طباعة
الاثنين 3 شعبان 1432

حكم زيادات الثقات عند الإمام الشافعي

كتبه 
قيم الموضوع
(2 أصوات)

    من المسائل الحديثية الأصولية المشتركة مسألة زيادة الثقة وحكم الاحتجاج بها، وهي مسألة تناولها الأصوليون بالبحث وتكلم فيها أكثرهم بما لا يشبه مذهب المحدثين ولا يلتقي معهم، بل حتى المحدثين المتأخرين قد مال كثير منهم إلى رأي الفقهاء والأصوليين في حكمها، وانبنى على ذلك اختلاف منهج النقد الذي أدى بدوره إلى الاختلاف الكثير في الحكم على الأحاديث والزيادات فيها، وهذا الأمر دعا بكثير من الباحثين والمشتغلين بعلم الحديث إلى إعادة النظر في حكم هذه المسألة باستقراء منهج الأئمة النقاد الذين كانوا في العصر الأول، بتتبع نصوصهم وشرحها وتحليلها واستقراء الأمثلة التطبيقية التي توضح تلك النصوص وتقطع الشك باليقين في مسائل طال فيها الجدل، هذا وإني قد كنت عُنيت بآراء الشافعي الأصولية في الدراسة المقدمة لنيل درجة الماجستير، فكان مما حاولت الوقوف عنده، بيان موقفه من هذه المسألة التي اختلف فيها الأصوليون واختلف المذهب المنسوب إلى الشافعي فيها عندهم.

 

حكم زيادات الثقات عند الإمام الشافعي

 

المبحث الأول : زيادات الثقات في المتون

    من المباحث الأصولية التي اختلف فيها النقل عن الشافعي رحمه الله تعالى من مباحث السنة ونقد متونها، مبحث زيادات الثقات وحكمها، ولهذه المسألة أهميتها الواضحة إذ تبنى عليها فروع فقهية كثيرة، وعند الأصوليين إذا أطلق البحث في زيادات الثقات فهو البحث في المتون، وقد يدخلون فيها الزيادات التي في الأسانيد، وقد آثرت فصل الصورتين لاختلاف الحقائق وإن اتحد الحكم، وسأتناول القسم الأول من خلال المطلبين الآتيين:

المطلب الأول : مفهوم زيادة الثقة وبيان مذاهب الأصوليين

المطلب الثاني : تحقيق مذهب الشافعي

المطلب الأول : مفهوم زيادة الثقة وبيان مذاهب الأصوليين

   هذا البحث لا يمكن خوض غماره دون تحديد المفهوم تحديدا واضحا، وذلك لوجود مسائلَ أخرى وصورٍ قد تشتبه به، فاقتضى الأمر إفراد مفهوم الزيادة بفرعٍ قبل ذكر مذاهب الأصوليين.

الفـرع الأول : مفهوم زيـادة الثقـة

   وأبين فيه مفهوم زيادة الثقة عموما ثم مفهوم الزيادة في المتن خصوصا.

الفقـرة الأولى : مفهوم زيـادة الثقـة عموما

   زيادة الثقة التي أتحدث عنها في هذا المبحث هي غير الحديث الفرد الذي تفرد به راو من الرواة فلا يرويه غيره، وإنما هي أن يروي الحديثَ الواحد جماعةٌ من الرواة الثقات فينفرد واحد منهم بزيادة عليهم قد تكون في المتن وقد تكون في السند([1]).

   والثقة هو العدل الضابط فليس الكلام هنا عن كل زيادة ، ولو كانت من ضعيف الحفظ أو مطعون في عدالته أو مجهول الحفظ والعدالة. فإن رواية هؤلاء مردودة سواء انفرد بحديث من أصله أو زيادة فيه ([2]).

الفقـرة الثانية : الزيـادة في المتـون

   قد أطلق الأصوليون عبارات كثيرة توضح وتحدد هذا المعنى، وهي وإن اختلفت ألفاظها تؤدي نفس المقصود كقولهم :« إذا روى طائفة من الأثبات قصة وانفرد واحدُ منهم بنقل زيادة ». وكقولهم :« انفراد الثقة بزيادة في الحديث بين جماعة النقلة »([3]). ولكن كثير منهم لم يفرق بين زيادة الحديث على الحديث إذا كان معناهما واحدا وبين الزيادة التي تكون في الحديث الواحد، يظهر ذلك جليا من خلال استدلالاتهم والأمثلة التي يوردون([4]). ولما فطن لذلك المتأخرون من المحدثين نبهوا على ذلك وأكدوا عليه، كالحافظ ابن رجب والحافظ ابن حجر الذي قال : « والجواب أن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة إنما هو زيادة بعض الرواة من التابعين فمن بعدهم أما الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر إذا صح السند إليه فلا يختلفون في قبولها » ([5]).

