الأحد 13 شوال 1435

بشرى المظلومين بقصم ظهر الظالمين

كتبه 
قيم الموضوع
(5 أصوات)

لو كان الظلمة يفقهون ويعون وبال وسوء ما يُقدمون عليه من هول معصية الظلم، لأحجموا عنه ولتابوا في الحين، فالظلم اسم جامع لكل شر وإساءة للغير، حتى إن الله سبحانه وتعالى جعل نفسه الشريفة قدوة للبشر ليتأسوا به في اجتناب سبل الظلم والبعد عنه، فقد حرم الله الظلم على نفسه، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل، قبل أن يحرمه على عبيده، كما بينه الحديث الإلهي القدسي الذي رواه مسلم وغيره عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا ...".

وقال المولى تعالى: )وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(] إبراهيم 42 [.

روى البخاري ومسلم عن أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "إِن اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يفلته، ثمَّ يقْرَأ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظالمة)"] هود 102[.

وعن أبي هريرة رضي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ" رواه البخاري.

وعنه كذلك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ضَرَبَ بسوط ظلماً اقتُصّ منه يوم القيامة"، صححه الألباني في صحيح الجامع.

وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ: حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمهمْ" رَوَاهُ مُسلم.

وأوصى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ بقوله: "...وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" رواه البخاري.

وقد حرم الله الظلم ومقت أهله، لأنه عدوان لا يرضاه الإنسان لنفسه مهما كان، لذا جعله الله مستهجنا في الفطر النقية ومستقبحا في العقول السليمة، حتى لو لم تنزل فيه آيات بينات ولا أحاديث مرويات، وتوعد الله الظالمين بالقصاص طال الزمن أم قصر، حتى إنه سبحانه وتعالى يقضي بالعدل بين العجماوات غير المكلفة بعقاب الحيوان الظالم الذي بغى على غيره من الحيوان، وإنصاف المستضعف منه، فما بالك بالإنسان العاقل المكلف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

والظلم أصناف ودرجات، ومن أفظعها التي يمقتها الله ويتوعد صاحبها بأشد العذاب: التعدي على كل نفس معصومة بقتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب ... إلخ. فالدماء أول ما يقضى فيها يوم القيامة كما صح في الحديث، ويدخل في ذلك كل من باشر الاعتداء بنفسه أو أمر به، أو حرض عليه، أو أفتى أو أشار به، أو فرح أو رضي أو شمت به، أو أوى ظالما أو سانده بماله ونفوذه وجاهه، أو قعد عن نصرة المعتدى عليه، وهو يقدر على ذلك، وهو متفرج غير مبال ميت القلب والحس، بارد الدم فاقد الوجدان بل منزوع منه صفة الإنسان.

ومن أمثالهم بعض المحسوبين على أهل العلم والعلماء والمشايخ ممن يظلم أشد الظلم، بركونه للظلمة ورضاه بما يفعلون وفرحه بما يقترفون، بل منهم من يحرض الظلمة على الظلم ويزين لهم عاقبة أمره، ومنهم من يخدع الظالم بأن يصور له ظلمه في ثوب العدل والقسط والحكمة والديانة، وفي هؤلاء قال الله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)] هود 113 [.

ولله در عبد الله بن المبارك الذي شخص داء أمتنا منذ أن ظهرت إلى الوجود في بيته الشعري الخالد:

وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها؟

وأصدق وصف لأمثال أولئك المتفيهقين الذين باعوا دينهم ما قاله صالح بن علي اليافعي: "هم قذى العيون، وشجى الحلوق، وكرب النفوس، وحُمَّى الأرواح، وغم الصدور، ومرض القلوب. إن استعنت بهم في لمِّ شعث الأمة لم يعينوك، أو دعوتهم إلى الصلح والإصلاح لم يجيبوك، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، ورضوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وأتعبوا نفوسهم في غير ما شيء، وحيروا العامة وأضاعوا الأمة".

وكيف نريد أن نحاسب مستبدا على استبداده، ولو بالسبل القانونية، وأحد أحبار السوء يقول عن حاكمه المستبد، ذاك الذي قتل وشرد وأفسد البلاد والعباد: "إنه لا يُسأل عما يفعل!”، كأنه إله يُعبد من دون الله، بينما كان ذلك الظالم المستبد يحتقر عبيده من أحبار السوء بقوله عنهم: "أنا مستعد أجيب أي فتوى منهم بفرختين"، نعم، إن من المحسوبين على المشيخة والعلم من يموتون فرحا من أجل دعوة إلى غداء أو عشاء، ومنهم من يسعى حثيثا في تسويد الفتاوى المظلمة الجائرة للظلمة مقابل الأموال الفانية أو المناصب العالية، وربما بعض الامتيازات الدينية، مثل الخروج كل عام في بعثات الحج والعمرة على حساب مال الشعب الذي نهبه الظالم.

