الاثنين 24 ذو الحجة 1442

مصير الأمة بين العُظماء والنَّكِرات

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

مصير الأمة بين العُظماء والنَّكِرات

.... في سنة 15 للهجرة كانت معركة القادسية التي دارت بين المسلمين والفُرس، أورد ابن كثير بعض تفاصيلها، حيث أرسل قائد المسلمين سعد ـ رضي الله عنه ـ قبل فتحها ربعي بن عامر ـ رضي الله عنه ـ رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه، وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير وأنفَس اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاج وغير ذلك من الأمتعة الباهظة، وقد جلس رستم على سرير من ذهب.
ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفَرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحكَ.
فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.
فقال رستم: آذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرَق عامتها.
فقالوا: ما جاء بكم؟
فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
هذه هي العظمة، كانت فارس في ذلك الوقت القوة العالمية الثانية الى جانب الروم، فيدخل مسلم مؤمن على جنرالات الاستكبار يدوس دنياهم بنعليه، فيوقرونه لأنهم يعرفون أنه وقومه لم يَفِدوا عليهم شهوة في السلطة ولا طمعا في المناصب ولا منافسة على الكراسي...، علموا صدقه فهابوه وقدَّروه، ولو كان من عُباد الخميصة والقطيفة والدينار والدرهم لكانوا "تمندلوا" به، وكانوا أهملوه في غرفة الانتظار، كما فعل ذات مرة رستم أمريكا المعاصر لما ترك رئيس دولة عربية ينتظر لساعات خارج مكتبه، لأنه كان منشغلا بمونيكا ليفنسكي محبوبة قلبه، كما كشفت ذلك حينها محاضر المحقق القضائي كينث ستار في القضية.
.... في 30 أبريل 1827 دخل القنصل الفرنسي دوفال على الداي حسين حاكم الجزائر، فتحدثا قليلا ثم خاطب الدايُ القنصلَ فسأله إذا كان تلقى ردا على الرسالة التي وجهها الى الحكومة الفرنسية حول تسديد الديون، فأجابه دوفال بصلافة قائلا: "إن ملك فرنسا لا يتنازل لمراسلة داي الجزائر"... وكان الداي جالسا والقنصل واقفا على مسافة معتبرة، فطرده الداي من المجلس صارخا في وجهه: "اخرج يا رومي من هنا" وقيل إنه صفعه بمروحته... فبدأ حصار الجزائر لثلاث سنوات انتهت باحتلالها.
انظر كيف كانت الجزائر الدائنة تقرض فرنسا المدينة بالغلات والأموال، وكيف كانت هي صاحبة اليد العليا المعطية لا المتسولة، ثم تأمل صرخة الداي وسبه للقنصل بكلمة الرومي، التي تعني الكافر والنجس في أبجديات اللغة العامية الجزائرية، إنها العزة والكرامة، لا الاستكانة للاملاءات، ولا القبول بالضيم والاحتقار والتلذذ به، كما هو حال كل مسلم مريض نفسي بالمازوشية، التي تعني تلذذ المستكين بالاحتقار والأذى الذي يأتي من خصمه وقاهره.
.... في 1918 عقب احتلال بريطانيا لإستانبول عاصمة الخلافة العثمانية، وجهت الكنيسة الانجليكانية ستة أسئلة الى المشيخة الإسلامية بالعاصمة، تتضمن في جملتها إثارة لمشاعر المسلمين وانتقاصا للإسلام، وطلبت الكنيسة بوقاحة وترفُع أن يأتيها الجواب فيما لا يزيد على ستمائة كلمة.
وكانت مشيخة الإسلام عهدت الى بديع الزمان سعيد النورسي أحد علمائها الإجابة على الأسئلة، فكان الرد عليها: "إن هذه الأسئلة لا يجاب عليها بستمائة كلمة، ولا بست كلمات ولا بكلمة واحدة، بل ببصقة واحدة على أفواه السائلين".
كانت الأسئلة استفزازية مذَيلة بشروط أكثر استفزازا واحتقارا لعلماء الشرع، لكن نخوة الرجال الذي صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تأبى أن يرضخوا لتلك الإهانات، فكانت الإجابة كما رأينا بصاق في وجوه المسيئين وبزاق في أفواه العابثين بدين الحق، فالإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، يشمخ برأسه ولا يطأطئ كما يريد له المنبطحون اليوم، إذ يكاد أحدهم وهو يكلم زعماء إسرائيل أو الغرب أن يستلقي على منخاره خنوعا وخضوعا وخشوعا.