   وإنما البحث في الحديث الواحد عن الصحابي الواحد يروى بنفس الإسناد والمتن فيزيد بعض الرواة زيادة لم يذكرها بقية الرواة، وإلى هذا المعنى أشار الشافعي رحمه الله تعالى في الأم إذ قال :« قد روى غير الزهري هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولكن رواه عن عمرة بهذا الإسناد والسياق والزهري أحفظ منه »([6]). المعنى أنه لو رواه بإسناد آخر لما كان فيه كلام عن الترجيح.

   ومن الأمثلة الصحيحة المشهورة حديث مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما:« فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى صغير أو كبير من المسلمين »([7]). فزيادة  المسلمين لم يتفق على ذكرها كل من روى الخبر عن نافع عن ابن عمر. فإن قيل: فما القول في الصورة التي أقحم بعض الأصوليين أو أكثرهم في زيادات الثقات. قيل: هو القبول قولا واحدا وهو إجماع أهل الحديث كما قال ابن حجر.

   ومذهب الشافعي في هذه الصورة واضح إن شاء الله تعالى. قال الشافعي رحمه الله تعالى :« وفي العجلاني وزوجته أنزلت آية اللعان ولاعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فحكى اللعان بينهما سهل بن سعد الساعدي، وحكاه ابن عباس، وحكى ابن عمر حضور لِعان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما حكى منهم واحد كيف لفظ النبي في أمرهما باللعان. وقد حكوا معا أحكاما لرسول الله ليست نصا في القرآن……فاستدللنا على أنهم لا يحكون بعض ما يحتاج إليه من الحديث ويدعون بعض ما يحتاج إليه منه……»([8]).

   وبيَّن أسباب اختلاف الأحاديث، فقال:« وسئل عن الشيء فيجيب على قدر المسألة، ويؤدي المخبر عنه الخبر متقصى والخبر مختصرا. والخبر يتأتى ببعض معناه دون بعض »([9]).

الفـرع الثاني : بيـان مذاهـب الأصوليـين

للعلماء عدة مذاهب في هذه الزيادات أرتب أهمها على النحو الآتي:

الفقـرة الأولى : مذهـب القبـول مطلقـا

   نسب إلى جمهور الفقهاء المحدثين، واختاره ابن حزم والجويني والشيرازي والغزالي وابن العربي وابن برهان([10]).

الفقـرة الثانية : مذهـب الـرد مطلقـا

نسب إلى معظم الحنفية وبعض أهل الحديث وهو رواية عن أحمد ووجه للمالكية واختيار الأبهري منهم ([11]).

الفقـرة الثالثة : مذهب التفصيل

وفيه أقوال أيضا:

الأول : تقبل زيادة الحافـظ المبرَّز المتقـن مطلقا دون غيره

وهو ظاهر قول ابن خزيمة، ومذهب الصيرفي والباجي والخطيب البغدادي ([12]).

الثـاني : تقبل زيادة الثقـة وإن لم يكـن متقنا بشروط ([13])

منها : إن كان غيره لا يغفل مثله عن مثلها عامة لم تقبل وإلا قبلت.

ومنها : أن لا تؤثِّر الزيادة في لفظ المزيد عليه بحيث تناقضه. ذكرهما أبو الحسين وتبعه الآمدي .

ومنها : أن لا يكون المتمسك أضبط من الراوي . زاده أبو الخطاب والرازي.

ومنها : أن لا يكون مشهورا بنقل الزيادات : زاده الأبياري.

الثـالث : تقبل زيادة الثقـة باجتماع أربعـة شروط وهو اختيار الزركشي([14]).

-أن لا تكون منافية لأصل الخبر.

-أن لا تكون عظيمة الوقع بحيث لا يذهب عن الحاضرين علمها أو نقلها.

-أن لا يكذبه الناقلون في نقل الزيادة .

-أن لا يخالف الأحفظ والأكثر.