وعلماء أهل الورع والحق أبعد الناس عن دنيا الظلمة، فمثلا كان بعضهم رحمهم الله تعالى إذا دعاه أحد الأمراء أن يأكل في بيته امتنع أن يأكل في بيته أو أن يشرب، فقيل له في ذلك فقال: "من أكل مرقة السلطان افترق لسانه عن قول الحق فلا يستطيع أن يقول الحق بعد ذلك".

وقد حدثت قصة واقعية لعالم من علماء دمشق، وهي أنه كان يُدرس في جامع بني أمية، فدخل عليه إبراهيم باشا، وهو حاكم مصر، وكان قد استحوذ على الشام، ولم يجد من يعارضه، وقويت شوكته وسلطانه بذلك، فلما دخل دمشق منتصراً استقبله الناس، فبقي هذا العالم في مسجد بني أمية يُدرس الناس، فسأل إبراهيم باشا عمن لم يستقبله من وجوه الناس وعلمائهم وقاداتهم فذكروا له هذا العالم، فقال: اذهبوا بنا إليه.

فجاء مغضباً، فدخل مجلسه فلم يقم إليه العالمُ، وإنما سلم عليه واشتغل بالتدريس، فجلس إبراهيم باشا قبالة وجهه، وأوسع الناس له في الحلقة، فلما طال مجلسه بسط الشيخ رجله إليه ـ وهذا عيب عند أهل الشام، وأهل مصر ينزعجون منه كثيراً ـ، فبعد أن خرج الأمير إلى بيته أرسل إلى هذا العالم مالاً جزيلاً كثيراً، فلما أتاه هذا المال رده وقال: قولوا للأمير: "إن من يمد رجله لا يمد يده"!

وكان رائد نهضتنا العلامة ابن باديس ـ رحمه الله ـ يحذر العلماء وطلبة العلم من الوظيفة الدينية الحكومية، خصوصا إذا كان من مقتضيات تلك الوظيفة السكوت عن الحق أو تقديم خساسات للحكومة مقابلها، يقول ابن باديس ذلك في حق الوظيفة الصغيرة المحدودة، فما بالك بالوظائف الدينية الكبرى كالرياسات في القضاء والإفتاء وتصدر الهيئات والمؤسسات الإسلامية التي يتقاتل ويتآمر بعضهم للوصول إليها، وتقديم الغالي والنفيس للبقاء فيها، ولو بنصرة الظالم الذي يرشيه بتلك الرئاسات، فيخذل المظلومين بفتاوى ممجوجة وآراء فقهية مستهجنة ومواقف خبيثة مسمومة.

وشتان بين هؤلاء وعلماء الأمة الربانيين، على غرار أحمد ابن حنبل ومن تبع مدرسته في زهده وورعه، وقد ذكر شيخنا المنجد ـ حفظه الله ـ تفصيلا في ذلك جدير بالتأمل، حيث قال: "من أسباب عدم انتشار مذهب الحنابلة بشكل كبير: أن كثيراً من فقهاء الحنابلة أخذوا بطريقة أحمد رحمه الله في الزهد والبعد عن الرئاسات، ولا شك أن انتشار المذهب في كثير من الأحيان يُعزى إلى تبوء مناصب ورئاسات، فإذا كان كبير القضاة شافعياً، عين القضاة الشافعية، وإذا كان له مكانة عند السلطان، رتب في المساجد أو المدارس أئمة أو علماء من مذهبه، فانتشر المذهب وحُملت كتبه ونُسخت، وسارت في الأمصار بأمر السلطان، لكن الكثير من الحنابلة كانوا على مذهب إمامهم رحمه الله الإمام أحمد في البعد عن الولايات والرئاسات، كانوا يسكنون في المدارس والأوقاف والأربطة، ويكتفون من الدنيا بالقليل، ولكن مع ذلك قد خلّفوا علماً عظيماً والحمد لله أن الله نشر فقههم وعلمهم، ولا زالت كتبهم مراجع أساسية لدى كثير من الباحثين".

