الأربعاء 21 صفر 1432

إن رحمة الله قريب من المحسنين

كتبه 
قيم الموضوع
(4 أصوات)

إن رحمة الله قريب من المحسنين

   من الصفات العظيمة التي وصف بها ربنا عز وجل نفسه "صفة الرحمة"، وهي صفة واسعة المعاني كثيرة الآثار، قال عز وجل : (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) (غافر:7) وقال صلى الله عليه وسلم: «فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ» (رواه البخاري) ولسعة معانيها قد دل عليها أسماء كثيرة منها الرحمن والرحيم، الرحمن ذو الرحمة الواسعة والرحيم ذو الرحمة الواصلة، وهو الرؤوف والرأفة أعلى معاني الرحمة وهي رحمة وحنان، وكما تدل عليها صفاته وأسماؤه تدل عليها أفعاله سبحانه وتُرى آثارها في خلقه وشرعه.

   وإثباتها من ضرورات الإيمان إذ تكرَّر ذكرها بلفظها ومعانيها وآثارها في مواضع لا تحصى كثرةً في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله وعليه وسلم، والإيمان بها من أعظم موجبات محبة الرب سبحانه وعبادته وتوحيده، كما أنها من موجبات صحة الرجاء في الله تعالى والتوكل عليه والإنابة والخضوع إليه سبحانه.

   وقد تطرقنا فيما مضى إلى تقريب معاني قوله تعالى : (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/56) وبقي لنا ما يتعلق بهذه الصفة العظيمة التي ختم بها المولى عز وجل هذه الآية الكريمة.

 

إن رحمة الله قريب من المحسنين

 

لماذا ختمت الآية بهذه الجملة

مما لا يخفى على كل من تدبر القرآن الكريم أن الله تعالى إذا ختم الآيات بذكر أسمائه وصفاته إنما يختمها بما يتطابق مع سياقها ويُؤكد شيئا من معانيها. فلماذا ختمت هذه الآية بالتذكير برحمة الله عز وجل؟ لذلك أجوبة نستفيدها من نصوص بعض أئمة التفسير وإشاراتهم:

الأول : أن الآية ختمت بذكر الرحمة بعد الأمر بعبادة الله بالخوف والرجاء تغليبا لجانب الرجاء حتى لا ييأس الناس من رحمة الله ولا يقنطوا، وهذا الإطلاق فيه نظر على ضوء ما سبق في موضوع أيهما يغلب الخوف أو الرجاء؟

ولو قيل إن الآية ختمت ببيان قرب الرحمة من المحسنين تأكيدا على الجمع بين الرجاء الخوف لكان أقرب لما فيه من البشارة بقرب الرحمة، ولما فيها من تخصيص هذه البشارة بالمحسنين.

ولو قيل أيضا ختمت الآية بذكر الرحمة بعد النهي عن الإفساد في الأرض والأمر بالتوحيد الذي هو أعظم أسباب الإصلاح فيها حتى لا يستبطئ الموحدون الفرج والنصر ولا ييأسوا من رحمة الله لكثرة ما يرونه من مظاهر الفساد والإفساد لكان له وجه أيضا.

والثاني: وهو جواب ابن القيم رحمه الله وهو واضح لا غبار عليه حيث قال:« ولما كان قوله تعالى: (وادعوه خوفا وطمعا) مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان؛ وهي الحب والخوف والرجاء عقبها بقوله: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) أي إنما ينال الرحمة من دعاه خوفا وطمعا، فهو المحسن والرحمة قريب منه، لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة ».

تفسير الرحمة

والرحمة صفة حقيقة ثابتة لله تعالى تليق بذاته العلية وبكماله سبحانه، وبعض المفسرين ممن تأثر بآراء الأشاعرة اشتغل بتأويلها بالإنعام وإيصال الخير أو إرادة ذلك، ولا حاجة إلى هذه التأويلات التي تحصر الرحمة في آثارها المخلوقة أو تَجعلها في معنى الإرادة، وإن ذلك تعطيل لحقيقتها. وفي قوله عز وجل: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (التوبة:21)، تفريق بين صفة الرحمة والإنعام الذي هو من آثارها، وفي تسمية المولى عز وجل نفسه بالرحمن وغيره من الأسماء الدالة على الرحمة رد على هذه الأقاويل، لأنها أسماء ثابتة لله تعالى قبل أن يخلق الخلق، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي » (متفق عليه).

تفسير قرب الرحمة

وفي تفسير القرب عدة أقوال:

أحدهما: أن المراد بالقرب هنا الرجاء لا قرب المكان والقريب المرجو الحصول، إذ يجوز إطلاق القرب على الرّجاء مجازاً فيقال: هذا قريب أي ممكن مرجو، قاله الطاهر بن عاشور.

الثاني: أن الإنسان كلما مضى يوم من حياته ازداد قربا من الآخرة، وكأن قائل هذا القول خص معنى الرحمة بالجنة التي وهد بها المحسنون دون غيرهم، وقد قال عز وجل للجنة كما في الحديث :«أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي » متفق عليه.

