طباعة
الأحد 4 رمضان 1436

تفسير سورة العلق -القسم الأول

كتبه 
قيم الموضوع
(27 أصوات)

 

 

 


   بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإنه يشرفني أن أنزل ضيفا على أهل هذه البلدة الطيبة (بني حواء الشلف) في هذه المناسبة السعيدة (مارس 2014)، وأن أجتمع بأهلها الكرماء في بيت من بيوت الله نتذاكر آيات من الذكر الحكيم ، ولا أنسى أن أتوجه بالشكر لمن كان سببا في هذا اللقاء العلمي ...، وقد اخترت لهذه الأمسية المباركة سورة العلق لتكون محل المدارسة تحليلا لألفاظها ووقوفا عند معانيها واستخراجا لهداياتها، فأقول مستعينا بالله تعالى :
   إن سورة العلق سورة مكية بلا خلاف بين العلماء، وقد نزلت على دفعتين الأولى تضمنت الآيات الخمس الأولى وهي قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ، والثانية تضمنت بقية السورة إلى آخرها .
    وإن الآيات الخمس الأولى منها كانت أول ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم باتفاق، وذلك في العشر الأواخر من شهر رمضان في ليلة القدر كما قال سبحانه (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، ومن العلماء من يحدد الليلة بليلة السابع والعشرين، وفي بعض الروايات المرفوعة أن ذلك كان في ليلة الرابع والعشرين، والصواب في تحديد ليلة نزول هذه الآيات أن يكتفى بالقول إنها نزلت في العشر الأواخر من شهر رمضان.
   وتسمى سورة العلق هو جمع علقة وهي مرحلة من مراحل تطور النطفة في رحم المرأة لقوله تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) وتسمى أيضا سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) نسبة إلى أول آية فيها، ويقال أيضا سورة اقرأ، ومن العلماء من أطلق على السورة "سورة القلم" لقوله تعالى فيها (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) لكن هذه التسمية تورث لبسا بسورة "ن" فإنها أشهر باسم سورة القلم.
   وعدد آيات هذه السورة ثمانية عشر آية عند الشاميين، وتسع عشرة آية عند البصريين والكوفيين، وعشرون آية عند المدنيين والمكيين، واختلاف عد الآي لا يعني اختلاف عدد الحروف والكلمات، فالسورة هي السورة واختلاف ترقيم الآيات وتحديد مواضع الفاصلة القرآنية أمر اجتهادي لا يؤثر في حفظ القرآن الكريم.
يقول المولى عزوجل :
    بسم الله الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
سبب النزول
   جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي غار حراء يتحنث فيه -أي يزيل الحنث-، فرارا مما عليه قومه من الشرك والباطل، حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء، فقال يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله، ثم قال اقرأ قلت ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني -أي ضمني بقوة- ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد، ثم قال:" اقرأ باسم ربك الذي خلق .." الحديث.
شرح المفردات:
اقرأ : أي أوجد القراءة والقراءة معناها جمع الكلمات ذات الحروف باللسان.
باسم ربك : أي اقرأ بذكر اسم الرب سبحانه، وذكر اسم "الرب" دون اسم "الله" لأن المقام مقام استعانة وهو من معاني الربوبية.
الذي خلق : أي خلق الخلق جميعه، حذف المفعول لإرادة العموم.
خلق الإنسان : تخصيص بعد العموم لمعاني منها أن الإنسان مخاطب ومؤهل للقراءة ، والمقصود بالإنسان هنا ذرية آدم وليس آدم لما يأتي .
من علق : العلق جمع علقة، وهي النطفة في الطور الثاني من أطوار التخلق في الرحم، حيث تكون نطفة أربعين يوما ، ثم تصير علقة أي قطعة من الدم الغليظ، تعلق بجدار الرحم وذلك مدة أربعين يوما أيضا، ، وسميت علقة تشبيها لها بدودة، ثم تتطور إلى مضغة لحم وتكون كذلك أربعين يوما، ثم إما أن يؤذن بتخلقها فتخلق وإما لا فيطرحها الرحم قطعة لحم.
وربك الأكرم : أي الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله ولا يساويه. والتعريف هنا يدل على الحصر فالأكرم وحده ، وغير الإله سبحانه قد يسمى كريما لكل الكريم على وجه الحقيقة التامة والكمال هو الله تعالى .
والكرم : التفضل بعطاء ما ينفع المعطَى والكريم الكثير الخير والعطاء، ونعم الله عظيمة لا تُحصى ابتداء من نعمة الإِيجاد ، وانتهاء بالهداية والإِمداد .