الرابـع : أنه ليس للقبـول والـرد قاعدة مطردة وإنما يـدار الأمر على القرائن

    وهذا مذهب جمهور متقدمي المحدثين كأحمد وعلي بن المديني وابن معين([15]). قال الزركشي في البحر:« قال بعض مشايخنا – هو العلائي كما في النكت ([16]) – والمحققون من أئمة الحديث خصوصا المتقدمين، يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومن بعدهما كأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وهذه الطبقة ومن بعدهم كالبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين ومسلم والترمذي والنسائي وأمثالهم والدارقطني، كل هؤلاء مقتضى تصرفهم في الزيادة قبولا وردا الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث، ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث هذا هو الحق والصواب في نظر أهل الحديث »([17]).

   والمذهب نفسه حكاه ابن حجر عن المحدثين إذ قال :« والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم كلي بل يرجحون بالقرائن » ([18]). وقال البقاعي مرجحا هذا القول :« إن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظرا لا ينبغي أن يعدل عنه، وذلك أنهم لا يحكمون فيها بحكم مطرد، وإنما يديرون ذلك على القرائن »([19]).

   وما سبق ذكره في مذاهب المفصلين من شروط معتبر عند أهل الحديث من القرائن المعتمدة في الترجيح بين القبول والرد ([20]).

المطلـب الثاني : تحقيـق مذهـب الشـافعي

   أذكر أولا كما جرت العادة الواقع في كتب الأصول وغيرها من النقل عن الشافعي، ثم أبين الصواب من ذلك من خلال كلامه وفروعه الفقهية .

الفـرع الأول : المنقـول عن الشـافعي

المنقول عن الشافعي رحمه الله تعالى في كتب الأصول قولان هذا بيانهما .

الفقـرة الأولى : مذهـب القبـول مطلقـا

   نسب هذا المذهب إلى الشافعي صراحة الجويني إذ قال :« فالزيادة من الراوي الموثوق به مقبولة عند الشافعي وكافة المحققين ». وعلى كلامه اعتمد من بعده في توثيق مذهب الشافعي كالإسنوي وابن السبكي([21]). وقد نقل الجويني عن الشافعي كلاما غريبا عبارة ومضمونا، ولفظا ومعنى. جاء في البرهان:« قال الشافعي من متناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القرآن، وبين رد الزيادة التي يتفرد بها بعض الرواة مع العلم أن سبيل إثبات القرآن أن ينقل استفاضة وتواترا، فما كان أصله كذلك إذا قبل الزيادة فيه شاذة نادرة، فلأن تقبل فيما سبيل نقله الآحاد كان أولى »([22]).

   ووجه غرابة العبارة هو استعمال ألفاظ اصطلاحية متأخرة كالقراءة الشاذة والتواتر، وأما غرابة المضمون فهو هذا القياس البعيد الفاسد، فإن القراءة الشاذة إن قسناها بزيادات الرواة تلحق بزيادة الصحابي على صحابي آخر وهي مقبولة باتفاق كما سبق، والقراءة الشاذة المروية من طريق الآحاد تدرس أسانيدها كما تدرس الأخبار، فإن كان الزائد لها راو من الرواة دون آخرين ربما كانت مردودة.

   وكذلك نقل عن الشافعي في خصوص زيادات الإسناد. قال الزركشي :« وجزم به الصيرفي وقال: هذا قول الشافعي وبه أقول »([23]).

الفقرة الثانية: مذهب القبول والرد حسب القرائن وأوضحها الحفظ والعدد

   نص على هذا الزركشي متعقبا الجويني فقال :« اعلم أن إمام الحرمين وغيره أطلقوا النقل عن الشافعي القول بقبول الزيادة من غير تعرض لشيء من الشروط، وسيأتي في بحث المرسل من كلام الشافعي أن الزيادة من الثقة ليست مقبولة مطلقا، وهو أثبت نقل في المسألة »([24]).

   وقال ابن حجر ردا لمذهب القبول :«…. فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم وكثرتهم، ولاسيما إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويُعتنى بروايته، كالزهري وأضرابه بحيث يقال لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه، ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها، فالذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة، وقد نص الشافعي على نحو هذا »([25]).

