الأحد 3 صفر 1432

مشكلة البطالة وعلاجها

كتبه 
قيم الموضوع
(10 أصوات)

مشكلة البطالة وعلاجها

   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن من الآفات التي تهدد مجتمعاتنا الإسلامية في هذه الأزمنة المتأخرة انتشار البطالة، وترك التكسب والعمل لدى شباب الأمة أو العجز عن إيجاد عمل أو وظيفة يستدر منها رزقه ويسد بها نفقات يومه، وإن العمل والاحتراف بالنسبة للعبد المسلم يعتبر أكثر من ضرورة، إذ به يستطيع أن يسهم في عمارةِ الأرض، ويتمكن من إقامة عبادة الله تعالى التي خلق من أجلها، وبه يقي نفسه من جملة صورِ الفساد الكثيرة المنتشرة في المجتمعات التي تفشو فيها البطالة، وهذه المقالة نحاول أن نقف على العلاج الشرعي لهذه المشكلة الحادثة في زماننا.

 

مشكلة البطالة وعلاجها

 

مخاطر مشكلة البطالة

   وللتأكيد على أهمية الموضوع وقبل الشروع في بيان العلاج، رأيت أن أبدأ بتقريب بعض مخاطر مشكلة البطالة على الأفراد والمجتمعات .

1-من أهم مخاطر البطالة خطرها على نفسية الشباب المسلم، ذلك أن من نتائجها البينة انتشار حالات الإحباط المعنوي والكآبة والقنوط لدى فئات واسعة، وهذه النتيجة بدورها تدفع بهم إلى إدمان التدخين والمخدرات,‏ أو اللجوء إلى أنواع اللهو المحرم,‏ لعلهم يفرجون عن أنفسهم من الضنك الذي يجدونه‏,‏ وربما إذا لم يجد أحدهم المال اللازم لذلك لجأ إلى أساليب غير شرعية للحصول على المال‏. وكذلك حالات الكآبة هذه قد تدفع ببعضهم إلى الانتحار وخاصة أرباب الأسر الذين ضعف تمسكهم بالدين ولم تكن لهم شجاعة كافية للانتقام من المجتمع أو سلوك السبل المحرمة لطلب الرزق.

2-ومن مخاطرها بروز ظاهرة الفقر والحاجة، التي تؤدي حتما إلى تخلف الأوضاع الصحية، وتراجع في الاهتمام بتعليم الأولاد، وانتشار الكسب غير المشروع.

3-ومن مخاطرها أيضا تأخر سن الزواج‏,‏ ذلك أن الزواج في زماننا هذا قد عظمت تكاليفه فهو يستدعي الحصول على مسكن وتجهيزه وتقديم صداق معتبر وإقامة وليمة زفاف وتأمين النفقة على الزوجة وغير ذلك، ولا يمكن للشاب أن يحصل ذلك دون عمل قار ثابت‏‏، وبتأخر سن الزواج‏,‏ يتعرض المجتمع إلى مشاكل أخرى أشد خطورة‏,‏ أعظمها الفساد الخلقي‏.‏

4- ومن مخاطرها أيضا انتشار التفكير في الهجرة إلى الدول الأوروبية، الذي أصبح مخدرا جديدا يعطل تفكير الشباب يفتر هممهم وعزائمهم ويقضي على كل تطلعاتهم، غذ أضحت آمالهم كلها معلقة على الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله الهداية والسداد، ومنهم من يفكر في ما يسمى بالهجرة السرية فيقع فيما لا تحمد عقباه، من الموت في عرض البحر أو الوقوع في قبضة شبكات الإجرام العالمية.

5-ويصحب كل هذا شعور بالسخط على المجتمع وعلى الدولة التي تعجز عن إيجاد حلول أو تقدم حلولا لا يجدون أثرها في الواقع، وهذا السخط كثيرا ما يجد من يستغله لتعبئة هؤلاء الشباب لضرب الأمة ومصالحها ووحدتها.

6-ومن كل ما سبق يظهر أن البطالة تسبب مخاطر على الأفراد وعلى المجتمع، وتؤدي إلى مفاسد اجتماعية واقتصادية وسياسية، وإلى ظهور الانحراف بشتى أنواعه والجريمة بجميع أشكالها.

