الأحد 3 ذو الحجة 1432

فلسطين (6) واجباتها على العرب

كتبه 
قيم الموضوع
(2 أصوات)

   كاتب هذه السطور عربيٌّ، يعتزُّ بعروبته إلى حدِّ الغلوِّ، ويعتدُّ بها إلى حدِّ التعصُّب ويفخر بأبوَّة العرب له إلى حدِّ الانتخاء، ما يودُّ أنَّ له بذلك كلُّه جَميع ما يفخرُ به الفاخرون مِن أحساب؛ فإذا أدار الضمائر في هذه المقالات على منهج التكلّم وقال: أنا، ونحن، وقلنا، وفعلنا، ولا نرضى ولن نرضى فهو حقيق بذلك، وإذا حَشر نفسه في العُصبة الذائدة عن فلسطين، وأشْرَكها في العُصبة الغالية لفلسطين، فليس بِمدفوع عن ذلك، لأنَّه عربِيٌّ أولاً، ومسلم ثانياً، وفلسطيني بِحكم العروبة والإسلام ثالثاً، فله بعروبته شِرْك في فلسطين من يوم طلعت هوادي خيول أجداده على البلقاء والمشارف، وتصاهلت جيادهم باليرموك، تَحمل الموت الزّؤام للأروام، وله بإسلامه عهد لفلسطين من يوم اختارها الباري للعروج، إلى السماء ذات البروج،

فلسطين (6) واجباتها على العرب

 

وله إلى فلسطين نِسبَة من يوم قال الناس: مسجد عُمر، بل من يوم قالوا: غزَّة هاشم([1])، فإذا لم يَقُم بالحق، ولم يَفِ بالعهد، وُسِم بالعقوق لوطنه الأكبر، ووُصِم بالخيانة لدينه الجامع، وزنَّ بدعوى البنوة في تلك الأبوة، وقديماً انتخى جرير وهو في الصميم من تميم بِخيله التي وردت نجران معلمة بالدارعين، وما وردت نجران إلا لإنقاذ تيم، حين مسّها الضيم([2])، فكيف لا ينتخي بِخيله التي وردت المشارف مَنْ هو في السر مِن فِهْر، وفي الذوائب من قريش، وما وردت إلا لإنقاذ تراث الخليل، من يد الدخيل.

 

    وهذه الصحيفة عربية، تَلوح من خلال سطورها وَمضات من إشراق البيان العربي، وتَسري في جوانبها نفحات من سرِّ العروبة، وتُسَجَّل على صفحاتها صورٌ مِن أمجاد العرب، وتُستروَح من أعطافها سِمات مِن شمائل العرب، وترفضُّ فِقَرها –أحياناً- عن مِثل فتيت العنبر من مفاخرهم، وعن مِثل شتيت الجوهر من آدابهم، وهي بَعدُ لسان من ألسنة الإسلام، تُنافح عن تراثه، وتُناضل بين يدي وُرَّاثه، وتُجاوز في ذلك مواطن العرب إلى حيث تتشابك الوشائج الروحية، وتتعانق الفروع الإسلامية، إلى حيث تجتمع القلوب على القرآن، وتتظاهر على تلاوته الألسنة والأسماع، إلى حيث تَتفيَّأ على النفوس ظلالُه، ويرتسم فيها جلالُه، فإذا تقلّدت هذه الصحيفة القلم الجائل، ورَوَّتْ ظمأها بالمداد السائل، في سبيل فلسطين فهي حقيقة بذلك، وإن ذلك لبعض حقِّ فلسطين عليها.

 

   وهذا الوطن الذي نبتنا في ثراه، وغُذّينا بثمراته، وسُقينا عذبه ونَميره، وتقلّبنا بين جباله وسهوله في النضرة والنعيم، وأودعنا فيه الذخائر الغالية من رُفات الأجداد، وطنٌ عربيُّ المنتسب، يشهد بذلك القلم واللسان، والأسماء والأفعال، وتشهد بذلك التواريخ المكتوبة، والأخبار غير المكذوبة، فإذا تظلَّم وتأَّلم لفلسطين، وامتعض وارتمض([3]) للعدوان عليها، وإذا نهض يُواسي ويُعين، ويُسعف ويُسعد، فهو حقيق بذلك، وإن ذلك لبعض حقِّ فلسطين عليه.

