قيم الموضوع
(3 أصوات)

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن من معاني الإصلاح المطلوب منا إصلاح القلوب وتعبيدها لله علام الغيوب، بل ذلك أول الإصلاح وأساسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"(متفق عليه)، وإصلاح القلوب يكون بربطها بخالقها جل وعلا وتحقيق العبادات الواجبة عليها من محبة الله تعالى وتعظيمه والتوكل عليه وخوفه ورجائه وإخلاص العمل لوجهه، وإن رأس ذلك كله الإخلاص الذي هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة فلا يشرك مع الله أحد غيره، وكذلك تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، بحيث يستوي عمل العبد في الظاهر والباطن، ويسلم من الرياء الذي منه طلب التزين في قلوب الخلق وطلب مدحهم وتعظيمهم ومحبتهم أو طلب أموالهم وخدمتهم وقضائهم حوائجه أو غير ذلك من الأمراض التي يجمعها "إرادة ما سوى الله بعمله".

 

55-كيف نتعلم الإخلاص

 ولما كانت القلوبُ كثيرةَ التقلب وعرضة لوساوس الشيطان ونزغاته؛ وجب على كل مسلم أن يجدد إخلاصه كما يجدد إيمانه، ومن غفل عن ذلك ابتلي بقسوة القلب، قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16)، وفيما يأتي بيان لأهم أسباب تحصيل الإخلاص وتقويته في القلوب نسأل الله تعالى أن ينفع بها.

1-الدعاء 

   أول هذه الأسباب الدعاء والالتجاء إلى المولى عز وجل وإعلان الافتقار إليه، يقول القرافي رحمه الله:" اعلم يا أخي أن هذا المقام تشيب منه النواصي ولا يعتصم منه بالصياصي ، فينبغي لك أن توفر العناية عليه والجد فيه مستعينا بالله فمن لم يساعده القدر لم ينفعه الحذر وقطع الكبر من استكبر.

إذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأكثر من يجني عليه اجتهاده

لكني أدلك على أعظم الوسائل مع بذل الاجتهاد وهو أن تكون مع بذل جهدك شديد الخوف عظيم الافتقار ملقيا للسلاح معتمدا على ذي الجلال مخرجا لنفسك من التدبير ، فإن هذه الوسيلة هي العروة الوثقى لماسكها وطريق السلامة لسالكها".

2-الاستعاذة من الشرك والرياء  

   ويتبع الدعاء التعوذ بالله عز وجل من الشرك ومن الرياء كما قال إبراهيم عليه السلام: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم:35)، قَالَ صلى الله عليه وسلم:"أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ" (رواه أحمد) وهذا أخص من معنى الاستعانة، وهو يتضمن عدم الأمن من مكر الله، وعدم إحسان الظن بالنفس والاغترار بالحال.

3-تذكر رقابة الله تعالى  

   ومن أسباب تحصيل الإخلاص تذكر صفات الله تعالى الدالة على علمه الشامل، وبصره بالعباد وعدم خفاء سرائرهم عنه، وما يورث العبد مراقبة الله تعالى في جميع أقواله وأفعاله وأحواله. قال تعالى: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:29)

4-تذكر عقوبات ترك الإخلاص الأخروية

    ومنها تذكر عقوبات ترك الإخلاص الأخروية التي منها الفضيحة على رؤوس الخلائق، وأعظمها إبطال الأعمال يوم العرض والحساب، كما قال تعالى : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23). وكما قال أيضا في الحديث القدسي :" أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ" (رواه مسلم) وقد قيل :" من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله ".

5-تذكر عقوبات ترك الإخلاص الدنيوية

    ومن الأسباب أيضا تذكر عقوبات ترك الإخلاص الدنيوية ومنها: قلة التوفيق والإعانة، وفقدان البركة ولذة الطاعة، والمعاملة بنقيض القصد والفضيحة بين الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من رائى رائى الله به ومن سمع سمع الله به"(متفق عليه)، وأعظمها الابتلاء بسوء الخاتمة، قَالَ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ" (رواه البخاري).