الفـرع الثاني : توضيـح مذهـب الشـافعي

   إن المتتبع لكلام الشافعي رحمه الله تعالى يجزم بأنه لم يكن ممن يرُدُّ الزيادات مطلقا ولا ممن يقبلها بإطلاق، لأنه من الجهة العملية قد رَدَّ بعضها وقَبِل بعضا آخر، وهذا هو منهج الأئمة المتقدمين في هذه المسألة ، قال البيهقي عن الشافعي رحمه الله :« هذا مذهبه في قبول الأخبار وهو مذهب القدماء من أهل الآثار »([26]).

   وسأحاول بيان منهج الشافعي رحمه الله تعالى  في القبول والرد من خلال التطبيقات العملية ثم أَدفع قول من نسب إليه القبول بإطلاق من نصوص الشافعي .

الفقـرة الأول : منهج الشافعي في التعامل مع الزيادات

  يمكن تلخيص منهج الشافعي رحمه الله في التعامل مع الزيادات في النقاط الآتية :

أولا: أنه لم يقبلها مطلقـا كما لم يكـن يرى ردها مطلقا

أما الرد فبين لمن تأمل نصوص الشافعي التأصيلية التي سأذكر في الفقرة الآتية، وفيما يأتي ذكر أمثلة أخرى تؤكد ذلك. وأما القبول فقد قبل زيادات منها ما ذكره في موضع فقال :« وبحديث سفيان عن هشام بن عروة نأخذ، وهو يحفظ فيه الماء وإن لم يحفظه مالك »([27]).

ثانيـا :من قرائن الترجيح العـدد والحفـظ، وليس ذلـك كل القرائن

  قد نص الشافعي على هاتين القرينتين وليست كل القرائن كما قد يظن نورد نصه في ذلك ثم عدوله عن اعتباره في بعض المواضع ليدل على أن هذا ليس قاعدة مطردة عنده . قال الشافعي في اختلاف الحديث :« إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه أو بأن يأتي بشيء في الحديث يُشرِكُه فيه من لم يحفظه منه ما حفظ وهم عدد وهو منفرد »([28]). فهذا تصريح بأن الراوي يغلط في الرواية إذا خالف الأحفظ منه العدد من الرواة .

   وقد رجح  في وضع رواية واحد على اثنين فقال . أحسب حديث نافع أثبتها كلها لأنه مسند وأنه أشبه ….. ثم قال : « فالأحاديث الثلاثة متفقة فيما سوى هذا الحرف التي يغلط فيه منتهى الغلط »([29]).

   ورجح رواية الحافظ على الأحفظ وذلك حين رجح رواية سفيان عن هشام على رواية مالـك فلاشك أن مالكا رحمه الله أرجح وأثبت في الحديث من سفيان ([30]).

ثالثـا :  من القرائـن المعتبرة عند الإمـام الشـافعي

   وقد اعتمد الشافعي قرائن أخرى في نقد الروايات أو الزيادات  قبولا وردا منها :

1 –نقد المتن  : قال رحمه الله :« قد روى غير الزهري هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة . ولكن رواه عن عمرة بهذا الإسناد  والسياق والزهري أحفظ منه وقد روى شيئا يدل على أن الحديث غلط" تترك الصلاة قدر أقرائها ". وعائشة تقول :"الأقراء الأطهار " »([31]).

2 – اعتبار ملازمة التلميذ للشيخ وطول مجالسته والاعتناء بحديثه ، قال الشافعي رحمه الله تعالى : « وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيره أحفظ لحديث عمرو من سفيان » وقال في موضع آخر :« ولم يسمعه مع حفظ الزهري وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس ، فلما جاء غيره عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد الله أشبه أن لا يكون محفوظا »([32]).

3 – اعتبار المتابعة والجزم في الرواية وأمورٍ أخرى . فقد قبل في موضع زيادة الإمام مالك على أيوب بأربعة قرائن لا مجرد كونه ثقة . وهي أن مالكا أثبت من أيوب مطلقا وأنه أكثر ملازمة للشيخ المروى عنه وهو نافع . ولأن أيوب كان مترددا دون الإمام مالك ولأن مالكا قد توبع على معنى الزيادة ([33]).