أما النوع الثاني من الظلمة فهم من ملكوا البلاد بالقوة، أو ولُّوا أمرهم على الأمة بالتزوير، أو استأثروا بالحكم بالتوريث والمبايعة بالإكراه... ومن أخس أولئك جميعا من لا يظلم حبا في الظلم فحسب، بل إرضاء للأمريكي وتقربا من الاتحاد الأوروبي وليسمع مدحا من الدب الروسي أو ليلقى شكرا من الصهيوني واليهودي، فيا خيبة أولئك الظلمة الذين جعلوا طاعة أعداء الأمة والملة من المذكورين أشبه بآلهة يعبدونها فلا يعصون أوامرها، بل لا يجرأون على جرح مشاعرها بالتخلف عن الظلم البشع، فكان يوم القيامة موعدهم جميعا، قال الجبار القهار جلا وعلا: (...وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)] الأنعام 93 – 94. [

وقال تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ، فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ] الشعراء 91 - 104 [.

ومن أقبحهم على الإطلاق من يصل ظلمه حد إزهاق الأرواح البريئة من الموحدين والمؤمنين والمسلمين تزلفا للكافرين، فتراهم يتسلقون المناصب ويتبوأن بحق وبغير حق المقاعد العليا، وينصبون ذواتهم على الخلق، ويجيشون الجيوش، ويقودون الحملات، ويأمون بأنفسهم فرق الموت والإعدام الجماعي والتطهير الديني لأبناء دينهم.... فيا له من قبح! وما الله بغافل عما يعملون، فتجيئهم العقوبة الربانية القاهرة من جنس قبح عملهم، قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ، وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)] القصص 41 - 42 [.

ولم يُر في ذنوب الظلمة بعد الشرك والكفر ذنبا أعظم من قتل الأبرياء وإزهاق أرواح معصومي النفس بل سفك دماء أولياء الله، لا لشيء إلا لتمسكهم بولايتهم ربهم وخالقهم، وذبهم عن كتابهم وسنة نبيهم، لقد استرخصوا تلك الأنفس الطاهرة، وعموا وصموا عن القوارع والزواجر الربانية كقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ...) ]الإسراء 33[.

وقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) ]المائدة 32[.

وقوله جلا جلاله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) ]النساء 93[.

وفي السنة النبوية من التحذير من هذا المسلك ما تتفطر لمجرد قراءته القلوب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "...إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ". ثَلاَثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلاَ، نَعَمْ. قَالَ: "وَيْحَكُمْ، أَوْ وَيْلَكُمْ، لاَ تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" رواه الشيخان.

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ" رواه الشيخان.

وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا" رواه البخاري.

وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ.

وخاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة بيت الله بقوله: "مرحباً بكِ من بيتٍ، ما أعظمَكِ، وأعظمَ حرمَتَكِ! وللمؤمنُ أعظمُ حرمةً عند اللهِ منكِ، إن اللهَ حرّم منكِ واحدةَّ، وحرّمَ مِنَ المؤمنِ ثلاثاً: دمَه، ومالَه، وأن يُظَنَّ به ظنُّ السُّوءِ". أخرجه البيهقي وغيره وحسنه الألباني.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ..." رواه البخاري.

ونرى أولئك الظلمة على عروشهم مزهوين بالملاحم البطولية والانتصارات على الأطفال والنساء والعجزة والمستضعفين من الرجال، لا يقتص منهم أحد، ولا يُحجزهم عن عدوانهم أحد ولا يحاسبهم عن جرائمهم وفسادهم أحد... فالظالم منهم غره القانون الدولي الجائر والهيئات الأممية الرسمية وغير الرسمية والمحاكم البشرية العاجزة المكبلة، يرواغ ويرواغ لتحميه من قصاص المظلومين، ومنهم من يلقى الرعاية الوطنية والمحلية والدولية تحميه من المحاسبة الشعبية، وتقيه حتى من القانون الذي شرّعه هو، بل من الظلمة من ينصب محاكم يرأسها قضاة فسدة ومرتشين وحاقدين يدافعون عن جور أسيادهم الظالمين ويُضيعون حقوق المظلومين، ولو علم أولئك القضاة الأشقياء أنهم ممن تسعر بهم النار وأنهم وقود جهنم، لكانوا خافوا عاقبة الأمور والله غالب على أمره، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الجَنَّةِ، قاض قَضَى بِغَيْرِ الحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالحَقِّ فَذَلِكَ فِي الجَنَّةِ" رواه الترمذي وصححه الألباني.

