طباعة
الأربعاء 15 شعبان 1433

حاجتنا إلى القدوة

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

    الحمد لله والصلاة و السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد فإنَّ التربية بالفِعال أبلغ من التربية بالمقال، ووقعُ فعل واحد من المربي الصادق في النفوس قد يفعل فعله ويؤتي أكله وثِماره أكثر من عشرات الدروس والمواعظ، فإنَّ القول لا يكاد يعجِز عنه أحد، ولكن الشأن في ترجمة الأقوال إلى أفعال، ولَموقفٌ واحدٌ بحق أفضل من ألف كلمة لم يقم مقتضاها أو وردت خارج سياقها.

قال مالك بن دينار: "إنَّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلَّت موعظته عن القلوب كما يزلُّ القطر عن الصَّفا".

وقد قيل: "مَن وعظ بقوله ضاع كلامُه، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه".

 

حاجتنا إلى القدوة

 

والناس متفاوتون في إدراك الكلام وحسن فهمه، ولكنهم يدركون ما يشاهدونه بأبصارهم ويلحظونه بأعينهم أحسن إدراك، فضلا عن كونه يخرج الخُلق الحسن من التجريد وعسر التطبيق إلى العالم الخارجي فلا يبقى حبيس الأذهان مجرَّدا في أعماق التصور.

قال المناوي: "فالواعظ ما لم يكن مع مقاله فِعال لم ينتفع به، إذ عملُه مُدرَك بالبصر، وعلمه مُدرَك بالبصيرة، وأكثر الناس أهل أبصار لا بصائر".

و قال ابن الجوزي: "لقيت مشايخ أحوالُهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه...ولقيتُ عبد الوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه فكان -وأنا صغير السن حينئذ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.

ولقيتُ الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقناً محققاً، وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمتُ من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول" اهـ

وإنّه ليمرُّ بالناظر في كتب التراجم كالسير للذهبي وغيره وصفُ المُترجَم المرة بعد الأخرى بـ"القدوة" ولا يطَّرد ذلك في كل التراجم، فإذا تأمَّلتَ الموصوفين به وجدتهم ممن لهم قدم في الإسلام أو كانوا رؤوسا في العلم والعمل أو اشتهروا بالزهد والعبادة والاستقامة والورع ونحو ذلك بحيث يستقرُّ في نفسك أنَّ هذه المنزلة لا يوصف بها إلا الأفذاذ من الناس.

وجماع ذلك كله أصلان  عظيمان عليهما مدار التوفيق والفلاح هما: الإخلاص والمتابعة، ويندرج تحتهما جملة من الأمور أنبِّه على بعضها لما يقع فيه من التقصير:

1ــــ أن يكون لسانه رطبا بذكر الله تعالى قد شغله ذلك عن الولوغ في أعراض البرآء أو الخوض فيما لا يعنيه، سليمَ الصدر للمسلمين مُتَّبِعا لهدي النبي عليه الصلاة والسلام قد وجد فيه ما أراح قلبه و شرح صدره فأغناه ذلك عن اتباع هوى النفوس، فإنَّ صاحب الهوى إنّما ينظر إلى الأشياء بعين عوراء، وإذا تمكَّن الهوى من النفوس أخرج منها الداء الدوي والحقد الدَّفين.

قال ابن القيِّم عند كلامه على قوله تعالى: "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا":

"فإذا أراد العبد أن يقتدي برجلٍ فلينظر: هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمرُه فُرُطا، ومعنى الفُرُط قد فُسِّر بالتضييع، أي أمرُه الذي يجب أن يلزمه و يقوم به وبه رُشدُه وفلاحُه ضائعٌ قد فَرَّط فيه، وفُسِّر بالإسراف أي قد أفرط، وفُسِّر بالإهلاك، وفُسِّر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة، والمقصود أنَّ الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبعد منه، وإن وجده مِمَّن غلب عليه ذكر الله تعالى عز وجل واتباع السنة وأَمْرُه عليه غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه." اهـ

وقال المعلمي: "الرسوخ في العلم أمر خفي ليس هو كثرة العلم، فكم من رجلٍ كثير العلم ليس براسخ.."

