الأربعاء 21 ربيع الأول 1443

اهتمام السلف بالدعوة إلى التوحيد

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

اهتمام السلف بالدعوة إلى التوحيد

لقد اشتدّت عناية السلف رحمهم الله بالتوحيد واهتمامهم به, أسوة بنبيّهم, وتحقيقاً للغاية التي خلقوا لأجلها؛ وإنّ الحديث عن هذه العناية يقتضي بيان الأمور الآتية:
1-    دلائل اهتمام السلف بالدعوة إلى التوحيد   
 2- أصول منهج السلف في تقرير التوحيد والدعوة إليه              
3- أساليب ووسائل السلف في الدعوة إلى التوحيد.
•     المطلب الأول: دلائل اهتمام السلف بالدعوة إلى التوحيد:
إنّ الدعوة إلى التوحيد هي أساس دعوة السلف رحمهم الله, ومن أبرز دلائل هذا الأصل:
1- البدء بالدعوة إلى التوحيد: فقد درج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم على التزام هذا الضابط والعناية بالأولويات في دعوتهم, والانطلاق في بناء الشريعة ومكارم الأخلاق من منطلق العقيدة وأصول الإيمان, ومن أمثلة ذلك:
بدء الصحابة في دعوتهم وفتوحاتهم وجهادهم بالدعوة إلى التوحيد أوّلاً, من أمثال أبي عبيدة, ومعاذ بن جبل -حينما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى اليمن(1)- وعمرو بن العاص, وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.
ومن ذلك قول خالد بن الوليد رضي الله عنه لباهان قائد جيوش الروم وهو يدعوه إلى الإسلام, حيث يقول له: ونحن ندعوكم إلى ما دعا إليه نبينا صلى الله عليه وسلم, وإلى ما أمرنا به أن ندعو الناس إليه, فنحن ندعوكم إلى الإسلام وإلى أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله....."(2).
2- استيعاب الدعوة إلى التوحيد جلّ جهود السلف العلمية والعملية: فالناظر إلى أعمال السلف رحمهم الله وميراثهم العلمي يدرك أنّ الدعوة إلى التوحيد هي الأمر الذي أفنوا فيه الأعمار والأوقات, تبيِّناً لأصله, وترسيخاً لدعائمه, وذوداً عن حياضه, وتصفية لشوائبه, ورداً على مخالفه.
هوامش المطلب الأول
1/حديث معاذ رضي الله عنه أخرجه البخاري 6/2685, كتاب: التوحيد, باب: ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى التوحيد, رقم 6937, واللفظ له, ومسلم 1/51, كتاب: الإيمان, باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام, رقم .27.
2/تاريخ فتوح الشام, للأزدي, ص 204, وفتوح البلدان, للبلاذري ص 257.
المطلب الثاني: أصول منهج السلف في تقرير التوحيد والدعوة إليه(1):
إنّ دعوة السلف رحمهم الله قامت على أصول راسخة وقواعد ثابتة, في الأخذ بهذه القواعد أمن من الزلل ونجاة من العطل, ومن أبرز هذه القواعد:
أ- الأثرية:
والمقصود بذلك أنّ السلف رحمهم الله اقتصروا على الوحي -من الكتاب والسنّة- في إثبات الحقائق العقدية, ولم يَكِلوا ذلك إلى العقول القاصرة والأهواء المضلّة, ومن أبرز معالم هذه الأثرية:
1- توحيد مصدر التلقي:
وذلك بتجريده من كلّ شوب كلامي مردود, أو فلسفي مذموم, أو مسلكي مبتدع, بالاعتماد على الكتاب والسنّة في تلقي العقيدة والدين كلّه, بفهم الصحابة المرضيين, والثقات الأثبات من علماء خير القرون, والتعويل على إجماعهم واتفاقهم في هذا الباب, فهم أعمق علماً بمعانيها, وأدق فهما لمراميها, وما أجمعوا عليه هو الحق ولا بد, وما اختلفوا فيه فإنّ الحق لا يجاوز أقوالهم, فمن آمن بمثل ما آمنوا به فقد اهتدى, قال تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾( البقرة: 137).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ألا لا يقلدن رجل رجلاً دينه فإنّ آمن آمن وإن كفر كفر, فإنّ كان مقلداً لا محالة فليقلد الميت ويترك الحي, فإنّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة"(2).
2- تقديم النقل على العقل:
والمراد بالنقل: الأدلة والنصوص الشرعية, من الكتاب والسنة, والمراد بالعقل: الأدلة العقلية التي ابتدعها علماء الكلام واتّخذوها ديناً لهم, وأخضعوا النصوص الشرعية لها.