الفقرة الثانية : الرد على من أخطأ على الشافعي

للشافعي رحمه الله تعالى نصوص تأصيلية تدل على مذهبه أو جانب منه ، وتُوَضِّح بجلاء إن شاء الله خطأ من نسب إليه مذهب القبول بإطلاق وهي كالآتي:

أولا: أن الراوي الذي يخالـف الثقات لا يوثـق

  قال الشافعي-في صفة العدل الذي يقبل حديثه- :« أن يكون حافظا إذا حدَّث به من حفظه حافظا لكتابه إن حدث من كتابه، إذا شَرِك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم »([34]).وهذه طريقة المحدثين في امتحان الرواة وهو سبر الروايات ومقارنتها بأحاديث الثقات المتفق على ثقتهم والنظر في مقدار المخالفة لهم، ومن المخالفة لهم الزيادة عليهم في الألفاظ والأسانيد وبحسب هذه المخالفات تحدد مرتبته([35]).

ثانيـا : رواية الزيـادة تضر بحـديث الراوي

قال الشافعي-في صفة الثقة الذي يعضد مرسله- :« ويكون إذا شَرِك أحدا من الحفاظ من حديث لم يخالف فإن خالف وجد حديثه أنقص ، كانت هذه دلائل على صحة مخرجه ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه »([36]). فهذا الثقة الذي جاوز مرحلة الاختبار لكي يكون مرسله مقبولا صالحا للتقوية لابد أن لا يؤثر عنه المخالفة بالزيادة أو أن لا يكون معروفا بذلك. قال ابن عبد الهادي : « وهذا دليل من الشافعي رضي الله عنه أن زيادة الثقة عنده لا يلزم أن تكون مقبولة مطلقا، كما يقوله كثير من الفقهاء من أصحابه وغيرهم …. ولو كانت الزيادة عنده مقبولة  مطلقا لم تكن مخالفته بالزيادة مضرة بحديثه « ([37]).

ثالثـا : أن القول بالقبول بإطلاق يؤدي إلى قبول الزيادة المناقضة للأصل، وهذا ما صرَّح الشافعي برده. قال الشافعي: « وليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة حديثا لم يروه غيره وإنما الشاذ من الحديث أن يروي الثقة حديثا فيشذ عنهم واحد فيخالفهم »([38]).وفي رواية :« إنما الشاذ أن يروي الثقات حديثا على نص ثم يرويه ثقة خلافا لروايتهم فهذا الذي يقال شذ عنهم »([39]).فهذا يروي الحديث الذي رواه الثقات لكن قد يزيد زيادة أو ينقص بحيث يناقض الأصل المزيد عليه. فروايته تكون شاذة أي مردودة.

 

المبحث الثاني : زيادات الثقات في الأسانيد

   هذه المسألة مشابهة لسابقتهما في الحكم ، وربما ساقهما بعض المحدثين مساقا واحدا، وأما الأصوليون فإنهم يفصلون الزيادات التي في المتون عن الزيادات التي في الأسانيد لاختلاف الحقيقة ، ويخصون لقب زيادات الثقات بزيادات المتون ويترجمون لهذه المسألة بـ "تعارض الوصل والإرسال"، ثم يلحقون بها مسألة "تعارض الوقف والرفع "([40])، وقد رأيت الفصل أفضل لما ذُكر ولاختلاف المذاهب المحكية فيها أيضا، وقد جعلت هذا المبحث في المطلبين الآتيين :

المطلب الأول : مفهوم الزيادة في الإسناد ومذاهب الأصوليين

المطلب الثاني : تحقيق مذهب الشافعي

المطلب الأول : مفهوم الزيادة في الإسناد ومذاهب الأصوليين

الفـرع الأول : مفهوم الزيـادة في الإسنـاد

   الزيادة في الإسناد هي زيادة الرجال فيه . قال الآمدي:« وكذلك الخلاف فيمن أسند الخبر وأرسله الباقون، أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم و أوقفه الباقون على بعض الصحابة »([41]). يعني أن الخلاف في هذه كالخلاف في زيادة المتن وما ذكره هو أشهر صور الزيادات في الإسناد وإلا فهناك صور أخرى منها المزيد في متصل الأسانيد الذي يذكره المحدثون نوعا من أنواع علوم الحديث ، فإن حقيقته زيادة رجل في الإسناد .

الفـرع الثاني : مذاهـب الأصوليـين

قد فصَّل أيضا الأصوليون أكثرهم تعارض الوصل والإرسال عن تعارض الوقف والرفع ؛ بل منهم من اقتصر على ذكر الصورة الأولى لذلك أجعل المذاهب في فقرتين .

