اعتبار خوارم المروءة في عدالة رواة الحديث-دراسة نقدية على ضوء تطبيقات المحدثين-
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن الله سبحانه قد سخر لحفظ دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم علماء ربانيين؛ دقَّقوا في نَقَلَةِ السنة ونقدوا سيرهم وسبروا أحوالهم وميزوا بين صادقهم وكاذبهم، وكشفوا عن مقدار حفظهم وضبطهم، وأسّسوا لأجل ذلك علما قائما ذاته؛ مستقلا عن علم السنة النبوية عُرف بعلم الجرح والتعديل، وقد انتهجوا في البحث عن أحوال الرواة ونقلَةِ الأخبار، منهاجا دقيقا احتاطوا من خلاله للسنة النبوية أن يَدخُل فيها ما ليس منها، من الكذب أو الغلط، ولكن ليس كلُّ ما ذكر من أسباب القدح في الرواة وردِّ روايتهم كان متفقا عليه بينهم، وليس كل ما هو مذكورٌ من تلك الأسباب راجع إلى الشك في صدق الراوي، فبعض أسباب الجرح المذكورة في كتب الفن تبقى محل بحث، وتحتاج إلى إعادة نظر في تأصيلها ومراجعة تطبيقاتها؛ ومن تلك الأسباب :"جرح الرواة بمخالفة مقتضى المروءة"، فقد جرى ذكر المروءة في كتب علوم الحديث على أنها من شروط العدالة، وأنّ اختلالها يكون سببا في القدح في الراوي وترك روايته، وربما أُيِّد ذلك بنصوص منقولة عن بعض أئمة الجرح والتعديل، ولكن إذا ما نظرنا في معنى المروءة وفروعها؛ فإننا نتساءل ما حد هذه المروءة المشترطة ؟ وهل هي مشترطة في رأي جميع المحدثين؟ وما مدى مراعاتها عند أئمة الجرح والتعديل المتقدمين والمتأخرين؟ إجابة عن هذه التساؤلات رأيت أن أكتب في هذه المسألة بحثا أجمع فيه بين الجانب النظري التأصيلي والجانب التطبيقي، فأسعى فيه إلى بيان حد المروءة ووجه إيراد هذه المسألة في كتب الحديث، مع التحقيق في حكم الراوي الذي خالف مقتضى المروءة، كما أني سأجتهد في تتبع تطبيقات المحدثين لهذه المسألة في كتب الجرح والتعديل؛ عسى أن يتجلى الحكم النظري أكثر إذا ما قورن بالجانب العملي.
المطلب الأول : اشتراط المروءة في الشهود عند الفقهاء
الفرع الأول : حقيقة المروءة عند الفقهاء
المروءة في اللغة هي الإنسانية؛ لأنها مأخوذة من المرء وهو الإنسان(1)، وفي عصرنا يعبر عنها بالرجولة وتعبير القدماء أوفق لأن صفاتها لا تختص بالرجال بل تعم حتى النساء كالوفاء والحياء والشجاعة والنجدة ونحو ذلك ، وقد اختلفت عبارات الفقهاء في تحديد معناها في اصطلاحهم، إلا أن معانيها متقاربة ومقصد أصحابها متحد، ومن أحسن تلك التعاريف لفظا قول الفيومي (ت:700هـ): «المروءة آداب نفسانية؛ تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف على محاسن الأخلاق وجميل العادات» (2). ومعنى هذا أن المروءة ملكة ومعنى يقوم في نفس المرء ، وعلامة تحقق هذا المعنى الاتصاف بمحاسن الأخلاق، والالتزام بجميل العادات.
والظاهر من هذا التعريف تخصيص المروءة بالآداب المستحبة، إلا أن من الفقهاء من صرح بإدخال الآداب الواجبة بالشرع في معناها، فتصبح المروءة على هذا أعم من العدالة.
والجمهور على أن من المروءة ما ليس من الآداب الواجبة بالشرع؛ فلا يكون مخالفها عاصيا أو فاسقا، بل هي أمر زائد عن التقوى وخارج عنها،؛ لكنهم يزعمون أن من خالفها لا يبعد منه أن يجترئ على مخالفة مقتضيات التقوى.
وهذه الآداب أمور عرفية تختلف بالزمان والمكان، فتختلف باختلاف الأجناس عربا وعجما وبدوا وحضرا ، وقد نبه إلى ذلك غير واحد من الفقهاء كالنووي الشافعي (ت:676هـ) والقرطبي المالكي (ت:671 هـ)(3).
