الجمعة 16 صفر 1432

ظاهرة الانتحار وعلاجها

كتبه 
قيم الموضوع
(9 أصوات)

ظاهرة الانتحار وعلاجها

   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن من الآفات الاجتماعية الخطيرة الجديرة بالاهتمام والمعالجة آفة الانتحار، وهي ظاهرة غريبة عن المجتمعات الإسلامية التي يؤمن أهلها بالله تعالى وباليوم الآخر، وظاهرة غريبة عن المجتمع الذي يُتلى فيه القرآن العظيم، وقد بدأت تتمدد في السنوات الأخيرة وتتوسع رقعتها، وتنتشر أخبارها، فرأيت أن أخصها بهذه المقالة لنقف على أهم أسبابها وطريق علاجها على ضوء كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

 

ظاهرة الانتحار وعلاجها

 

   إن هذه الظاهرة قد وفدت علينا من بلاد الكفر التي لا يزال أهلها يشتكون منها، ويقيمون الدراسات الموسعة، وينفقون الأموال الطائلة من أجل معرفة أسبابها، وسعيا لعلاجها أو للحد منها على الأقل، ومع كل تلك الجهود المبذولة والحلول المقدمة، فإن هذه الظاهرة عندهم في توسع مستمر، حتى بلغ عدد حالات الانتحار حسب بعض الإحصاءات في السنة الماضية إلى المليون حالة، وعدد الحالات في البلاد الإسلامية وإن كانت قليلة جدا بالنسبة لبلاد الكفر والإلحاد، إلا أنها في تزايد مستمر مع الأسف الشديد.

   وإذا بحثنا عن الأسباب التي توصلت إليها تلك الدراسات المقدمة؛ فإننا نجدها متعددة متنوعة منها أسباب اقتصادية كالفقر والحاجة وتراكم الديون والبطالة، ومنها أسباب اجتماعية عائلية كاليتم وافتراق الأبوين، ومنها أسباب نفسية (تؤدي إلى ما يسمى بالكآبة) كالعزلة والخوف من المستقبل وصراع الأجيال، ومن هذا القبيل أيضا ما يسمى بالصدمات العاطفية التي قد تصل أحيانا إلى حد التفاهة كالإخفاق في امتحان الدراسة أو التوظيف، أو مفارقة عشيق، أو وفاة مطرب محبوب، أو هزيمة فريق مفضل، أو وفاة كلب كما حدث مع أحد المشاهير!!

    وبعد معاينة الأسباب التي يقدمها المختصون في دراسة هذه الظاهرة؛ نجد أن السبب الرئيس لا يكاد يذكر في بحوثهم؛ وهو الفراغُ الروحي الذي يعيشه هؤلاء الناس، وخواءُ قلوبهم من معاني الإيمان، وضعفُ اليقين في الله عز وجل، وغيابُ عقيدة الإيمان بالقضاء القدر، وعدمُ الإيمان بالحساب واليوم الآخر أو ضعفه.

   وهذا السبب الذي لا يعرفه الغربيون أو لا يعترفون به يمكن اعتباره سببا مستقلا بذاته، كما يعتبر سببا خفيا وكامنا وراء في كل الدوافع الأخرى الظاهرة، إذ ما هو سبب الكآبة التي تحتل الصدارة ضمن أسباب الانتحار؟ إنه الافتقار إلى لذة الإيمان التي تنشر السعادة وتذيب الكآبة.

   ولماذا لا ينتحر كل الفقراء؟ وكل من افترق والداه؟ وكل من أصيب بمرض مزمن؟ ولماذا نجد في المنتحرين من يعيش حياة الرفاه والترف؟ ولماذا تحتل الصين والاتحاد الروسي الصدارة في عدد حالات الانتحار، بينما تتأخر جميع البلدان الإسلامية؟ لا يمكن الجواب عن هذه التساؤلات إلا إذا ربطنا الأمر بالإيمان والتدين والفراغ الروحي.

   إن الإيمان يعتبر العلاج والوقاية من هذه الظاهرة التي عجز الإنسان عن علاجها والحد منها، لأن الإيمان اطمئنان وفي الإيمان سعادة روحية، وفي الإيمان برحمة الله وجنته تعويضا نفسيا عن ما يفوت في هذه الدنيا، وفي الإيمان بغضب الله تعالى وعقابه ترهيبا من القتل عموما، ومن قتل النفس على وجه الخصوص.

