الجمعة 15 ذو الحجة 1432

خطاب الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي في مؤتمر الطرقية سنة 1938

كتبه 
قيم الموضوع
(2 أصوات)

    انعقد مؤتمر للطرقية في الجزائر العاصمة ما بين 15 و19 أفريل 1938، وكان ممن دعي إليه الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي شيخ الطريقة القادرية في الجزائر وفي كل الشمال الإفريقي يومها، فأعد خطابا ليلقيه في هذا المؤتمر وكلف شقيقه الأصغر محمد الصالح بقراءته، وكان رحمه الله قد تغيب عن المؤتمر بسبب الأحداث التي وقعت في وادي سوف ابتداء من 12 أفريل والتي اعتقل رحمه في أثنائها، ولقد وقع هذا الخطاب كالصاعقة على شيوخ الطرق الحاضرين، لأنه تضمن فضحكهم وفضح سبب اجتماعهم، وأراد أن يوجه الاجتماع إلى الوجهة الصحيحة التي تخدم الأمة، ولا تخدم الاستعمار الذي خطط لهذا الاجتماع وأمر به، كما تضمن إعلان براءته من الطرقية والتزامه بمنهج العلماء ونصرته لهم ، وقد حاول بعضهم أن يمنع الشيخ محمد الصالح من إكمال قراءة الخطاب "لو لم يحل دون همهم تكاثر المصلحين بينهم" كما كتب مراسل البصائر يومها.

 

خطاب الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي في مؤتمر الطرقية سنة 1938

 

 

نص الخطاب:

 

   الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

   أيها الإخوة المحترمون : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحية من عند الله مباركةٌ طيبة، شرعها الله لتكون عنوانا على الأخوة ودليلا على الأمان ومجلبة للبِشْر والإيناس وطاردة للوحشة والوسواس، واستئذانا من القلوب على القلوب بعد ما تلاقى الأجسام بالأجسام ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شِعار الإسلام الصادق وعَلمه الخافق ورَمزه الناطق، أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بإفشائه بيننا لتفشو الرحمة والمحبة، وبتعميمه ليعمَّ التعاون وتَتحقق الحكمة، فالسلام عليكم أيها الإخوان ورحمة الله وبركاته... عودا إلى بدء.

 

   أيُّها الإخوان: وحسبي في هذا المقام مخاطبتكم بيأيها الإخوان، فإنَّ المعنى المُعظَّم الجامع بيننا هو الأخوَّة في أسمى معانيها، أخوة الدين وما أدراكم ما أخوَّة الدين، الحبل المتين والعروة الوثقى، والصِّلة المتينة التي تَرِثُّ الحبال ولا تَرِثُّ، وتزول الجبال ولا تزول.

 

   إنَّ العقلاء لا ينظرون من اجتماعكم هذا إلا أنه اجتماع أخوي ديني، إذ هذا هو الذي تعطيه ظواهره وتنطق به أخباره وإعلاناته، فلنجتهد أن يكون ما بطن منه موافقا لما ظهر، وأن يعلم الله من سرائرنا فيه ما علمه الناس من ظواهرنا، وأنْ يتحقَّق من نتائجه في بعث الأخوَّة الإسلامية ونشرها بين الغائبين عنه أضعف ما تتحقق في الحاضرين فيه.

 

    أيها الإخوان : ليس العجيب من أمركم أنْ تَجتمعوا وإنَّما العجيب أنْ تتفرقوا، وليس الغريب أنْ يتفق المسلمون على الخير؛ بل الغريب أنْ يَختلفوا على الشر، ولقد –والله- اختلفنا وتفرَّقنا وتقطَّعت روابطنا وتباعدت قلوبنا وتشتَّت شملنا، فبدَّل الله قوتنا ضعفا وعِزَّنا ذُلًّا وكثرتنا قلة، وأصبحنا سخرية الساخر، ولعنة الأول والآخر، وما ظلمَنا الله ولكن الحجة البالغة لله علينا.