إلى أن قال: "..فالراسخ دائم الخوف والخشية من ربِّه عزَّ وجل مسيئ للظن بنفسه، فكم من راسخ لا يرى أنَّه راسخ، وكم من زائغ يرى أنَّه من أرسخ الراسخين. فالخائف الخاشي المسيئ الظن بنفسه جدير بأن لا يستخفَّه ما عنده من العلم على الخوض فيما ليس له به علم، وعلى البحث فيما لم يُكلَّف البحث فيه، وهو من موارد الخطر ومزالق النظر" اهـ

 

2ـ أن يكون رحيما بالناس متواضعا خافض الجناح تاركا للدعاوى العريضة، قد خلع عن نفسه رداء الكِبر وصولة الطاعة فلم يجعل من دعوته عذابا على الناس.

وإني لأعجب ممن هو مولَع بذكر محاسن نفسه وتعداد مساوي غيره، قد رسم لنفسه مكانة لا تحقُّقَ لها في الأعيان بل لا وجود لها في الأذهان، وإنما هي كامنة في ذهنه مركوزة في عقله وحده، ثم يطالب الناس أن يعاملوه بناءً على مكانة وهمية لا يرونها ولا يشعرون بها، حتى صارت دعاوى مثله نُكَتا يتفكَّه بها الناس في المجالس ويتنادرون بها في النوادي.

إنَّ المرء ليُشفق على أمثال هؤلاء كيف يعيش الواحد منهم حياته كلَّها يسبح في بحار الأوهام ويقضي زهرة عمره يتقلَّب في خياله الواسع حتى يفجأه الموت ويخرج من الدنيا وما ذاق أطيب ما فيها ولا شمَّ له رائحة، فما أحرى العاقل أن يشتغل بإصلاح عيوبه والاستغفار لذنوبه وتلافي تقصيره وتفريطه ففي ذلك ما يصرفه عما هو واقع في شباكه متخبط في شراكه.

قال محمد الخضر حسين:"و من رضي بأن تكون سمعتُه فوق منزلته فإن وراء السمعة عقولا تزن الرجال بالآثار، فلا يدعون السمعة تغلو في طيرانها، بل يأخذون بناصيتها، و يهبطون بها إلى أن تكون مع منزلة صاحبها على سواء"

و قال ابن القيم:"شهود العبد ذنوبه وخطاياه موجِب له أن لا يرى لنفسه على أحد فضلا، ولا له على أحدٍ حقا، فإنه يشهد عيوب نفسه وذنوبه فلا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله ورسوله، ويُحرِّم ما حَرَّم الله ورسوله، وإذا شهد ذلك من نفسه لم يَرَ لها على الناس حقوقا من الإكرام يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخسُّ قدرا وأقلُّ قيمة من أن يكون له بها على عباد الله حقوق يجب عليهم مراعاتها، أو له عليهم فضل يستحق أن يكرَّم و يعظَّم ويقدَّم لأجلها، فيرى أنَّ من سلَّم عليه أو لَقِيه بوجهٍ منبسط فقد أحسن إليه وبذل له ما لا يستحقه، فاستراح هذا في نفسه وأراح الناس من شكايته وغضبه على الوجود وأهله، فما أطيب عيشَه وما أنعم بالَه وما أقرَّ عينَه، وأين هذا ممن لا يزال عاتبا على الخلق شاكيا ترك قيامهم بحقِّه ساخطا عليهم، وهم عليه أسخط" اهـ

 

3ـــــ أن يكون رجَّاعا إلى الحق إذا شعَّت أنواره ولاحت أعلامه، لا يمنعه من ذلك سخط ساخط ولا انفضاض تابع، وهذه علامة المُخلِص كبيرِ النفس راجحِ العقل الذي ليس له هوى إلا في إصابة الحق ولو كان على يد غيره، كما قال الإمام الشافعي: "ما ناظرتُ أحدا فأحببتُ أن يخطئ"، وهذا كلام نفيس إنما يدرك غوره من تذوق حلاوة الحق فوجدها ألذَّ من حلاوة الفَلْج على  الخصوم والانتصار عليهم.

