الاثنين 24 ذو الحجة 1442

نهاية الأخلاق... وليس نهاية التاريخ

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

نهاية الأخلاق... وليس نهاية التاريخ

تزعم الولايات المتحدة الأمريكية أنها تمتلك أفضل نموذج اجتماعي وثقافي وحضاري توصلت إليه المجتمعات، وإن مبادئ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، التي تطبقها أمريكا، هي في نظرها قمة ما يمكن أن يخترعه البشر، وحتى أحفادنا البعيدون، بعد مئات القرون سيكونون عاجزين عن إبداع مشروع حضاري، بجميع أبعاده يفوق الموجود حاليا، فليس في الإمكان أبدع مما كان.
وهذا الزعم العريض والغرور المَرَضي، ليس من بنات أفكار اليمين المتطرف أو المحافظين الجدد، وإنما ظهرت بوادره قبل أكثر من قرن ونصف، فقد تواتر عن أبراهام لنكون، الرئيس الأمريكي، في الستينات من القرن التاسع عشر، أنه كان يفتخر بقوله: إن هذا المجتمع يُمثل أفضل آمال الإنسانية وآخرها!
مما يعني أنه سبق في فكره هذا ما اشتهر به فرنسيس فوكوياما في بحثه المثير نهاية التاريخ The End of History  .
يقول فوكوياما: يجب على البشرية كلها أن تتطور، وسوف تتطور على أساس النموذج الذي وضعه الطرف المنتصر، أي عن طريق الديمقراطية الليبرالية.
كما يصرح أنه لا يوجد خيار آخر سوى التحرك على الطريقة الديمقراطية الليبرالية، لأنها النقطة النهائية لتطور الأيديولوجيات البشرية.
ويتحدى البشرية متسائلا: هل يوجد في العالم اليوم حياة قادرة على أن تكون بديلا للديمقراطية الليبرالية !؟
هذا الغرور اللامحدود، هو الذي يدفع السياسيين في البيت الأبيض إلى شن الحروب على الشعوب، والاعتداء على البلدان القريبة والبعيدة، واحتلال الدول المستقلة بالقوة المدمرة.
النرجسية المزمنة التي يعانيها قادة الرأي في أمريكا، سواء كانوا سياسيين أو مثقفين أو رجال أعمال، وضعتهم في صدارة أنبياء الفضائل الديمقراطية والحقوق الإنسانية في القرن العشرين، ويعتقد أولئك الأنبياء أنه بدونهم وبدون الولايات المتحدة الأمريكية فإن العالم سيعيش في شقاء لا مثيل له، ومن ثم نجدهم  يسوغون الحروب الأمريكية التي فتكت بالملايين من البشر، لأنها في زعمهم السبيل الوحيد لرفع شقاء أكبر وأعظم من تلك الحروب الاستباقية، التي هي وسيلة وليس غاية في حد ذاتها، فالقضية لا تعدو كونها موازنة براجماتية بين الأرباح والخسائر، والأيام السعيدة قادمة لا محالة كما يبشرون!
كان الرئيس الأمريكي ولسون يتبجح بقوله: إن الله خلق الولايات المتحدة دون غيرها لسعادة وصلاح البشرية.
إذن، فنحن هنا أمام نموذج آخر لشعب مختار، يعلق عليه الباحث " نيكولاي فان كرينيتور" في دراسته المعنونة " فقه السياسة الأمريكية" : إننا أمام نظرية انتخاب جديدة، فحسب السياسيين الأمريكيين فقد اُنتخبت دولتهم من بين غيرها لتقود العالم وتفرض عليه نموذجها الحضاري.
وتبرز مظاهر النرجسية الأمريكية في البنية العقلية لهوليوود، فثمة عشرات الأفلام القديمة والحديثة المنتجة، التي تضفي هالة من البطولات الخارقة لأمريكا والأمريكيين الطيبين، الذين يدافعون عن العالم في وجه النازيين والشيوعيين وضد الكائنات الخارقة والفيروسات القاتلة والميكروبات السامة... وكأنما قائمة أعداء البشرية على الأرض غير كافية، اخترعت هوليوود أعداء يفدون إلينا من المريخ وغزاة من مجرات تبعد عنا ملايين السنين الضوئية...
لكن إعصار كاترينا الذي ضرب قبل سنوات ثلاث ولايات أمريكية كشف حينها عورة أمريكا أمام العالم، ولا أتحدث هنا عما تركه الإعصار من دمار، فلا راد لقضاء الله وقوته، لكن تعامل الإدارة في البيت البيضوي مع الكارثة، هو الذي يجعل من كل ما تبجح به سياسيوهم ومثقفوهم، من ادعاءات التفوق والحلم والمساواة ونهاية التاريخ، مجرد دعاية فارغة كاذبة منافقة...