 

    أيها الإخوان : لقد سررنا –يعلم الله- بالعنوان من اجتماعكم هذا قبل أنْ نقرأ الكتاب، وابتهجنا بالكلمات قبل أنْ نفقه المعاني، وفرحنا بالمقدمات قبل أن نرى النتائج، ثم أراد الله فشاركناكم فيه بأبداننا وألسنتنا عسى أنْ نسمع كلمة خير تُرضي الله فننتفع بها، أو نَقُول كلمة حق فنؤدي بها واجبا مع الله ومع عباده المؤمنين، ولقد قرأْنا يوم قرأْنا عنوان (جامعة اتحاد الزوايا) ففرحنا من جهة، وحزنا من جهات..خفقت قلوبنا خفقة الفرح لكلمة (جامعة) ولكلمة (اتحاد) لأنَّنا نعلم أنْ حياة الأمم تبنى على أساس هاتين الكلمتين، وإنَّنا معشر المسلمين أولى الأمم بالاجتماع والاتحاد .

 

   وحزنا كثيرا لقصور هذا الاتحاد –إن تحقق- على طائفة من المسلمين دون طوائف، ووددْنا لو كان هذا العنوان عاما في مدلوله شاملا للمسلمين كلهم، ولو كان هذا الشعور بضرورة الاتحاد كاملا في معناه، ولو كانت هذه الأفكار التي استخدمت لتكوينه متسعة في تفكيرها، ولو كانت هذه العزائم التي سعت فيه مجتهدةً في تعميمه، إذا لكان السرور عاما والفرح شاملا والنتيجة كلها خيرا وبركةً، وإذا لأرضى العاملون ربهم ونبيهم ودينهم، وإذا لأرغموا شياطين الإنس وشياطين الجن العاملين على تفريق الأمة الدائبين في تَمزيقها.

 

   أيها الإخوان: كما أننا لا نَختلف في فضل الاجتماع والاتحاد؛ يجب أنْ لا نَختلف في شيء آخر، وهو أنَّه ليس العبرة بالاجتماع الأجوف الذي تحشد فيه أمواج الخلائق وتلقى فيه الخطب المحبرة، ولا بالاجتماع الذي تثور فيه الحقود وتنمو بسببه الضغائن من طائفة من المسلمين على طائفة أخرى، وإنَّما العبرة بآثار الخير الملموسة، ونتائج النفع المحسوسة التي يثمرها الاجتماع، وتعود على الأمة كلِّها بالرحمة والخير والفلاح.

 

    إنه لا قيمة لاجتمعنا هذا إلا إذا كان مَعْرِضا للحقائق تُجلَّى فيه بكل صراحة، وملجأً لكلمة الحق تُلقى فيه بكلِّ حرية. وإنَّه لا مكافأة لما صرفه الإخوان الحاضرون من وقت ومال في سبيل هذا الاجتماع؛ إلا ما يسمعونه من حقائق ويتبادلونه من نصائح دينية وإرشادات ويقومون به جميعا من واجب التواصي بالحق والتواصي بالمرحمة، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، فإنْ لم يكن هذا فلنعلم أننا غَشننا أنفسنا وغششنا المسلمين وأسخطنا الله ورسوله وصالحي المؤمنين.

 

   إن هذا الاجتماع سوق أقمناه ومَعرضٌ نظمناه؛ فكان من أوَّل عيوبه ونقائصه ما في اسمه من تخصيص النسبة وقصور الإضافة، ثم دعونا الناس إليه ليتماروا ويختاروا فلننظر لعل مؤمنا موفقا رباه كتاب الله وهذبته سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ينبذ ولا يختار وينكر ولا يعرف، ولننظر بم يرجع هؤلاء الإخوان الحاضرون وبم ينقلبون إلى أهلهم؟ أبغنائم جديدة وذخائر مفيدة، أم بتفرقة أخرى شديدة وأخلاق مُبيدة ؟

 

    أيها الإخوان لو كان هذا الاجتماع دنيويا عقد باسم الدنيا ولغرض من أغراض الدنيا، لكان للتخصيص فيه معنى، ولكان للطائفية فيه عذر مقبول وغرض معقول، لأنَّ الناس فرَّقت بينهم أسباب الدنيا ومصالحها، واختلفت بسببها آراؤهم واختصاصاتهم فيها، فللنجار رأي واختصاص في صناعته لا يشاركه فيه الفلاح مثلا.

