الأحد 18 محرم 1434

قصة موسى عليه السلام بعد الخروج من مصر من خلال سورة الأعراف

كتبه 
قيم الموضوع
(21 أصوات)

قصة موسى بعد الخروج من مصر من خلال سورة الأعراف

 

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن موسى عليه السلام من أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن حيث ذكر بالاسم 131 مرة في 34 سورة قرآنية، وذلك لكثرة العبر الموجودة في قصته وللشبه الكبير بين طبيعة دعوة موسى ودعوة محمد عليهما السلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود حين أمر بصيام اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون: «نحن أولى بموسى منكم» لأننا صدقناه ولم نكذبه وعظمناه ولم نهنه بخلاف اليهود الذي كذبوه وكذبوا عليه وأهانوه .

 

قصة موسى عليه السلام بعد الخروج من مصر من خلال سورة الأعراف

 

 

    وكما هي عادة القرآن في سرد القصص فإنه يذكر من الأحداث ما فيه العبرة شريعةً كان أو موعظةً، وذلك بحسب وقت نزول الآيات طول حياة الرسول e، ولذلك نجد القصة الواحدة مفرقة في سور متعددة، وهي مع تعدد مواضعها متكاملة المعاني ولا تناقض فيها، وتجدر الإشارة إلى أن تعدد سياقات القصة الواحدة وتنوع عباراتها مع التكامل وعدم التناقض يعد من مظاهر إعجاز القرآن الكريم.

 

    ولما كانت أخبار موسى عليه السلام في القرآن كثيرةً؛ فقد اخترت قصة ما بعد الخروج من مصر من خلال سورة الأعراف لنقف على أهم ما في هذه القصة من الدروس والعبر، ولنعقد بعض المقارنات بين النص القرآني ونص الكتاب المقدس عند النصارى.

 

 

 

   يقول المولى عز وجل : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

 

    هذه جزئية في قصة موسى بعد العبور لا توجد في الكتاب المقدس، وإن وجود مثل هذه الزيادات مما يؤكد أن النبي الأمي قد تلقى القرآن من الله تعالى وليس من عند اليهود والنصارى كما يزعمه بعض من لا يؤمن به، ومن شك فما عليه إلا أن يقارن بين القرآن والعهد القديم والجديد.

 

   وهذا الخير يُبيِّن أن اليهود الذين فضلهم الله تعالى على العالمين بإرسال الرسل -ومنهم موسى عليه السلام- من أجد الهداية الدينية والقيادة الدنيوية؛ كانت نفوسهم مريضة ومتمردة (أصحاب رقاب غليظة كما جاء وصفهم في الكتاب المقدس)، فهم بعدما رأوا المعجزات على يد موسى عليه السلام الذي دعاهم ودعا فرعون لعبادة الله تعالى وحده يطلبون من موسى عليه السلام ، وبكل وقاحة أن يجعل لهم أصناما يعبدونها فوصفهم موسى بالجهل بحق الله تعالى وعظمته، وأخبرهم أن عُبَّاد الأصنام محكوم عليهم بالهلاك، ثم ذكَّرهم موسى بنعمة الله عليهم ليرجعوا إلى رشدهم ولا يفكروا في مثل هذا الشرك الذي لا يرضاه الله تعالى، ولذلك كان أول الوصايا العشر النهي عن الشرك (تعدد الآلهة) وعن صناعة الأصنام أو التماثيل.

 

فهذا هو معنى تفضيل اليهود على الناس ، وهذا معنى ورود ذكر ذلك على لسان الأنبياء وفي القرآن الكريم ، وليس معناه التفضيل الأبدي سواء أطاعوا أم عصوا آمنوا أم كفروا ، كما يفهمه كثير من الصهيونيين من اليهود قديما وحديثا وكثير من النصارى الصهيونيين حديثا.

 

 

 

    قال الله تعالى : «وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

 

   وفي هذه الآيات ذكر لخبر ذهاب موسى لجلب الألواح أي ألواح التوراة التي فيها كلامه والتي كتبها الله تعالى بيده وقد تضمنت الشريعة والوصايا، وكانت المواعدة على ثلاثين يوما فزاد الله تعالى عشرا امتحانا لليهود، وهذا التفصيل غير موجود في الكتاب المقدس وهو مهم، وذلك أنه لما تأخر عن الموعد اتخذوا العجل وعبدوه من دون الله تعالى وكأنهم لم يصدقوا موسى في دعوته وغلب عليهم ميلهم إلى الوثنية التي جاء الرسل بمحاربتها، فلما أبطأ عليهم فعلوا ما فعلوا، وهذه العقلية الوثنية بقيت تسيطر على عقول كتبة التوراة حيث جردوها في أكثر الأحيان من دعوة الأنبياء إلى التوحيد -كما رأينا في السنة الماضية في قصة إبراهيم- وكذلك نجد كتبة التوراة عند حديثهم الرب يستعملون عبارات التشبيه بالبشر كشم اللحم والصفير والندم والاستراحة وغيرها مما ينزه عنه الخالق جل في علاه، فلما بعث عيسى عليه السلام جسدوا الإله في البشر وخرجوا من التوحيد إلى التثليث التي هي عقيدة الوثنيين القدماء كالبوذيين وقدماء المصريين.