 علاج ظاهرة البطالة

   إنَّ التصدي لهذه الظاهرة من الضرورياتِ الشرعية، ومن الواجبات الدينية، وهي مسؤولية ولاة الأمور كما المجتمع المسلم له جانب أيضا من هذه المسؤولية، وفيما يأتي محاولة لجمع عناصر العلاج الشرعي لهذه المشكلة.

  وإننا إذا نظرنا إلى البطالة وجدناها على نوعين بطالة إرادية وبطالة قهرية، أما البطالة الإرادية فهي تعني إلف الكسل والقعود عن الكسب، ومن مظاهرها استكبار الشباب عن تولي بعض الوظائف والاستنكاف عن الحرف، وهذه الظاهرة إنما يكون علاجها بأمور نفسية وتربوية وتصحيح بعض المفاهيم الفكرية لدى الشباب، وتفصيل هذه الأمور فيما يأتي:

أولا: التربية على تحمل المسؤوليات

   إنه من واجب الأبوين تربية النشء منذ صغره على تحمل المسؤوليات والقيام بالوظائف التي تناسبه ويقدر عليها في البيت وخارجه حتى يتعود على ذلك، لأن بعض الدراسات كشفت أن من أسباب البطالة الإرادية عدم الثقة في النفس، وإلف الاعتماد على الغير، والتهيب من مواجهة صعاب الحياة.

ثانيا: توجيه الشباب إلى تعلم الحرف

  ومن واجب الأبوين وغيرهما توجيه الشاب إذا فشل في الدراسة إلى تعلم الحرف والصناعات، وهم بهذا التوجيه يكسبونه الحرفة التي تعتبر سلاحا يخوض به معركة العمل في المستقبل، كما يجنبونه الفراغ الذي يجعله يألف البطالة، وكذا يجنبونه الرفقة السيئة التي تقوده إلى اتخاذ الجريمة مهنة تصده عن التكسب وعن البحث عن العمل الشريف.

ثالثا: تربية الأولاد على أن العمل شرف

    وعلى المربين أن يغرسوا في نفوس الأبناء أن العمل شرف مهما كان وضيعا في نظر بعضنا، وأن العمل الوضيع أشرف من القعود بلا عمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ" رواه البخاري (1471). قال ابن حجر في شرحه:« وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى التَّعَفُّفِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْهَا وَلَوْ اِمْتَهَنَ الْمَرْءُ نَفْسه فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَارْتَكَبَ الْمَشَقَّة فِي ذَلِكَ , وَلَوْلَا قُبْحُ الْمَسْأَلَةِ فِي نَظَر الشَّرْع لَمْ يُفَضَّلْ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى السَّائِلِ مَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَمِنْ ذُلِّ الرَّدِّ إِذَا لَمْ يُعْطَ وَلِمَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنْ الضِّيقِ فِي مَالِهِ إِنْ أَعْطَى كُلَّ سَائِل, وَأَمَّا قَوْلُهُ " خَيْر لَهُ " فَلَيْسَتْ بِمَعْنَى أَفْعَلِ التَّفْضِيل إِذْ لَا خَيْرَ فِي السُّؤَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ, وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ سُؤَال مَنْ هَذَا حَاله حَرَام, وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَاد بِالْخَيْرِ فِيهِ بِحَسَبِ اِعْتِقَاد السَّائِلِ وَتَسْمِيَته الَّذِي يُعْطَاهُ خَيْرًا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ شَرٌّ ».

   وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ » (رواه أهل السنن وصححه الألباني في الإرواء)، وكما حثنا نبينا صلى الله عليه وسلم على الكسب وعلى قبول العمل مهما كان متواضعا، فإنه حثنا أيضا على الإتقان والإخلاص في العمل واجتناب الغش والمخادعة فيه حيث قال:«إن اللّه يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» (رواه أبو يعلى وحسنه الألباني) وقال صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الْكَسْبِ كَسْبُ يَدِ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ» (رواه أحمد (2/234) وحسنه الألباني).