الذي علم بالقلم : أي علم العباد الكتابة والخط بجنس القلم، قيل سمي القلم قلماً لأنه يقلم أي يقطع، ومنه تقليم الظفر، والقلم من أوائل مخلوقات الله تعالى، خلقه تعالى بعد العرش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذكر فوق عرشه".
علم الإنسان ما لم يعلم : أي علم جنس الإنسان ما لم يكن يعلمه من سائر العلوم والمعارف، كما علم آدم من قبل الأسماء كلها .
المعنى الإجمالي
   نزل الوحي على نبيا محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبا إياه والخطاب له خطاب لأمته فقال سبحانه :{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فأمره أن يقرأ وأمره أن يبدأ قراءته بذكر اسم ربه مستعينا به، بأن يقول "باسم الله الرحمن الرحيم"، ثم عرفه الله تعالى لنفسه وذكر أخص معاني الربوبية فقال: {الَّذِي خَلَقَ} فإن الرب السيد الخالق الرازق المدبر، والله تعالى هو خالق كل شيء ولذلك حذف المفعول لإرادة العموم فهو الذي خلق ماذا خلق؟ خلق كل شيء، خلق الخلق كله، ثم بعد تعريف الله تعالى بأنه خالق الكون وما فيه خص الإنسان بالذكر فهو الذي خلق ذرية آدم من علق بعد أن خلق آدم من طين، وقد خص الإنسان بالذكر لأنه مؤهل للقراءة ومخاطب بها.
   ثم يكرر المولى عز وجل ويؤكد الأمر الأول بالقراءة فيقول { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ }، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالقراءة أولا اندهش وتفاجأ وقد استصعب الأمر لأنه لم يكن قارئا من قبل، فأمره مرة ثانية -وجاء بواو الحال- ليدله على أن التعليم من الله تعالى الكريم القادر على كل شيء، ووصف الله تعالى نفسه بالكرم -بعد أن وصف نفسه بالخلق- إشارة على نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى وبها يحيى وينعم الإنسان في هذه الدنيا، ومن هذه النعم نعم الرزق والهداية والتعليم، فكرم الله تعالى واسع ولا أكرم منه لن الخير كله منه سبحانه،  
ثم خص من آثار كرمه التعليم للعباد فقال:{ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أي أن الرب الخالق الكريم هو الذي علم عباده جميعا وهداهم وهو الذي علم البشر بالقلم الكتابة والخط منذ بدء الخليقة .
   وقوله {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} أي من كرمه الذي أفاض منه على عباده أنه علم الإنسان بواسطة القلم ما لم يكن يعلم من العلوم والمعارف، ويكون المعنى بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم المخاطب أولا بالآيات : لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالماً بالقراءة، فإن الله تعالى هو من علم الإنسان من قبل ما لم يكن يعلمه. وتعليم الله تعالى لعباده القراءة لا يختص بطريق الكتابة ، بل العلم يحصل بوسائل أخرى نحو الإِملاء والتلقين والإِلهام والوحي، وقد علم الله تعالى آدم عليه السلام الأسماء ولم يكن آدم قارئاً.
هداية الآيات:
1-أول أمر إلهي للأمة الإسلامية كان أمرا بالعلم
   ولعل أول وقفة نقفها مع الآيات الكريمات أن أول أمر أمرت بهده الأمة هو الأمر بالقراءة ، لأن الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم هو أمر لأمته، وهذه قاعدة مهمة في فهم آي القرآن الكريم، وفي ذلك دلالات منها أن الله تعالى خلق الإنسان وكرمه ولا يتم تكريم الإنسان إلا بالعلم، فإذا تخلى الإنسان عن العلم عاد إلى البهيمية، فبين خلق الإنسان وتعليمه ترابط وثيق وقد قال تعالى في سورة الرحمن (خلق الإنسان علمه البيان). ومنها أن الله تعالى أمر بالعلم قبل أن يأمر بالتوحيد أو العبادة وذلك أن العلم هو سبيل التوحيد والعبادة المقبولة، وهو الهادي للتوحيد والحافظ له، وضد العلم الجهل وهو سبب الشرك والانحراف والعصيان.
    وسر قيام الحضارة الإسلامية وتفوقها على جميع الحضارات فيما مضى هو بناؤها على العلم الذي أمر به القرآن، وهو إجمالا اهتداء المسلمين بهدي القرآن، فإذا أرادت الأمة سلوك طريق الرقي في زماننا فالطريق واضح فعليها أن ترجع إلى هدي القرآن ومنهاج القرآن، الذي جعل العلم "الإمام المتبع في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات"، ولذلك قرر علماء التجديد والإصلاح وعلى رأسهم ابن باديس رحمه الله تعالى، أن أساس إصلاح الأمة ونهضتها إصلاح التعليم، وأن التعليم لن يكون صالحا إلا بأن يكون على المنهاج الذي رسمه القرآن الكريم. 