الفرع الثاني : اشتراط المروءة في عدالة الشهود
إن الحديث عن المروءة مرتبط في كتب الفقه بعدالة الشهود، وأوَّل من نص على اشتراط التزام خصالها في عدالتهم الإمام الشافعي(ت:204هـ) رحمه الله في كتابه الأم حيث قال: «وليس من الناس أحد نعلمه-إلا أن يكون قليلا- يمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بشيء من معصية، ولا ترك مروءة ولا يمحض المعصية ويترك المروءة حتى لا يخلطه بشيء من الطاعة والمروءة، فإذا كان الأغلب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة رددت شهادته »(4).
ويلاحظ في كلامه رحمه الله أنه فرَّق بين الطاعة وهي الآداب الواجبة، وبين المروءة التي هي أمر زائد على ذلك، وقد وافقه على اعتبارها جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة، هذا مع اختلافهم في بعض تفاصيلها؛ كالأكل في السوق واحتراف الحجامة وكنس الزبالة والمشي حافيا أو مكشوف الرأس ونحو ذلك.
ونصوص فقهاء المذاهب الشاهدة على ذلك كثيرة جدا، ننقل منها النماذج الموجزة الآتية، فمن الكتب المعتمدة في الفقه الحنفي كتاب الهداية للمرغناني (ت:593هـ) وقد قال فيمن لا تقبل شهادته :«ولا من يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق والأكل على الطريق لأنه تارك للمروءة». ومن أشهر مصنفات الفقه المالكي القوانين الفقهية لابن جزي الغرناطي (ت:741هـ) وقد قال وهو يتحدث عن العدالة :« وتسقط أيضا بفعل ما يسقط المروءة وإن كان مباحا كالأكل في الطرقات والمشي حافيا أو عريانا». ومما هو معتمد عند الحنبلة كتاب المغني لابن قدامة المقدسي (ت: 620هـ) وقد نص فيه على ما يلي: «فلا تقبل شهادة غير ذي المروءة كالمُغني والرقَّاص والطفيلي والمتمسخر ومن يحدث بمباضعة أهله، ومن يكشف عورته في الحمام أو غيره، أو يكشف رأسه في موضع لا عادة بكشفه فيه، ويمد رجليه في مجمع الناس، وأشباه ذلك مما يجتنبه أهل المروآت؛ لأنه لا يأنف من الكذب» (5).
واتفاق المذاهب الأربعة على اعتبار المروءة في الشهود لا يعني اتفاق العلماء جميعا فقد خالف في هذه المسألة ابن حزم الظاهري (ت:456 هـ)؛ وزعم أن الأدلة الشرعية إنما اشترَطت العدالة، وهي مبنية على الطاعة والمعصية لا على شيء زائد عليهما، ورد على الشافعي بأن اعتبار المروءة فضول، لأنها إن كانت من الطاعة فالطاعة تغني عنها، وإن كانت ليست من الطاعة فلا يجوز اشتراطها إذ لم يأت بذلك نص قرآن ولا سنة (6).
وللجمهور أدلة استدلوا بها على وجهة نظرهم -اشتراط المروءة في الشهود- منها قوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ (البقرة:282) فقوله:"مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ"، يدل أن الشاهد العدل هو من ارتُضِيت شهادته حسب العرف السائد في الزمان والمكان الذي تؤدى فيه الشهادة (7). ومن أدلتهم أيضا قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:« إذا لم تستح فاصنع ما شئت»(8)، وقليل الحياء لا مروءة له، لأن من لا يستقبح القبيح في العادات لا يستقبح الكذب فلا تحصل الثقة بشهادته (9).
وقد لاحظ بعض الفقهاء أن معاني المروءة التي يذكرها الأدباء والزهاد، والمنقولة عن السلف واسعة لا يمكن أن يقال باشتراط جميعها في عدالة الشهود، لذلك فقد قسّموا هذه الخصال إلى عدة أقسام، ونبهوا على ما يعتبر منها ولا ما يعتبر ، فهذا الجصاص الحنفي(ت:370هـ) قد تعقب كلام الشافعي بأن معنى المروءة واسع يشمل أشياء تختلف أحكامها فذكر أنه إن كان مراده نحو السمت الحسن وتجنب السخف والمجون فهو مصيب، وإن كان مراده نحو نظافة الثوب وفراهة المركوب فقد أبعد بمعنى أنه لا يوافق على ذلك (10).
ولأجل هذا المعنى نجد الماوردي (ت:450هـ) قد قسمها أيضا إلى ثلاثه أضرب؛ الأول منها يكون شرطا في العدالة ، ومثَّل له بمجانبة ما سَخُف من الكلام المؤذي أو المضحك، وترك ما قبُح من الضحك الذي يلهو به ونتف اللحية، والثاني لا يكون شرطا فيها كالسخاء بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه، والثالث مختلف فيه ومثَّل له بالصنائع الدنيئة(11).