والثالث: وهو أظهرها وهو مبني على أن الرحمة أعم من رحمة الآخرة، فهي رحمة تنال في الدنيا والآخرة، والله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بإجابته، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن القيم حيث قال:« الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب من ربه بالإحسان وأن من تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم وقربة يستلزم قرب رحمته».

علة تذكير القرب

   وفي علة تذكير القرب في الآية الكريمة -وقوله قريب لا قريبة- أقوال كثيرة جمعها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه البديع بدائع الفوائد واختار منها أن المشار إليه هو رب العزة جل جلاله، لأن قربه أخص من قرب رحمته وهو أدعى للإقبال على الإحسان، وقال رحمه الله بعد الكلام المنقول سابقا: «ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة، وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربة وقرب رحمته، ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم، لأن قربة تعالى أخص من قرب رحمته والأعم لا يسلتزم الأخص بخلاف قربة فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأنا وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب ...وإن شئت قلت قربه تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضا قريب منهم وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق».

من هم المحسنون

   ورأس الإحسان الموجب لقرب رحمة الله تعالى أن يُعبد الله عز وجل عبادةَ من هو حاضر شاهد على عباده، فيُتقن المرء عبادته ويستحيي من معصيته ومن مخالفة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فالمحسنون هم الموحدون وهم الطائعون وهم المتبعون لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

   ويدخل في الإحسان الإحسان إلى الوالدين والأولاد والأزواج والأقارب والجيران بالمال والجاه والشفاعات والكلمة الطيبة، ومن الإحسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع، ومنه قضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وإرشاد ضالهم، ويدخل فيه أيضا العفو عن المسيء. ومن الإحسان إتقان العمل وعدم غش الناس والصدق في الحديث والتعامل.

  والآية أطلقت الإحسان فيدخل فيه الإحسان في التعامل مع الله عز وجل وفي التعامل مع الناس في كل شيء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (رواه مسلم).

الإحسان طريق دفع البلاء

   وفي هذه الجملة التي خُتمت بها الآية الكريمة حثٌّ للمؤمنين على الإحسان حتى يستحقوا نيل رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة، وحتى يُدفع عنهم البلاء ومظاهر الفساد، فإنَّ صنائع المعروف تقي مصارع السوء. فأكَّد سبحانه أنَّ رحمته مُرْصَدة للمحسنين، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:156-157).

   وإذا تبيَّن هذا لم ينقضِ العجب من أناس يُكثرون الشكوى من الفساد ومظاهره، ومن الظلم وعمومه، ثم إذا أرادوا رفع البلاء وقاموا لتغيير أوضاعهم يتجنبون طريق الإحسان، بل يمعنون في الفساد في الأرض، فأني لهؤلاء أن ينصرهم الله عز وجل أو تنالهم رحمته، بل إنهم يوكلون إلى أنفسهم، وربما يصيبهم نقيض قصدهم جزاء تعدِّيهم وطغيانهم، فيزداد البلاء ويعظم الشقاء نسأل الله العفو والعافية.

الإحسان سبب إجابة الدعاء

   وذكر بعض المفسرين أن في هذه الجملة تنبيه على أن مما يتوسل به إلى إجابة الدعاء الإحسان في القول والعمل، ولا ريب في ذلك؛ فإنَّ العبد كلما كان محسنا كان أقرب على ربه عز وجل، واستحق منه سبحانه أن يُكرِمه وأن يَسدَّ حاجته أن يُبلِّغه مراده، وقد قال عز وجل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/186)

   وذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث:« الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ» (رواه مسلم) فبيَّن أنَّ سبب عدم استجابة دعائه تعدِّيه في باب المكاسب حدود الله تعالى.

  فإذا قرأ المظلوم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ » (متفق عليه) ثم يَرى نفسه يدعو على من ظلمه فلا يستجاب له فليعلم أنَّ الخلل فيه، ولعل مرجع ذلك أنه غير محسن في عبادة ربه أو في تعامله مع خلقه.

الجزاء من جنس العمل

   في هذه الآية تأكيد على قاعدة الجزاء من جنس العمل التي يعامل الله تعالى به عباده، وقد قال عز وجل: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن:60) ومفهوم الآية أن غير المحسن لا ينبغي له أن يطمع في الإحسان أو الرحمة وأنه لا يستحقهما، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَإِنَّمَا اُخْتُصَّ أَهْلُ الْإِحْسَانِ بِقُرْبِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا إحْسَانٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَإِحْسَانُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكُلَّمَا أَحْسَنُوا بِأَعْمَالِهِمْ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ فَإِنَّهُ لَمَّا بَعُدَ عَنْ الْإِحْسَانِ بَعُدَتْ عَنْهُ الرَّحْمَةُ بُعْدٌ بِبُعْدِ وَقُرْبٌ بِقُرْبِ فَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ تَقَرَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَمَنْ تَبَاعَدَ عَنْ الْإِحْسَانِ تَبَاعَدَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَحْمَتِهِ».

   نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا وأن يبصرنا بعيوبنا وأن يهدينا إلى مراشد أمورنا وأن يصلح أحوالنا ويغفر لنا أخطاءنا ويستر ذنوبنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

تم قراءة المقال 13799 مرة