لثلاثاء 1 محرم 1432

كلمة في المراجعات أو التراجعات

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

كلمة في المراجعات أو التراجعات

مقال نشر خلال سنة 2002 في أسبوعية الجزيرة الجزائرية

قال الإمام مالك رحمه الله:«لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها»، إن هذه الكلمة كلمة جامعة ووصية نافعة لمن تدبَّرها وسبر غورها وفهم مغزاها، وجعلها لنفسه كالسراج المنير الذي يُضيء له الطريق، وإنَّ من مفهومها أنَّ سبب فساد حال آخر الأمة هو انحرافها عن نهج سلف الأمة وخيارها، ومخالفتها لطريقهم في العلم والعمل ومجانبة سبيلهم في الفهم والدعوة.

 

كلمة في المراجعات أو التراجعات

 

    ومن أسباب الإنهاك الذي تعرفه الدعوة الإسلامية، والتراجع الذي تشهده بعد انتشارها وامتدادها، أننا أحسنا الظن بأنفسنا، فأصبح كل واحد منا يقترح من فكره ومن تجربته المناهج الإصلاحية من غير عرضها على كتاب الله عز وجل وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبعيدا عن استشارة أهل العلم الربانيين ومن غير تأمل في سيرة السلف الأوليين الذين أعزَّهم الله عز وجل وكتب لهم التمكين، والنتيجة ما ترون وما تسمعون.

   وفي هذه السنوات الأخيرة برزت على الساحة الإعلامية ما سمي بالمراجعات الفكرية والتراجعات المنهجية، وهذه التراجعات ليست وليدة هذا العصر، بل إنَّه لم يخل منها عصر أو زمان من الأزمة الماضية، لأنَّ مصير كل من حاد عن الطريق -إذا كان مخلصا في سعيه- التراجع عن الخطأ إذا تبيَّن له وعدم التمادي فيه، لكن مِمَّا ينبغي أن يعلم أنَّ التراجع لا يعني دائما الرجوع إلى الحق أو إصابة الصواب، فإنَّ من ترك الخطأ ليس بالضرورة قد عرف الحق ورجع إليه، لأنَّ الحقَّ واحد وأما الخطأ فتتعدَّد سبله وتتنوَّع أشكاله.

   وإذا نظرنا في تاريخ أمتنا وجدنا ذلك واضحا جليا، فالأشعري رحمه الله الذين سلك طريق الاعتزال أربعين سنة، ثم تبين له فساده تركه وانخلع منه كما يخلع الرجل ثوبه، وأراد أن يلتزم طريق السلف لكن لم يكن له ما أراد فقد بقيت في عقيدته رواسب الاعتزال في بعض القضايا (كمسائل الصفات)، كما غلا في مناقضة المعتزلة في قضايا أخرى (كمسائل الإيمان والقدر) فقابل فيها الإفراط بالتفريط، وكذلك أبو المعالي الجويني رحمه الله قد رجع في آخر عمره عما كان عليه من أخطاء اعتقادية في باب الصفات، لكنَّه لم يرجع إلى طريق السلف وإنما رجع إلى مذهب التفويض الذي ظن السلامة فيه.

  وإذا رجعنا في العصر الحاضر وجدنا أن سيد قطب رحمه الله من أوائل من سنَّ ما يسمى بالمراجعات، حيث إنه لما تأمَّل فكر الإخوان المسلمين وجد فيه ثغرات بيِّنة، فأراد رحمه الله سدَّها بمنهج جديد فصَّله في كتابه "لماذا أعدموني؟" لكنَّه لم يكن في كل ما خطَّه ورسمه مصيبا!! إذ كان مِمَّا أقحمه في عناصر المنهج الدعوي الجناح العسكري الخامل، الذي يفترض تدخله للدفاع عن الدعوة والدعاة!! فكان هذا خطأً كلَّفه نهاية أليمة، وكلَّف الحركات الإسلامية في العالم جراحا عميقة لازالت تئن منها، وجراحا أخرى لا تزال مفتوحة، ولو أنَّه عرض فكرته (أو مراجعته إن صح التعبير) على السيرة النبوية وعلى أصول منهج السلف الصالح أو على العلماء الربانيين في ذلك الزمان، أو لو وجد من يفتح عليه بكلمة الإمام مالك رحمه الله لما جنح إلى مثل تلك الفكرة الخاطئة.

   تلك الفكرة التي نسمع في هذه الأيام -وبعد قرابة أربعين سنة من التجارب العملية الفاشلة- من يكتب تراجعه عنها، ولا ندري ما هي الخطة الجديدة ولا المنهج المقترح الذي عدلوا إليه، لأنه لا ينفع -كما ذكرنا قبل- العلم بالخطأ والرجوع عنه وحده، بل لابد من الرجوع إلى الحق البيِّن الواضح الذي تدل عليه دلائل الكتاب والسنة، وتولَّى الله تعالى حفظه بالعلماء الربانيين عبر الأزمان.

   أيها المسلمون! إن الله تعالى قد قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)  (يوسف/108) فهذا السبيل الذي نسميه طريق الإصلاح موجود ليس بمفقود، قد أشار إليه المولى عز وجل في الآية كما يشار إلى المحسوسات، ومثل هذا محال أن يتعلق بالتجارب البشرية التي تأتي بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

  أيها المسلمون! إن ربنا رحيم بنا ومن رحمته بنا أن أرسل إلينا رسولا ليهدينا وليشدنا إلى الطريق، فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تركنا على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها منن شدَّة وضوحها، فلا يزيغ عنها إلا هالك، ومن ظنَّ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبيِّن لنا طريق الإصلاح فقد أساء الظنَّ بربِّه سبحانه وبرسوله صلى الله عليه وسلم.

  أيها المسلمون! إن التجربة قد تكون مقبولة في المسائل الجزئية التفصيلية، أما المبادئ والعقائد والغايات والمناهج فلا يقبل فيها رأي إلا بشهادة الكتاب والسنة مع موافقة فهم السلف الصالح.

  واختم هذه المقال بكلمة للعلامة ابن باديس في معنى كلمة الإمام مالك رحمه الله إذ قال :« فكل قول يراد به إثبات معنى ديني لم نجده في كلام أهل ذلك العصر نكون في سعة من رده وطرحه وإماتته وإعدامه، كما وسعهم عدمه ولا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسِعَهم، وكذلك كُلُّ فعل ديني لم نَجده عندهم وكذلك كلُّ عقيدة، فلا نقول في ديننا إلا ما قالوا، ولا نعتقد فيه إلا ما اعتقدوا ولا نعمل فيه إلا ما عملوا، ونسكت عما سكتوا ». آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تم قراءة المقال 4171 مرة