وليس معنى هذا أنّ السلف يعطلون عقولهم, بل المراد أنّهم لا يسلكون في تقرير العقيدة مسلك أهل الكلام في الاستدلال بالعقل وحده.
قال السمعاني(3) رحمه الله: "أهل السنة -السلف- قالوا: "الأصل في الدين الإتباع والمعقول تبع, ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء, ولبطل معنى الأمر والنهي"(4).
3- الإيمان بظواهر النصوص:
خلافاً للمبتدعة الذين لووا أعناق النصوص وتأولوها وصرفوها إلى غير مرادها.
فمن منهج السلف الصالح الإيمان بما دلّت عليه ظواهر النصوص من غير تشبيه ولا تكييف ولا تأويل.
قال ابن كثير رحمه الله: وأما قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ (الأعراف:54) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها, وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهوية وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً, وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل, والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله, فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه, و ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾( الشورى:11) بل الأمر كما قال الأئمة منهم: نعيم بن حماد الخزاعي قال: "من شبّه الله بخلقه كفر, ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر", وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه, فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله, ونفي عن الله تعالى النقائص, فقد سلك سبيل الهدى"(5).
4- الاحتجاج بالسنّة في العقائد:
يرى السلف الصالح أنّ السنة بقسميها: المتواتر والآحاد, حجّة في الأحكام والعقائد.
قال ابن القيم رحمه الله: "لم يزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنّة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام, ولم يُنقل عن أحد منهم البتة أنّه جَوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته"(6).
ب- الوسطية والاعتدال:
من نعمة الله تعالى على هذه الأمة أن جعلها أمّة وسطاً بين سائر الأمم, قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾( البقرة:143).
وكذلك كان شأن السلف الصالح رحمهم الله, فهم وسط وعدل بين سائر فرق هذه الأمة, ومنهجهم هو المنهج العدل الوسط.
ومن هذه الوسطية, الوسطية في الاعتقاد والأقوال والعبادة.
ومن أمثلة هذه الوسطية:
1- توسط منهجهم في باب الأسماء والصفات الإلهية بين أهل التعطيل(7) وأهل التمثيل(8).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومذهب السلف بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين‏:‏ إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، فقوله تعالى‏:‏ ﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء﴾‏ رد على أهل التشبيه والتمثيل، وقوله‏:‏:﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير﴾‏ رد على أهل النفي والتعطيل، فالممثل أعشى، والمعطل أعمى، الممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدمًا‏"(9).
2- توسّط منهجهم في باب القدر, بين الجبرية الذين قالوا بأنّ الإنسان مجبور على أفعاله ليس له فيها أي قدرة أو إرادة, وبين القدرية الذين اثبتوا للعبد مطلق الحرية في أفعاله وتصرفاته(10).
3- توسّط منهجهم في باب الأسماء والأحكام بين الخوارج والمعتزلة الذين كفروا مرتكب الكبيرة وخلّدوه في النار, وبين المرجئة الذين قالوا بأنّ مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان.
ج- محاربة الشرك ومظاهره:
تقوم الدعوة إلى العقيدة عند السلف على أساسين متلازمين, وهما: التحلية والتخلية, بمعنى: تأسيس العقيدة الصحيحة في النفوس, وإزالة ما يضادها من الشرك والكفر, وهذا هو منهج الأنبياء عليهم السلام(11), ومنهج نبينا صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده.
فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام, يبتدئ دعوته لقومه ببيان قبح الشرك وعجز الأوثان, ثم يردف ذلك بالدعوة إلى توحيد الواحد الأحد الذي بيده ملكوت كل شيء, قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ ...﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (الأنبياء:51-54).
وكذا كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة على تأسيس التوحيد ومحاربة الشرك ومظاهره, والسور المكية كلّها في تقرير هذا الشأن, قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾ (الجن:20).
بل كان التحذير من الشرك من أواخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: "لما نزل برسول الله ز طفق يطرح خميصة له على وجهه, فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال: وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد, يحذر ما صنعوا"(12).
وكذا الشأن عند الصحابة, فقد دأبوا على محاربة الشرك ومظاهره, ومن أمثلة ذلك:
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفاً إلاّ سوّيته"(13).
د- الوضوح والبيان والسلامة من التناقض والاضطراب(14):
سار السلف رحمهم الله في تقرير العقيدة, على منهج واضح بيِّنٍ لا اضطراب فيه ولا التباس, وذلك لأنّ منهجهم مستمدّ أساساً من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, ومن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضحة البيّنة, ولقوة صلة أصحابه بالله عز وجل, وقوة يقينهم بما معهم من الحق, فسلموا بذلك من الشك والحيرة, التي وقع فيهما المبتدعة, قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ (الحجرات:15).