 

    ولكن هذا الاجتماع ديني في معناه ومبناه وبأسبابه ودواعيه، وليس في الدين حرفة ينفرد أهلها برأي ولا تجارة ينفرد أصحابها ببضاعة، وإنما هو كتاب الله منه المبدأ وإليه المصير، وعليه قامت سُنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعليه استقام هدي سلفنا الصالح رضوان الله عليهم وبهذه الثلاثة قامت الحجة علينا، وبِهذه الثلاثة ندين ربنا، وعلى هذه الثلاثة يجتمع شملنا وتتفق كلمتنا، وإلى هذه الثلاثة يجب أنْ تكون دعوتنا جهارا بلا إسرار، وجمعا بلا تفرق، فما أحق هذا الاجتماع بأن تكون دعوته الجفلى، وأن يكون باسم الأمة الإسلامية كلِّها لتجتمع على الكلمة الجامعة من كتاب ربها وسنة ونبيها، وما أحقه أنْ يزدان بحضور علماء الوطن الجزائري الذين هم زينته ومفخرته.

 

   أيها الإخوان: لا يختلف عاقلان أن معظم ما أصاب هذه الأمة من البلاء؛ إنما جاءها من تفرق الأهواء برؤسائها الدنياويين ، ومن تفرق النسب برؤسائها الدينيين، ولا ثالث لهذين، وقد طال على هذا البلاء الأمد حتى استعصى على العلاج.

 

    فالواجب على كل من في قلبه مثقال ذرة من الرحمة بهذه الأمة أو الشفقة عليها أن يعين على إزالة أسباب هذا البلاء ، وإن أحق الناس بالدعوة إلى هذا هم العلماء ، وقد كانت هذه الدعوة وكانت صارخة مستنفرة فثقلت على النفوس وقوبلت من بعضها بالاشمئزاز والتنفير، ومن بعضها بالرد والصد، ولا نخفي الحق إذا قلنا إن هذا الاجتماع أثر من آثار تلك الدعوة([1]).

 

   لكن الحق الذي يجب أن يقال في هذا المقام ، هو أن تلك الدعوة في ذاتها حق لأنها تدعو إلى كتاب الله وهو حق، وإلى سنة رسوله وهي حق، وإلى هدي السلف وهو حق، وإلى هدم البدع التي لابست الدين، وهي موجودة حقا، وكثيرة حقا، وكلها شر حقا وباطلة حقا ، والواجب على كل مسلم هدمها حقا .

 

    ومن الحق الذي يجب أن يقال في هذا المقام أنَّ ثقل تلك الدعوة على بعض النفوس ليس من طبيعة تلك الدعوة ، وإنما هو من طبيعة تلك النفوس، والواجب علينا قبل كل شيء أنْ نفرِّق بين ما هو حق من حقوق الدين، وبين ما هو حظ من حظوظ النفس، وأنْ نُربِّي أنفسنا على إيثار حقوق الدين على حظوظ النفس، وأنْ نُربِّيها على الاتساع والإذعان والرجوع للحق، وأنْ نُربي آذاننا على سماع كلمة الحق، وألسنتنا على النطق بها.

 

أما والله أما والله أما والله لو أننا رضنا أنفسنا قليلا على هذه الأخلاق الدينية لكان حظنا من الدين عظيما ، ومكاننا من رحمة الله ونصره قريبا ، ولكان اجتماعنا اليوم للحصاد لا للزرع وللتحلية لا للتخلية، وللأعمال الإيجابية لا للرسائل السلبية، ولتحصيل ثمرات الاجتماع، لا لتقرير أسباب الخلاف والنزاع .

 

    أيها الإخوان : أنا طرقي وراثة وابن زاوية عريق في نسبة الزاوية والطرقية إلى بضعة أجداد في التاريخ ، وعندي من العلم ما أفرق به بين الحق والباطل على الأقل، ومن المعرفة العامة ما أميز به بين الخير والشر، وبين المقبول والمردود، وإنَّني أدين الله الذي أُومن بلقائه بأنْ لا طرقية في الإسلام، ولا زاوية في الإسلام، ولا طائفية في الإسلام، وبأنَّه إنْ كان في هذه الزوايا وهذه الطرق من خير؛ فإنَّ شرَّها يذهب بخيرها، وبأن من آثارها النفسية التي لا ينكرها إلا أعمى البصيرة أنَّها فرقت كلمة المسلمين، لا أتكلَّم عن غائب ولا عن مجهول، وإنما أتكلَّم عن مشاهدة وعيان، وأعبر عن وجدان لا تزال آثاره في نفسي التي بين جنبي، لولا أنَّ عصمني الله بما وفقني إليه من العلم، وإنَّني أدين الله أيضا بأنَّ هذه الحركة القائمة، إنما هي ضد البدع المحدثة في الدين، وإنَّها إنْ أتت فإنَّما تأتي على الباطل، أما الحق فهو ثابت بإذن الله محفوظ بحفظ الله.