2-إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
   ومما تدل عليه أوائل الآيات نزولا على قلب محمد صلى الله عليه وسلم صحة نبوته وصدقه ، وذلك من جهة ثبوت أمية النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن كان أميا لا يقرأ ما كتبه الأولون لا يمكن أن يصبح عالما معلما بين عشية وضحاها، إلا أن يكون قد تلقى العلم وحيا من الله تعالى، كما قال سبحانه {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} [العنكبوت:48] فلو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ قبل البعثة لوجد المبطلون حجة في تؤيد زعمهم إنه كتب قصص الأوليين وهذبها، أو أنه قرأ كتبا لم يصل إليها علم الأميين من العرب، فلما كان صلى الله عليه وسلم أميا بمشيئة الله وتقديره قطع تلك الشبهة وذلك الاحتمال ولم يبق إلا أن تعليمه كان من الله تعالى وحيا.
   وصفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم موجودة في التوراة في مواضع كثيرة ومنها النص الذي جاء على لسان موسى عليه السلام وفيه "أن كتابه في فمه يتلى" فهذا النص إشارة واضحة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم ينزل عليه الكتاب مكتوبا كما أنزل على موسى، ولكن أنزل عليه القرآن قرآنا يتلى.
   ومن الغفلة أن يجتهد بعض الملحدين في أن يثبت أن النبي صلى الله وسلم قرأ أو كتب كلمة بعد نبوته؛ ليثبت الشبهة التي صرح القرآن بنفيها، لأن محل البحث أن يثبتوا أنه كان قارائا للكتابة أو كاتبا قبل البعثة، وليس بعد أن أمره الله تعالى بالعلم والقراءة، وبعد أن علمه الله تعالى ما لم يكن يعلم، وهيهات أن يصلوا إلى ذلك.
3-العلم قسمان كسبي ووهبي
   ومما ينبغي الوقوف عنده ونحن نقرأ هذه الآيات التي يذكر الله تعالى العلم وأعظم أسبابه وهو القلم ، أن العلم كله مصدره من الله تعالى فهو من علم الإنسان، وهذا قسمان قسم ينال بأسباب مادية كثيرة وعلى رأسها القلم ويسمى العلم المكتسب أو الكسبي، وقسم آخر ينال بتوفيق من الله تعالى وهدايته ومنه الوحي الخاص بالأنبياء ، والإلهام الذي يكون لمن شاء من عباده، وهو العلم الموهوب أو الوهبي، وهو ما نعبر عنه بالتوفيق والتسديد، وإليه الإشارة في قوله تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال) وإنما يذكر هذا حتى لا يظن أحدنا أن العلم إنما يحصل بأسبابه المادية من منقول ومعقول دون نظر إلى شيء آخر، وأنه لا أثر لصفاء القلوب وتزكية النفوس في حصول العلم المطلوب، ولذلك وصف العلم بأنه نور يقذفه الله في قلب العبد، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :« فقوم يزعمون أنّ مجرد الزّهد وتصفية القلب ورياضة النّفس توجب حصول العلم بلا سبب آخر، وقوم يقولون لا أثر لذلك بل الواجب للعلم العلم بالأدلّة الشّرعيّة والعقليّة، أمّا الوسط فهو أنّ ذلك من أعظم الأسباب المعاونة على نيل العلم، بل هو شرط في حصول كثير من العلم وليس هو وحده كافيا، بل لابدّ من أمر آخر؛ إمّا العلم بالدّليل فيما لا يعلم إلا به، وإمّا التّصور الصّحيح لطرفي القضيّة في العلوم الضروريّة » .
4-انفراد الله تعالى بالخلق دليل التوحيد
   دلت الآيات الكريمات على أن الله تعالى هو المنفرد بالخلق، وأن الله تعالى خالق كل شيء ، والتأكيد على ذلك وهو تأكيد على انفراد الله تعالى باستحقاق العبادة، وجه ذلك أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق لله تعالى مثله مثل الإنسان، فلماذا يترك الإنسان عبادة خالقه ليعبد مخلوقا مثله، وربما ليعبد مخلوقا دونه لم يكرم بالعقل كمن عبد الجماد والحيوان.
5-معرفة الخالق فطرية 