 

   وفي الآية الثانية خبر مهم جدا وهو أن موسى بعد أن كلمه الله تعالى -وليست المرة الأولى التي يكلمه فيها مباشرة فيسمع صوته بلا واسطة- تاق موسى إلى رؤية الله عز وجل فطلبها من الله عز وجل، فبيَّن الله تعالى أن رؤيته في الدنيا غير ممكنة وأنه لا يمكن أن يثبت شيء أمام نور الله تعالى فكشف الله تعالى حجابه للجبل فذاب الجبل من عظمة الله سبحانه، وأغمي على موسى، ومنه فإن عبارة التوراة (الخروج 33: 11) بأن الله كلمه وجها لوجه كما يكلم الرجل صاحبه عبارة باطلة من غير شك .

 

وقد أخبرنا النبي e أن الرب سبحانه محتجب عن الخلق كله بالنور لو كشفه لاحترق كل شيء من شدة نوره، لكن يوم القيامة يبدل الله طبيعة الخلق لذلك عندما يدخل أهل الجنة الجنة ويستقرون فيها يعطون أعظم نعيم الجنة وهو رؤية الله تعالى، أما الكفار فيظلون محجوبين عن الله سبحانه.

 

 

 

     ثم يقول المولى سبحانه : (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)

 

    الألواح المذكورة هي صحف موسى وهي التوراة التي كتب الله تعالى بيده ، والبعض يعتبر العهد القديم كله توراة وهذا محال، وآخرون يقولون بل الأسفار الخمسة الأولى الموجودة في الكتاب المقدس هي التوراة ، وهذا لا يصح أيضا لأن أي عاقل يقرأ هذه الأسفار يجدها تحكي عن الألواح وما جاء فيها وكذا أخبار وتفاصيل ليست من الشريعة بل من التاريخ،  ومن ذلك ما جاء في آخرها (النثنية 34 : 7-8 ) « وكان موسى ابن مئة و عشرين سنة حين مات ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته، فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يوما فكملت أيام بكاء مناحة موسى»

 

   وهذه الأسفار كتبها عزرا بيده بعدما ضاعت الأصول أيام الأسر البابلي، ولذلك توجد فيه كثير من النقائص والزيادات والتناقضات، والله تعالى لا يتناقض في كلامه وفيما كتب.

 

    ويتوعد الله تعالى في الآيات القرآنية اليهود وكل من جاءه الهدى فكفر به وكذب شريعته وبدَّلَها بحبوط العمل بمعنى أن أعمالهم الحسنة تمحى ولا يجدون ثوابها إذا كانوا كافرين، لأن المعيار الأول الذي يحاسب به العباد هو التوحيد ومن كفر وأشرك لا ينفعه إحسان إلى إنسان أو حيوان.

 

 

 

     ثم يقول الله عز وجل : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)  وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)

 

   بعدما تأخر موسى عليه السلام عن موعد الرجوع صنع اليهود عجلا من ذهب فيه ثقب إذا هبت الريح صدر منه صوت وعبدوه من دون الله تعالى، فلما اختلفوا قالوا نعبده حتى يرجع موسى ونرى رأيه فيه، إنها الروح الوثنية الساكنة في قلوبهم تتجلى مرة أخرى، وقد بيَّن الله تعالى أنَّ ضلالهم لم يكن خفيا حيث أن العجل لا يتكلم ولا يهدي ولا يُعلِّم فكيف يكون هو الإله الذي ذهب موسى إليه ليأتيهم من عنده بالتعاليم أو الشرائع .

 

   وكان الله تعالى قد أعلم موسى عليه السلام بما صنع اليهود في غيبته؛ ولكن لما رجع ورأى ما هو عليه اشتد غضبه وفقد السيطرة على نفسه، فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ولحيته يجره إليه ، فاعتذر إليه هارون كما في هذه الآية بأن اليهود استضعفوه وكادوا يقتلونه؛ ولذلك تركهم يصنعون ذلك، وفي سورة طه بيَّن تفصيلا آخر وهو خوفه من تفرقة من بني إسرائيل، وأن صاحب الفكرة سامري –وهو رجل من عبدة العجول كان يتظاهر بالإيمان-

 