قال أبو القاسم الأصفهاني(15) رحمه الله: "ومما يدلّ على أنّ أهل الحديث -وهم جمهور السلف- كانوا على الحق, أنّك إذا طالعت جميع كتبهم المصنّفة من أولهم إلى آخرهم, قديمهم وحديثهم, مع اختلاف بلدانهم وزمانهم, وتباعد ما بينهم من الديار... وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة, ونمط واحد يجرون فيها على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها, قولهم في ذلك واحد, لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلّ, بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم, وجدته كأنّه جاء من قلب واحد, وعلى لسان واحد, وهل على الحق دليل أبين من هذا"(16).
هوامش المطلب الثاني
1/انظر في هذا الموضوع: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة", للالكائي 1/9, ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية, الجزء (3-4-13), ومنهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات, لمحمد الأمين الشنقيطي ص 3-4.
2/سنن البيهقي الكبرى 10/116.
3/إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي أبو القاسم التيمي الطلحي الأصبهاني, الملقب بقوام السنة, من أئمة السلف, وأعيان العباد, إمام في اللغة والتفسير وعلوم كثيرة, توفي سنة:535هـ, سير أعلام النبلاء 20/80.
4/"الحجة في بيان المحجة" لإسماعيل بن محمد الأصبهاني 1/315
5/تفسير ابن كثير 2/222.
6/مختصر الصواعق المرسلة, لابن القيم 2/412.
7/المعطلة: هم الذين عطّلوا الله تعالى عن كماله المقدّس, والتعطيل قسمان:
1- تعطيل كليّ: كتعطيل الجهمية الغلاة والقرامطة, الذين أنكروا أسماء الله الحسنى وصفاته العليا.
2- وتعطيل جزئي: كتعطيل الأشاعرة والماتريدية والكلابية وغيرهم, الذين أثبتوا بعض الصفات الإلهية وأنكروا صفات أخرى, انظر: الجواب الكافي لابن القيم, ص 309-314.
8/الممثلة: ويسمون المشبّهة, وهم الذين أثبتوا بعض صفات الله تعالى للمخلوقين, كادعاء علم الغيب, أو التصرف في ملكوت الله, أو النفع والضر, وغير ذلك من الصفات الإلهية, انظر: الجواب الكافي, ص 309-314.
9/مجموع الفتاوى 5/196.
10/انظر: خلق أفعال العباد للإمام البخاري, ص 29- 119.
11/ انظر: منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله, لربيع بن هادي المدخلي, ص 33- 198.
12/ متفق عليه, البخاري 1/168, كتاب: الجنائز, باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور, رقم 417, ومسلم 1/377, كتاب: المساجد, باب: النهي عن بناء المساجد على القبور, رقم 22.
13/رواه مسلم 2/666, كتاب: الجنائز, باب: في تسوية القبر, رقم 1609.
14/المنهج السلفي, د مفرح القوسي, ص 438.
15/عبد الواحد بن أبي المطهر القاسم بن الفضل أبو القاسم الأصبهاني الصيدلاني, الشيخ الجليل المسند الرحالة, توفي سنة 605هـ, سير أعلام النبلاء 21/435.
16/الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة, لأبي القاسم الأصبهاني 2/255.
•    المطلب الثالث: مضامين دعوة السلف  رحمهم الله  إلى التوحيد:
إنّ دعوة السلف إلى التوحيد الخالص, دائرة بين النفي, والإثبات, وسد الذرائع.
وذاك جرياً على مسالك الكتاب والسنّة في تقرير التوحيد.
فكانت عنايتهم رحمهم الله بتأسيس التوحيد بأقسامه الثلاثة أوّلاً بالأدلة الشرعية والحجج المرعيّة, ومن ثمّ الرد على كلِّ دعيٍّ أفاك, وتجريد العقيدة السمحة من كلّ شوب كلامي, أو درنٍ شركي, مع سدِّ كل الأبواب المفضية إلى الابتداع والشرك بأنواعه.
وسوف أقتصر على إيراد بعض آثار السلف رحمهم الله على أبواب التوحيد ليسهل فهمها ومعرفة وجه الدلالة منها:
1-  توحيد الألوهية:
- قال بلال بن سعد(1) رحمه الله -في بيان أثر الإخلاص-: "عباد الرحمن! إن العبد ليعمل الفريضة الواحدة من فرائض الله وقد أضاع ما سواها, فما زال الشيطان يمنيه فيها, ويزين له حتى ما يرى شيئا دون الجنة, فقبل أن تعملوا أعمالكم فانظروا ما تريدون بها, فإن كانت خالصة لله فأمضوها, وإن كانت لغير الله فلا تشقوا على أنفسكم, فلا شيء لكم, فإنّ الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً, فإنه تعالى قال: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾( فاطر:10).