الفقـرة الأولى : تعـارض الوصـل والإرسـال

اختلف الأصوليون في زيادة الوصل في الأسانيد على مذاهب هذا بيانها :

أولا : ترجيح رواية الوصل والحكم للزائد مطلقا. وهو اختيار الصيرفي وأبي الحسين والباقلاني والشيرازي وابن حزم والخطيب البغدادي وأبي الخطاب والمجد بن تيمية وابن الصلاح وغيرهم ([42]).

ثانيـا : الحكم للمرسل مطلقا ورد زيادة من وصل . حكاه الباقلاني ثم الخطيب عن أكثر المحدثين ([43]).

ثالثـا : ليس هناك حكم مطلق ولكن لابد من التفصيل :

1– الحكم لمن وصل بشرطين: أن لا يكون ذلك عظيم الوقع، وأن لا يكذبه راوي الإرسال. ذكره الزركشي.

2 – الحكم لرواية الأكثر والأحفظ . ذكرهما الزركشي مذهبين ([44]).

3 – الحكم يدور مع القرائن ، وليس للترجيح قانون خاص . وهو مذهب جمهور المحدثين ، قال ابن دقيق العيد:« إن من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارضت رواية مرسل ومسند ، أو واقف و رافع ، أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد؛ فلم يصب في هذا الإطلاق ، فإن ذلك ليس قانونا مطردا ، وبمراجعة أحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول ». وهذا اختيار ابن سيد الناس والعلائي والبقاعي وابن رجب الحنبلي([45]).

الفقـرة الثانية : تعـارض الوقـف والرفـع

  أما الزركشي فأورد فيه قولا واحدا وهو القبول، والقياس إجراء الخلاف المحكي في تعارض الوصل والإرسال في هذه المسألة أيضا ، و كلام ابن دقيق العيد المنقول أعلاه يدل على ذلك، إلا أنه لا يلزم كــل من قبل الإرسال أن يقبل الموقوف لأن المرسل عند بعضهم حجة بلا عاضد، ولأن ثمة من قبل زيادة الوصل ورد زيادة الرفع ، أو أثبت فيها الخلاف المذكور في زيادة المتن. وعند أهل الحديث القول في بعض الزيادات كالقول في البعض الآخر . قال الحافظ ابن رجب :«  ولا فرق بين الزيادة في الإسناد والمتن » أي في الحكم عند المحدثين ([46]).


المطلـب الثاني : تحقيـق مذهـب الشـافعي

   أما بالنسبة للنقل عن الشافعي فهو نفسه المذكور في المبحث السابق ، فقد نُسب إليه القول بالقبول بإطلاق وليس ذلك بصحيح ، بل الراجح هو نفسه الذي توصلت إليه هناك ونزيد الأمر وضوحا هنا بالأمثلة .

الفـرع الأول : رد زيادات الإسنـاد عند الشـافعي

   قد رد الشافعي رواية من وصل المراسيل ورفع الموقوفات في مواضع، أبرز بعضها ردا على من نسب إليه القبول بإطلاق . ولعل ذلك يكون كافيا في الدلالة على أن مذهبه في زيادات الإسناد هو نفسه مذهبه في زيادات المتن.

الفقـرة الأولى : ترجيـح الإرسـال

أولا : روى الشـافعي حديثا عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا ، ثم قال :« زاد ابن نافع فقال : محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ». ثم أشار إلى عدم قبول الرواية الموصولة برواية الأكثر ، فقال :« وسـمعت غير واحد من الحفاظ يرويه ولا يذكر فيه جابرا » ([47]).

ثانيـا : قال الشافعي :« وأما روايته عن ابن مسعود فمرسل وحديث ابن بذيمة لا يسنده غيره علمته ».

ثالثـا : روى رحمه الله تعالى خبرا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه ، فاعتُرِض عليه بأنه مروي عن أبيه عن جده . فرد الشافعي الاعتراض بقوله : « أجعفر أوثق وأعرف بحديث أبيه أم ابن إسحاق»([48]).

الفقـرة الثانية : ترجيـح الوقـف

أولا : قال الشافعي رحمه الله تعالى في نقد خبر عمر بن ميمون عن سليمان بن يسار عن عائشة - كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه -:« مع أن هذا ليس بثابت عن عائشة ، هم يخافون فيه غلط عمرو بن ميمون ، إنما هو رأي سليمان بن يسار حفظه عنه الحفاظ أنه قال :" غسله أحب إلي". »([49]).