ويسقط ظالم ويخلفه ظالم مثله أو أعتى منه، وهو يعلم أنه سيلحق بصاحبه وبمن سبقهما مهما طال عمره، لكنه سكران بوهم الخلود في السلطة، واعتقاد أنه لن يرحل منها قريبا، إنه الإخلاد إلى الأرض وطول الأمل، فلا يلتفت للنذر ولا يخاف من الموعود، ولا ينزجر من ذكر هادم اللذات، ولا يرف له جفن من مستقبله المظلم القريب، فقد أعماه المنصب والجاه والراتب والتسلط والهيلمان، كأن على بصره غشاوة، غشاوة الاستقرار النسبي الزائف على الكرسي.. لكن هيهات هيهات، قال تعالى: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ] الأنعام 134 - 135 [.

وكأنه لم يتعظ بفرعون الذي ظن بل أيقن أنه خالد على عرشه لا تزيحه الريح العاتية، لأنه في زعمه الإله الذي تجري من تحته الأنهار، وإذ فجأة هو تحت تلك الأنهار يخنقه ماؤها عند الحنجرة وهو يتجرع في غمرتها الغرغرة فكان عبرة للظلمة الفجرة: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)] القصص 39 - 40 [.

ومع ذلك لا يزال الظالم في القرن الواحد والعشرين مغترا بجنده وعسكره وأمنه وعسسه، يحرسونه بالطائرات والدبابات والسفن والرادارات والأقمار الاصطناعية.... فلا تصل إليه يد، ولا يقترب منه خصم أو عدو، يظن أن حاله تلك ستحميه من ملك الموت وملائكة العذاب، يوم يباغتونه وهو وسط كل ذلك غافل ساه لاه، فلا يقدر على رد قدره ولا منع روحه الخبيثة من أن تُسلخ عن بدنه، فيرتاح البشر والحجر والشجر من ظلمه، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "... إِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ" قَالَ: "فَتُفَرَّقُ فِي جسده فينتزعها كَمَا ينتزع السفود من الصُّوف المبلول فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيخرج مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرّوح الْخَبيث؟ فَيَقُولُونَ: فلَان بن فُلَانٍ - بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا - حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ " ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سم الْخياط) ]الأعراف 40[.

يبغته الردى دون أدنى فرصة استعداد، ويبطش به الموت جزاء بطشه بالعباد بلا شفقة ولا رأفة: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) ]سبأ: 54[. إذ جاءهم ملك الموت بلا مشورة ولا إنذار ولا استئذان فخطف أرواحهم، وحيل بينهم وبين ما يشتهون من فرصة سويعات أخرى ليتوبوا قبل الرحيل، وحيل بينهم وبين حسن الخاتمة فهلكوا على أسوء حال، فاستقبلوا أطنان الأوزار، ووقفوا ينظرون في صحائفهم فإذا هي جبال من العدوان والانتهاك لحقوق الإنسان، وجلسوا على ضفاف بحر الدماء التي سفكوها، فعضوا على أيديهم ندما لكن هيهات هيهات... (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) ]الفرقان: 27 [.

فأبشر وارتقب أيها المظلوم!ساعة يقف من ظلمك أمام المحكمة الإلهية العادلة، لا ينبس ببنت شفة، يلتفت حوله فإذا بمئات الآلاف وربما الملايين من الناس الذين سفك دمهم، تعلقوا جميعا به، وأوداجهم تشخب دما، وهم يقولون: "يا الله سل هذا فيم قتلنا؟"، ومثلهم عددا من الأمهات يقلن: "يا الله سل هذا فيم أثكلنا؟"، ومثلهم عددا من الزوجات يقلن: "يا الله سل هذا فيم رمّلنا؟"، ومثلهم عددا بل أكثر من الأطفال يقولون: "يا الله سل هذا فيم يتّمنا؟".....

وبما تُراه يجيب؟

هل سيخدع حينها المحكمة الإلهية كما خدع كل أحد على الأرض؟ بأكاذيب الضرورات الأمنية والمصالح القومية ومكافحة الإرهاب ومواجهة المؤامرات والدفاع عن المكتسبات ومحاربة الأخطار الداخلية والخارجية، وإنني أتنبأ مستقبلا بأن يضيف الظلمة إلى قائمة أكاذيبهم السخيفة حماية الأوطان والشعوب من غزاة قادمين من كواكب أخرى، تحسد الظلمة على ديمقراطياتهم المثالية وعلى انجازاتهم الوهمية في كل مجالات الحياة، كما يدعيه اليوم أبواقهم!!!