2- العبادة:
قال الحسن البصري(2) رحمه الله- في أثر العبادات القلبية- "إنّ المؤمنين عجلوا الخوف في الدنيا, فأمّنهم الله يوم القيامة, وإنّ المنافقين أخّروا الخوف في الدنيا, فأخافهم الله يوم القيامة"(3).
3- توحيد الربوبية:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء, مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ وكهيئة الذر, فقال لهم: أدخلوا الجنة برحمتي, ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر, فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ (الواقعة:27) ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ (الواقعة:41) ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ فأعطاه طائفة طائعين, وطائفة كارهين, فقالت الملائكة: ﴿شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾( الأعراف:172) فلذلك ليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله, ولا مشرك إلا وهو يقول: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾(الزخرف:22) فلذلك قول الله عز وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾ وذلك حين يقول: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ (آل عمران:83) وذلك حين يقول: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الأنعام:149) قال: يعني يوم أخذ عليهم الميثاق"(4).
4- توحيد الأسماء والصفات:
عن الضحاك عن بلال بن سعد أنّه كان يقول فيما يعظ به: "عباد الرحمن إنكم اليوم تتكلمون والله عز وجل ساكت, ويوشك الله عز وجل أن يتكلم وتسكتون, ثم يثور عن أعمالكم دخان تسود منه الوجوه, فـ ﴿اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ (البقرة:281)(5), وهذا الأثر في إثبات صفة الكلام لله تعالى.
عن مجاهد(6) رحمه الله قال: "إنّ الله عز وجل غرس جنّة عدن بيده, ثم قال حين فرغ منها: قد أفلح المؤمنون, ثم أعلقه, فلم يدخلها أحد من شاء إلا من شاء الله أن يأذن في دخولها, فإذا كان كل سحر فتحت كلّ مرة, ثم يقال عند ذلك: قد أفلح المؤمنون"(7), وفي الأثر إثبات صفة اليد لله تعالى.
4- محاربة الشرك ومظاهره:
عن الحسن رحمه الله قال: "صوتان فاجران فاحشان ملعونان: صوت عند النعمة, وصوت عند المصيبة, فأما الصوت عند المصيبة: فخمش الوجوه, وشق الجيوب, ونتف الأشعار, ورن الشيطان, وأما الصوت عند النعمة, فلهو باطل, ومزمار الشيطان"(8).
هوامش المطلب الثالث
1/بلال بن سعد بن تميم السكوني الأشعري, أبو عمرو الدمشقي, ثقة فاضل, قال الذهبي توفي سنة نيف وعشرة ومائة, سير أعلام النبلاء 5/91.وتقريب التهذيب, ص 66.
2/الحسن بن يسار مولى الأنصار سيد التابعين, كان ثقة في نفسه حجة رأسا في العلم والعمل, توفي سنة 110هـ, التاريخ الصغير للبخاري 1/244
3/رواه ابن المبارك في الزهد , رقم 168.
4/أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 18/85, وأورده ابن القيم في أحكام أهل الذمة 2/554.
5/أخرجه ابن عساكر في تاريخه 10/498.
6/مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي المخزومي شيخ القراء والمفسرين, ثقة إمام في التفسير وفي العلم, توفي سنة 101 هـ تقريب التهذيب ص 453.
7/أخرجه البيهقي في البعث والنشور, رقم 237.
8/رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي, ص 43.

•     المطلب الرابع: أساليب ووسائل(1) دعوة السلف رحمهم الله إلى التوحيد:
لقد اتخذّ السلف رحمهم الله أساليب عديدة, وسائل شتى, لإيصال مضمون دعوة التوحيد إلى عموم الخلق, والسمة الجامعة بين هذه الوسائل والأساليب هو الأثرية والتأصيل الشرعي المستند إلى الكتاب والسنّة(2), وفيما يلي عرض لأبرز هذه الأساليب والوسائل:
أولاً: أساليب السلف في الدعوة إلى التوحيد(3):
1- الحكمة:  
تعريفها: عرّفها مجاهد رحمه الله(4) بأنها: "معرفة الحقّ والعمل به, والإصابة في القول والعمل"(5).
نماذجها: لقد كانت الحكمة أعظم دعائم دعوة السلف رحمهم الله وأشملها, حيث تجلّت الحكمة في أساليبهم البيانية الواضحة, وفي مواقفهم السلوكية لدى دعوة الناس إلى عقيدة الدين الحقّ, ومن شواهد أسلوب الحكمة العلمية:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما من رجل يحدِّث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم, إلاّ كان فتنة لبعضهم"(6).