وأما المرائي اللَّجوج فهو وإن لم يدَّع لنفسه العصمة بلسان قاله فقد ادَّعاها بلسان حاله بسلوكه دروب التأويل المستكره والتخريجات المتكلَّفة ليستقيم له قوله ويسلم من الاعتراض والانتقاض.

قال محمد الخضر حسين عن أحد العلماء : "ليس من سمائه ولا أرضه الحرص على أن يعتقد فيه الناس العصمة من الخطأ، وإنما هو دأب المُرائي في العلم، ينزعج من نقد آرائه فيثور للدفاع عنها وإن استيقنت نفسه أنها الباطل، مكشِّرا عن أنيابه تحت وضح البرهان" اهـ.

وقال المعلمي عند ذكره لموانع قبول الحق والاعتراف به:

"..الوجه الثالث: الكِبْر: يكون الإنسان على جهالة أو باطل، فيجيئ آخرُ فيبيِّن له الحجة، فيرى أنَّه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافَه بأنَّه ناقص وأنَّ ذلك الرجل هو الذي هداه، ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم من لا يشق عليه الاعتراف بالخطأ إذا كان الحقُّ تبيَّن له ببحثه ونظره، ويشقُّ عليه ذلك إذا كان غيرُه هو الذي بيَّن له.

الوجه الرابع: الحسد، وذلك إذا كان غيرُه هو الذي بيَّن الحق، فيرى أنَّ اعترافه بذلك الحق يكون اعترافا لذلك المبيِّن بالفضل والعلم والإصابة، فيعظم ذلك في عيون الناس ولعله يتبعه كثير منهم، وإنك لتجد من المنتسبين إلى العلم مَن يحرص على تَخطئة غيره من العلماء ولو بالباطل حسدا منه لهم، ومحاولة لحطِّ منزلتهم عند الناس.."

إلى أن قال: "فتجد ذا الهوى كلما عُرض عليه دليل لمخالفيه أو ما يوهن دليلا لأصحابه شقَّ عليه ذلك واضطرب واغتاظ وسارع إلى الشغب فيقول في دليل مخالفيه: هذه شبهة باطلة مخالفة للقطعيات، وهذا المذهب مذهب باطل لم يذهب إليه إلا أهل الزيغ و الضلال.. ويؤكد ذلك بالثناء على مذهبه أو أشياخه ويعدِّد المشاهير منهم ويُطريهم بالألفاظ الفخمة والألفاظ الضخمة، ويذكر ما قيل في مناقبهم ومثالب مخالفيهم، وإن كان يعلم أنه لا يصح أو أنه باطل" اهـ.

 

4ـــ أن يكون عفيف اللسان صادقا في أقواله و أفعاله، ولا يركب مطية الكذب لنيل حظوة عند الناس أو تشويه صورة خصم مناوئ، فهو لا يختلق الأكاذيب على أعدائه و إن كذبوا عليه، ولا يتخذ البغي مطية للنيل منهم و إن بغوا عليه، فتعاملُه مع الناس يمسك بزمامه و يأخذ بناصيته صدقُ لهجةٍ و قوةُ حجةٍ و عفة لسانٍ لا تعرف إلى الكذب سبيلا.