كيف عالج الإسلام هذه الظاهرة

    إن شريعة الإسلام الشريعة الربانية الكاملة، قد بينت الطريق الأمثل لعلاج هذه الظاهرة من خلال عدة عناصر سيأتي توضيحها، وهي عناصر عند تأملها نجدها في الغالب عناصر وقائية، تجعل العبد المسلم يستبعد اللجوء إلى هذا العمل السيئ، وبل ولا يفكر فيها أصلا، مما يدلنا على أن تحكيم الشريعة الإسلامية هو طريق الهداية والنجاة، الذي فيه السلامة من جميع الآفات والحل لكل المشكلات، وإنها لكذلك لأنها شريعة الإله الخالق العليم الخبير الحكيم.

وفيما يأتي شرح تلك العناصر:

أولا : تعظيم حق الحياة

   إن الله تعالى قد عظم شأن هذه الحياة التي منحها للعبد فجعلها محرمة، بل جعلها أشد حرمة من كثير من مظاهر عبادته وتعظيمه، كما قال ابن عمر يوما وهو ينظر على الكعبة :« مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ » (رواه الترمذي).

   ومن تعظيم شأنها أن أمر النبي بالتداوي فقال صلى الله عليه وسلم:« تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً إِلَّا الْهَرَمَ » (رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة)

   ومن تعظيم شأنها أنه أباح للعبد إذا اضطر أن يتناول المحرمات كان في تناولها حفاظا على حياته كما قال سبحانه: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173).

   ومن تعظيم شأنها أن خفف علينا ربنا عز وجل العبادات في حال المرض حتى لا يتفاقم ويؤدي إلى الهلاك، فشرع لنا التيمم بالصعيد بدل الماء، والصلاة جالسا ومضطجعا، ورخص للمريض أن يفطر في رمضان حفاظا على صحته، وللحامل حفاظا على صحتها وعلى صحة جنينها.

   بل إن الصوم يحرم على من يخشى على نفسه الهلاك وكذا الاغتسال، وقد ورد فيه حديث جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» (رواه أبو داود وحسنه الألباني)

بل ورخص الله للعباد التلفظ بألفاظ الكفر حفاظا على النفس والحياة، فقال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل/106)

ثانيا : الترهيب من القتل عموما ومن قتل النفس خصوصا

   ومن تعظيم شأن نعمة الحياة أن حرم الله تعالى على العباد القتل، ورهب منه أشد الترهيب فقال سبحانه: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)  (المائدة:32) وقال عز وجل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء:93).

   وقد قرر الفقهاء أن أعظم ذنب بعد الشرك بالله تعالى هو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأن المنتحر أعظم وزراً من قاتل غيره، وقد قال تعالى:(وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء:29-30)

   فقد حرَّم الله تعالى قتل النفس، ورهب من هذا الصنيع مهما كان الطريق إليه سواء كان فعلا أو تركا، وسواء كان بالتسبُّب المباشر أو بتركِ العلاج أو تركِ الطعام أو عدمِ أخذ الحذر والحيطة تجاه خطر محقق، فقال سبحانه: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء:29).

  ويلاحظ في هذه الآية أن الله عز وجل بعد أن نهى عن هذه الجريمة؛ ذكَّر برحمته ليتعلق بها كل يائس وبائس وكل مضطرب النفس، وليعلم أن رحمة الله واسعة مهما عظم الذنب ومهما ضاقت الدنيا ومهما تعسرت الأمور، ثم إنه أعقب هذا الترغيب بالترهيب الشديد ليكون أبلغ في الزجر، فقال سبحانه (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) (النساء:30).

  وقد بينت السنة النبوية صورا فضيعة مخيفة لعذاب قاتل نفسه، منها:

1-تعذب قاتل نفسه يوم القيامة بالشيء الذي قتل به نفسه

     فقال صلى الله عليه وسلم :«مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) متفق عليه.

    وقَالَ صلى الله عليه وسلم :« وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » متفق عليه.

2-من صور الترهيب التصريح تحريم الجنة

    فقَالَ صلى الله عليه وسلم :« كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" متفق عليه.