وعند المتأخرين لما ساءت الأخلاق وفشت العادات التي كانت مستهجنة عند السلف رجع كثير من الفقهاء إلى مذهب ابن حزم الظاهري، بل إنهم نصوا على أنه لا يشترط في عدالة الشهود أكثر من السلامة من الكذب ضرورة(12) فضيقوا مفهوم العدالة وحصروه في السلامة من الكذب فقط دون أسباب الفسق الأخرى.
الفرع الثالث : المرجع في الحكم بانخرامها إلى القضاة
ولما كانت هذه المروءة مختلفةً باختلاف الزمان والمكان والأعراف، وكان عَسِرًا ضبطها؛ فقد أرجع الفقهاء والأصوليون الحكم بانخرامها إلى القضاة في كل عصر ومصر، بحسب ما يناسب عرفهم.
وممن نص على ذلك الباقلاني (ت:403 هـ)، وتبعه الغزالي (ت:505هـ) حيث قرّر أنه شُرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة، ثم جعل ضابط ما اختلف فيه من صفاتها اجتهاد الحاكم فما كان منها دالا عنده على الجرأة على الكذب ردت الشهادة به، وكان خلاف ذلك لم ترد به، وأكد على نسبية ذلك وقال: « ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه، ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض»(13). وفي كلام الغزالي أن الخارم الواحد في الزمان الواحد والمكان الواحد قد يعتبر في حق بعض الناس دون بعضهم، وقد سبقه إلى نحو هذا الباقلاني وختم بحثه بقوله:« وهذا مما لا سبيل إلى ضبطه وهو يختلف باختلاف الأوقات والأحوال والأشخاص فلا وجه للقطع فيه ولكن يفوض الأمر إلى الاجتهاد»(14) ومعنى تفويض الأمر إلى الاجتهاد أي إلى تقدير القضاة واجتهادهم.
المطلب الثاني : اشتراط المروءة في رواة الحديث
والذي لا اختلاف فيه أن التزام المروءة بمعناها اللغوي والاصطلاحي من أهم الآداب التي ينبغي لطالب العلم والحديث أن يتأدب بها، فقد ذكر الخطيب (ت:463هـ) في الجامع أنه يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب والعبث والتبذل في المجالس بالسخف، والقهقهة، وكثرة المزاح، وأنه إنما يُستجاز من المزاح يسيره وطريفه الذي لا يخرج عن حدّ الأدب، ويضع من القدر، ويزيل المروءة(15). أما اعتبارها شرطا من شروط عدالة من يقبل حديثه فهذا محل البحث والنظر.
الفرع الأول : اشتراط المروءة في رواة الحديث عند الأصوليين
إن الشافعي(ت:204هـ) أوّل تعرض لشرائط الحديث المقبول في كتابه الرسالة، وقد نصَّ على اشتراط عدالة الرواة، وفصل معناها فذكر الثقة في الدين والصدق في راوي الحديث، والفهم لما يروي حيث لا يغير المعنى، والبراءة من التدليس وعدم مخالفة الثقات، ولم يذكر شيئا عن المروءة أو خصالها (16).
وهذا لا يعارض كلامه الوارد في "الأم"، لأن هذا وارد في عدالة راوي الحديث وذاك وارد في عدالة الشهود، وقد أكَّد الشافعي على التفريق بين أحكام الشهادة وأحكام الرواية -كما سيأتي-.
ولكن الأصوليين -بعد الشافعي- خالفوا مذهبه ونصوا على إدخال المروءة في حد العدالة المشترطة في رواة الحديث، وأقدم من نص على ذلك الباقلاني (ت:403هـ)، وذكرها بعده أبو الحسين البصري(ت:436هـ) وادعي الإجماع على اعتبارها في راوي الحديث؟ وذكرها أيضا الشيرازي (ت:476) في اللمع فتبعه الباجي (ت:474) في إحكام الفصول وابن السمعاني(ت:489) في القواطع، وذكرها الغزالي (ت:505) في المستصفى -كما سبق- وعنه نقلها أكثر من بعده(17).
الفرع الثاني : اشتراط المروءة في رواة الحديث عند المحدثين
وإذا رجعنا إلى كتب علوم الحديث فإنّنا نجد الحاكم النيسابوري (ت:405هـ) -وهو أوّل من صنّف في علوم الحديث كتابا جامعا شاملا-لم يتعرض لذكر المروءة في بحث العدالة وقصر معناها على اجتناب البدع والمعاصي(18).