 

  ولكن...هل من الصحيح أن التفجّع والتوجّع والتظلم والتألم والأقوال تتعالى، والاحتجاجات تتوالى، هي كل ما لفلسطين علينا من حقّ؟ وهل من المعقول أن التفجّع وما عطف عليه مُجتمعات في زمن، مقترنات في قرن تدفع حيفا، أو تَفُلُّ لظالم سيفاً، أو تردُّ عادية عادٍ، أو تُسفِّهُ حُلم صهيون في أرض الميعاد؟ لا...والذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

 

   قُسِّمت فلسطين "بالتصويت" وهو أضعفُ صدى، وعلى "الأوراق" وهي أنزرُ جداً، وبالأغلبية السائرة على غير هُدى، تحدياً للعرب الذين كانوا في ذلك المجلس أضعفُ ناصراً وأقلُّ عدداً، فقامت قيامة العرب الأُباة حيثما أقلَّتهم أرض، وكان المظهر الأوَّل للإباء العربي إجماع مندوبيهم في جامعة الدول على استنكار التقسيم، وتسمِيته باسمه الحقيقي وهو الاعتداء والإجرام، وإرسالهم في وجوه الظالمين صيحة صاخة بأنهم لا يذعنون لهذا الحكم ولا يخضعون له، وأنَّهم سيتحدون هذا القضاء وقضاته بالاحتكام إلى السيف، يمحون به بغي الخُلطاء، وبقية اللقطاء، فسجَّل أولئك المندوبون للعروبة موقفاً مِن مواقف الشرف، ما هو بأول المواقف ولا بآخرها، وكان المظهر الثاني في الصحف والألسنة والأقلام، فأجمعت صُحُف العرب على اختلاف مواطنها من بغداد إلى مراكش على التنديد والاستنكار، وأجمع خطباء العرب على التحريض والاستنفار، وكان المظهر الثالث مظهر الأمم العربية فتداعت إلى المؤتمرات، وتنادت إلى الاجتماعات والمظاهرات.

 

   ولكن… هل من الجد أن هذه المظاهر الثلاثة مُجتمعةً هي كل ما لفلسطين على العرب من حقوق؟ وهل هذه المظاهر الثلاثة مجتمعةً تَمحو قرار التقسيم، وتُثبت حقَّ العرب؟ اللهم لا…ثم كان المظهر الرابع اجتماعات وزراء الدول العربية باسم جامعتها، وزعماء العرب السياسيين وقادتهم العسكريين، لتنسيق الآراء وترتيب الخطط وتدبير المقاومة المشتركة، وقد بلغوا من ذلك ما أقرَّ عيون العرب وهدَّأ خواطرهم، وإنْ قال قائلون: إنَّهم تباطأوا في أمر يَجب فيه الاستعجال، وأطالوا الروية فيما يلزم فيه الارتجال، وقال آخرون: إنهم ما زالوا يؤثرون الدبلوماسية ومجاملاتها مع دهاة الدبلوماسية، ويُخشى أن يكون من آثار ذلك فتٌّ في الأعضاد وتوهينٌ للعزائم، وتنفيسٌ على العدو في الوقت.

 

   أمَّا الحق الذي مكانه مِن هذه المظاهر مكان البسملة من اللوح، فهو ما قام به عرب فلسطين الأبطال الذين كشفوا عن صواب الرأي القناع، وحذفوا من الجملة حرف الامتناع، ونبذوا التردد، وأخذوا بالمغافصة([4])، ومحوا بالسيف ما قال ابن دارة([5])، وفتحوا باب الموت على مصراعيه، و"تآسوا فسنّوا للكرام التآسيا"([6])، وهذا هو العنوان كتبه عرب فلسطين بالصفاح لا بالأقلام، وهذا هو الواجب شرعه عرب فلسطين لجميع العرب.

 

    أعمال عرب فلسطين مقدِّمةُ.. فأين الكتاب؟ وطليعةٌ.. فأين الكتائب؟ وواجبٌ.. فأين ما لا يتم الواجب إلا به؟ ما على عرب فلسطين بعد ذلك من سبيل، إنما السبيل على العرب في مشارق الأرض ومغاربها، حكومات وقادة وشعوباً رجالاً ونساء، وليست القضية قضية جماعة أو حكومة أو قُطر، وإنَّما هي مسألة العرب جميعاً، لا يستبرئون لعهد العروبة وأمانتها إلا بالقيام بها جميعاً، ثم هي بعد قضية استعمار أحْوَل، رِجلُه في فلسطين وعينُه على العراق والخليج وأعالي اليمن، وعينه الأخرى على مصر، فإذا لم يُبادر العرب بالاصطلام، بادرهم بالالتهام:

 

هما خطتا: إمّا إسارٌ ومنّة      وإما دمٌ، والموت بالحُرِّ أجدر

 

    إنَّ الواجب على العرب لفلسطين يَتألَّف من جزءين: المال والرجال، وإنَّ حظوظهم مِن هذا الواجب متفاوِتة بتفاوتهم في القُرب والبُعد، ودرجات الإمكان وحدود الاستطاعة ووجود المقتضيات وانتفاء الموانع، وإنَّ الذي يستطيعه الشرق العربي هو الواجب كاملاً بِجزأيه لقُرب الصريخ، وتيسُّر الإمداد، فبين فلسطين ومصر غلوة رام([7])، وبينها وبين أجزاء الجزيرة خطوط وهمية خطّتها يد الاستعمار، وإذا لم تمحها الجامعة فليس للجامعة معنى، وإذا لم تهتبل لمحوها هذا اليوم فيوشك ألا يجود الزمان عليها بيوم مثله.