3-ومن صوره ترك الصلاة على المنتحر

    فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المنتحر، عقوبةً له، وزجرا لغيره أن يفعل فعله، وأذن للناس أن يصلوا عليه، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال :« أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ» رواه مسلم . المَشاقص : سهام عراض.

4-منها بيان أنها خاتمة سيئة مبطلة لأعظم الأعمال والحسنات

     ففي الصحيحين أن رجلا كان لَا يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ثم شهد رجل آخر على موته فقال: إنه جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.

فأبطل هذا الرجل جهاده في سبيل الله وسائر عمله بارتكابه للانتحار واستحق بذلك دخول النار.

ثالثا : ترسيخ الإيمان بالله عز وجل والإيمان باليوم الآخر والقضاء والقدر

    ومن الأمور الوقائية من هذه الظاهرة ترسيخ الإيمان بالله تعالى في القلوب، فإنه لا يُقدم على الانتحار إلا من ضعف إيمانه بالله عز وجل، حيث لا يستشعر عظمته وقدرته وإحاطته، ويغفل عن أن الله عز وجل قد خلقه وأنعم عليه بالحياة ليبتليه أيحسن أو يسيء، وليختبره أيشكر أو يكفر، ولينظر هل يصبر أو يسخط، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك/2).

    إن العبد الذي آمن بربه وعلم غاية خلقه وحقق العبودية لله سبحانه؛ فأحبه وعظمه وخافه ورجاه، وتوكل عليه وأناب إليه وأحسن الظن به، لا يمكن أبدا أن يَجرأ على قتل نفسه، ولا أن يفكر في ذلك، بل إنه لا يخطر بباله أبدا.

   كذلك لا يُقدم على هذا الجرم العظيم إلا من ضعف إيمانه باليوم الآخر، فنسي لقاء الله عز وجل والحساب والجزاء، وغفل عن مثل قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) (آل عمران/30).

   وإنما يكثر الانتحار في أهل الإلحاد والكفر لعدم إيمانهم بوجود يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين؛ أو وعدم يقينهم في وجود حياة أخرى فيها السعادة الحقيقية والدائمة أو الشقاوة السرمدية، والإيمان باليوم الآخر يرسخ في قلب العبد أنه يعيش هذه الدنيا مدة وجيزة؛ يحتاج فيها إلى صبر واجتهاد لينعم في الآخرة؛ واعتقاده أنه يعيش مرحلة انتقالية لا دائمة يجعله يصبر أكثر من غيره ويثبته أمام الصعاب والشدائد بخلاف من يقول: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (المؤمنون:37)

   ولا يُقدم على الانتحار إلا من ضعف إيمانه بالقدر، فأظهر الجزع من كل ما يصيبه من المحن والابتلاءات والأمراض، وإن العبد إذا تذكر أن ما يصيبه من المصائب في النفس أو في المال أو في الولد هو بقضاء الله تعالى وقدره، وآمن بأن كل قضاء يقضيه الله سبحانه لعبده إلا كان خيرا له، صبر وطرد الجزع من قلبه مهما كانت المحنة التي يمر بها.

   فمن آمن بهذا حق الإيمان لم يجزع لفقره ولا لخسارته في تجارته ولا لتراكم ديونه؛ ليقينه بأن رزقه آتيه وإن أبطأ عنه وأن الفرج آت وأن مع العسر يسرا، ومن ابتلي بمرض كذلك علم أن له أجرا بذلك إذا صبر، وأنه كفارة لذنوبه فيزاد يقينا أن ربه إذ ابتلاه فقد رحمه؛ وإن كان الجاهلون يحسبون أنه حرمه أو عذبه.

رابعا : الحث على العلم الشرعي

   إن الجهل هو عدو الإنسان الأول، وهو الداء الذي يورد الإنسان موارد الهلاك، ويوقعه في كثير من المنكرات، ولذلك لا تزال شريعة الله تعالى كتابا وسنة تحث المؤمن على الاستزادة من العلم الشرعي الذي به يحقق الإيمان المطلوب، وبه يترقى إلى الوعي بمسؤوليته في الحياة، وبه يفهم حقيقة الدنيا ومكانتها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :« من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين » (متفق عليه) .