ثانيـا : قال الشافعي :« روى ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبى في عمرة حتى استلم الركن . ولكنا هبنا روايته ، لأنا وجدنا حفاظ المكيين يقفونه على ابن عباس »([50]).

ثالثـا : وقال البيهقي :« وكان الشافعي في القديم يذهب إلى ظاهر ما روى مالك…  ويحتج بقوله لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث …. ثم يشبه أن يكون الشافعي وقف على أن هذا اللفظ ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول أبي سلمة، فذهب فيما نرى ودلت عليه رواية المزني إلى جواز العمرى لمن وهبت له»([51]).

الفـرع الثاني : قبـول زيادات الإسنـاد

أذكّر أن هذا المذهب هو المنسوب إلى الشافعي دون ما سواه ، وقد تبين فساد النسبة من النقول السابقة عنه، وأزيد ذِكر مواضع قَبِل فيها بعض الزيادات حتى لا يعترض بأن مذهبه الرد بإطلاق أيضا .

الفقـرة الأولى : قبـول زيـادة الوصـل

أنكر الشافعي على خصمه إعلاله خبرا بمجرد الظن إذ قال :« روى الثقفي وهو ثقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :« قضى باليمين مع الشاهد » ولم يذكر جابرا الحفاظ ، وهذا يدل أنه غلط ».فقال الشافعي: « أ فرأيت إن قلنا هذا ظن ،أو الثقفي ثقة وإن ضيع عنه أوشك ».قال الخصم : « إذا لم تنصف »([52]). والشافعي قد قبل هذه الرواية واحتج بها كما سبق قبل هذا .

الفقـرة الثانية : قبـول زيـادة الرفـع

  قال الشافعي :« في حديث ابن أبي ذئب دليل على أن سهل بن سعد قال فكانت سنة المتلاعنين. وفي حديث مالك وإبراهيم كأنه قول ابن شهاب ، وقد يكون هذا غير مختلف يقوله ابن شهاب ولا يذكر سهلا ، ويقوله أخرى ويذكر سهلا»([53]).

 

 

 



[1]/ شرح علل الترمذي لابن رجب (242).

[2]/ الإبهاج لابن السبكي (2/248).

[3]/ البرهان للجويني (1/424) اللمع للشيرازي (172) الإحكام لابن حزم (1/264) المستصفى للغزالي (1/315).

[4] / انظر التلخيص للجويني (2/400) المحصول للرازي (4/473-474) الإحكام للآمدي (2/120).

[5] / شرح العلل لابن رجب (242) النكت لابن حجر (2/691).

[6] / الأم للشافعي (1/135).

[7] / الموطأ للإمام مالك (633) البخاري (1433) مسلم (984)

[8] / الرسالة للشافعي (148-149)

[9] / الرسالة للشافعي (213).

[10]/ اللمع (172) الإحكام لابن حزم (1/264) التلخيص للجويني (2/396) المستصفى (1/315) المحصول لابن العربي (120) الوصول لابن برهان (2/186) البحر المحيط (4/331) النكت للزركشي (2/182).

[11]/ التلخيص للجويني (2/396-397) أصول السرخسي (2/25-26) القواطع لابن السمعاني (2/399) المسودة لآل تيمية (299) روضة الناظر لابن قدامة (1/260) البحر المحيط (4/332) النكت للزركشي (2/183).

[12]/ الإشارة للباجي (251) الكفاية للخطيب (464) القواطع لابن السمعاني (2/400) البحر المحيط للزركشي (4/334) النكت للزركشي (2/182).

[13]/ المعتمد لأبي الحسين (2/182) التمهيد لأبي الخطاب (3/153) المحصول للرازي (4/473) الإحكام للآمدي (2/120) نهاية السول للإسنوي (2/376) الإبهاج لابن السبكي (2/346) البحر المحيط للزركشي (4/334).

[14]/ البحر المحيط للزركشي (4/334).

[15]/ شرح العلل لابن رجب (243) شرح الكوكب المنير لابن النجار (2/543).

[16]/ النكت للزركشي (2/176) وانظر النكت لابن حجر (2/604).

[17]/ البحر المحيط للزركشي (4/336).

[18]/ النكت لابن حجر (2/687).

[19]/ توضيح الأفكار للصنعاني (1/339-340و344).