   وهنا نقف وقفة خطيرة مع الكتاب المقدس الذي نجد فيه (الخروج : الإصحاح 4) أن هارون كان نبيا رسولا حيث يكون الله تعالى في فمه مثله مثل موسى وأوحى الله تعالى إليه أن يخرج لاستقبال موسى عليهما السلام، ونجد فيه (الخروج: الإصحاح 32 ) أن الذي أمر بصنع العجل هو هارون عليه السلام وحاشاه فهو نبي منزه عن الشرك، والنبي الذي يخون الرسالة متوعد بالموت مباشرة في التوراة والقرآن، أما التوراة ففي سفر التثنية (18/20) :« وَأَمَّا النَّبِيُّ الَّذِي يَتَجَبَّرُ فَيَنْطِقُ بِاسْمِي بِمَا لَمْ آمُرْهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ يَتَنَبَّأُ بِاسمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ حَتْماً يَمُوتُ » . وأما في القرآن ففي سورة الحاقة، حيث يقول سبحانه : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46).

 

  فلو فعل ذلك هارون عليه كما يزعمه كاتب التوراة لكان مصيره الموت ، لكنه لم يمت فدل أن الكاتب ربما كان من نسل السامري فأرد أن يبرئ جده ويسيء إلى نبي الله تعالى هارون عليه السلام.

 

   وننبه إلى أن هذا الوعيد خاص بالنبي حقا إذا خان الرسالة، أما المتنبئين الكذابين فهذا الوعيد لا يخصهم ولذلك فإن كثير من المتنبئين لم يصبهم الموت المباشر، وكوَّنوا ديانات كثيرة جديدة كالمورمون المنشقين عن النصارى، والنصيرين المنشقين عن الإسلام.

 

 

 

    يقول الله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

 

  لما ذهب الغضب عن موسى أخذ الألواح وقوله تعالى:" في نسختها " اختلف المفسرون فيه وكثير منهم يقول المراد أن الألواح تكسرت فأعطاه الله تعالى نسخة أخرى بدلا عن التي تكسرت ، وهذا المعنى هو الذي مجده في الكتاب الكقدس عند النصارى، ومنهم من يقول لم تتكسر والمراد الألواح ذاتها.

 

  ثم واعد الله موسى مرة أخرى للاعتذار لله تعالى فاختار سبعين من قومه وكانوا خيارهم الذين لم يعبدوا العجل لأن موسى عليه في تضرعه عند حدوث الرجفة قال :"أتهلكنا بما فعل السفهاء منا" ومنه فهؤلاء السبعين لم يكونوا سفهاء.

 

   وقد سمعوا صيحة فماتوا جميعا فلما تضرع موسى عليه السلام لربه أحياهم له مرة أخرى، وهنا يتبين أن معجرة إحياء الموتى لم تكن خاصة بعيسى عليه السلام وأن ذلك لا يصلح دليلا لمن زعم ألوهية .

 

   ويلاحظ أن في الكتاب المقدس ذِِِكرٌ لخبر السبعين رجلا وأنهم ذهبوا مع موسى للموعد الأول الذي أعطاه فيه الألواح ، ولم يذكره بعد عبادة العجل ، وهذا من الأمور التي اختلطت على كاتب التوراة ، مثل ما ورد في ( الخروج : الاصحاح 17) من خبر الانتصار على العماليق فإن اليهود رفضوا القتال في زمن موسى عليه السلام وإنما قاتل يوشع بعده وهزم العماليق وغيرهم من المشركين.

 

   في هذه الآيات ذكر دعاء موسى وتضرعه لله تعالى بأن يغفر لقومه وأن يحسن إليهم في الدنيا والآخرة فكان جواب الرب سبحانه ، بأن رحمته في الدنيا وسعت كل شيء ينالها كل الناس المؤمن والكافر والطائع والعاصي، لكن في الآخرة فسيجعلها للذين يؤمنون به ويخافونه ويزكون أموالهم ، والذين يتبعون النبي الأمي الآتي في آخر الزمان .

 

   ثم يخبر المولى عز وجل أن هذا النبي وهو محمدe مذكور في التوراة والإنجيل بالصفات المذكورة في الآية .

 

وهنا وقفة أخيرة: أين ذكره في التوراة ؟

 

نقول إنه مذكور في مواضع أخفاها الأحبار وفي مواضع بقي منها شيء كثير نذكر منها موضعان مهمان يقعان في الأسفار الخمسة الأولى وفي قصة موسى عليه السلام.

 

الأول : سفر التثنية 18: 18 - 20 "لِهَذَا أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَضَعُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُخَاطِبُهُمْ بِكُلِّ مَا آمُرُهُ بِهِ. فَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْصَى كَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي، فَأَنَا أُحَاسِبُهُ ».

 

ففي هذه الفقرة يعد فيها الرب ببعثة شخص تتوفر فيه جملة من الصفات منها:

 

1-أنه نبي بمعنى من البشر –وهذا يتفق فيه عيسى ومحمد عليهما السلام.