وأول من ذكرها من المحدثين في "حد العدالة" الخطيب البغدادي (ت:463هـ) وهو تابع للأصوليين في ذلك حيث نقل كلام للباقلاني واعتمده، ولكنه تعرض لها مرة أخرى في "باب ذكر بعض أخبار من استفسر في الجرح فذكر ما لا يسقط العدالة"، وظاهر هذا الصنيع يخالف ما سبق في "حد العدالة"، وقد ساق في الموضع الثاني كلاما طويلا صرح فيه برد الحكم إلى العالم وما يقوى في نفسه قبولا وردا لرواية مرتكب خوارم المروءة، وهو كلام منقول بمعناه عن الباقلاني أيضا(19). وبمقارنة التبويب مع ما ضمنه من كلام يظهر أن الخطيب متردد في اعتبارها.
وبعد الخطيب جاء الحافظ ابن الصلاح(ت:643هـ) الذي أكّد على اشتراط السلامة من خوارم المروءة في عدالة المحدث، وأزال التردد الذي أخذه الخطيب عن الباقلاني، وأوهم كلامه إثبات الإجماع على اشتراطها فقال: «أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته: أن يكون عدلاً ضابطا لما يرويه، وتفصيله: أن يكون مسلماً، بالغا، عاقلا سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظا غير مغفل…» (20).
وتبع ابن الصلاح على ذلك أغلب المحدثين بعده، كما تتابع الأصوليون على ذلك(21)، إلا أفرادا من العلماء، خالفوا في اشتراطها في رواه الحديث وغيرهم كالصنعاني(ت:1182هـ) والشوكاني(ت:1250هـ) ومحمد صديق خان (ت:1307هـ) والطاهر الجزائري(ت:1338هـ).
وقد ردَّ الصنعاني قول من اعتبرها بأن خصالها لا تجتمع إلا في معصوم(22). وضيق الشيخ عبد الرحمن المعلمي (ت:1386هـ) مجال قبول القدح بالمروءة؛ حيث أجاز قبولها في حق من كثرت منه الصغائر دون أن تغلب عليه، فكأنه اعتبر خوارم المروءة مع غيرها قادحة لا بنفسها (23).
وخلاصة القول أن الخطيب كان أوَّل مُحدِّث نصَّ على اعتبار المروءة في رواة الحديث، وهو تابع في ذلك للباقلاني وغيره من الأصوليين كشيخه الشيرازي، ثم زاد ابن الصلاح على ذلك فأكَّد على اشتراطها بكلام يوهم دعوى اتفاق المحدثين، وهو في الواقع رأي واحد منهم تَبِع فيه الأصوليين، والخطيب وإن كان محدثا فإنَّه كثيرا ما يَتَّبع أهل الأصول في نقله للمذاهب وفي اختياراته وترجيحاته. وابن الصلاح كذلك فقيه محدث، وقد أكثر من نقل آراء الفقهاء والأصوليين في مقدمته، وخاصة في مسائل "معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد"(24).
الفرع الثالث : الأدلة على عدم اشتراط المروءة في عدالة الرواة
وعلى فرض وجود اختلاف بين المحدثين في هذه القضية، أو تجويز نصب الخلاف بين الأصوليين والمحدثين فيها ، فهل الصحيح اعتبار المروءة في الرواة أم لا، الذي يترجح عندي أنه لا اعتبار للمروءة في عدالة الرواة لما يأتي :
أولا : أن الأصل عدم اشتراط المروءة
إن الأصل في أخبار الرواة الصادقين قبول روايتهم ، والأدلة الشرعية ليس فيها أكثر من اشتراط العدالة والضبط، فنبقى على هذا الأصل حتى يأتي الدليل المعتبر من نص أو اتفاق على صحة اشتراط المروءة في رواة الأخبار.
فإنْ قيل هذه مصادرة لأن النزاع إنما هو تحقيق معنى العدالة، قيل هي مصادرة على اصطلاحكم الحادث، أما على الاصطلاح المختار واصطلاح الأئمة المتقدمين فهما أمران مفترقان.
ثانيا : بطلان الإجماع على اشتراط المروءة في الرواة
فإن قيل دليل اشتراط المروءة في رواة الحديث هو الإجماع الذي نقله أبو الحسين البصري (ت:436) والآمدي (ت:631) من الأصوليين، وظاهر كلام ابن الصلاح يدل عليه(25)، كان الجواب أن في هذا النقل نظرا، فإنَّ الباقلاني الذي كان أوَّل من تحدَّث عن هذه المسألة من الأصوليين نسب ذلك إلى بعض العلماء ولم يدع إجماعا، حيث قال:«من علمائنا من صار إلى أن ذلك يقدح في الرواية والشهادة »، والخطيب أوَّل من تكلم عنها من المحدثين اكتفى بنسبة اعتبارها إلى "كثير من الناس"(26) وهذا يدل على أن دعوى الإجماع غير صحيحة.