وحتى لو حاول الظالم المستبد أن يكرر تلك السخافات عند رب السماوات، أو أن يتنصل من موبقاته فلن تسعفه جوارحه التي تخذله وتفضحه: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) ]النور24 - 25 [.

ستشهد عليه جوارحه وهي خجلة من أفعاله الشنيعة وأعماله الخليعة وتصرفاته الفظيعة، ستحكي يده وأصابعه وأنامله عن المراسيم والقرارات التي سودها بأوامر الاعتقال والاغتيال والذبح الجماعي وهتك الأعراض الممنهج واغتصاب الرجال والنساء على  حد سواء، سيروي لسانه عن أهوال التعذيب في معتقلاته المخيفة وسجونه الرهيبة وسلخاناته التي تفوح برائحة الظلم الدامي... سيسرد لسان الظالم كيف كانت زبانيته تصفع الأحرار على وجوههم، صغارا وكبارا كهولا وشيوخا نساء ورجالا، لا تمييز في الصفع فالظالم يوزع الظلم بعدل على الجميع دون تطفيف!، ولا يمكن للصفع أن يأتي ثمرته في برامج التعذيب إلا بأن يصاحبه السب والشتم والاهانة اللفظية، وعادة ما يكون الزبانية ممن يحفظون بإتقان صنفين من الشتائم من كثرة استخدامها: أولها سب الذات الإلهية بأقذع الألفاظ، وثانيها سب المظلوم بقاموس من الكلمات الجنسية السافلة المنحطة، التي تهدف إلى الحط من معنوياته، فيسمع ضيف السلخانات جُملا من دون الحزام عن أمه وأخته وزوجته، فمس عرض الرجل الشهم أكثر ما يكسره... ثم تدور بعدها طاحونة التعذيب رويدا رويدا بما يشيب له الولدان ويشفق منه حتى الحيوان، حيث ُيجبرالرجل الحر المجرد من ثيابه على الجلوس على قارورة الزجاج حتى يتهتك شرجه وسط ضحك هستري لأولئك المرضى النفسيين، أو تُسحق خصيتاه بوضعها في جارور مكتب الضابط الذي يغلقه فجأة وبقوة حاقدة، فتنفجر دما وألما وصرخا.... وإطفاء السجائر على الأجساد المسلوخة المنهوكة، تحديدا في الأماكن الحساسة خصوصا مع النساء الشريفات الطاهرات.... أعرف أن التفاصيل مقززة لكن مساندة الظالم وإعانته وغض الطرف عن جرائمه هي التفاصيل المقززة لو كنا نسمع أو نعقل أو نشعر.

ولا داعي لإكمال ما لم يبدأ بعد من صنوف البشاعة من غرق وصعق وحرق وقطع وكسر وثقب ونشر...، ويتعمد أولئك الزبانية في حالات كثيرة إطالة تلك الحفلات الوحشية لشهور طويلة، انتقاما وتشفيا من أشخاص أخطأوا لما آمنوا بربهم ودينهم وبحقوقهم الطبيعية، وأذنبوا لما استعصوا على الموت بالطائرات والدبابات والمدرعات والتفجيرات والرصاصات... فاللهم رُحماك، ويا ربنا سلم.. سلم.

وعلى كل حال فالتاريخ سيكتب أن المسلمينكانوا في بلادهم بنعمة وأفضل حال مقارنة بغيرهم، فالظالم في البلاد الإسلامية المعاصرة فعل كل تلك المقززات بالناس، وهو يرفع شعارات الديمقراطية والإصلاح والحرية والتقدمية... فالحمد لله ماذا كان سيحل بهم لو كان الظالم رفع شعارات الديكتاتورية والإفساد والعبودية والرجعية!!!؟

وأيا كان، سيقف الظالمون أمام الله ليقدموا كشف حساب عن ديمقراطيتهم المثالية وحداثتهم المستنيرة وعن علمانيتهم التقدمية وحكمهم الراشد وقيادتهم الفذة وحكمتهم البالغة ونظرتهم الثاقبة وخدمتهم الفانية وإخلاصهم الباهر وكفاحهم النادر!!!...

