقدرون عليه، ومن ذلك إنشاء المدارس وتأسيس شركات الاقتصاد والخدمات والهيآت المالية والتأمينات التعاونية يقدم من خلال تسييرها وتنظيمها النموذج الشرعي في مجالات التعامل والتنمية والمحافظة على الصلاة وغير ذلك، ومن ذلك القيام بالإصلاح بين الناس وتوثيقه وإنشاء هيآت لضمان القروض الحسنة، واستغلال ما يدعى عند المعاصرين بالمجتمع المدني في حدود ما هو مشروع للتمكين لأحكام الله تعالى في الحياة، والتأثير على الرأي العام، والسعي في مناصحة الحكام، ومطالبتهم بالرفق واللين، واستغلال ما يدعى عند المعاصرين بالرسائل المفتوحة يحررها أهل العلم والخبرة، ويضمنونها ما يرونه من المطالب، هذه إشارة إلى بعض ما ينبغي أن يعتمد في الإصلاح كما نراه، وهو وإن كان بطيئا فإنه متدرج يرجى من ورائه التمكين، لشريعة رب العالمين، أما هذا الصخب والضجيج والتظاهر ولو خلا من تلك المفاسد التي ألمحت إليها فو الله ما هو بسبيل إلى الخير، واللهُ ولي التوفيق  .

 

السؤال الخامس: ما حكم الصلاة في الساحات العامة كما يجري في هذه المظاهرات ؟

 

   هذه من المخالفات التي رافقت هذه الفتن، وهل تلد المعصية غير المعصية؟، ومن العجب أن يدعو بعض المنسوبين للعلم إلى الخروج لهذه الساحات، وأن يعتبر ذلك فرضا عينيا في يوم الجمعة لأداء الصلاة في الفضاء، فتترك الصلاة في المساجد التي هي خير البقاع، وتؤدى في الأسواق التي هي شر البقاع، من غير حاجة إلى ذلك، مع أن صلاة الجمعة في غير المساجد مختلف في صحتها بين أهل العلم، ومذهب مالك بطلانها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يصلها قط إلا في المسجد، وهذا وإن كان مرجوحا إلا أن ترك المسجد والصلاة خارجه من غير حاجة إلى ذلك مما لا ينبغي أن يختلف في كونه بدعة وضلالة، ولو كانت هذه المظاهرات مشروعة لكان ينبغي أداء الصلاة في المساجد ثم الخروج لها، وحسبنا الله ونعم الوكيل . 


  السؤال السادس: ما ذا يقال عمن قتلوا أنفسهم بالإحراق أو بغيره فكانوا سببا في قيام هذا المظاهرات، وما ترتب عليها من النتائج التي يقال إنها حميدة ؟

 
    قتل النفس بغير حق مما حرمه الله، وأجمع عليه المسلمون، وقتل المرء نفسه أعظم إثما من ذلك فيما أحسب، بدليل أن قاتل نفسه قد فاته أن يقتص منه بموته، والاقتصاصُ منه كفارة لما اقترف، وهو من أسباب مغفرة الذنوب على كل حال، ولهذا يعذب قاتل نفسه يوم القيامة بما قتل به نفسه خالدا مخلدا في النار، فكيف إذا قتل نفسه بالإحراق والحال أن عقوبة أشد الناس جرما في هذا الدين الحنيف لا يجوز أن تكون الإحراق بالنار، لأنه لا يعذب بها إلا خالقها، ومما يؤسف له ويتألم منه أن بعض المنسوبين للعلم حين سئل عن قتل فلان التونسي نفسه لم يبادر إلى الجواب بالحكم الشرعي الواضح الذي لا يخفى على مسلم، حتى لا تكون فتواه سببا في تتايع الناس في هذه الطامة، فأرم المسكين وجمجم، والتمس الأعذار للفاعل بما لاقاه من جور السلطان وتضييقه، وذكر النتائج الحميدة المزعومة التي ترتبت على هذا القتل، وهو انطلاق هذه الثورات كما يسمونها، ثم كان الجواب بعد ذلك مُبَتْسَرًا (أي غير ناضج) باردا، يحسبه المستمع أنه يقول إن ذلك يشفع له فيما أقدم عليه، وقد يكون كلامه هذا وراء هذه الأسوة السيئة، حيث قتل كثير من الشباب نفسه بالإحراق أو بغيره، ورأينا من دعا المسلمين قاطبة في المنابر الإعلامية إلى الاستغفار لهذا الذي أحرق نفسه، ونحن وإن كنا نرى الاستغفار للمسلمين كيفما كان الذنب الذي اقترفوه ما داموا مسلمين، إلا أن هذه الدعوة العلنية للاستغفار لهذا الذي أحرق نفسه تنطوي على إشارة لا تخفى وهي دفع غيره من المغامرين ليغدو (بطلا) مثله، والمسلم يجاهد بنفسه متى كان الجهاد مشروعا ليدخل الجنة، فكيف يقدم على إحراق نفسه ليدخل النار؟، ثم يزعم الزاعمون أن فعله هذا ترتبت عليه مصالح، يا لله للمسلمين، تالله لو قيل إن إصلاح العالم متوقف على إقدام المسلم على معصية واحدة يعلم أنها معصية؛ ما جاز إقدامه عليها، ولا إقراره عليها .            

   وفي الختام أقول لحكام المسلمين الذين ثارت عليهم شعوبهم: اسعوا في ترك الحكم عل ذلك يحقن دماء المسلمين، وأقول للذين جنب الله تعالى دولهم هذه الفتنة: هل لكم وقد عصيتم الله تعالى بمخالفة شرعه، ومع ذلك سخطت عليكم شعوبكم أن تطيعوه وترضوه لعله يرضي عنكم شعوبكم، فإن لم ترض عنكم فإنكم معذورون، وهو سبحانه أحق أن ترضوه إن كنتم مؤمنين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان،  والحمد لله رب العالمين .

 

بن حنفية العابدين
معسكر ( الجزائر) في
24  ربيـع  الآخر 1432
الموافق 29 مـارس 2011

 

 

 

نقلا عن الموقع الرسمي للشيخ أبي سعيد حفظه الله تعالى

تم قراءة المقال 8093 مرة