وقد تعقب الزركشي(ت:794) ابنَ الصلاح حين ذكر خوارم المروءة، فقال : فيه أمور أحدها: ذكر الخطيب أن المروءة في الرواية لا يشترطها أحد غير الشافعي، وهو يقدح في نقل المصنف الاتفاق عليه» (27)، وقوله "الشافعي" خطأ قطعا ولعله أراد "الباقلاني" أو "شعبة" فسبقه القلم أو تصحَّفت، ومهما يكن الصواب، فدعوى الإجماع غير مسلَّمة عند الخطيب والزركشي، بل لا يبعد أن يكون ثمة إجماع قديم على عدم اعتبارها بناء على قبول رواية المبتدع الصادق في روايته، إلا ما يروى عن شعبة بن الحجاج من التشدد في هذا الباب(28).
على أن كلام ابن الصلاح ليس صريحا في نقل الاتفاق على اعتبار المروءة، وهو صريح في نقل الاتفاق على اشتراط العدالة والضبط وهذا لا إشكال فيه، وذلك كما لو قيل: اتفق العلماء على اشتراط الاتصال، ويثبت الاتصال بالسماع أو ثبوت اللقاء، لم يكن ذلك نقلا للاتفاق على اشتراط العلم بالسماع أو ثبوت اللقاء.
وأما الشافعي فقد نصَّ على اعتبار المروءة في الشهادة، وليس له نص في اعتبارها في الرواية، وليس في كلامه في الأحاديث والرجال ما يدل عليها، وإنما نقلوا كلامه الوارد في الشهادة وحملوه على عدالة الرواة، وكذلك الإمام مالك رحمه الله(ت:179) إنما نُقل عنه أيضا اعتبارها في الرواية بناء على اعتبارها في الشهادة(29)، ويُمكن أن يستدل لاعتباره المروءة بنهيه عن أخذ العلم عن السفيه المعلن بالسفه وإن كان أروى الناس(30). فالسفيه إن حمل على الفاسق -وهو الظاهر- فلا إشكال فيه(31)، وإن حمل على من اختلت مروءته فهذا يبقى مذهبا لمالك رحمه الله كما هو مذهبه في المبتدع الداعية وليس ذلك بإجماع.
وقد تعرَّض القاضي أبو يعلى الحنبلي (ت:458) لشرائط العدالة ولم يذكر من ضمنها خوارم المروءة، وناقش بعض مسائلها وخرَّجها على قول الإمام أحمد كما هي عادته، ولو كان موافقا للباقلاني لبين ذلك، ولو كان للإمام أحمد فيها نص لنقله(32).
نعم قد نقل عن الإمام قوله :« لا يعجبني أن يكتب الحديث عن معين» يعني يبيع هذه العينة، وقوله : «لا نكتب عن هؤلاء الذين يأخذون الدراهم على الحديث»، ثم بين أبو يعلى أن هذه الأقوال صدرت منه من جهة الورع والاحتياط ؛ لأن بيع العينة ، وأخذ الأجرة على رواية الحديث أمور اجتهادية خلافية، وما ساغ فيه الاجتهاد لم يجز تفسيق فاعله ولا رد حديثه (33).
ثالثا : الفروق بين الرواية على الشهادة
ومن حجج الأصوليين في هذه المسألة قياس الرواية على الشهادة(34)، وقد نقل الأصوليون ما بحثه الفقهاء في باب الشهادة من كتب الفقه إلى باب الرواية من كتب الأصول، وألحقوا بالرواية بالشهادة في كثير من الأحكام، لذلك علّق السيوطي(ت:911) على نص النووي في التقريب حين ذكر خوارم المروءة بقوله :« على ما حُرِّر في الشهادات من كتب الفقه »(35).
ومما يجاب به عن هذا القياس بأنه قياس لأصل على أصل وذلك لا يجوز، وهو أيضا قياسٌ مع الفارق، إذ حقيقتهما مختلفة لاختصاص الشهادة بأمر معين يعني أشخاصا معينين، وعموم الرواية لجميع الخلق في جميع الأعصار والأمصار(36).
وكذلك أحكامهما مختلفة، وقد ذكر الشافعي في الرسالة وغيرها جملة من الفروق في الأحكام هذا تلخيصها (37):
-أن العدل يكون جائز الشهادة في أمور مردُودُها في أمور سواها، كالشهادة التي يجر بها لنفسـه أو ولده أو والده أو يدفع بها ، بخلاف المحدث فيقبل حديثه جرَّ به أو دفع.
-أن الحديث تقبل فيه رواية الرجل الواحد والمرأة الواحدة بخلاف الشهادة لابد فيها من العدد.
-أن الحديث يُقبل فيه حدثني فلان عن فلان، ولا يقبل في الشهادة إلا سمعت ورأيت أو أشهدني.
-أن الأحاديث إذا تعارضت قد يؤخذ ببعضها ويترك البعض، وأما الشهادة فإما أن تقبل أو ترد.