فقد كشف الإعصار عن فضيحة أخلاقية، وهي التمييز العنصري الذي يتعرض له السود في بلاد الحرية والمساواة، لم يتحرك بوش لإنقاذ المنكوبين إلا بعد أن بحت أصوات النواب والشيوخ السود في الكونجرس، متهمين الإدارة الأمريكية بالتقصير في حماية السود من تلك الكارثة ومن تبعاتها، وكذلك بعد ارتفاع انتقادات المثقفين والإعلاميين السود في كل مكان... فهول الكارثة لم يدفع نائب الرئيس ديك تشيني لقطع إجازته الصيفية، بينما ظهر الرئيس على الفضائيات حاملا كلبه المدلل ومعلقا على الحدث ببرودة.
أحد الإعلاميين ذكر الرئيس بهرولته إلى فلوريدا، في أوج الحملة الانتخابية، فور أن ضربها إعصار صغير لمساندة أخيه الحاكم.
وأما في لويزيانا بينما كان الناس في نيو أورليانز يتضورون جوعا، بعد أن فقدوا كل شيء، أرسل بوش آلاف الجنود لحماية المراكز التجارية من النهب بدل إرسال الطعام لهم.
ووصف أحد الكتاب كوندوليزا رايس التي نفت فكرة العنصرية في التعاطي مع الكارثة، بأنها تنافق مثل يهودي أوروبي - قديما- يتملق الملوك بينما شعبه يشقى تحت نيرهم .
فالأبارتيد الأمريكي ظاهرة مزمنة لا يمكن إنكارها، يقول اندرو هاكر في كتابه: "دولة من شعبين: البيض والسود..تمييز وانفصال وعداء" يمكننا النظر إلى أمريكا على أنها دولة من شعبين: البيض وهم الأغلبية المسيطرة والسود، وهم الأقلية المضطهدة، وإن السود هنا في أمريكا يعيشون كأفراد غرباء وأجانب على أرض وُلدوا وترعرعوا فيها.
والأخطر من ذلك أن الأخلاق الديمقراطية الأمريكية المزعومة، تذهب أدراج الرياح، لما نعلم أن السياسيين لا ينتهجون هذا الأسلوب التمييزي بمفردهم، وإنما يقف إلى جانبهم نخبة من الانتلجنسيا الأمريكية، من المنظرين الليبراليين في المراكز الأكاديمية المتحالفين مع السياسيين، وقد نبه إلى هذا التحالف نعوم شومسكي، في بحثه عن تحكم البيت الأبيض في كافة جوانب الدولة، بمساعدة تنظيرات النخبة المفكرة .
ومن أمثلة ذلك في موضوع التمييز بالتحديد نجد  وليام شوكلي، الحائز على جائزة نوبل للسلام يقول: إن الأشخاص الذين ينحدرون من أصل أفريقي هم أقل من غيرهم في ميزان التطور.
كما أن البروفيسور اللامع آرثر جنسن، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا، توصل إلى نتائج مذهلة في اختباراته العقلية على الأطفال، يقول البروفيسور المحترم: إن الأطفال السود لن يستفيدوا من دخولهم مدارس رياض الأطفال التمهيدية، التي تؤهلهم للالتحاق بالمرحلة الابتدائية، كما هو حال أقرانهم البيض، والسبب أنهم يفتقرون إلى القدرات الفطرية لأنهم من سلالة رديئة!!.
ولما كانوا من سلالة رديئة فليس من حقهم الاستمتاع بنفس الحقوق مع البيض، بما فيها حق إنقاذهم من مخالب كاترينا وأذيالها، ولهذا فإن الدجاج في كوبا يحظى بمعاملة أحسن من التي يتلقاها السود في أمريكا، كما صرح متهكما الرئيس الفينزويلي الراحل شافيز.
هذا غيض من فيض في موضوع التمييز، والذي يكشف مدى افتقار أنبياء الفضائل الديمقراطية إلى الأخلاق، وما بالك لو شرع المرء في ذكر الأعراض الأخرى "لأنيميا" الأخلاق، التي يعانيها الأمريكيون من ظلم ونفاق سياسي ودعم الدكتاتوريات وإرهاب دولي ومؤامرات دنيئة وفساد مالي وجريمة وغياب الفضيلة وشذوذ ومادية متوحشة وفراغ روحي... فهل هذه هي صفات المشروع الحضاري الذي يُنهي التاريخ؟
التاريخ وحده هو الكفيل بأن يدافع عن نفسه بنفسه، وسيثبت أن نهاية الأخلاق في أمريكا يرشحها للالتحاق بغياهب التاريخ كمن سبقها من الحضارات المتجبرة في الأرض.
( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال... فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام).

تم قراءة المقال 374 مرة