الأحد 24 ذو الحجة 1443

السيكولوجية والسيرة النبوية

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

"السيكولوجية والسيرة النبوية" (1)


عندما أعلن مايكل هارت عن كتابه "العظماء المائة" أصيب كثير من المفكرين والباحثين والمثقفين بالصدمة والاندهاش..، لأنه جعل على رأس أولائك العظماء الذين صنعوا التاريخ وغيروا العالم محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
فكيف لهذا الرجل البدوي الأمِّيّ الذي عاش في صحراء قاحلة في أزمنة غابرة أن يحظى بمرتبة تسبق كبار السياسيين والمفكرين والأدباء والمخترعين وأصحاب المذاهب الفكرية العظيمة السابقين واللاحقين...فلا أفلاطون ولا سقراط ولا أرسطو نالوا تلك المرتبة.. ولا أحد أيضا من الذين جاؤوا بعدهم: كأمثال فولتير وديكارت وروسو وكارل ماركس وانجلز ووليام جيمس وفرويد وكونت ودوركايم...
انكب الباحثون على دراسة السيرة النبوية_ وهي حياة النبي صلى الله عليه وسلم من مهده إلى لحده، وأكثر ما يعنى العلماء به هو ما ثبت بعد استلام رسالة الإسلام، من طريقة عيشه والتعامل والعلاقات والأحداث والوقائع الصغرى والكبرى، وقد يضم البعض لها أقواله وأفعاله وتقريراته_ كل حسب زاويته المعرفية ومقاربته الأكاديمية، سواء بهدف الاستفادة أو النقد، ففي السياسة تُستَلهم دروس السياسة، في القانون تُستَنْتجُ الأحكام والقوانين العامة والخاصة _إذ يُعتبر صاحب الرسالة مشرِّعا ومقنِّنا_، وفي الإعلام تُستخرج أساليب الدعاية والإعلام في الدعوة والإرشاد، في الاجتماع والارنتروبولوجيا تستنبط المفاهيم الاجتماعية والثقافية العامة لصناعة الثقافة وتأسيس المجتمع بعلاقاته وتفاعلاته المعقدة....وكذا.
وما يهمنا أكثر، هنا، كسيكولوجيين وتربويين هو تناول السيرة النبوية وتَلَمُّس نقاط الالتقاء والافتراق والقرب والبعد عن مفاهيم علم النفس وقواعده بفروعه كافة، من خلال تفاعلات صاحب النبوة مع الأفراد، من حيث بناء شخصياتهم والتعاملات مع العقل والنفس والسلوك...(يتبع)


السيكولوجية والسيرة النبوية (2)


د. يزيد حمزاوي _رحمه الله_
استطاع النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يبني جيلا من الصحابة الذين اتخذهم مَنْ بعدهم من الجماعات والأفراد نماذج إيجابية يقتدى بها على مدار تاريخ هذه التجربة، ولا شك أن تلك القدوات التي تعلمت وتعاملت مع المعلِّم الأول محمد، صلى الله عليه وسلم، كانت في أعين مقلديهم نماذج لها شخصيات سوية ونفوس زكية وعقول ناضجة وسلوكيات قويمة بل اعتبرهم البعض أُسوات مثالية غير قابلة للاستنساخ والتكرار.. وهذا ما يفسر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..."..هذا الطراز من الناس هم من كان لهم الأثر الفعال والسريع والعميق في من احتكُّوا بهم من البشر عبر الزمان والمكان من مختلف المشارب الفكرية والمجتمعات الإنسانية والثقافات المتنوعة.
والآن بعد مضي أربعة عشر قرنا من عمر هذه السيرة النبوية، هل ما زالت قادرة على تقديم ذات العطاء في صناعة الإنسان وتزويده معنويا بالطاقة العقلية والنفسية والسلوكية لمواجهة التحديات الهائلة التي تفرض نفسها عبر التثاقف والغزو الفكري والتلاقح الحضاري وتزاحم النماذج الفكرية التي تفرضها العولمة، والتي تسعى لبناء أجيال الغد المستعدة والمزودة بالمهارات والكفاءات والقدرات التي تعينها على تلبية حاجاتها النفسية للعيش بطريقة سوية _بل ومبدعة_ بعيدا عن الأمراض والاضطرابات السيكولوجية التي أضحت سمة العصر؟
(يتبع)