-أن راوي الحديث يشترط فيه الضبط وفهم معاني الحديث ولا يشترط ذلك في الشهادة .
-أن راوي الحديث لا يشترط فيه الحرية والشاهد تشترط فيه الحرية .
-لا يعول على شهادة الفرع مع إمكان سماع الأصل، ويجوز اعتماد رواية الفرع من غير مراجعة شيخه.
رابعا : من قبل رواية المبتدع والمدلس يلزمه عدم اشتراطها
ومن حجج المذهب المختار أنا لا نقبل الجرح بالبدعة إلا من أداه ابتداعه إلى الكفر أو الفسق ، ولو كان داعيةً إلى مذهبه مجاهرا ، ولو روى من الحديث الضعيف ما يؤيد بدعته وروجه؛ ما كانت التهمة والنكارة من غير جهته ، وإذا قبلنا مَن هذا حاله في الرواية؛ فلئن نقبل حديث من كثر مزاحه، ومن يكشف رأسه أو يمشي حافيا من باب أولى.
ومن الحجج أيضا أن المحدثين قبلوا حديث المدلس مع حكمهم بكراهة التدليس (ومنهم من يحرمه)، ولا شك أن الجرح بفعل مكروه شرعا، ومتعلق بالحديث أولى من الجرح بما هو مباح في أصله ولا تعلق له برواية الحديث.
خامسا : لوازم فاسدة
إن لمشترط المروءة في عدالة الرواة عدّة لوازم ينبغي عليها التزامها، وإذا كان اللوازم فاسدة دلَّ ذلك على فساد ملزومها، فإنَّ المروءة كما عُلم تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ فلا تنضبط بحدٍّ يَحدها ولا بأمثلة تُقرِّبها، ويلزم من هذا ألا نقبل الجرح في العدالة إلا من بلديِّ الراوي الذي يعتبر المروءة على اصطلاح أهل بلده!! ويلزم منه تعذر الترجيح بين أقوال الأئمة المتعارضة في الرواة، لأن بعضهم سيكون مجروحا على رأي المدنيين مثلا ثقة على رأي الكوفيين، ويلزم من كل ذلك التشكيك في تجريح الرواة.
سادسا : أي مروءة تشترط في المحدث؟
ومن الأسئلة الواردة على من اعتبر المروءة في عدالة المحدث أيُّ مروءةٍ تشترطْ ؟ فإنها تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، ومن أصرَّ على اعتبارها يقال له أقرب ما يكون منها داخلا في محل الخلاف ما هو منقول عن أهل عصور الرواية من فقهاء ومحدثين وغيرهم، وهذا المنقول لا يُتوقع أن يقول به المتأخرون فضلا عن غيرهم في عدالة الرواة، وهذه بعض الآثار مما صح عن السلف (38) :
-قال الإمام الشافعي :« المروءة أربعة أركان: حسن الخلق والسخاء والتواضع والنسك ». وهذا النص نرى الشافعي يعد هذه الخصال الأربعة من أركان المروءة ؛ وعد من ضمنها السخاء والتواضع وهي معان محببة ليست مشترطة في المحدث أو الشاهد باتفاق العلماء ، والنسك الذي يعني العبادة والمقصود به إذا أطلق في وصف شخص ما هو ما زاد على الواجبات ، وهذا أيضا لم يشترطه أحد من العلماء.
-وقال سلم بن قتيبة :« المروءة الصبر على الرجال ، قيل له: ما الصبر على الرجال فوصف المداراة». وهذا النص فيه حصر للمروءة في أهم خصالها عند ابن قتيبة لأن خلق المداراة وعدم مواجهة الناس بالسوء أو الصبر على أذاهم خلق جامع يدفع إلى أخلاق كثيرة محببة كالعفو والحلم والإحسان والتطاوع ولين القول وقضاء الحوائج ونحوها من غير تمييز بين أحسن إليك أو أساء ، وهذا لا شك من محاسن الأخلاق وأرفعها، لكن من لم يبلغ هذه الرتبة لا يلام ولا يأثم ولا تسقط عدالته.
-ومن تلك الآثار أن إياس بن معاوية سئل عن المروءة فقال :« أما في بلدك وحيث تعرف فالتقوى، وأما حيث لا تعرف فاللباس ». وهنا نقف مع الشطر الثاني من الجواب وهو اللباس ، لأن دخول التقوى في معنى العدالة متفق عليه، وأما اعتبار اللباس أو المظهر في الحكم على الناس فهذا لا يعقل أن يكون معتبرا في الشهود أو رواة الأخبار ، لأن المظاهر ربما دلت على عقل الإنسان ودينه، وربما لم تدل وهو الغالب لأن أعراف الناس في هذا المجال تختلف، وكثيرا ما تكون المظاهر مغررة وخادعة.
