الخميس 2 جمادة الثاني 1432

مغامرات الليبراليين ببلاد الحرمين

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

   العَلمانيون في بلاد الإسلام هم منافقو العصر، وتسميتهم تختلف باختلاف البلاد التي يوجدون فيها وباختلاف درجة انتشار الوعي الديني فيها، فهم يتسمون بالعَلمانيين في البلاد التي تتعدد فيها الديانات، وبالديمقراطيين في أغلب البلاد كما يتسمون بالليبراليين في بعضها، وهذا الاختلاف في الاسم من مظاهر نفاقهم حتى تنفق مشاريعهم التغريبية الإلحادية، ففي البلاد التي يعتقد شعبها كفر العلمانيين تجدهم يسمون أنفسهم ديمقراطيين، وفي بلاد الحرمين حيث يعتقد الناس كفر الديمقراطيين يسمون أنفسهم ليبراليين وهكذا، وفي هذا المقال للدكتور يزيد حمزاوي حفظه الله كشف لمظاهر النفاق والخداع والتلون عند هؤلاء الذين باعوا دينهم وأنفسهم للغرب الملحد، وتآمرهم على بلاد الحرمين آخر معاقل تحكيم الشريعة في هذا الزمان.

 

مغامرات الليبراليين ببلاد الحرمين

 

 

   قبل أسبوع استمعتُ إلى مُداخلة هاتفيَّة لأحد اللّيبراليين السّعوديين على إحدى الفضائيات المحسوبة على القنوات الإسلامية، يقول هذا المسكين:" يجب استبعادُ الإيمان عن الحياة العامّة، فالإيمان عمل قلبيّ فحسب " !

 

   ولقد صُعِقتُ لجُرأة هذا التصريح، فما كنتُ أتخيَّل أنّه في استطاعة شخصٍ أن يتلفَّظ بهذا الكلام الأرعن، وهو يعيش على أرض الحَرَمين، حتّى لو كان مقيمًا في الرّياض أو جدّة، فالسّعودية بالنسبة إلينا - نحن المسلمين البعيدين عنها جغرافيًّا - هي كلّها أرض مباركة، شرَّفها ربُّ العالمين بأفضل نبيٍّ، وأعظم دينٍ.

 

  فكيف يأتي اليوم مَن يدَّعي الانتساب إلى أبناء هذه الأرض الطّاهرة، فيروم تنجيسَها بفكرٍ بالٍ ساقطٍ، منقولٍ حرفيًّا عمَّن سبقوه في العالم العربي ؟! وكيف يمكن لمثله أن يقولَ هذا الهُراء الخطير والخبيث، وهو يشارك في برنامج معروض على فضائيَّة إسلامية، دون أن يأبه لمشاعر مشاهدي تلك القناة، ولا " للإسلاميين " القائمين عليها ؟

 

  ثمّ إذا كان هؤلاء اللّيبراليون يتجرَّؤون - بلا وَجَل أو خَجل - على الإفصاح بهذه الأفكار الهدَّامة على الفضائيات الإسلامية، فما هو إذًا سقف الحرية - إن كان لها سقفٌ - فيما بينهم ضِمن اجتماعاتهم المغلقة ؟!

 

   وإذا كان هؤلاء اللّيبراليون يزعمون أنّ الإيمان عملٌ قلبي، يربط الإنسان في علاقة شخصيَّة بخالقه، وإذا بدؤوا فعليًّا يتحرّكون في الميدان؛ لسحْبه من الحياة العامّة للدّولة، وإذا شرَع حقيقةً مُنَظِّرو رِفاق السّوء اللّيبراليين بإلغاء الشّريعة الإسلاميّة من المجتمع السعودي، فليت شعري ماذا سيبقى لبلاد الحرَمين - إنْ نجَحَت هذه الفئة الباغية - من فضْلٍ وشرفٍ وقَدَاسة في قلوب المسلمين جميعًا ؟!