   وكل من كان بعيدا عن العلم الشرعي فهو بعيد عن فهم دينه، وعن فهم الحياة في الوقت نفسه، ومن كان كذلك كان أشبه بهؤلاء "اللا أدرية" الذين يقول شاعرهم معبرا عن جهلهم وعظيم حيرتهم:

جئتُ لا أعـلم من أين؟.. ولكني أتيتُ

ولقد أبصرت قُدّامي طريقا فمشـيـتُ

وسأبقى مـاشيا إن شئت هذا أم أبيتُ

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقـي؟

لست أدري!

خامسا : علاج الأزمات النفسية

وكذلك نجد في شريعة الإسلام علاجا متكاملا لما يُسمى بالأزمات النفسية، التي هي في حقيقة أمرها مظهر من مظاهر ضعف الإيمان، وتسلط الشيطان على قلب الإنسان، وهو علاج من معالمه البارزة:

1-ملازمة ذكر الله تعالى، وقد قال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/28) فبين أن الذكر سبب لاطمئنان القلوب وسكون النفس وتهدئة الروع، ومن مظاهر هذا الذكر التسبيح والحمد والتهليل وقراءة القرآن الذي قال فيه رب العالمين : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء/82).

2-ومنها الاستعانة بالله تعالى واللجوء إليه بالدعاء –وهو من معاني الذكر- ، لأن الله تعالى هو القادر على كل شيء والمتحكم في قلوب العباد، وقد وعد بإجابة من رجع إليه وكفاية من توكل عليه، فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60)، وقال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق/3)، وقال صلى الله عليه وسلم دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ » (الترمذي وصححه الألباني).

   بل علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أدية خاصة بالهم والحزن والدين، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ » (رواه البخاري)، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:« مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا » (رواه الإمام أحمد وصححه الألباني).

3-ومنها الاستعانة بالصبر، الذي يعتبر مفتاحا للفرج، وعلاجا لكل الهموم والغموم، وسبيلا لنيل الثواب العظيم والأجر العميم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (رواه مسلم)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بالصَّبْر». وهذا الصبر خُلق يُتوصل إليه بتربية سابقة وتعويد دائم تقضيه العقيدة الإسلامية والآداب الشرعية، وإذا كان خلقا كامنا في النفس، ظهر مقتضاه عند الحاجة إليه و"عند الصدمة الأولى" كما جاء في الحديث.

4-ومن تلك المعالم عقيدة الرجاء وحسنِ الطن بالله تعالى التي تبعث على الأمل وتطرد اليأس والقنوط والتشاؤم، وقد قال ربنا سبحانه في الحديث القدسي: « أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ » (رواه بهذا اللفظ أحمد وصححه ابن حبان)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :« لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه» (رواه مسلم) ومبنى هذه العقيدة على اعتقاد سعة رحمة رب العالمين، وقربها من عباده المؤمنين ، وقد قال سبحانه: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح/5، 6).

سادسا: العناية بتربية الأولاد

   ومن الوسائل الوقائية من هذه الظاهرة: العناية بتربية الأولاد، وذلك بترسيخ العقيدة في قلوبهم وحثهم على طلب العلم الشرعي، وحمايتهم من الآفات الموجبة للانحراف والمؤدية إلى الانتحار، كالصحبة السيئة وحب المغامرة والمخاطرة، ومما ينبغي أن يُعلَم أن السبب الأول للانتحار في البلاد الإسلامية هو الخمر أم الخبائث والمخدرات رمز الرذيلة وطريق الجريمة.

  ومسؤولية هذه التربية تقع على عاتق الآباء والمعلمين في المدرسة وأئمة المساجد، وبدرجة أكبر وسائل الإعلام التي لها التأثير الأقوى والأوسع في التربية والتعليم والتوجيه، وهذه الأسباب إذا تعاونت على البر والتقوى أوجدت مجتمعا خاليا من الآفات جميعها، وليس من آفة الانتحار فحسب، وإن أخلَّت بواجبها التربوي والتوجيهي عمت الفوضى، وانتشر الانتحار والانحلال وكل ما يخطر بالبال، نسأل الله تعالى العفو والعافية، والعصمة والسداد والهدى والرشاد.

تم قراءة المقال 12904 مرة