-ومنها قول محمد بن سيرين :« ثلاثة ليست من المروءة: الأكل في الأسواق والادهان عند العطار، والنظر في مرآة الحجام». وفي هذا النص تعداد لخصال اعتبرها ابن سيرين وهو تابعي بصري من خوارم المروءة ، وهذه أشياء ربما لا تذم في غير البصرة ، وقد تلاشت بعد العصور المتقدمة ، وما يضر في دين المسلم وعدالته أن يتعطر في محل بيع العطر، أو أن ينظر إلى هيئة شعره ولباسه في مرآة الحجام أو الحلاق ؟ لا شك أن ابن سيرين قصد أن علية القوم وأهل الجاه ينبغي أن يتنزهوا عن مثل ذلك لأنه ينقص من أقدارهم عند العامة ، لا لأنه نقص في دينهم وعدالتهم حيث لا تقبل شهادتهم أو روايتهم.
-وهناك أثر عن بعض التابعين أظنه ما زال معناه معتبرا في عصرنا وهو أن يربح الرجل على صديقه ، فعن أبي قلابة قال:« ليس من المروءة أن يربح الرجل على صديقه »، وهذا في الحقيقة من كمال المروءة لا من واجبها لأن طلب الربح في البيع أمر مشروع ولا شك ولو بعت شيئا لوالدك أو أخيك.
-وقال عمر بن عبد العزيز :« ليس من المروءة استخدام الضيف ». وهذا أيضا من كمال الأخلاق فالضيف يخدم ولا يستخدم ، لكن من أخل بذلك لا يقال له عصيت ولا ترد شهادته ولا أخباره ، ولا يتصور في مثل هذا اختلاف.
فهذه الأثار وغيرها تؤكد على عدم اعتبار المروءة في رواة الحديث لأن معناها واسع جدا ، ومن أدخل مثل هذه الصفات فيها لزمه أن يُفصل نحوا من تفصيل الجصاص والماوردي ؟ كما صنع السخاوي(ت:902) من المتأخرين(39)، لكن ذلك مما يتعذر توثيق نقْله عن الأئمة المتقدمين .
المطلب الثالث : تطبيقات المحدثين
ومن الأمور التي تؤكد ما نبتغي شرحه مراجعة الواقع الحديثي والنظر في تاريخ الرواة المجرحين، هل اعتبر الأئمة فيهم ما يعدِّده الفقهاء من صور انخرام المروءة أم لا ؟ وإن من تطلَّب ذلك في دواوين الجرح والتعديل من غير شك يرجع بخفي حنين، ولن يظفر إلا بأمثلة معدودة تُذكر غالبا لتُرد أو لبيان تعنُّت من اعتبرها وتحامله، وهذا شرح وبيان للأمثلة التي وقفت عليها :
أولا : كثرة الكلام
من الأشياء التي اعتبرت قادحة في المروءة كثرة الكلام ، وقد ذكر العقيلي (ت: 322هـ)في كتابه الضعفاء زاذان أبو عمر الكندي ، واعتمد في تضعيفه على ترك الحكم بن عتيبة له، وتعليله لذلك بأنه كان كثير الكلام(40).
وهذا من تعنّت العقيلي إذ لم يلتفت أحد غيره إلى هذا الجرح، وزاذان هذا قد وثقه ابن معين، وقال:" لا يسأل عن مثله"، ووثقه العجلي وابن سعد والخطيب، وقال ابن عدي:" أحاديثه لا بأس بها إذا روى عنه ثقة ، وقد خرج له مسلم ، ورمز الذهبي في الميزان بـ:"صح" مما يقضي قبول حديثه، وقال ابن حجر في التقريب : صدوق يرسل. وهناك من مال إلى تليينه لكن لغير حجة كثرة الكلام، كابن حبان الذي قال في الثقات: كان يخطئ كثيرا(41).
فإن قيل في هذا النقل دليل أن مذهب العقيلي اعتبار المروءة، قيل : لا يصح استفادة ذلك من مثال واحد واردٍ في مجموع الكبير ككتاب الضعفاء.
ثانيا : كثرة المزاح
وليس المزاح أيضا أمرا محرما، وقد فعله النبي ، فقد قيل يا رسول الله إنك تداعبنا قال إني لا أقول إلا حقا(42)، وقد عدوا الإكثار منه من خوارم المروءة، ويشكل على هذا أن في أئمة الحديث من هو مشهور به كالأعمش والفضل بن دكين، وعثمان بن أبي شيبة وصالح جزرة وابن سيرين، ولم يعد ذلك طعنا فيهم(43).