 

   ولننظر في أطروحات هؤلاء اللّيبراليين أو الحَدَاثيين السعوديّين - كما يسمُّون أنفسَهم، أو العلمانيين كما يُسمّيهم الفكر الإسلاميّ المعاصر - هل جاؤوا بفكرٍ جديد، أو رأْي حديث، أو بإبداع عقلي أو عملي ؟

 

   لا شيء من ذلك، فكما قيل:" لا جديد تحت الشّمس "، فهم مجرَّد نُسخ رديئة لطه حسين، أو محمود أبي ريّة، أو إحسان عبد القدوس، أو فرح أنطون، أو أدونيس، أو نزار قباني ...

 

   وحين أقول: إنّها نُسخٌ رديئة، فأنا أعني ما أقول؛ لأنّ شيوخ اللّيبراليّين السّعوديين الذين علَّموهم سحرَ العلمانية على الأقلّ، خلَّفوا تراثًا أدبيًّا من النّثر والشّعر، بغضِّ النظر عن توجُّهه وقيمته، أمّا الحَدَاثيون السعوديون الجُدد، فما هي حَدَاثتهم ؟ وما هو جديدُهم ؟ اللهم إلاَّ حبّ الشُّهرة، وخالِف لتُعْرَف.

 

ولقد تعمَّدت متابعة مداخلات ومشاركات لثُلَّة قليلة منهم - وربّما لا تُمثلهم جميعًا - على بعض الفضائيَّات، فدُهِشتُ لجهْل بعضٍ منهم حتّى بقواعد اللّغة العربية، بل والله إنَّ بعضهم - دون ذِكْر الأسماء - يحتاج إلى إعادة تأهيل حتّى في اللّغة العاميَّة، ومع ذلك لا يستحيي من لَمْز السّادة العلماء.

 

كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا *** فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ

 

   كنتُ قد تتبَّعت بعض وساوسهم؛ لأطَّلِع على ما ينقمون عليه في السّعودية، فألفيتُهم ساخطين على كلِّ المبادئ، لا شيء يعجبهم، فهم يرفضون الفصل بين الجنسين في العمل والدّراسة، والحجاب، والنقاب، وتعدُّد الزّوجات، والحدود والتّعزيرات، والقضاء الشرعي...

 

   يريدون الحدَّ من نفوذ طلبة العلم والدُّعاة، وينتقدون هيئة العلماء والإفتاء، ويتحاملون بشدّة على مؤسّسة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ويمدحون أنفسهم بإعلان البراءة من الفكر الوهَّابي والسّلفي، ويصفونه بصفات التشدُّد والغُلوّ والتخلُّف؛ ليَظهروا بأنّهم أبطال الاعتدال، ودُعاة التحرُّر من الماضي.

 

   أعلم أنّهم غير مقتنعين بكلِّ حَدَاثتهم وليبراليَّتهم وعلمانيَّتهم؛ لأنّهم عايَنوا كيف فَشِل شيوخُهم في تأسيس مجتمع عربيّ علمانيّ واحد؛ "ديمقراطي وليبرالي، وحَدَاثي وتقدُّمي .."، فممّا أُثِر عن عيسى عليه السّلام:" من ثمارهم تعرفونهم "، فها هي التجارب العلمانية العربية شاخصةً أمام الأبصار؛ شرقًا وغربًا ووسطًا، استعصتْ عليها الشّعوب، وذاقت ألوان الكروب والخطوب.

 

فما هي الحياة التي بشَّرنا بها العلمانيّون في عالَمنا العربي، ونحياها اليوم بكلِّ مرارة ؟

 

   إنّها حياة الجرائم البشعة الّتي لا تجد حدودًا وتعزيرات تردع مُرتكبيها .. إنّها حياة اللصوصيَّة، والرشوة، وانتهاك الحقوق .. إنّها حياة المحسوبيَّة والفساد المالي والأخلاقي .. إنّها حياة الملاهي اللّيلية والرّقص الشّرقي، والخمور المتدفقة .. إنّها حياة ثلاثة آلاف أُمٍّ عَزَبة في مدينة صغيرة، فضلاً عن العواصم الكبرى .. إنّها حياة معاكسات الفتيات وحتّى العجائز، وقلة الأدب والخيانة الزوجية، وشواطئ التعرِّي ... إنّها حياة التخلُّف المُمَنْهج، والفوضى المنظَّمة، والتبعية المقنَّنة، إنّها حياة العمالة للعدوِّ، والتواطؤ على الشّعوب !