رابعا: تلقينهم أن أنبياء الله تعالى كانت لهم حرف

   وعلينا أن نلقن أبناءنا أن أنبياء الله عز وجل الذين كان شغلهم الشاغل الدعوة إلى الله تعالى وكانت لديهم معجزات كانوا يعلمون ويتكسبون كما يتكسب الناس، فهم إن كانت دعوتهم وتعليمهم للناس عملا، إلا أنهم لم يتركوا الحرف لأنهم كانوا قدوة للناس، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم تاجرا، و"كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا" –كما في صحيح مسلم (2379)-، وكان داود عليه السلام حدادا يصنع الدروع وغيرها مع أنه كان نبيا ملكا، قال سبحانه:(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء: 80)، وقَالَ صلى الله عليه وسلم :«مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» رواه البخاري (2072).

خامسا : تربية الأولاد على تعظيم الوقت

   وعلينا أن نربي أولادنا على تعظيم الوقت لأنه من أعظم نعم الله تعالى علينا، والله تعالى سيحاسبنا على أعمارنا وعلى جميع لحظات حياتنا، وإذا تربى الأولاد على ذلك كان من أعظم الدوافع إلى الجد واجتناب البطالة تسكعا في الشوارع أو جلوسا في المقاهي أو لهوا في الملاعب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:« لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ » رواه الترمذي (2417) وصححه، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:" إني لأبغض الرجل أراه فارغا لا هو في أمر آخرته ولا أمر دنياه".

سادسا: التكسب مطلوب بدافع الشرع

   وعلينا أن نلقن أبناءنا كبارا وصغارا، أن هذا العمل مطلوب منا ليس بدافع الحاجة فحسب بل بدافع الشرع والدين أيضا، وذلك من أوجه:

1-أن الله تعالى أمرنا بالسعي والكسب ودعا إلى الضرب في الأرض والانتفاع بخيراتها واستغلالها أحسن استغلال، فقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)  (الملك:15)

2-وأنه سبحانه أمرنا بالحفاظ على كياننا ووجودنا أمة مسلمة مستقلة، فقال جل جلاله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال:60) وليس هذا الإعداد بعد العدة الإيمانية إلا مجموعة من الأعمال والحرف والصناعات.

3-وأنه تبارك وتعالى لم يرد تركنا لحظة بلا سعي ولا عمل حتى في يوم الجمعة الذي هو عيد المسلمين قد أمرنا بالعمل أمر إباحة فقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10), فمنع الله عز وجل من العمل أثناء وقت الصلاة ثم أباحه بعدها لئلا يتوهم الناس حرمة العمل مطلقا في هذا اليوم.

4-وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل على إحياء الأرض وغرس الأشجار, ولو كان ذلك قبل قيام الساعة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ" (رواه أحمد (3/191) وإسناده صحيح على شرط مسلم), فليغرسها في مثل هذه الحال وإن كان يعلم أنه لن يعيش حتى تؤتي ثمارها، وذلك يعلمنا أهمية العمل وأن لنا فيه أجرا.

5-أن هذه العمل الذي هو موجب الفطرة ينقلب إلى عبادة بالنية، نية إعفاف النفس عن السؤال، ونية النفقة على الأبوين والأولاد والزوجة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص:« إنك لن تنفق نفقة تبتغي وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فم امرتك» متفق عليه، هذا معنى قول القائل العمل عبادة وليس معناه أنه عبادة كالصلاة أو عبادة تقدم على الصوم والصلاة.

6-أن البطال الذي ألف البطالة إنما يعيش عالة على غيره ونبينا صلى الله عليه وسلم قد علمنا أن اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى، ونهى عن المسألة إلا في حالات محدودة، قَالَ صلى الله عليه وسلم يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» (رواه مسلم).

البطالة الاختيارية هي الغالبة

   والذي اعتقده أن البطالة أكثرها اختيارية وقلما توجد بطالة قهرية بمعنى أنه قل أن تجد من بحث عن العمل فعلا ثم لم يجده، لأننا نرى في بلادنا التي يقال إنه ليس فيها فرص عمل يدا عاملة أجنبية رسمية وغير رسمية في الصناعة والتجارة وبالبناء والحرف وغيرها، لكن مشكلة شبابنا اليوم هي نظرتهم إلى العمل، لأن العمل عند بعضهم لا بد أن يكون في مكتب مكيف، لا بد أن يكون راتبه عاليا، لا بد أن يكون في قريته وقريبا من حيه حيث أصحابه وأحبابه، ثم يفضل القعود ريثما يجد العمل الذي يحلم به، وربما يفضل بعضهم الكسب المحرم لأنه سهل على الكسب الحلال الذي يتعب فيه.