 

2-ومن بين إخوة بني إسرائيل لا منهم وإخوة بني إسرائيل هم بني عيسو بن إسحاق أو بني إسماعيل وهذا ما ينفرد به محمد e لأن عيسى عليه السلام ولد يهوديا (أي من أم يهودية).

 

3-أنه يشبه موسى -وهذا الشبه لا شك أنه ليس في الصورة-ولكن أولا وقبل كل شيء في طبيعة الرسالة ومضمونها . ولا أحد من الأنبياء يشبه موسى عند اليهود والنصارى وإذا زعم النصارى أن هذا النبي هو عيسى فرحنا لتنازلهم عن القول بألوهية المسيح ورجوعهم إلى الإسلام وإلى القول بأنه بشر رسول .

 

وأهم عناصر هذه المشابهة :

 

-أنه كلاهما جاء بشريعة جديدة ، بخلاف أنبياء بني إسرائيل بما فيهم عيسى عليه السلام فلم يأتوا بشريعة جديدة وقد صرح بذلك عيسى في موعظة الجبل.

 

-وكلاهما كلمه الله تعالى مباشرة من وراء حجاب، ولم ينقل ذلك عن عيسى عليه السلام.

 

-وكلاهما أمر بالهجرة من بلد آخر .

 

-وكلاهما فرض عليه القتال دفاعا عن العقيدة .

 

-وكلاهما كان قائدا لقومه أو رئيسا فجمعا بين الهداية الدينية والقيادة الدنيوية ، ولم تكن قيادة لعيسى عليه السلام.

 

ويذكر بعض المسلمين أوجها أخرى لا اعتقد أن موسى قصدها لكنها صحيحة وترد على من زعم أن النبي الموعود هو عيسى عليه السلام ومنها أنه كلاهما ولادة طبيعية من أبوين خلاف عيسى الذي كانت ولادته معجزة من أم فقط وكلاهما تزوج (ولم يثبت عندنا أن عيسى تزوج) وكلاهما مات موتا طبيعيا (أما عيسى فرفع عند المسلمين ومات على الصليب عند النصارى)

 

4- قوله:«وأضع (أو أجعل) كلامي في فمه »أن الوحي الذي أتيه شفهي ليس مكتوبا ولعل في هذا تأكيد على صفة الأمية التي وردت في أشعياء (10/29-30) النبي الذي يقال له اقرأ فيقول لا أعرف القراءة، أما المسيح عليه السلام فقد كان قارئاً كما في لوقا 4/16-18).

 

5- قوله: (يكلمهم بكل ما أوصيه به) وهذا يعني أنه يتمكن من بلاغ كامل دينه، وهذه صفة محمد e-، الذي كان من أواخر ما نزل عليه قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة: 3).

 

6-ومن لا يسمع لكلامه أنا أجاسبه" في ترجمة "أنا أطالبه" وفي أخرى :«أنتقم منه» في رابعة «استأصله »، والمعنى أن هذا النبي واجب السمع والطاعة على كل أحد، ومن لم يسمع له تعرض لعقوبة الله تعالى، وهو ما حاق فعلا بجميع أعداء النبي e، وأما المسيح عليه السلام فلم يتوعد قاتليه بشيء(حسب الأناجيل)، فكيف بأولئك الذين سمعوا كلامه فحسب، فقد قال لوقا في سياق قصة الصلب " فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23/34)([1]) .

 

الثاني : سفر التثنية33/1-3: "هذه البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران".

 

وجبل فاران هو جبل مكة الذي ترك فيه إبراهيم عليه السلام إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر كما في سفر التكوين(21/ 21) وهي وادي بكة المذكور في المزامير (84/6)، وإلى هذا النبي أشار أشعياء في نبوءته (21/13) فقال:" وحي من بلاد العرب".

 

     ونختم هذه المحاضرة بخير الكلام وبقوله سبحانه وتعالى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة/15، 16]

 

 

 


[1]/ نبهني الدكتور يزيد حمزاوي وفقه الله بعد المحاضرة أن هذه الفقرة تبين لعلماء النصارى أنها مدسوسة فحذفت في الطبعات الجديدة، وهذا من أدلة إقرار علمائهم بالتحريف في الكتاب المقدس ، وليس دليلا على صواب رأيهم في الحذف والزيادة، والأمر ذاته يقال في تصرفهم المتكرر في الترجمات بحسب ما يظهر لهم من تناقضات وأغلاط وبحسب ما يورد عليهم المسلمون من حجج، وإذا كانت عقيدة الصلب كلها زائفة فلا يستبعد أن يكون أكثر ما حولها من روايات مجرد تلفيق ، والله تعالى أعلم.

تم قراءة المقال 33615 مرة