 

ومَن يحرس كلَّ ذلك ويحميه ؟ إنها ليبراليَّة الشرطة والاستخبارات والسّجون، التي لا تتورَّع حتى عن قمْع المخالفين الذين انتخبوا "ليبراليًّا "!

 

  أمَّا في التعليم، فقد أراد الليبراليون جامعات مختلطة؛ ليرفعوا مستويات التحصيل الدراسي، فإذا بالجامعات عندنا يُرفع فيها اللباس، وينخفض فيها التحصيل ! أرادوا بالاختلاط تفجيرَ الطاقات العقليَّة والذكاء بفعْل المنافسة بين الجنسين، فإذا بالتفجير الوحيد الذي حَدَث هو تفجير طاقات غرائز المراهقة، أمَّا الذكاء، فدعْ أبناء وبنات المدارس والجامعات المختلطة يحدّثونك عن السلوكيَّات الذكية للتعرُّف على الجنس الآخر !

 

   ولعلّ القارئ يقول: إنك تُبالغ، فأقول: لا والله، إنّي شاهِد على العصر، عصر العلمانية العربية القبيحة، فأنا منذ رُبع قرن في عدَّة جامعات عربيّة؛ طالبًا ثمّ أستاذًا، ولا أدلَّ على ما أقول من مستويات التعليم العلماني العربي، فأين الإنتاج العلمي العربيّ ؟ ما هو نصيبه من الابتكارات وبراعة الاختراع ؟ أين المقالات العلمية المحكمة التي أثرَت المعرفة الإنسانية ؟ كم عدد جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء، والطبّ والاقتصاد الّتي حصَل عليها دُعاة الخلْط والتخليط والاختلاط ؟

 

   لقد خدَعونا فمنحونا جوائز نوبل للسّلام مقابل الانبطاح، وأخرى في الأدب "الجاهليّ" لعلماني جاهليّ معاصر من المدرسة المشئومة، وهو نجيب محفوظ، نظير مهمَّته القذرة التي كُلِّف بأدائها بإتقان.

 

   قال أحدهم من الرياض - فيما معناه -:" لا نريد ليبراليَّة منقولة بحذافيرها من الغرب، لكن نسعى لتأسيس ليبرالية تتواءم مع ثوابتنا الوطنية "!

 

   وقد استحسنَ مقدِّم البرنامج - الذي كان يُنصت إليه - هذا القول، وما درَى هذا المذيع الساذج أنها من حِيَل وخدع الليبراليين، وهي شنشنة قديمة، يروّجونها عندما تشتدُّ عليهم ضغوط أهل السُّنة والجماعة، كما أنَّ ذلك الزعم هو في رأْيهم أفضلُ وسيلة لجلْب المزيد من المسلمين إلى أفكارهم المَرَضيَّة، التي يحسبونها فكرًا مستنيرًا.

 

   وكما قلت، إنّ هذا أسلوب قديم، وهو ما كان يَعِد به غيرهم من العلمانيين في العالم العربي، ثم لَمَّا أَمِنوا، خرجوا إلى العيبِ جهارًا نهارًا.

 

فمثلاً في مصر أُمِّ العلمانية العربية منذ زمن بعيد، صدَّع بعض العلمانيين رؤوسَ الناس بقصة الثوابت، والثوابت، والثوابت... فتَمَسْكنوا حتى تَمكَّنوا، وعندها خرَج أحدهم؛ ليبلِّغ الناس بشعار الليبرالية العلمانية في كل زمان ومكان، وهو:" أن الثابتَ الوحيد هو التغيُّر ".