قال ابن مفلح رحمه الله: "وكان ابن عباسٍ رضي الله عنه يُسِرّ إلى قومٍ ولا يُحَادِثُ قومًا, وقال عَمَّنْ وَعَظَ العوامَّ: لِيَحْذَرَ الْخَوْضَ فِي الأُصُولِ, فإِنَّهم لا يَفْهَمُونَ ذلِكَ, لَكِنَّهُ يُوجِبُ الفِتَنَ, وَرُبَّمَا كَفَّرُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ جَهَلَةً"(7).
وفي هذه الأقوال تنكشف قاعدة عظيمة هي غاية الحكمة ومنتهاها, وهي مراعاة مدارك الخلق, وإعطاء كلّ أصل من أصول الإسلام حقّه ومرتبته, والحرص على ترسيخ العقيدة السمحة والبعد عن مواطن الخلاف المثيرة للفتن.
ومن شواهد أسلوب الحكمة العملية عند السلف في الدعوة إلى التوحيد: ترفقهم مع المخالف في باب الاعتقاد, ومن ذلك قول سفيان الثوري رحمه الله: "يؤمر بالمعروف في رفق، فإن قَبِلَ منك حمدت الله عز وجل, وإلاّ أقبلت على نفسك"(8).
2- الموعظة:
تعريفها: هي "الأقوال والأفعال الشرعية, المشتملة على العظات والعبر, التي ترقق القلوب, وتهذب النفوس، وتوقظ من به غفلة, وترغب في طاعة الله تعالى, وترهب من معصيته عز وجل"(9).
نماذجها: لقد حفلت مواعظ السلف رحمهم الله بتقرير التوحيد وترسيخه, والذود عن حياضه, والردّ على مخالفه, ومن شواهد ذلك:
أنّ رجلاً جاء إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أبا عبد الرحمن! أوصني بكلمات جوامع نوافع, فقال له عبد الله: اعبد الله ولا تشرك به شيئاً, وزل مع القرآن حيث زال, ومن أتاك بحقّ فاقبل منه وإن كان بعيداً, ومن أتاك بباطل فاردده وإن كان حبيباً قريباً"(10).
3- الجدال:
تعريفه: هو "المعارضة والمفاوضة على سبيل المنازعة, والمغالبة والإلزام, لإحقاق الحقّ, وإبطال الباطل"( ).
نماذجه: لقد لقي أسلوب الجدال بالحسنى لدى السلف الصالح رعاية كبرى, وكان سبيلاً لإظهار العقائد الصحيحة وحمايتها ونصرتها, وتمييزها, ودحض العقائد الفاسدة, وإلزام المدعوين وإقناعهم بقبول الحق بالأدلة والبراهين العقلية السليمة, والحجج الدامغة للباطل.
- قال عمر بن الخطاب س -في الحث على جدال أهل الأهواء-: "إنّه سيأتي قوم يجادلونكم بالمشتبه من القرآن, فجادلوهم بالسنن, فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تعالى"(12).
- ومن شواهد ذلك: المناظرة المشهورة بين عبد الله بن عباس رضي الله عنه والخوارج الذين خرجوا على الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه (13).
4- القصص:
تعريفها: هي "مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين, ويرشد إلى الحق, ويأمر بطلب النجاة"(14).
نماذجها: كانت القصة عند السلف رحمهم الله طريقاً من طرق البشارة والإنذار, والهداية والإرشاد, والترغيب والترهيب, وهي إحدى الوسائل الناجحة, والسبل الناجعة, لعرض تعاليم دعوة التوحيد سهلة واضحة, فهي تجذب النفوس, وتؤثِّر في القلوب, ومن نماذج ذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إنّ فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها, فكان إذا تفرقوا عنها ظللتها الملائكة, فقالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ (التحريم: 11) فكشف لها عن بيتها في الجنة"(15). وفي القصة عبرة للثبات على الإيمان.
5- الأمثال:
تعريفها: هي "عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر، بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الآخر ويصوره"(16).
نماذجها: لقد أدرك السلف منـزلة الأمثال " فللأمثال من الكلام موقع في الأسماع، وتأثير في القلوب، لا يكاد الكلام المرسل يبلغ مبلغها، ولا يؤثر تأثيرها, لأن المعاني بها لائحة، والشواهد بها واضحة، والنفوس بها وامقة(17), والقلوب بها واثقة، والعقول لها موافقة"(18).
