لثلاثاء 29 جمادة الثاني 1443

خواطر في ظلال حديث "لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ".

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

خواطر في ظلال حديث "لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ".
قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ" متفق عليه عن معاوية رضي الله عنه .
   إن هذا الحديث يعتبر من جوامع الكلم النبوي، ومن دلائل صدق النبوة، ومن المبشرات لهذه الأمة، وتأملته يوما فخطرت لي خواطر في تبيين معانيه فسجلتها على هذا النحو :
أولا : إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لا يتكلم عن أعداء الأمة من أهل الملل؛ ولكنه يتكلم عن فئات كلها من أمته التي آمنت به، فالأمة التي تدين بالإسلام فيها فئة الناصرين للحق وقائمين عليه، وفيها فئة المخالفين للحق والمحاربين لأهله، وفيها فئة الخاذلين لأهل الحق والمخذلين .
ثانيا : إن الفئة القائمة على الحق وصفت في حديث معاوية رضي الله عنه بالأمة ووصفت في أحاديث مشابهة -كلها في الصحيح- بالطائفة أو القوم أو العصابة، وفي كل ذلك إشارة لتقليل عدد أهلها بالنسبة لمجموع الأمة.
ثالثا : يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القلة؛ حتى لا يستوحش ناصر الحق طريقه لقلة الصابرين والثابتين، وحتى يتسلى فيثبت ولا ينجر مع المخالفين الساعين لرضا أهل الباطل أو مع الخاذلين الخائفين من أهل الباطل.
رابعا : ويخبرنا صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا لنكون على يقين أن هذا الدين محفوظ إلى قيام الساعة؛ وهو معنى قوله (حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ) فدين الله محفوظ بنا أو بغيرنا وقد قال سبحانه (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) (محمد: 38)
خامسا : وهذا الدين دين الله تعالى؛ وهو أمانة ينبغي المحافظة عليها وتسليمها للأجيال كما تلقيت، وليس لأحد منا مهما كانت منزلته أن يغيرها زيادة فيها أو نقصا منها، إرضاء للأهواء أو الملوك أو الجماهير، أو رضوخا للأعداء من أهل الملل؛ بدعوى الحفاظ عليها.
فالعبد الناصح كالترجمان ما عليه إلا البلاغ، ولا يجوز للمترجم أن يزيد أو ينقص في الكلام، بزعم استحسان الزيادة والمصلحة في النقصان؛ فإن فعل ذلك الترجمان فقد خان.
سادسا : والخذلان المذكور وصف لا يتحقق إلا في حق من عرف الحق وكتمه، أو كانت له قدرة على النصرة فامتنع، أما من كان غير قادر أو غير عارف أصلا والتزم الصمت، فهذا لا يدخل في أي من الفئات الثلاث؛ لأنه لا تكليف إلا بعد العلم وإلا مع القدرة، وموقف غير العارف ينبغي أن يكون على وفق حديث (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات).
سابعا : وأما الضرر المنفي عن الطائفة القائمة بأمر الله؛ فهو الضرر المتعلق بنصرتهم الحق، فهم ثابتون لا يتأثرون بالخذلان والمخالفة، ويمكن أن يكون الضرر بالمتعلق بمجموع الطائفة لا الآحاد والأفراد؛ فهم منصورون ويبقى قولهم معلوما والحق محفوظا حتى تقوم الحجة على جميع الخلق ، وذلك غاية المراد.
ثامنا : إن هذا الحديث يبين لنا مظهرا من مظاهر رحمة الله بهذه الأمة الخالدة، وهو أنها لا تجتمع على الخطأ ولا على الضلالة ، ولو بوجود فئة من العلماء تبين الحق أو عصابة تؤدي الفرض الكفائي الواجب على الأمة في وقته.
وهو من أقوى وأصرح أدلة حجية الإجماع؛ الأصل الثالث من أصول الاستدلال بعد الكتاب والسنة.
تاسعا : يسيء كثير من الناس فهم الحديث الذي يتحدث عن وصف "القيام على الحق" و"نصرة الحق" فيترجمه في واقعه على أفراد معينين مهما كانت المسائل والقضايا المطروحة، وهذا خطأ جسيم لأنه يؤدي إلى حصر حماة الدين في تخصص واحد دون غيره أو جهة واحدة دون غيرها، كما أنه أدي بالكثيرين بعد تعيين هؤلاء الأفراد إلى اعتقاد العصمة فيهم ، ولا عصمة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، وإلا لمجموع الأمة بعده، وما ثبت للمجموع لا يثبت للأفراد، والحكم المعلق بالأوصاف لا يجوز الجزم بتعيين أفراده؛ ولكنا نرجو ونخاف، والله تعالى هو علام الغيوب العالم بالسر وأخفى وعواقب الأمور وخواتمها وظاهرها وباطنها.
والله سبحانه أعلى وأعلم .

تم قراءة المقال 367 مرة