 

وهذه ليبرالية جزائرية قبل سنين طويلة، كانت تَدَّعي احترام الثوابت، وتزعم أنَّ معركتها الوحيدة مع الإسلاميين هي لربْح المزيد من حقوق المرأة، خصوصًا في قوانين الأحوال الشخصية، لكن بعد التعدُّدية السياسية، واعتماد الدولة للحزب السياسي الذي تنتمي إليه، قرأتُ لها كلامًا تقول فيه:" الصّلاة والصّيام وحتّى الحجّ من عوائق التنمية "!

 

   وهذا علماني أُردني كان محاضرًا في الجامعات، ويدَّعي أمام الجميع احترامَ الثوابت، لكنَّه في اجتماع مع مجموعة من طالباته في دروس الماجستير، دعاهنَّ إلى رفْض العادات والتقاليد الاجتماعيَّة، وضرورة التمرُّد على كلِّ الثوابت، ولَمَّا استغربَت الطالبات من جُرْأَته، قال لهنَّ:" دون التمرُّد لا يمكن تغيير شيء في المجتمع، ثم أرْدَف قائلاً: حتّى الأنبياء كانوا متمرِّدين، ولو لَم يتمرَّد محمد على ثوابت الجاهليين، لَمَا غيَّر شيئًا منها "!

 

   فالدعوة إلى ليبراليَّة وطنيَّة منضبطة بالثوابت، هو تكتيك مرحلي تفرضه البيئة السعودية الحاليَّة، هذا إذا تحدَّثنا عن هذا النوع من الليبراليين؛ لأن الواقع يكشف لنا أنَّ بعضهم قد تجاوز هذا التكتيك بشكلٍ خطير منذ مدَّة بعيدة، وقد ردَّ أحد هؤلاء - عندما حاوَل بعض الأدباء المسلمين أن يوجدوا ما أسموه "حَدَاثة إسلامية" - بقوله:"الحَدَاثة لا علاقة لها بالدين، تؤخَذ كلها كما هي، أو تُتْرَك كلها ".

 

   وسيقولون: ما لنا ولهذه النماذج التي تمثِّل بها، فهي ديكتاتوريَّات استبداديَّة غارقة في الفوْضى، لا نقبلها، وهي علمانيَّات منفلتة، لا نرضاها !

 

   فنقول: ليس موضع النِّزاع بيننا إنْ كانت نماذجكم الميدانيَّة ديمقراطية أو ديكتاتوريَّة، منضبطة أو منفلتة، ترضونها أو لا ترضونها، فالمهم أنَّها من غرْسكم، وسببُه أنَّ بعض شيوخ العلمانية الّذين سبقوكم في العالَم العربي لَم يأْبهوا لنتائج دعوتهم، وإنّما راهَنوا على إقصاء الإسلام؛ لأنّ إبعاده من المجتمع والسّياسة والحياة - في ظنِّهم وحساباتهم - كان وحْدَه كفيلاً بأن يؤسِّس الدولة المدنية المتقدِّمة، والعادلة والمستنيرة، لكن لا شيء من تلك الظنون والحسابات تحقَّق !

 

   ولا يزالون يتبجَّحون، فحتى بعد حصادهم المرِّ، الذي يُريدون التنصُّل منه اليوم، فإنَّ بعضهم بلسان الحال والقال يصرخ:" نريدها علمانيَّة عمياء عَوراء، لكن ليستْ أصوليَّة سلفيَّة، لتكن ديكتاتوريَّة استبداديَّة، لا حُكمًا ثيوقراطيًّا، نريدها ليبراليَّة من نوع النَّطِيحة والمتردِّية وما أكَل السَّبُع، ولا يكون في بنود دستورها "دين الدولة الإسلام "!

 

   وإذا أحسنَّا الظنَّ بالليبراليين السعوديين، فليتفضَّلوا مشكورين ليدلّونا - من الواقع العربي وحتّى الغربي - على نموذج اللّيبرالية الذي يهدفون لتحقيقه في بلاد الحَرَمين؛ لنراه ونُعاينه، وندرسه بموضوعيَّة، وبعد الاقتناع به نضعُ أيدينا في أيديهم.