 

   وإنني فهمت ولا زلت أفهم من أقوال القائمين بها وأعمالهم ومراميهم أنها ليست موجهة لهدم الزوايا، وإنما هي موجهة إصلاحها.

 

   أيها الإخوان إن موقف الأمة الجزائرية في حاضرها موقف الممتحَن المرهف، لم تُبْتَلَ من قرون بمثل البلاء الذي تعانيه الآن ، لا أقول العسر والمجاعة والقحط والغلاء، وإنما أريد مضايقة الحكومة لها في دينها ولغتها، فأنتم تعلمون سلسلة هذا البلاء من إفقال المساجد في وجوه العلماء إلى قرار 8 مارس الماضي، فهل أنتم مدكرون لمغزى هذه القرارات؟ إنها حرب لدينكم ولغتكم، وإنها فتنة ستقضي على التعليم الديني والعربي بهذا الوطن، وإنها لا تخص فريقا دون فريق، وإنَّ الأمة مِن ورائكم ترقب أعمالكم في هذا الاجتماع، وموقفكم مِن هذه المسألة الخطيرة التي هي مسألة الأمة كلها ، وكلمتكم الفاصلة فيها، فانظروا ما أنتم فاعلون فيها وما أنتم قائلون([2]).

 

   إنه لا دافع لهذا البلاء النازل إلا بتضامن الجهود على دفعه واجتماع الكلمة لتفريقه وتناسي الأغراض والحزازات، وإحياء سنة السلف في الاتحاد وتراص الصفوف إذا نزلت بالإسلام كارثة أو حزبه أمر.

 

    أيها الإخوان: إن الآية المرفرفة على اجتماعكم هذا هي قوله تعالى : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء/59) وإنها فصل الخطاب في هذا الباب، فانظروا هل هي حجة لكم أو عليكم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

 

 

 

 نشر الخطاب في العددين 112 و113 من جريدة البصائر السلسة الأولى بتاريخ 6 ربيع الأول 1357 الموافق لـ6 ماي 1938 و13 ربيع الأول 1357 الموافق لـ 13 ماي 1938

 


[1]/ يقصد أن الطرقية لم تعرف الاجتماع في تاريخ وجودها إلا بعد ظهور جمعية العلماء وتزايد خطرها على نفوذ الطرقية، وما اجتمعوا إلا بعد أن جمعتهم فرنسا لتجعل منهم معولا تضرب به مساعي جمعية العلماء وترد به على مطالبها المتعلقة بالدين واللغة العربية.

[2]/ ولقد كانت قرارات المؤامر ومطالبه متناقضة ومخزية للغاية فلعنوا السياسة والسياسيين وحذروا من التدخل فيها وصرحوا بأولوية الإصلاحات الاقتصادية وذكروا في مطالبهم زيادة أجور العمال وتقديم القروض بآجال بعيدة وفوائد زهيدة وبناء المصحات (مع أن هذا نوع من التدخل السياسي) وأما المشكل الأساس الذي كان يشغل الأمة"وهو تجريم تعليم اللغة العربية والمعلمين الأحرار، وغلق المساجد في وجوه غير الرسميين التابعين للإدارة" فأوكلوا أمرة للحكومة الفرنسية بقولهم "حرية العربية تحت إشراف الحكومة"، وقد سبق كل تلك قولهم :« نعلن على فرنسا الجمهورية وحكومتها الديمقراطية إخلاصنا وتعلقنا الدائم بها، ونعلن أن تعجيل الإصلاحات أو تأخيرها ليس من شأنه أن يضعف من استعدادنا لإعانتها ، وان رجال الدين في كل زمن يقللون من حدة الأمة في الإسراع لغرضها » انظر البصائر ص 6 من العدد 114 المؤرخ 20 ماي 1938

1
تم قراءة المقال 3813 مرة