   وقد ذكرنا أن علاج هذا الأمر يكون بتنمية بواعثِ العمل وحوافزِ الكسب في نفسية شبابنا منذ نعومة أظفارهم، بصرفِ النظر عن مؤهلهم العلمي أو وضعهم الاجتماعي باعتبار أنَّ العملَ شرف، وأنه من أسباب العزة وأنه بالنية يؤجر عليه صاحبه إذا كان حلالا.

  وإذا أنشأنا شبابا يحب العمل ويتفانى فيه نكون قد قضينا على أعظم أسباب البطالة، ولا أقول لنا مثال في اليابانيين كما يذكره كثير من الناس ولكن أقول لنا المثل في سلفنا الصالح، وفي آبائنا وأجدادنا إلى عهد قريب كانوا يحبون العمل ويسعدون بعرقهم في سبيل عيشهم ولم يكونوا يعرفون شيئا اسمه البطالة مع الظروف الصعبة التي عاشوها.

  وإن الله تعالى جعل الرزق بيده حتى لا ييأس أحد في طلبه، وربط حصوله بالسعي في طلبه حتى لا يتكل أحد على مجرد القدر، فلابد على المؤمن من السعي ليقضي حاجاته، ويحفظ ماء وجهه، ويكون عزيز النفس، وعلى المسلم أن يستغل الوقت ويعمره بالعمل المتاح لديه، ولا ينبغي له أن يعرض عن عمل إلا إذا كان عملاً محرماً أو فيه مخالفات للشرع، وإن العاقل لا يبقى ينتظر الرزق من الله عز وجل دون بذل أسبابه، كما يحكى عن عمر بن الخطاب أنه نهر جماعة اعتكفوا في المسجد ورفضوا الاكتساب قائلا لهم: « لا يقعدنّ أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة».

علاج البطالة القهرية

   وإذا عولجت الأسباب النفسية والتربوية المسببة للبطالة، بقيت بعض الآفات العارضة التي نسميها بطالة قهرية حيث لا يجد الشاب فرصة للعمل في مكان محدود وفي زمن معين وفي حالات خاصة، فهنا يتوجب على ولاة الأمور والمجتمع المسلم كله أن تدارك الأمر بعلاج هذه الآفات، وذلك من خلال النقط الآتية.

أولا: واجب بيت المال

   إن نبينا النبي صلى الله عليه وسلم قد قال :«كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته» (متفق عليه) وولاة الأمور مسؤولون على الرعية من عدة نواحي، ومنها توفير أسباب الرزق والتكسب أو فرص العمل كما يقال بالتعبير العصري، وقال عمر بن الخطاب لأحد ولاته:« إن الله استعملنا على الناس لنوفر حرفتهم ونستر عورتهم». وإذا كان من واجبهم الحفاظ على أمن المجتمع والحفاظ على سلامته من ظهور الانحرافات الأخلاقية فإنه من واجبهم قطع الأسباب التي تؤدي إلى اختلال الأمن وظهور الانحراف والجرائم ومنها البطالة التي لا يقدر الشباب على تفاديها.

   ومنه فإن من واجبهم أن ينفقوا من بيت مال المسلمين ومن ميزانية الدولة إعانات تقدم للشباب العاطل عن العمل، إعانات تقدم لهم وهي من حقهم لا لينفقوها ولكن لاستثمارها في التجارة أو الرزاعة أو غيرها من الحرف، ولولاة الأمور سلطة تقدير هذه الإعانات كمية وكيفية.

  ومن واجب ولاة الأمور أيضا تشييد مدارس لتدريب الشباب وتأهيلهم في مختلف المجالات مثل النجارة والحدادة الزراعة والصيد وغيرها من الحرف التقليدية والحديثة المهمة في المجتمع، فإن الحرفة أمان من الفقر كما يقال. ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال:«إني أرى الرجل فيعجبني فأسأل أله حرفه؟ فإن قيل لا، سقط من عيني».