 

   لا نريد نماذج نظريَّة لدول افتراضيَّة، نريد الملموس المحسوس، فأنتم تزعمون أنَّكم أصحاب المدرسة الواقعيَّة التي لا تؤمن بعوالِم المُثُل الخياليَّة، نريد نموذجًا نتعزَّى ونتبرَّك به؛ انتظارًا أن تتكلَّل جهودكم بتحقيقه، ودون ذلك خَرْطُ القَتَاد، فقد علَّمتنا وعود العلمانيين الذين سبقوكم ألاَّ نشتريَ السَّمك في البحر بعد الآن؛ لذا فإننا لن نقبلَ مغامراتكم الليبراليَّة مستقبلاً، ولن ننتظرَكم حتى تنكبونا في بلاد الحَرَمين بعد ما فَجَعتم العالم العربي بالنكبات المتتالية.

 

   وإذا ما عُدنا لأولئك الذين يريدون خِداعنا بليبراليَّة تحترم الثوابت، فليخبرونا عن أيِّ ثوابت يتحدَّثون ؟ وما هي مرجعيَّة تلك الثوابت؟ ومن المخوَّل من السعوديين بأنْ يحدِّدها ويَضبط معالِمها ودقائِقها؟

 

   لنكن صريحين إلى أبعد الحدود: الليبراليَّة التي تنشدونها هي تأسيس دولة مستنيرة، وتقدُّمية مدنية، وليست دينيَّة، دستورها المساواة والمواطنة، واحترام الحريَّات الأساسية كافَّة.

 

   لن تكون هيئة كبار العلماء والمشايخ مَن سيُحَدد ويَضبط الثوابت في دولتكم الليبراليَّة المرتَقَبة، فكتاباتكم وتصريحاتكم حتى الآن ترسم لنا صورة سلبيَّة وقاتمة عن العلماء والمشايخ، فهم متزمِّتون، متطرِّفون، أصوليون، رجعيون، متعصِّبون، ظلاميون، سلفيون، متقوقعون، ذُكوريون، إقصائيون، إلى آخرها من كلمات النقْص والتحقير الموجودة في قاموسكم، وهو منهج وأسلوب يسعى إلى شيطنة Diabolisation - كما يسمّيها الفرنسيون - علماء ومشايخ السعوديَّة.

 

   وعلى كلِّ حال، فالشيطان يُطِلُّ برأسه، فهو غير بعيد عن فتنة الليبراليَّة، من حيث إنه هو من يديرها في عمومها وتفاصيلها، ومِن ثَمَّ في منهجها وأسلوبها، ولقد تبادَر إلى ذهني حديث المصطفى صلّى الله عليه وسلم حين قال: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِِسَ أَنْ يَعْبُدَه المُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ )) [رواه مسلم].

 

قال النووي رحمه الله:" التحريش: هو الإغراء، والمراد هنا أن يذكرَ ما يقتضي عتابه ".

 

   ولقد نظرْت في الحديث وفي شرْحه، فلم أجدْ له حالاً يمكن مطابقتها عليها إلاَّ فتنة الليبراليين الذين يحرّشون صباح مساء ضدّ العلماء في كُتبهم ومقالاتهم وعلى الفضائيَّات، فهم لا همَّ لهم إلاَّ ذِكْر أنواع النقْد والمثالب، والعتاب الشديد الممزوج في كثيرٍ من الأحيان بالكذب على علماء ومشايخ جزيرة العرب، ويسعون بذلك التحريش للوقيعة بين العلماء وجميع شرائح الأمة؛ لتنفضَّ عنهم، ويخلوَ لهم الجوُّ.

 

- ما هي مشكلة العلماء مع الليبراليين ؟

 

   إنّ المشكلة مع علماء الإسلام ومشايخه - الّذين ستُقصيهم اللّيبرالية - أنّهم أصحاب معيار موضوعيّ واضح في تحديد الثّوابت، من حيث ما يدخل في إطارها، وما لا يدخل فيه، وهو: مدى موافقتها للكتاب والسُّنة، فكل ما أوْجَبه الشّرع أو أجَازَه، فيجب أن يكون كذلك، وكل ما حرَّمه الشرع أو كَرِهه، فيجب أن يكون كذلك، فقواعد العلماء بيِّنة وجَليَّة، لا تُدَارى ولا تُوَارى.

