قيم الموضوع
(0 أصوات)

الكتب الصفراء 1
 كان جدي رحمه الله رجلا فلاحا عاميا محبا للصالحين، وكان والدي رحمه الله بارا به ومن بره أنه كان يأخذني إلى البادية في الإجازات لخدمة جدي وإعانته في أعماله منذ نعومة أظفاري، فتعلمت أشياء كثيرة لم أكن لأتعلمها في غير تلك البيئة؛ لقد كانت البادية كتابا مفتوحا لمعرفة نمط مختلف تماما عما نعرفه عن الحياة في المدينة؛ لقد تعلمت معنى الرعي وواجباته وأعمال الفلاحة وآلاتها وجني الثمار ..في أمور كثيرة ليست هي التي أريدها الآن ...
ومن الأشياء التي فتحت عليها عيني هناك صنف من الكتب كان لونها "أصفر"، ولم يكن عند جدي إلا كتابان أحدهما كتاب بدائع الزهور لابن اياس، والثاني تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي ...كان جدي أميا لكن صحبته للإخوان الرحمانية جعلته يقتني هذين الكتابين، وإذا زاره قارئ يطلب منه أن يقرأ عليه شيئا من قصص بدائع الزهور أو مواعظ تنبيه الغافلين...وكثيرا ما كنت أقص عليه القصص حتى أجده غط في نوم عميق ..
   فأما تنبيه الغافلين فهو كتاب يرقق القلوب ويهذب النفوس ..مليء بالأحاديث والحكم والمواعظ والقصص.. لكن كانت تزعجني أسانيده الطويلة والمتكررة... لكنها كونت لي تصورا عن كيفية نقل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأورثتني صبرا على قراءتها...مع مرور الوقت وتقدم السن عرفت شيئا اسمه الصحيح والضعيف ....فبحثت عن المؤلف قبل أحاديثه فكانت دهشتي عظيمة عندما قرأت قول الذهبي في مصنف الكتاب أنه يروي الموضوعات ..لكني لم أندم أبدا على قراءته..
    وأما بدائع الزهور فكان جذابا بقصصه الخيالي واسرائلياته الملصقة بقصص الأنبياء ..الذي كان يحزنني يومها أن الكتاب (الجزء) ينتهي مع قصة سيدنا عيسى عليه السلام ..وعلق بذهني شيء كثير من خرافاته كوجود نوع من المخلوقات اسمهم "البان"، وقصة الشابين الذين سارا بحثا عن منبع النيل حتى وصلا إلى الجنة، وقصة عوج بن عنق العملاق الذي كان يمسك الحوت في أعماق البحر ويشويه في الشمس ، ونجى من الطوفات رغم كفره لأن الماء وصل إلى ركبتيه، وأعان نوح عليه السلام في بناء السفينة بجلب الحطب (من الكوفة إلى الحيرة أو العكس؟؟) وكان مضحكا جدا ذلك الخبر القائل أنه إذا غضب على قرية بال عليها فغرقت ..
   مرت الأزمان وبدأت تطرق أسماعنا كلمات "الإصلاح والطرقية" و"السنة والبدعة" و"الخرافات والاسرائليات" و"عصور الانحطاط والكتب الصفراء"..فعرفت حقيقة ماذا كنت أقرأ...لم أندم أيضا لقراءته لأن تلك القصص صارت لي زادا وبرهانا على فساد المناهج التربوية في عصور الانحطاط ... التي جعلت كثيرا من المثقفين من أبناء المسلمين يصدق مقولة من قال "الدين أفيون الشعوب"..
    وعندما قرأت تفسير ابن باديس أول مرة وجدته يذكر هذا الكتاب الأخير في مقام نقد عصور هجر القرآن أو "عصور الظلام"..التي مرت بها أمة الإسلام، فعرفت أن هذا الكتاب كان من أهم مصادر الثقافة في تلك العصور...والحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى..

كتب في 20 أفريل 2017

تم قراءة المقال 121 مرة
المزيد في هذه الفئة : الكتب الصفراء 2: »