    ومما يلاحظ في أوائل ما نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ذكر الله تعالى باسم الرب وتعريفه بأنه خلق كل شيء :اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  وقولهاقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ  مما يوحي أنه سبحانه معروف بهذا الاسم والفعل -الخلق-بالفطرة قبل نزول الوحي، ذكر هذا ابن تيمية وقال :"وأن المخلوق مع أنه دليل وأنه يدل على الخالق، لكن هو معروف في الفطرة قبل هذا الاستدلال، ومعرفته فطرية مغروزة في الفطرة ضرورية بديهية أولية"، ومما يستفاد من هذا الملاحظة أن غاية نزول القرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم أمر يتجاوز مجرد إثبات الصانع وانفراده بالخلق، وإنما الدعوة إلى عبادة الله وحده ونفي الشركاء عنه.
6-اتصاف الله تعالى بالكرم
   عظم الله تعالى شأنه بأن وصف نفسه بأنه الأكرم، بمعنى أن كرمه يعادله كرم أحد، ومعنى الكريم الكثير الخير، والله سبحانه سبب كل خير ومسهله، ومن كرم الله سبحانه أن أسدل نعمه على عباده قبل استحقاقها، وأنه يتبرع بالإحسان من غير رجاء الثواب، ومن معاني الكرم العفو والصفح والله تعالى هو العفو والغفور التواب.
   ومن مظاهر كرم الله تعالى عطاءاته غير المتناهية على العباد صالحهم وغيره صالحهم ، فهو الذي علم الإنسان وهداه بأن خلقه على الفكرة وركب فيه العقل آلة الفهم وجعل له من آلات التمييز السمع والبصر والفؤاد، وهو الذي علم آدم وأرسل الرسل من بعده وأنزل الكتب، وجعل من أسباب العلم والهداية في الكون ما لا يمكن أن يأتي عليه حصر، قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات 20-21).
7-الإشارة إلى مراحل تطور الخلق في الرحم
   في هذه الآيات ذكر لمرحلة من مراحل نمو الجنين وهي العقلة التي تكون بعد النطفة ، وقد فصل ربنا عز وجل المراحل جميعها في موضع آخر فقال : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ  (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) (سورة المؤمنون).
   وقد عد الإخبار بمثل هذا من أضرب الإعجاز العلمي المبثوث في القرآن الكريم ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليطلع على مثل هذه الأمور لولا الوحي، ولأن ما جاء به القرآن من وصف دقيق لهذه المراحل قد أكده العلم الحديث.
   ومجالات إعجاز القرآن الكريم ليست مقصورة على الجانب اللغوي والبلاغي، فإن هذا إذا ما تؤمل قد يكون خاصا بالعرب الذين يتذوقون البلاغة العربية ويعرفون خصائصها، وإنما هي متنوعة متعددة ومتجددة وخالدة وصالحة لكل زمان ومكان ، وفي تقرير هذا المعنى يقول ابن باديس رحمه الله تعالى :   قوله :« القرآن أعجز العرب ببلاغته، حتى عرفوا- وعرف العلماء بلسانهم المرتاضين ببيانهم- أنه ليس مثله من طوق البشر. هذه هي الناحية الظاهرة في إعجاز القرآن والاستدلال به له ولمن أتي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وهنالك ناحية أخرى هي أعظم وأعم: وهي ناحيته العلمية التي يذعن لها كل ذي فهم من جميع الأمم، في كل قطر وفي كل زمن، وهذه الناحية هي التي احتج بها في هذا الموطن:
فقد استدل على أن القرآن لا يمكن أن يكون أتى به محمد من عنده، ولا يمكن أن يستعين عليه بغيره، ولا أن يكون من أوضاع الأوائل، بأنه ينطوي على أشياء من أسرار هذا الكون لا يعلمها إلّا خالقه، فمن ذلك:
ما أنبأ به من أسرار الأمم الخالية، وبيّن من أسرار الكتب الماضية، وما أنبأ من أحداث مستقبلة، وما ذكر من حقائق كونية، كانت لذلك العهد عند جميع البشر مجهولة؛ كالزوجية في كل شيء، وسبح الكواكب في الفضاء، وسير الشمس إلى مستقر مجهول معين عند الله لها.
    وغير ذلك من أسرار العمران والاجتماع، وما تصلح عليه حياة الإنسان، مما تتوالى على تصديقه تجارب العلماء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم. فكتاب اشتمل على كل هذه الأسرار لا يمكن أن يأتي به مخلوق»

8-الاستعانة بالله تعالى 
  في قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) دلالة على مشروعية ابتداء القراءة بذكر اسم الله ولذا افتتحت سور القرآن ما عدا التوبة ببسم الله الرحمن الرحيم، ومعناها الاستعانة بالله تعالى، وأكد على ذكر اسم الله تعالى لنيل بركة ذكر اسمه، فلابد لنا عند الشروع في أي عمل أن نبدأ بذكر اسم الله تعالى باللسان واستحضار معنى الاستعانة بالقلوب، وإنه لا توفيق للعبد في أعماله ولا تحقيق لآماله إلا بإعانة الرب وتسديده .
يتبع.

 

 

 

تم قراءة المقال 11602 مرة