 

ومشكلتهم الثّانية مع العلماء أنَّ علماء المملكة - بلا شكٍّ - لن يتنازَلوا قيد أنملة عن قواعدهم، وكما عَهِدناهم، فهم ليسوا من أولئك الذين يمكن تغيير قناعاتهم بدعوة للغداء أو العشاء، كمثل أولئك الذين عَناهم أنور السادات بقوله:" أنا مستعدّ أجيب أي فتوى بفرخة أو فرختين "!

 

لهذه الأسباب كلّها، فالليبراليون قرَّروا أن يُصبحوا إقصائيّين؛ بإبعاد وتهميش أولئك العلماء والمشايخ جميعًا، ويُنصبوا أنفسَهم الجماعة الوحيدة المخوَّلة بضبْط الثوابت وتحديدها، والإفتاء فيها، فهم - كما أفهمونا - البديل المستنير، الحَدَاثي، المتفتِّح، التقدُّمي، العصري، المتحرِّر ...

 

    والسؤال هنا: ماذا سيكون مصير القرآن والسُّنة الصحيحة الصريحة في مشروعكم لعلمنة بلاد الحرَمَين؟

 

   لنبتعد عن التنظير ولنكن عمَليّين براغماتيّين، ولا معنى لليبراليَّة غير براغماتية، فدعونا نضرب لكم من الواقع أمثلةً لنرى موقفكم منها؛ لندرك ونفهمَ تفاصيل مشروع اللّيبرالية الّذي تعدُّونه لبلاد الحَرَمين:

 

   ها قد أقصينا العلماء وجعلْنا الكُرة في مرماكم، لنفترض جدلاً أنَّكم وصلتم إلى تحقيق ليبراليَّة منضبطة بالثوابت الوطنية، ثمّ فجأة ظهَر أحدُ أبناء مدرستكم الحرَّة، وهداه عقلُه المستنير في بحث جامعي إلى حقيقة أنَّ الله كائن أسطوري لا يختلف عن الآلهة اليونانيَّة والرومانية، وأنَّ محمدًا شخصية وهميَّة، ونَشَر بحثَه المبدع في أسواق السعودية ومعارض كُتبها، ماذا سيكون موقف اللّيبرالية السّعودية ؟ هل ستصادرون الكتاب ؟ هل ستعاقبون الناشر والطابع ؟ هل تسجنون الكاتب ؟ وإذا أصرَّ على فكره الإبداعي المستنير، هل ستكفرونه ؟ وإذا كفَّرتم هذا الحَدَاثي المبدع، ماذا سيكون موقف ليبراليَّات العالم منكم ؟ في أيِّ مذهب ليبرالي ستُصنّفون ؟ هل تقبلون بمذهب "الليبرالية التكفيريَّة" ؟

 

   وإذا حكمتم على هذا الليبرالي المبدع بالزندقة ومِن ثَمَّ القتل، ألا تخشون أنْ يقول الناس:" إنّ الليبرالية السعودية تقتل أصحابها "؟

 

   وخذوا مثالاً ثانيًا، ولنفترض أنَّ بعض مواطني السعودية الأصليّين أو الوافدين، أو حتّى الذين اختاروا تغيير مِلَّتهم وعقيدتهم، أرادوا أن يَبنوا لهم كنيسة في جدَّة، أو معبدًا بوذيًّا في الرياض، أو آخر هندوسيًّا في تبوك، أو أراد أحدُ التجار المتكسِّبين أن يُنشئ مطبعةً لطباعة الإنجيل في مدينة "أبها"، فماذا سيكون موقف الليبرالية السعودية ؟ هل تمنع أو تسمح ؟ وكيف ستمنع ودستور الدولة المدنية الليبراليَّة سينصُّ حتمًا على احترام حرية الاعتقاد، والحق في ممارسة العبادات والشعائر ؟!