قال حماد بن زيد(19) رحمه الله: "مثل الجهمية(20), مثل رجل قيل له: أفي دارك نخلة؟ قال: نعم, قيل: فلها خوص(21)؟ قال: لا, قيل: فلها سعف؟ قال: لا, قيل: فلها كرب(22), قال: لا قيل: فلها جذع؟ قال: لا؟ قيل: فلها أصل؟ قال: لا؟ قيل: فلا نخلة في دارك.
هؤلاء الجهمية قيل لهم: لكم رب؟ قالوا: نعم, قيل: يتكلم؟ قالوا: لا؟ قيل: فله يد؟ قالوا: لا, قيل: فله قدم؟ قالوا: لا, قيل: فله إصبع؟ قالوا: لا, قيل: فيرضى ويغضب, قالوا: لا, قيل: فلا رب لكم"(23).
وهذا المثل يضرب لتقرير توحيد الأسماء والصفات.
6- الترغيب والترهيب:
التعريف: الترغيب: هو "الخطاب المفيد في حمل الناس على التشمير عن ساعد الجد في طاعة الله تعالى لنيل السعادة في الدنيا والآخرة"(24).
الترهيب: هو "كلّ ما يخيف ويحذر المدعو من عدم الاستجابة أو رفض الحق, وعدم الثبات عليه, وعدم قبوله"(25).
نماذج: إنّ الخوف والرجاء من أعظم الأدوية التي تداوى بها علل القلوب وأدوائها, فأمراض القلوب بين أمرين, إمّا أمن واغترار موجب للكسل, أو يأس وقنوط موجب لترك العمل.
وإنّ التواصي بعبادة الله وتوحيده رغبة ورهبة هي جماع وصيّة السلف رحمهم الله, ومدار دعوتهم, ويشهد لذلك وصيّة الصديق رضي الله عنه, فعن عبد الله بن عُكَيْم قال: "خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال: أما بعد: أوصيكم بتقوى الله, وأن تثنوا عليه بما هو أهله, وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة, وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإنّ الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾"(26).
بل اعتنى السلف رحمهم الله بجمع وتدوين كل ما تعلّق بالترغيب والترهيب, ومن ذلك مسائل التوحيد والإيمان, ومن شواهد ذلك(27):
•    الترغيب: لأبي الحسن التميمي نضر بن شميل المازني البصري, ت: 204 هـ.
•     الترغيب والترهيب: لابن زنجويه حميد بن مخلد بن قتيبة الأزدي, ت: 248 هـ.
ثانياً: وسائل السلف في الدعوة إلى التوحيد:
إنّ الارتباط الشرعي والكوني بين المقاصد والوسائل من أعظم الدلالات على أهميتها, فمن سنة الله تعالى أنّ المقاصد لا تحصل إلاّ بالوسائل.
ولذلك أمر الله تعالى بمباشرة الوسائل واتّخاذ الأسباب, فقال تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله﴾ (الجمعة:9).
قال ابن القيم رحمه الله: "لما كانت المقاصد لا يتوصّل إليها إلاّ بأسباب وطرق تفضي إليها, كانت طرقها وأسبابها تابعة لها, معتبرة بها..."(28).
وإنّ الناظر في وسائل السلف رحمهم الله في نشر عقيدة التوحيد, يجدها على ضربين:
- وسائل قولية      - ووسائل عملية. وفيما يلي ذكر طرفٍ من هذه الوسائل:
أ- الوسائل القولية:
إنّ الوسائل القولية كانت لدى السلف الصالح بالمحلّ الأفضل, والمكانة السامية في إيصال دعوة التوحيد, حيث فقهوا مكانتها من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت:33), ومن مفردات هذا النوع من الوسائل, ما يلي:
1- الخطب, ومجالس الذكر:
تعريفها: "فن مشافهة الجمهور للتأثير عليهم واستمالتهم"(29).
نماذجها: إنّ الدعوة إلى التوحيد كانت محور خطب السلف رحمهم الله, وفي ذلك يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم ، وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الربِّ جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تُحبِّبه إلى خلقه وأيامه التي تخوِّفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يُحبِّبهم إليه، فيذكرون مِن عظمة الله وصفاته وأسمائه، ما يُحبِّبه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره، وذكره ما يُحبِّبهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم"(30).
2- النصائح والوصايا:
تعريفها: هي كلمة جامعة تتضمّن قيام الناصح أو الموصي للمنصوح أو الموصى له بوجوه الخير إرادة وفعلاً(31).
نماذجها: إنّ التواصي بالحق, ونصيحة الخلق, كانت ديدن السلف رحمهم الله وهجيراهم, وما ذاك إلاّ لإدراكهم التام لمكانة هذه الوسيلة في النفوس.
قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ{1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ{2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
ومن نماذج هذه الوصايا:  قول عن الأسود بن هلال: "كنا نمشي مع معاذ بن جبل رضي الله عنه, فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة"(32), وفي هذا تعاهد للإيمان والتوحيد.
3- التعليم:
كان التعليم لدى السلف رحمهم الله خير وسيلة في الدعوة إلى التوحيد, وتصفية العقيدة, وتمكين الإيمان(33), ولشدة اهتمامهم به قرنوه بالعبادة, قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد"(34).
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه في بيان أثر التعليم في ترسيخ الإيمان ونشر التوحيد عند السلف رحمهم الله: "لم تكن مجالس الذكر مثل مجالسكم هذه؛ يقصّ أحدكم وعظه على أصحابه ويسرد الحديث سرداً, إنما كنّا نقعد فنذكر الإيمان, ونتدبر القرآن, ونتفقه في الدين, ونعد نعم الله علينا تفقهاً"(35).
ب- الوسائل العملية:
تعدّدت وسائل السلف العملية في نشر عقيدة التوحيد -سواء كانت وسائل مباشرة, أو غير مباشرة- ومن هذه الوسائل:
1- التأليف والتصنيف:
مفهومه: "هو تقييد المتفرق, وجمع المتشتت من علوم العقيدة في ديوان أو كتاب"(36).
نماذجه: لقد أولى السلف رحمهم الله تدوين علم العقيدة عناية فائقة, حفظاً لهذه العقيدة من التحريف, وصيانة لها من التبديل, ونشراً لها بين عموم المكلفين.
ولا أعلم أن السلف اهتموا بتدوين علم كتدوين علم العقيدة خلال القرون المفضلة الأولى إلا ما كان من السنة وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاعتقاد.
وكان التصنيف أولاً لبيان عقيدة التوحيد الصافية, ثم نحى منحى الردّ على المبطلين الطاعنين في عقيدة توحيد رب العالمين, ومن نماذج هذه المؤلفات(37):
•    كتاب الإيمان، لأبي عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة 224هـ.
•الاستواء، لابن الحداد القيرواني، ولد سنة 219هـ، وتوفي سنة
•    الحيدة والاعتدال في الرد على من قال بخلق القرآن، للكناني، المتوفى سنة 240هـ.
• الرد على الزنادقة والجهمية، للإمام أحمد بن حنبل, المتوفى سنة 241هـ.
•    السنّة, لابن أبي عاصم, المتوفى سنة: 287 هـ.
2- المكاتبات:
المقصود بها: ما جرى بين السلف رحمهم الله من مكاتبات تضمّنت, الدعوة إلى التوحيد, وبيان الاعتقاد الصحيح.
نماذجها: حرص أهل الخير من السلف على كتابة بعضهم لبعض, وصايا متضمنّة للزوم عقيدة التوحيد, والتحذير من مسلك الابتداع والتحريف.
فعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: "كان أهل الخير يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات -وتلقاهن بعضهم بعضاً- من عمل لآخرته كفاه الله دنياه, ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح ما بينه وبين الناس, ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته"(38).
ومن نماذج ذلك: أنّ عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى عدي بن عدي: "إن الإيمان فرائض وشرائع وحدود وسنن, فمن استكملها استكمل الإيمان, ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان"(39).
3- الجهاد في سبيل الله:
إنّ الجهاد في سبيل الله من أعظم الوسائل التي يُذَادُ بها عن حياض هذا الدين, وهي السبيل لتذليل العقبات من أجل وصول عقيدة التوحيد إلى سائر المكلّفين.
وقد أبان النبي صلى الله عليه وسلم عن غاية الجهاد كما في حديث ابن عمر حيث يقول: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"(40).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " فإن الله سبحانه أقام دين الإسلام بالحجة والبرهان والسيف والسنان, فكلاهما في نصره أخوان شقيقان"(41).
وعناية السلف بهذه الوسيلة واضحة للعيان لا تحتاج إلى تدليل أو برهان, فقد أقاموا علم الجهاد, وقمعوا أهل الزيغ والفساد, ومن أعلامهم في هذا الشأن, إمام أهل زمانه, عبد الله بن المبارك رحمه الله.
هوامش المطلب الرابع
1/الأساليب الدعوية هي: "القوالب والتراكيب التي تصاغ فيها المعاني", والوسائل الدعوية هي: "الأفعال التي يُتوصَّل بها إلى تحقيق المقاصد الدعوية", فالوسائل الدعوية -في حقيقتها- هي أوعية للأساليب الدعوية.
2/انظر تفصيل خصائص وضوابط وسائل السلف وأساليبهم في الدعوة إلى الله في: "منهج السلف في الوعظ" ص: 218, و333.