لكن الشعارات الجوفاء والألقاب الخرقاء أخفض صوتا من الوقائع المقززة التي سيقفون للسؤال عنها أمام ناصر المظلومين: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) [الصافات 24]، وهم عُزّل وفرادى ووحيدون، حيث تغيب لأول مرة جوقة المطبلين والمزمرين والمساندين والمباركين والداعمين والمبايعين والمفوضين ...: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار) [المائدة 72].، هناك في ذلك المكان لا أحد سيجرأ على الدفاع عن جرائمهم وتبرير فظائعهم: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر 18]. ولن تنفعهم ثمة الأعذار الواهية الخادعة: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر 52]. فتعرض عليهم القوائم الطويلة لأعمالهم الظالمة الفاجرة فيعترفون بها وحينها: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) [الشورى 22]. مشفقين وخائفين مرعوبين ومرهوبين مما ينتظرهم من عذاب لا محال لاحق بهم.

ولأنهم شبُّوا على الخداع وفطموا على المناورات السياسة، التي عرّفوها في دنياهم بأنها: "فن الممكن"، سيحاولون ما أمكن تجريب ضربة حظ لينجوا من فعلتهم بطلب العودة إلى الوراء والى الدنيا: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى 44]. فالعذاب أوشك أن يفقد الظالم أمنه وأمانه، ولن يهمه في ذلك الموقف إلا ما أهمه في دنياه أن يأمن على نفسه، لكن هيهات فيأتيه التقريع كالصاعقة: (فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 81 - 82].

وحتى لو أعادهم الله إلى هذه الدنيا فهل سيرعون؟ هل سيعدلون؟ هل سيتوقفون عن ظلم العباد والبلاد؟ الجواب لا، لأنهم استمرءوا الظلم حتى صار طبيعة فيهم، باتوا وحوشا تعيش على سفك الدماء وقهر الضعفاء، وأنى للوحوش أن تغير جلدها!؟، وقديما قيل: "تهذيب الذيب من التعذيب"، (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام 27 - 28].

نعم، إنهم مدى الدهر كاذبون، لأنهم اليوم على عروشهم فكهون مستبدون غافلون، ويحسبون الله غافلا مثلهم، قال الجبار القهار: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ، وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ، وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ، وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ، لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [إبراهيم 24 - 52].

وحينما ينتهي كشف الحساب يُرسل ظلمة الدنيا إلى حفلات عذاب الآخرة، جزاء وفاقا لحفلات التعذيب في زنازينهم وسلخاناتهم، التي كان فيها المستضعفون ضيوف شرف دائمين: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [الزمر 24 - 26].

لن يدوم عذابهم أياما ولا شهورا ولا سنوات، لأن ظلمهم تجاوز القتل وهتك العرض ومصادرة الحقوق إلى ما هو أخطر وأعظم عند الله: وهو تعطيل دينه وتحقير شرعه وحرب سنة نبيه وجحد أوامره بل تطبيق ما سواها من أنواع الكفر والشرك وشرائع البشر وإيديولوجياتهم العفنة...، وهي كلها جرائم عقوبتها الإعدام الأبدي والخلود السرمدي في سجون جهنم، كما حكم بذلك القاضي العادل الديان رب الأرض والسماء.

وسيناور الظالمون، حتى وهم هناك في جهنم يقضون العقوبة الإلهية، وفق "سياسة فن الممكن" مرة ثانية فيدعون متضرعين بتخفيف العقوبة عنهم يوما واحدا: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ) [غافر 49]. فترد عليهم الخزنة أو ربهم بحسم يقطع الرجاء والأنفاس: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر 50]. فيعودون إلى عذاب أنكى وأخزى لا يُفتر ولا يخفف منه قيد ذرة، وهم في الحميم مبلسون وآيسون من رحمة الرحمان الرحيم، كما آيس المظلومون تحت حكمهم الجائر من أن يُرحموا ويُنصفوا: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ، لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف 74 - 76].

لكنهم لا يكلُّون عن أمانيهم من "فن الممكن" فيرجون أخر المطاف من خازن جهنم أن يميتهم موتة نهائية ليفنوا ويفنى عذابهم معهم: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) [الزخرف 77]، فيأتيهم الجواب النهائي الذي لا استئناف عليه بعد آلاف السنين الجحيمية: (قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [الزخرف 77 - 78].

أنشد أبو العتاهية وهو مسجون ظلما بيتا شعريا يبعث على المواساة والتعزية لكل مظلوم قال فيه:

إلى الديان يوم العرض نمضي .... وعند الله تجتمع الخصوم

فاللهم نعوذ بك أن نكون من الظالمين، ونسألك بحق دموع ودماء وآهات المظلومين أن تقصم ظهر الظالمين في الدنيا والآخرة فإنهم لا يعجزونك، أمين، أمين.

تم قراءة المقال 7955 مرة