  ولا بد على ولاة الأمور أن يعتبروا هذه النفقات نفقات استثمارية من حيث المآل، لأن الدولة ستوفر بعد ذلك أموالا طائلة كانت ستنفقها في علاج الأوبئة التي توجبها البطالة.

ثانيا : دور الزكاة والأوقاف علاج للبطالة

   إن الله تعالى قد افترض الزكاة على الأغنياء لترد على الفقراء، وهي من حق الفقراء ولا منة لمعطيها عليهم فيها، ويجب على ولي الأمر أن يحصل زكاة الأموال الظاهرة منهم ليعيد توزيعها، ومن أنكرها أو أبى أن يؤديها أخذت منه بالقوة وعوقب على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:« مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ» (رواه أبو داود والنسائي).

   وتشريع الزكاة يعتبر تمويلا آليا للفقراء الذين لا يجدون الكفاف، كما أنها تمويل لمن أراد الاتجار والاستثمار من الفقراء، وكذلك قضاء لديون الغارمين بسبب الجوائح والإفلاس وغيرها من الأسباب.

   ولا شك أن الهدف الأسمى للزكاة أن يتمكن الفقير من إغناء نفسه بنفسه، حيث يكون له مصدر دخل ثابت يغنيه عن طلب المساعدة أو الزكاة مرة أخرى.

   ومثل الزكاة الأوقاف فإن من شأنها أن تساهم في توفير فرص عمل في المجتمع المسلم من خلال استثمار الأراضي والمباني التي يوقفها أصحابها طمعا في الصدقة الجارية، وقد قال صلى الله عليه وسلم:« إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (رواه مسلم 1631).

ثالثا: الحث على التعاون وعلى القرض الحسن

   ومما حث عليه الشرع التعاون بين أفراد المجتمع وطبقاته، فقال سبحانه: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، وقال صلى الله عليه وسلم:« مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» رواه مسلم. ومن مظاهر هذا التعاون توظيف أرباب الأموال لإخوانهم الذين لم يجدوا عملا باستثمار أموالهم المدخرة، واستبعاد الفكر الرأسمالي الذي يجعل الربح هدفا للاستثمار على حساب نوعية الإنتاج وعلى حساب السعي إلى إيجاد مناصب الشغل.

   ومن مظاهر هذا التعاون القرض الحسن لمن طلبه، سواء من أجل إنفاقه أو استثماره وقد جاء في الحديث:« مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً » رواه ابن ماجة (2430) وقوله:"وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" يدل على معنى القرض وعلى معنى انظار المعسر بالدين.

رابعا : الهجرة داخل البلاد الإسلامية

   إن الله تعالى قد علق الرزق بالضرب في الأرض والانتشار فيها والمشي في مناكبها، والانتقال من بلد إلى بلد فقال سبحانه:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/15). وجعل سبحانه من أسباب الرزق الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، قال تعالى : (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) (النساء:100)، وإذا ضاقت أسباب الرزق على عبد في بلدته فلينتقل إلى على بلدة أخرى، مجاورة أو غير مجاورة قريبة أو بعيدة، فإن الله تعالى أمرنا بطلب الرزق ووعد به ولكن لم يحدد له مكانا، فما على المسلم أن يطلب هذا الرزق حيثما تيسر له، ولا يطغى على أحدنا حب العشيرة والحي حتى يجعله يرضي بحال الفقر والبطالة.

خامسا : إلزام النساء بترك العمل لإخوانهم الرجال

   إن من أسباب البطالة التي لا يجرأ أكثر العصر على التصريح بها خروج المرأة من بيتها وتركها للوظيفة التي خلقت من أجلها، ومنافستها للرجل في جميع وظائفه بما فيها الوظائف الحكومية والعسكرية، فخالفت أمر ربها الذي قال لها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (الأحزاب/33) وخالفت نبيها صلى الله عليه وسلم الذي حدد لها مسؤوليتها فقال :« والمرأة راعية في بيت بعلها ومسؤولة عن رعيتها»(متفق عليه) فخرجت متبرجة ومتحجبة وخالطت الرجال في أماكن العمل وأخذت أماكن إخوانها العاطلين الذين أصبح يتجاذبهم الموت في البحر واحتراف الجريمة، إن هجوم المرأة المسلمة إلى ميدان الشغل يعتبر من أهم عوامل انتشار الفساد في المجتمع إضافة إلى ازدياد حدة البطالة القهرية.