 

   واجبُ الدول العربية التصميم الذي لا يعرف الهوادة، والاعتزام الذي لا يلتقي بالهوينى، والحسم الذي يقضي على التردُّد، والنظام الذي ينفي الفوضى والخلل، والرأي الذي يَردُّ ليل الحوادث صبحاً، والإجماع الذي لا ينخرِق بِحياة عبد الله([8]) ولا بموت يحيى([9]).

 

   وواجبُ زعماء العرب أن يتفقوا في الرأي ولا يختلفوا، وأن يتوقوا عيوب الزعامة ونقائصها من تطلع لرياسة عاجلة، أو تشوّف لرئاسة آجلة، وأنْ يوجّهوا بنفوذهم جميع قُوى العرب الروحية والمادية إلى جهة واحدة وهي فلسطين، وألا يفتتنوا بما يفتحه عليهم العدو من ثُغَر في اليمن أو في شرق الأردن، ليشغلهم بالجزئيات عن الكليات وليجعل بأسهم بينهم، وأن يكونوا على اتصال وتعاون مع الحكومات العربية.

 

   وواجبُ كتّاب العرب وشعرائهم وخطبائهم أنْ يلمسوا مواقع الإحساس ومكامن الشعور من نفوس العرب، وأنْ يؤجِّجوا نار النخوة والحمية والحفاظ فيها، وأنْ يغمزوا عروق الشرف والكرامة والإباء منها، وأن يثيروا الهمم الراكدة، والمشاعر الراقِدة منها، وأنْ ينفُخوا فيها روحاً جديدة، فيها كلَّ ما في السيَّال الكهربائي من نار ونور.

 

   وواجبُ شعوب الشرق العربي أنْ تندفع كالسيل، وتُصبِّح صهيون وأنصاره بالويل، وأنْ تبذل لفلسطين كلَّ ما تملك من أموال وأقوات، وما قيمة الأموال المدّخرة لنوائب الزمن إذا لم تُبذل في نائبة النوائب؟ وما قيمة الأقوات المحتكرة لمصائب القحط إذا لم تدفع بها مصيبة المصائب؟

 

    ووالله، يميناً برَّة لو أنَّ هذه القوى روحيّها وماديّها انطلقت من عُقلها، تظاهرت وتضافرت، وتوافت على فلسطين وتوافرت، لدفنت صهيون ومطامعه وأحلامه إلى الأبد، ولأزعجت أنصاره المصوّتين إزعاجاً يُطير صوابَهم، ويُحبط ثوابهم، ويُطيل صُماتهم، ويَكبت أصواتهم، ولأحدثت في العالم الغربي تفسيراً جديداً لكلمة «عربي».

 

   أمَّا عرب الشمال الإفريقي...

 
 
 

الآثار (2/452-455)

 

نشرت المقالة في جريدة البصائر العدد 25 من السلسة الثانية بتاريخ 1 مارس 1948.

 
 

---

[1]/ سميت غزة هاشم لأن هاشم بن عبد مناف دفن بها (في طريق الإصلاح).

 

[2]/ يقول جرير يفتخر بهذه القصة:

 

خيلي التي وردت نجران معلمة     بالدارعين وبالخيل الكراديس
تدعو تيم وتيم في قرى سبأ      قد عضّ أعناقها قدّ الجواميس (هامش الآثار).

 

[3]/ الإِرْماضُ كلُّ ما أَوْجَع يقال أَرْمَضَني أَي أَوْجَعَني وارْتَمَضَ الرجل من كذا أَي اشتدّ عليه وأَقْلَقَه وارْتَمضْتُ لفلانٍ حَزِنْتُ له، كذا في اللسان (في طريق الإصلاح).

 

[4]/ غافَصَ الرجلَ مُغافَصةً وغِفاصاً أَخذه على غرّةٍ فَركِبَه بمَساءة كذا في اللسان (في طريق الإصلاح).

 

[5]/ تلميح لقول الشاعر العربي: محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا (هامش الآثار) وقد أضحى هذا من الأمثال وقصته أن سالم بن دارة هذا هجا بعض بني فزارة فاغتاله الفزاري حتى ضربه بسيفه.

 

[6]/ عجز بيت، وصدره: وأن الألى بالطف من آل هاشم (هامش الآثار).

 

[7]/ الغَلْوَةُ قدرُ رَمْيةٍ بسَهْمٍ وقد تُسْتَعْمَل الغَلْوة في سِباقِ الخَيْل والغَلْوَةُ الغاية مقدار رَمْيةٍ، والجمعُ غَلَواتٌ وغِلاءٌ، كذا في اللسان (في طريق الإصلاح)

 

[8]/ عبد الله بن الحسين أمير الأردن (الذي وقعت على الأردن منه بلية) كما يقول المتنبي (هامش الآثار).

 

الذي يعده الشاعر من مصائب اليمن في قوله :

جهل وأمراض وظلم فادح    ومخافة ومجاعة وإمام (هامش الآثار)

تم قراءة المقال 3540 مرة