 

   ولنفترض أنَّكم ليبراليون مسلمون ترفضون تلك الحريَّات الدينية، وقرَّر أولئك المخالفون لكم في الدين أن يَلْجَئوا إلى القضاء الحُرّ النّزيه واللّيبرالي؛ لإنصافهم حسب قواعد الليبراليَّة، فوافَقهم القضاء على مطالبهم، هل ستقبلون حُكمه ؟ أو تدعون إلى التمرُّد على القانون والقُضاة ؟

 

كيف ستكون صورتكم أمام العالَم على شاشات الفضائيَّات عند الحصاد الإخباريّ ؟

 

إنّكم ستضعون أنفسكم في مواقف فكرية مُحرجة لا يُمكن الانفكاك عنها.

 

   إنَّ احترام الثوابت في مذهب الذين يريدون خِدَاعنا يناقض أُسس الحداثة، بل إنَّ الكفر بالثوابت والإيمان بالنسبيَّة هو دين الحَدَاثيين في العالم، فهل سيشذُّ الحداثيون السعوديون عن هذه القاعدة ؟

 

   لكننا ككل مرة سنُحسن الظنَّ بكم، فأنتم سعوديون وكثيرٌ منكم من أحفاد الصحابة رضي الله عنهم فإذا كنتم ستنشِئون ليبراليَّة تحترم الثوابت، فهل ستضمنون لنا أنَّ الجيل الليبرالي القادم سيحترمها ولا يغيِّرها ؟ أم أنَّ لكلِّ جيلٍ ليبرالي معركته الخاصة معها، ومِن ثَمَّ جيلاً بعد جيلٍ، ومن تضييق لدائرة الثوابت إلى تضييق، حتى تختفيَ كلها ؟

 

أيها الليبراليون السعوديون:

 

   فكِّروا في بلاد الحَرَمين مستقبلاً، تخيَّلوا الأجيال التي ستَنخدع وتسير على خُطاكم، إذا ما قرَّرتم شيئًا فشيئًا أن تَمحوا الثوابت، وبالأخص كل ما له علاقة بالكتاب والسُّنة، لا تلوموهم، فلقد علَّمتموهم أنَّ السلطة المطلقة بيد الشعوب التي من حقِّها قَبول أو رفْض ما تشاء بما فيها الثوابت، وَفْق الانتخاب والأخْذ برأي الأغلبيَّة، ولن يقفَ أعداء الإسلام والسعودية على الحياد، فمعركة الليبرالية معركتهم بامتياز؛ لذا فسيمدونها بكل ما تحتاجه لنجاح التمرُّد على الثوابت، والواقع يُبيِّن لنا أن المعركة بدأتْ فعلاً.

 

   أيها الليبراليون السعوديون: إن الليبرالية العلمانية مُسَدَّس وجَّهه أعداء الأمة إلى نَحرِ وصدْر الإسلام والمسلمين، فاحذروا أن تكونوا أنتم الرَّصاصات التي ستنطلق منه.

 

   أيها الليبراليون السعوديون: تخيَّلوا بلاد الحَرَمين بلا قرآن ولا سُنة، ماذا سيكون موقعها بين المسلمين والعالم ؟

 

   أيها الليبراليون السعوديون: أعرف أنَّ بعضكم مُحِبٌّ لدينه وربِّه ونبيِّه، لكنَّكم اليوم تسنون سُنة الليبرالية السيئة التي ستحارِب - بلا هَوَادة - الله والإسلام في بلاد الحَرَمين، وتذكَّروا قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: (( مَن سنَّ سُنة سيِّئة، فله وزرُها ووزرُ مَن عَمِل بها إلى يوم القيامة، لا يَنقص من أوزارهم شيئًا )).

 

   أيها الليبراليون السعوديون: إن عَلمنة بلاد الحَرَمين لعبٌ بالنار، ومصير اللعب بالنار هو النار، وإذا كان الله سيحمي بلاد الحَرَمين في آخر الزمان من المسيح الدَّجال، فلا شك أنه قادِرٌ اليوم أيضًا على حمايتها من دَجَاجِلَة الليبرالية العلمانيَّة.

 

 

تم قراءة المقال 4685 مرة