الأحد 12 جمادة الأول 1431

بين صلح الحديبية وتنازلات دعاة الإسلام مميز

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن من الأمور التي نقرأها ونسمعها من كثير ممن ينسب نفسه إلى الدعوة الإسلامية والدفاع عن عقائد الإسلام وشرائعه: الاستدلال بصلح الحديبية لتبرير بعض المواقف المتخاذلة الصادرة عنهم، فيقولون:" ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم قد تنازل للكفار في هذا الصلح فلِمَ تكثرون من اللوم والعتاب علينا ؟ إن تنازلاتنا مشروعة بدلالة السنة النبوية المتواترة .."

 

بين صلح الحديبية وتنازلات دعاة الإسلام

 

    وهذا الكلام في حقيقة الأمر نوع من التلبيس واللعب بعقول الناس ، بل هو من أعجب الاستدلالات على الباطل، لأنه من رجع إلى تفاصيل قصة الصلح ووضعها في سياقها التاريخي عَلم عِلم اليقين أن ذلك الصلح كان فتحا من الله تعالى على المؤمنين، كيف لا وقد أنزل الله تعالى فيه قوله: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1) سماه الله تعالى بذلك لأنه كان كذلك في حد ذاته فتحا، وليس لأنه كان تمهيدا لفتح مكة فحسب، ويظهر ذلك من عدة وجوه :

    الوجه الأول أن قبول قريش وهي القوة العظمى في المنطقة للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم كان مكسبا سياسيا عظيما وتنازلا من قريش كبيرا لدولة لم يكن معترفا بها بعدُ عند جميع العرب.

    والوجه الثاني أن بنود الصلح الأربعة ليس فيها ما يمس عقيدة أو مبدأ من المبادئ الإسلامية.

      فأما البند الأول الذي ينص على رجوع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دون يأن عتمر إلى العام المقبل، فمجرد الرجوع ليس فيه شيء يضر بالعقيدة أو الشريعة ولكن ضمان العمرة في العام المقبل في جو آمن، والسماح للمسلمين بإظهار شعيرة من شعائر دينهم في مكة وحول الكعبة مكسب لا يمكن أن تتصور قيمته في ذلك الزمان.

     وكذلك البند الرابع الذي هز قلوب بعض الصحابة حيث تضمن تسليم ورَدِّ المسلمين لمن فرَّ إليهم هاربا من قريش دون إذن من وليه، وعدم مطالبة المسلمين بمن فرَّ منهم إلى قريش فقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعتبر تنازلا عن شيء مكتسب كان في أيدي المسلمين حيث قال : "إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا" رواه مسلم، ولقد جعل لهم الله مخرجا إذ صار من يؤمن لا يهاجر إلى المدينة بل سكنوا الصحاري وكوَّنوا جماعة أقلقت أمن قريش فلم تلبث أن تنازلت عن هذا البند.

     وأما البند الثاني والثالث فهما لصالح المسلمين ظاهرا وباطنا فتوقيف القتال مدة عشر سنين يأمن فيها كل طرف خصمه امتياز كبير للمسلمين لأن القتال ليس مقصدا في دعوتهم ولأن استقرار الأوضاع يمكنهم من نشر دعوتهم على نطاق واسع بل إنه تراجع كبير في سياسة قريش العسكرية التي كانت قبل ذلك مبنية على مذهب الاستئصال للمسلمين ومطاردتهم في كل مكان، وكذلك النص على أنه من أراد أن يدخل في حلف المسلمين دخل ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل كان انتصارا سياسيا كبيرا للمسلمين إذ ليس هو اعتراف بوجود الدولة الإسلامية فحسب بل هو اعتراف بها كقوة عسكرية منافسة وتلغي الهيمنة القرشية التي كانت مفروضة على تلك المنطقة، والواقع أن موافقة قريش على هذا البند كان خطأ كبيرا كلفها زوالها بعد ذلك إذ أن غزوة فتح مكة التي كسرت فيها أصنامهم وزالت فيها دولتهم إلى الأبد كان بسبب اعتداء من حالف قريشا وهم بنو بكر على خزاعة الذين دخلوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم.

    بعد هذا النظر العاجل في بنود الاتفاق يظهر الفرق الشاسع بين صلح الحديبية الفتح المبين، وتنازلات دعاة الإسلام (أو الإسلاميين كما يقال عنهم) التي لا مكسب ديني فيها، بل فيها التضييع للمبادئ والمخالفة للعقائد والتمييع للقضايا الإسلامية، وفيها الرضا بالدون والتأييد للظلم والاعتراف بالباطل وتزكيته.

     وإن كانوا قد نظروا إلى توقيف القتال ليستدلوا به على ترك المواجهة، فيقال لهم ما سبق إن القتال ليس مقصدا وإنما هو وسيلة، والرسول صلى الله عليه وسلم ترك الوسيلة ليتفرغ للغاية وهي نشر التوحيد بكل حرية، والنهي عن الشرك بكل مظاهره دون معارض، فهل هذا ما صنع هؤلاء المستسلمون؟ هل تفرغوا للدعوة إلى الله عز وجل وتربية الأجيال وتكوين القاعدة الإسلامية؟ نعم إن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّع على ترك القتال ولنجعل ذلك رمزا لتركه وغيره من أنواع المواجهة مع المخالفين، فهل ذلك يفيد أهل التنازل والتمييع في شيء؟

    إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك المواجهة دهرا من نزول الوحي إلى بدر، ولكنه لم يقبل بالتنازل عن أي مبدأ ديني ولاشك أن الجميع يعلم ما هو مروي في سبب نزول قوله تعالى : ( قل يا أيها الكافرون ) وقوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9) حيث عرضوا عليه الاعتراف بآلهتهم مقابل أن يعترفوا هم بإلهه فأبى ذلك، بل رفض أموالهم ولم يقبل رئاسة برلمانهم فضلا عما هو دونها من الإغراءات.

     ثم إن من ينظر في بعض وقائع هذا الصلح يجد ما يصفع به هؤلاء الذين يظنون أنهم من دعاة الإسلام، ومن ذلك الحوار الذي جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب حيث اعترض الأخير على إبرام هذا الاتفاق فكان مما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ولن يضيعني أبدا" فأبان له أنه مسير من طرف الوحي وعلَّمه أنه إذا جاء الشرع ينبغي للمسلم أن يستسلم له، وأنه على العبد أن يثق بالنصر والتمكين إذا ثبت على طاعة رب العالمين، وأن ما عند الله تعالى لا ينال بمعصيته، وبين لنا أيضا مكانة العقل والعاطفة وأنه لا ينبغي أن يعارض ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أو أبرمه بشيء منهما، ولا بشيء سمي بالباطل مصلحة الدعوة وهو مصلحة حزب أو أفراد منه. نسأل الله تعالى الهداية لنا لجميع إخواننا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

تم قراءة المقال 6398 مرة