[20]/ أخرج أبو الحسين البصري حالة تعدد المجلس أي مجلس التحديث من محل النزاع فتبعه أبو الخطاب والرازي والآمدي وأتباعهم وحكوا فيها الاتفاق على القبول . ومنهم من اكتفى بنسبة القبول إلى الجمهور . وهذه الحالة لا تجسيد لها في الواقع ولا تطبيق إذ المتعامل مع الأسانيد والباحث عن حكم الزيادات التي جاء بها الرواة لا يمكنه الكشف عن هذا إلا إذا نُص عليه ولا يوجد ذلك إلا في حالات نادرة ، كترجيح رواية من وصل حديث عائشة في النكاح بلا ولي على من أرسله بأن من أرسل من الرواة سمعوه في مجلس واحد بخلاف من وصله منهم فقد سمعوه في مجالس مختلفة،انظر نصب الراية للزيلعي (3/232) . وانظر المعتمد لأبي الحسين (2/180) المحصول للرازي (4/473) الإحكام للآمدي (2/120) التمهيد لأبي الخطاب (3/153) المسودة  لآل تيمية (269) شرح الكوكب المنير لابن النجار (2/541) تيسير التحرير لأمير بادشاه (3/108-109).

[21]/ البرهان للجويني (1/424) الإبهاج لابن السبكي (2/347) نهاية السول للإسنوي (2/376) وانظر المسودة لآل تيمية (299).

[22]/ البرهان للجويني (1/426) وتبعه في النقل ابن السمعاني (1/402).

[23]/ البحر المحيط للزركشي (4/339).

[24]/ البحر المحيط للزركشي (4/331).

[25]/ النكت لابن حجر (2/ 288) وانظر شرح النخبة ( 96).

[26]/ طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/81) .

[27] / الأم للشافعي (1/142) معرفة السنن للبيهقي (2/230).

[28]/ اختلاف الحديث للشافعي (219).

[29]/ الأم للشافعي (8/82).

[30]/ الأم للشافعي (1/142) معرفة السنن للبيهقي (2/230).

[31]/ الأم للشافعي (1/135) وانظر الرواية المشار إليها في المعرفة (1/377) وأصل الحديث في البخاري (327) ومسلم (334).

[32]/ الأم للشافعي (8/18) واختلاف الحديث للشافعي (215) وقد رد الشافعي في الموضع الثاني أصل الحديث فليراجع .

[33]/ اختلاف الحديث للشافعي (219).

[34] / الرسالة للشافعي (371).

[35]/ المقدمة لابن الصلاح (106) الأنوار الكاشفة للمعلمي (85).

[36]/ الرسالة للشافعي (463-464).

[37]/ الصارم المنكي لابن عبد الهادي (109).

[38]/ الآداب لابن أبي حاتم (133).

[39]/ الآداب لابن أبي حاتم (134).

[40]/ الإحكام للآمدي (2/123) البحر المحيط للزركشي (4/339).

[41]/ الإحكام للآمدي (2/123).

[42]/ المعتمد (2/151) التلخيص للجويني (2/429) الإحكام لابن حزم (2/429) اللمع (173) الكفاية للخطيب (451) أصول السرخسي (1/364) التمهيد لأبي الخطاب (3/ 144) المسودة (251) المقدمة لابن الصلاح (71) البحر المحيط (4/339) شرح الكوكب المنير (2/549).

[43]/ التلخيص للجويني (2/429) الكفاية للخطيب (450) البحر المحيط للزركشي (4/339).

[44]/ البحر المحيط للزركشي (4/339).

[45]/ شرح الإلمام لابن دقيق العيد (1/60-61) النكت لابن حجر (2/604) شرح العلل لابن رجب (243).

[46]/ انظر البحر المحيط للزركشي (4/ 340) التمهيد لأبي الخطاب (3/400) النكت لابن حجر (2/695) شرح العلل لابن رجب (242).

[47]/ الأم للشافعي (1/67-68) المعرفة للبيهقي (1/221-222) .

[48]/ المعرفة للبيهقي (5/519) ثم الأم للشافعي (4/198-199) المعرفة للبيهقي (5/152).

[49]/ الأم للشافعي (1/126).

[50]/ المعرفة للبيهقي (4/ 93).

[51]/ المعرفة للبيهقي (5/7).

[52]/ المعرفة للبيهقي (6/113).

[53]/ الأم للشافعي (5/182).

تم قراءة المقال 11716 مرة