قال المروذي:"وذُكِر له(يعني الإمام أحمد) رجل فقال:"ما أعلم إلا خيرا" قيل له:"قولك فيه خلاف قوله فيك" فتبسَّم وقال:"ما أعلم إلا خيرا، هو أعلم وما يقول، تريد أن أقول ما لا أعلم؟" وقال:"رحم اللهُ سالِما زحمت راحلتُه راحلةَ رجلٍ فقال الرجل لسالم: أُراك شيخَ سوء قال:"ما أبعدت".

و قال محمد الخضر حسين:"قد ينطوي بعض الناس على عداوة لشخص، فيرميه بمساوئ ليصرف عنه القلوب، ويسقط مهابته من العيون، و لا أَشْأَمَ على الرجل من أن يناضل عدوه بالبهتان، ومن كانت له حاجةٌ في أن يُؤلم أعداءَه، فإنَّه لا يُؤلمهم بأشدَّ من احتفاظه بمكارم الأخلاق، ومن أعزِّ هذه المكارم أن يكون حرَّ الضمير عفيف اللسان".

 

5ــــ أن يكون غاية قصده أن يُعبَد اللهُ وحده لا شريك له وأن يُعرِّف الناس بدين الله تعالى كما قال ابن رجب: "إذا وُحِّد معبوده حصل مقصوده، إذا عُبِد محبوبه حصل مطلوبه، إذا ذُكِر ربُّه رضي قلبُه".

وقال ابن تيمية:"إنما الشيوخ الذين يستحقون أن يكونوا قدوة متَّبَعين هم الذين يدعون الناس إلى طريق الله، وهو شرع الله ودينه الذي بُعث به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة...".

فغايته نشر الإسلام وهداية الناس وليس همُّه بناءَ مجده وتخليدَ اسمه، فهو لا يخطب وُدَّ الجماهير ولكن يوجِّه و ينصح، ولا يسكت عن غلوِّهم أو تقصيرهم خشية تفرقهم عنه أو تسلُّطهم عليه بالإذاية والتنفير، فإنَّ الناس وإن أحبوا من يجاريهم في ميولهم ويحابيهم في أهوائهم ويغض الطرف عن انحرافهم إلا أن قلوبهم لا تطمئنُّ لأقواله و صدورهم لا تنشرح لكلماته، لعلمهم بأنه يصانعهم ويداهنهم، فتنقص منزلتُه عندهم بقدر تقصيره في بيان الحق وإمعانه في تَطَلُّب رضاهم.

والافتتان بالجماهير حجاب يعمي ويُصِم، ويمنع رؤية نصاعة الحق وصفائه وتذوق حلاوة قبوله والانصياع له، ومَن سَكِر بفتنة الأتباع فقد سَكِر بغير شراب وتعلَّق بأوهام في سراب، وليس يفيق منه حتى يتجرَّع مرارة إعراضهم عنه وسوء ظنونهم به، وقد انقلب مادحُه ذامًّا، وعاذرُه عاذلا، وتلك سنة الله فيما كان لغير وجهه أو على غير شرعه أن لا يعيش طويلا ولا يستمر كثيرا، بل سرعان ما تتقطَّع أوصاله وتتصرَّم حباله، وصدق الرافعي حين قال: "إذا اصطنعتَ سفيها يُسافه عنك فاحذره لليوم الذي لا يكون فيه سفيها إلا عليك".

وما مثل عملٍ سُقي بماء الرياء والسمعة و طلب المنزلة في قلوب الخلق إلا كمثل نذل النبات يُسقى بماء آسنٍ آجنٍ فينبت بلا فائدة تُرجى ولاثمار تُجتنى، ثم يدب الموت إلى عروقه فلا تراه إلا ذاويا تذروه الرياح فلا للثمار ولا للحطب.

نسأل الله الكريم أن يرزقنا الإخلاص و الصواب في القول والعمل و نعوذ به أن نُذكر به وننساه

إنه وليُّ ذلك و القادر عليه والحمد لله رب العالمين.

 

تم قراءة المقال 3943 مرة