السيكولوجية والسيرة النبوية (3 الأخير)


كتبه الدكتور يزيد حمزاوي رحمه الله...
ولا يمكن للأكاديمي أن يفهم التجربة الإسلامية في بناء الإنسان المسلم من خلال فكر تنظيري بعيدا عن التجربة العلمية التطبيقية التي تتقاطع إلى حد كبير مع النظريات العلمية الحديثة ونتائج الدراسات والأبحاث السيكولوجية الجادة، ولعل من المناسب هنا ضرب بعض الأمثلة من التجربة النبوية التي تثير الفضول العلمي للباحثين وتحثهم على التأمل بالنظرة الفاحصة الدقيقة والموضوعية لهذه التجربة الإنسانية والدينية التي تركت آثارا عميقة في البشرية جمعاء.
- يقول النبي صلى الله عليه في أحد المواقف "لا طلاق في إغلاق" وفي آخر "لا تغضب، وفي آخر "لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان" أليس هذه دلالات على الدوافع النفسية وأثرها في السلوك؟
- وردت نصوص تفرق بين الذكر والأنثى مثل حديث "ما رأيت من ناقصات عقل ودين" هل هذا إشارة لاختلاف أنماط التفكير واختلاف الملكات العقلية بين الذكر والأنثى، وماذا يقول علم النفس المعرفي في ذلك؟
- جاء الإرشاد النبوي: "علموا أبناءكم الصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع...ألا يَطرح الأمر بالضرب في التربية والتعليم تساؤلات كبيرة تتناولها التربية الحديثة..فهل نضرب أم لا؟ وبأي منهجية؟ والتفريق في المضاجع في هذا السن عناية بمرحلة المراهقة الأولى بتغيراتها الانفعالية والجنسية..؟
- تُظهر المواقف النبوية في الأزمات الكثير من الصبر والجلادة، وفي أحيان أخرى التغافل والتجنب عن السفاسف...أليست كلها مؤشرات على الصلابة النفسية وأساليب مواجهة الضغوط؟
- التواضع النبوي والأمانة والصدق والحلم والشجاعة....أليست كلها محددات لسمات شخصية النبي صلى الله عليه وسلم؟
- يأتي الصحابة منفردين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستنصحونه في أفضل الأعمال، فيعطي كل واحد إجابة تناسب حاجته: حج مبرور، جهاد في سبيل الله، الصلاة على وقتها، طاعة الوالدين...أليس هذا تفريدا للتعليم واهتماما بسيكولوجية الحاجات، كما ذهب إليها "ماسلو" ؟
- في مواقف عديدة من السيرة النبوية تُمنح امتيازات ومعاملة خاصة لكل من المريض والمجنون والطفل والضعيف والكفيف والأعرج...ألا يعد هذا من السيكولوجية الفارقية، وكذلك من الاهتمام الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة؟
- جاء في أحاديث مثل"المرء على دين خليله" و حديث "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل بائع المسك ونافخ الكير: فبائع المسك إما أن يحذيك أو تبتاع منه أو تجد ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثا"...أليس هذا تأسيسا لأسلوب التعلم بالملاحظة أو النمذجة الذي ركزت عليه نظرية التعلم الاجتماعي السلوكية وتحديدا "بندورا" ؟
ولو ذهبنا نستقصي السيرة النبوية الفعلية والقولية والتقريرية لاستخلصنا الكثير من المدلولات التربوية والسيكولوجية...وهي كلها حقول معرفية خصبة يرجى من الباحثين أن يولوها العناية بحثا ودراسة بموضوعية الأكاديمي ورصانة المفكر...

تم قراءة المقال 174 مرة