3/سأكتفي بذكر تعريف لكل وسيلة وأسلوب, ثم أثني التعريف بذكر نماذج من استخدام السلف لهذه الوسيلة أو الأسلوب.
4/ مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي المخزومي شيخ القراء والمفسرين, ثقة إمام في التفسير وفي العلم, توفي سنة 101 هـ تقريب التهذيب ص 453.
5/مدارج السالكين 2/478.
6/رواه مسلم في مقدمة صحيحه 1/11.
7/ الآداب الشرعية لابن مفلح 2/89.
8/ المصدر السابق 1/325.
9/ انظر: "منهج السلف في الوعظ" ص 20.
10/ رواه ابن الجعد في مسنده, ص 326, والطبراني في المعجم الكبير 9/102, وأبو نعيم في الحلية 1/134, وقال الهيثمي: "ورجاله ثقات إلا أن معنا لم يدرك ابن مسعود" مجمع الزوائد 10/407.
11/ المفردات, للأصفهاني, ص 189, وبصائر ذوي التمييز, للفيروز أبادي 2/373.
12/رواه الدارمي في سننه 1/53, وابن بطة في الإبانة 1/250, وإسناده صحيح.
13/ انظر المناظرة في: مصنف عبد الرزاق الصنعاني 10/157, ومسند الإمام أحمد 1/452, والطبراني في المعجم الكبير 10/257, وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/240: "رواه الطبراني وأحمد وبعض رجالهما رجال الصحيح".
14/ "مفاتيح الغيب" للرازي 5/702.
15/ رواه أبو يعلى في مسنده 11/316, وقال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية 15/368: "صحيح موقوف", وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/218: "رواه أو يعلى ورجاله رجال الصحيح".
16/ المفردات في غريب القرآن، ص 462.
17/ أي مقبلة محبة, مختار الصحاح 1/307, مادة: "ومق".
18/ "أدب الدنيا والدين", ص 275.
19/ حمّاد بن زيد بن درهم, أبو إسماعيل البصري, العلاّمة الحافظ الثبت, محدِّث الوقت, قال عنه الإمام أحمد: "حماد بن زيد من أئمة المسلمين, من أهل الدين" توفي سنة: 179, سير أعلام النبلاء 7/456.
20/ هم أتباع الجهم بن صفوان القائلين بخلق القرآن, الذين عطلوا صفات الباري, انظر: الرد على الجهمية للدارمي, ص 7, ومجموع الفتاوى 5/20.
21/ الخوص: هو ورق النخل, لسان العرب 7/31, مادة: "خوص".
22/ الكَرَب: هو أصل سعف النخل, لسان العرب 1/711, مادة: "كرب".
23/ مستخرج الطوسي, ص 34, وقال محققه, د. أنيس طاهر: "إسناده صحيح".
24/ "هداية المرشدين", ص 192.
25/ "أصول الدعوة", ص 437.
26/ رواه هناد في "الزهد" 1/283, وأبو نعيم في "الحلية" 1/35.
27/ انظر: "كشف الظنون", لحاجي خليفة 1/400.
28/ إعلام الموقعين 3/135.
29/ انظر: قواعد الخطابة, د. أحمد غلوش, ص 8.
30/ زاد المعاد 1/523.
31/ انظر: "جامع العلوم والحكم", ص 80.
32/ رواه أبو نعيم في الحلية 1/235.
33/ انظر جهود السلف في التعليم في: "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر 2/788-796.
34/ أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/302, ويروى مرفوعاً ولا يصحّ, قال الحافظ العراقي: "وهو الأشبه بالصواب, يعني وقفه" تخريج أحاديث الإحياء 1/86.
35/ ذكره الغزالي في "إحياء علوم الدين" 1/32 ولم أجد من خرّجه.
36/ "لسان العرب" 9/189مادة: "صنف".
37/ للاستزادة انظر: تاريخ تدوين العقيدة السلفية، لعبد السلام بن برجس, ومنهج أهل السنة والجماعة في تدوين علم العقيدة إلى نهاية القرن الثالث الهجري، ناصر الحنيني.
38/ رواه هناد في "الزهد" 1/300.
39/ رواه البخاري في صحيحه تعليقاً, كتاب: الإيمان, وابن أبي شيبة في مصنفه 6/172, وإسناده صحيح.
40/ متفق عليه, البخاري 3/263, كتاب: الزكاة, باب: وجوب الزكاة, رقم 1399, ومسلم 1/51,كتاب: الإيمان, باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله محمد رسول الله, رقم 324.
41/ الفروسية لابن القيم, ص 83-84.

تم قراءة المقال 537 مرة