وماذا كان رد فعل الانجليز المعتدين؟ وكيف تصرفت بريطانيا المنتفخة بادعاءات احترام حق الرأي والتعبير؟
حكمت على سعيد النورسي بالإعدام أمام محكمة عُرفية بسبب ما اعتبرته إساءة إلى بريطانيا والى المذهب الأنجليكاني، لكن بفعل الهَبَّة الشعبية التي ثارت في أصقاع الأناضول انتصارا لقائدها الروحي سعيد النورسي أُلغي حكم الإعدام، وتراجع الجلادون تحت هتافات حماية الدين ومؤازرة شيوخ الإسلام المنافحين عنه قولا وفعلا، دما وحبرا، جسدا وروحا.
أولئك هم العظماء تزهو بهم الأمة وتفرح، لكنهم ثلة قليلة، وهي سنة كونية فالأكثرية مذمومة لا بركة فيها... فعلى مدار خمسة عشر قرنا من عمر الأمة المحمدية مرَّ بها مئات الآلاف من السياسيين والعسكريين وأرباب الأعمال ورجال الفكر والثقافة والقضاء والدين... لم يقدموا للأمة شيئا يذكر، بل حلَبوها ثم مصوها مصا، ولم يشكروا، ومع أنهم كانوا في مواقع تمتعوا فيها بسلطة مادية أو معنوية إلا أنهم بخلوا على أمتهم في أحلك ظروفها بأدنى دعم أو أقل تأييد أو أبسط مساعدة، انشغلوا بلذات ذواتهم ومتع أنفسهم... فأمضوا أعمارهم بين أكل ونوم، مضغ وشخير، من المائدة إلى المعدة إلى الكنيف ـ أكرمكم الله ـ دك وتفريغ... دك وتفريغ.... دك وتفريغ... ثم رحلوا عن الكرة الأرضية التي أثقلوها بقرفهم ومخلفاتهم... ولم يتركوا بصمة إيجابية على صفحة الزمان تشفع لهم في الدنيا والآخرة، لقد خذلوا الأمة فخذلهم ربها، فهلكوا غير مأسوف عليهم فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ....
أما الفئة التقية الصالحة من عوام الناس فمع حبها لدينها وشرع ربها، فإنها وإن أرادت خدمة الدين والأمة لا تستطيع فهي من جهة لا تكاد تفرغ لعلاقتها وفروضها الشخصية مع الله بسبب المسؤوليات الاجتماعية وشظف العيش، ومن جهة ثانية فهي معزولة عن مراكز القرار والتأثير.
أما الغالبية الكبرى من الغوغاء والدهماء فهي والعدم سواء....، شعوب تنام على غمغمة الكُرة المستديرة، وتستيقظ على دندنة الأغنية الخليعة....،  كان يا مكان في قديم الزمان رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله... فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات... تنسكوا بالثقافة الغربية وزهدوا في دينهم وتركوه ليعبث به الطائشون، ويخنقه في كل بقعة الحاقدون ويزدريه الكارهون ويمتهنه الطالحون....، لم يَسِرْ الأحفاد على خطى الأجداد لذا لم يُشرفهم الله بأن يكونوا من حُماة دينه وحُراس شرعه... كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ.
نعم هم من سلاله الأسود، لكن الاستنساخ الثقافي حوَّلهم إلى حُمر مركوبة، وما أتعس حالهم لما يترجل راكبهم ويطلقهم يرتعون هنا وهناك كالعجماوات ... بل كالأموات في مسلاخ أحياء لا غاية لحياتهم ولا معنى لعيشهم...، بلَّدَ الإعلام مشاعرهم، ونكس ضمائِرَهم كلُ ما يصلهم من قنوات "التبهليل" ويأتيهم من أرض التصابي الحضاري، لقد صاروا مجتمعا للفُرجة، يحبون اللعب ويحبهم اللعب....، بعضهم محسوب على الملتزمين، يبلغ طول لحيته سُرَّته، يشتغل في المقاهي والأزقة وأحيانا المساجد محللا رياضيا طيلة السنة، للدوري الاسباني والبطولة المحلية والكأس العالمي، يتنفس التحليل الكروي ليل نهار، ثم في رمضان يرفع يديه في دعاء القنوت أن ينصر الأمة الإسلامية على الصهاينة الغاصبين والصليبيين الحاقدين... إلى آخر قائمة أعداء الدين، كان طيلة السنة يدعو أن تهزم برشلونة الريال وتغلب المولودية الشباب...، والآن يقف في التراويح يتضرع بدعاء القنوت، ولو كنا أسميناه دعاء "القنوط" لما أخطأنا المرمى.
لقد كشف التاريخ أن قيمة الأمة برجالها العظماء ونسائها القديرات، وهم قلة من النخبة نُعول ـ بعد الله ـ عليهم في مستقبل الأيام لتبقى أمتهم واقفة بلا انحناء، شامخة بلا التواء، ناهضة بلا إعياء، أما الباقون من "الغاشي" و"الزحام" والحشود المليونية بل المليارية فنكرات عاشوا ونكرات ماتوا ونكرات قُبروا ونكرات سيبعثون ويحشرون....

تم قراءة المقال 427 مرة