   ولو أن كل رجل أوقف أخته أو أمه أو ابنته عن العمل لوجد كل واحد منهم عملا، وأظن أن هذا التفكير أرقى بكثير من التفكير في فرض التقاعد المبكر على العمال النشطين والمنتجين الذين اكتسبوا الخبرات وما زالت لديهم طاقات يقدمونها لصالح مجتمعهم، واعتقد أن هذا التفكير يجعلنا نؤمِّن تربية أولادنا في بيوتنا، وسنكون في غنية عن بيوت إعادة التربية التي انتشرت في بلادنا أصبحت باسمها هذا سُبَّة يسب بها المجتمع الجزائري والإسلامي ككل، وبرجوع المرأة على بيتها وقيامها بدورها سنتخلص من كثير من هؤلاء المنحرفين الذين ملؤوا البلاد شرقا وغربا حتى تعجز الآلاف المؤلفة لقوات الأمن عن كبحهم وصد عدوانهم في حالات انتشار الفوضى وانعدام الأمن.

سادسا: إحياء الأرض والرجوع إلى الزراعة

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم:« من أحيا أرضا ميتة فهي له» وهذا الإحياء كما ذكر الفقهاء يكون بالبناء وبالزراعة وبحفر الآبار ونحو ذلك من الأعمال، وهذا الحديث فيه تشجيع على خدمة الأرض والزراعة وعلى توسيع نطاق الأراضي المستغلة عموما، وتشجيع على الاستثمار في مادة أولية لا تنضب أبدا ولا يمكن للإنسان أن يستنفذها، على عكس ما تصوره بعض النظريات التي وضعها أناس لا يؤمنون بالله تعالى ولم يجوبوا أرض الله الواسعة فراحوا يصورون للناس ضيق الأرض كما ضاق أفقهم وعقولهم وأن خيراتها على وشك النضوب.

   وبلاد الإسلام والحمد الله تعالى واسعة إلا أننا الناس منحصرين في تجمعات سكنية معدودة الأمر الذي سبب لهم مشاكل السكن والنظافة والأمن والبطالة، وعدم الاكتفاء الذاتي في جانب الغذاء الذي مصدره الأرض، وإن من أسباب انتشار البطالة في بلادنا ما سمي قديما بالنزوح الريفي الذي كان متمثلا في هجرة الناس من المناطق الريفية الفلاحية إلى المدن الكبرى للاشتغال في القطاع الصناعي والإداري، ولقد كان من نتيجة ذلك في بلادنا ترك كثير من الأراضي دون استغلال وهلاك كثير من الأشجار المثمرة دون تجديد لغرسها حتى تراجع الإنتاج الرزاعي بشكل رهيب بحيث إننا في الجزائر وبعد قرابة خمسين سنة من الاستقلال لم نصل بعد إلى محاصيل سنة 1962م، رغم أن عدد السكان قد تضاعف ثلاث مرات.

   وأختم هذا المقال الذي قد طال بكلمات مباركات للشيخ الإبراهيمي رحمه الله وهو يتحدث عن الشاب الجزائري المسلم:« أتمثله حلِفَ عمل، لا حليف بطالة، وحلس معمل، لا حلس مقهى، وبطل أعمال، لا ماضغَ أقوال، ومرتاد حقيقة، لا رائد خيال ...أتمثَّله مقبلا على العلم والمعرفة ليعمل الخير والنفع، إقبال النحل على الأزهار والثمار لتصنع الشهد والشمع، مقبلا على الارتزاق، إقبال النمل تجدُّ لتجِدَ، وتدَّخر لتَفتَخر، ولا تبالي ما دامت دائبة، أن ترجع مرةً منجِحةً ومرة خائبة». وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



تم قراءة المقال 44202 مرة