6-محاسبة النفس ومراجعتها

    ومنها الاجتهاد في مراجعة النفس وأن نتذكر أن النية تتقلب، فلا يكفي تصحيحها في يوم أو شهر أو سنة فلا بد من المراجعة واتخاذ أسباب المراجعة، ويؤثر عن سفيان الثوري رحمه الله:" ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي" وذلك لشدة تقلبها.

7-اتهام النفس

   والذي يثبت هذه المراجعة اتهام النفس وعدم حسن الظن بها، قال هشام الدستوائي:« والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوما قط أطلب الحديث أريد وجه الله تعالى» وكان يقال لأحمد إن الناس يدعون لك فيقول:"ليته لا يكون استدراجا".

8-الحذر من الاستدراج

    ومما يساعدنا على المراجعة والمحاسبة أن نتذكر أن الله تعالى قد يؤتي الناس النعم والخير والعلم استدراجا لا رضا عنهم، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (الإسراء:18-20).

9-الخوف من مكر الله تعالى

    ومن أسباب تحصيل الإخلاص أن نعلم أن الله تعالى يمهل ولا يهمل ويمكر بالماكرين ويفضحهم في الدنيا قبل الآخرة، قال حماد بن سلمة:" من طلب الحديث لغير الله مكر به". وكم من عَلَمٍ ارتفع ذكره ثم خمد كما حدث لبعض المحدثين الذين كانوا يعدون من الحفاظ منهم من كان يعد من أقران أحمد بن حنبل، ثم وقعوا في الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم حبا في كثرة الحديث ومباهاة لأهله، ففضحهم المولى عز وجل وسقطوا.

10-إخفاء العبادة

    ومن الأمور المساعدة على الإخلاص في بعض الأحيان إخفاء العبادة التي يمكن إخفاؤها، قال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة271). ومن لم يكن ظهوره من ضرورة وظيفته وعمله، فخموله خير له من ظهوره.

11-تأمل قصص المخلصين 

    ومن طرق تعلم الإخلاص تأمل قصص المخلصين، من الصحابة وأهل العلم والجهاد الذين جاءهم النصر والتوفيق من الله تعالى وخلد ذكرهم وأعمالهم، وقد قال مالك:" ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل"، ومما قصه علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين فرجت عنهم كربه بأخلص أعمالهم، ومما ورد في السيرة النبوية أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فأعطي نصيبه من الغنيمة فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ:" إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ" فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" أَهُوَ هُوَ" قَالُوا نَعَمْ قَالَ:" صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ" (رواه النسائي وهو حديث صحيح).

12-الإكثار من الصوم

    ومنها المداومة على الصوم، فإنه مدرسة الإخلاص ومن العبادات الخفية التي تعلم صاحبها المراقبة وسلامة النية، وقد قال عز وجل في الحديث القدسي:"...إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"(متفق عليه).

13-الابتعاد عن قوادح الإخلاص

    ومنها الاجتهاد في الابتعاد عن قوادح الإخلاص الظاهرة والخفية، من شرك ورياء وتزين للمخلوقين ومحبة رضاهم ومحمدتهم، ومن التزين بما ليس فيك ومحبة الحمد بما لم تصنع، ومن إرادة الدنيا بالطاعة والعبادة سواء كانت مالا أو منصبا أو جاها أو أي رغبة نفسية، قال تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:188)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه" (رواه الترمذي وصححه).

     قال ابن القيم:" لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص".

14-النظر في فضائل الإخلاص

     ومن أعظم وسائل تجديد الإخلاص وتثبيته النظر في فضائله الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة كقبول الأعمال وتحصيل حلاوة الإيمان ولذته، وتطهير النفس من الغل والحسد واكتساب السعادة وبلوغ منازل العاملين بلا عمل، وتحصيل عناية الله تعالى وحفظه وتوفيقه وتسديده وتكفير السيئات بل والكبائر أيضا، كما في حديث صاحب البطاقة، قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَفَلَكَ عُذْرٌ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ احْضُرْ وَزْنَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ فَقَالَ إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ " (رواه الترمذي وابن ماجة). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تم قراءة المقال 5523 مرة