وقد وُجد من رواه الحديث من طُعن فيه لأجل مزاح فيه، والصحيح أن ذلك لا يقدح فيه، ومن هؤلاء أبو الأشعث أحمد بن المقدام البصري، أحد الثقات لكن أبا داود طعن في مروءته لمزاح فيه، ولما بحثنا عن علة الطعن ونوع المزاح، وجدناهم ذكروا أنه كان بالبصرة مُجَّان يلقون صُرَّة الدراهم في طريق الناس ويرقبونها، فإذا جاء من لحظها وأراد رفعها صاحوا به وخجَّلوه، فأشار أبو الأشعث على بعض الناس بالبصرة أن هيئوا صُرَرَ زجاج كصرر الدراهم، فإذا مررتم بصُررهم فأردتم أخذها وصاحوا بكم؛ فاطرحوا صرر الزجاج التي معكم وخذوا صرر الدراهم التي لهم ففعلوا ذلك، فاعتبر أبو داود ذلك مجونا وخروجا عن المروءة، ورد ابن عدي وابن حجر والذهبي كلام أبي داود فيه لأنه كان ثبتا صادقا (44). ولو قيل إن هذا الذي صنعه من النهي عن المنكر لكان لقائله وجها؛ فيُزاد ذلك في أسباب عدالته بدلا أن يُعدَّ من أسباب جرحه.
ثالثا : البول قائما
ومن التطبيقات المنقولة القدح فيمن رؤي يبول قائما ، قال جرير بن عبد الحميد :" أتيتُ سماك بن حرب فرأيته يبول قائما فرجعت ولم أسأله عن شيء، قلت : قد خرف". وغيره من العلماء لم يلتفتوا إلى هذا القدح ، وعلى رأسهم ابن عدي فقد سبر أحاديثه فوجدها مستقيمة وتتبع أحواله فرآه من أهل الصدق. وثقه الذهبي واعتبره من أوعية العلم المشهورين ، ومنهم من تكلم فيه لاضطراب حديثه ولأنه صار بآخرة يقبل التلقين، ولم يلتفت أحد إلى قضية البول قائما(45).
وزيادة على ذلك فإن جرير بن عبد الحميد قد بَيَّن أنَّه إنما تركه لظنه بأن خَرِف، لا لأجل الطعن في عدالته بترك خصال المروءة، ومما هو معلوم أن الراوي لا يُضعف إذا فعل المعصية مرة واحدة؛ فكيف بما هو مباح أو مكروه إذا فعله مرة واحدة ولا ندري ما عذره في ذلك.
رابعا: لعب الشطرنج
ومن الأشياء التي اعتبرها بعض المحدثين قادحة اللعب بالشطرنج، قال شعبة بن الحجاج:" لقيت ناجية الذي روى عنه أبو إسحاق فرأيته يلعب بالشطرنج فتركته فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه"، وقد دافع عنه الخطيب بأن شعبة بن الحجاج نفسه تراجع عن موقفه منه لما استبان له صدقه في الرواية وسلامته من الكبائر فكتب حديثه بنزول بعد أن تركه (46).
ولعب الشطرنج مختلف فيه، -وهو مكروه لا أكثر-، وقد ترك شعبة هذا الراوي أولا ثم روى عنه، وهذا يدل على أنه إنما تركه من باب الورع أو الهجر له ليرتدع، ولو كان للتهمة في دينه لما كتب حديثه.
وناجية هو ناجية بن كعب، قد قال فيه يحيى بن معين: صالح، وقال أبو حاتم: شيخ، ووثقه العجلي.
خامسا: أخذ الأجرة على الحديث
وأخذ الأجرة على التحديث وعلى التعليم عموما أمر مباح على الصحيح(47)، ويدل على جوازه مطلقا قوله : « إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله»(48)، والترخيص في جَعل القرآن مهرا وغير ذلك.
ومع ذلك فقد كان بعض أئمة الحديث –كالإمام أحمد- ينهون عن الرواية عمن يأخذ أجرا على رواية الحديث، ويقولون :"لا يكتب عنه"(49)، وكان بعض المحدثين يفعل ذلك لاحتياجهم، وهؤلاء أئمة في الحديث لا يقدح فيهم بمثل هذا، وإن كان عندهم مخالفا للمروءة. وقد حُمل كلام أحمد وغيره على طريق الورع؛ لأن أخذ الأجرة على رواية الحديث مما يسوغ فيه الاجتهاد، كما سبق(50). قال ابن الصلاح:« غير أن هذا من حيث العرف خَرم للمروءة والظن يساء بفاعله، إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه »(51). ومع ذلك لم يُترك حديث أحد بهذا السبب، وكل من علمنا أنه جُرّح به فقد رُدَّ جرحه ووُثِّق.
ومن أمثلة من تكلم فيه وقد كان محتاجا :
-علي بن عبد العزيز البغوي المكي، كان الإمام النسائي يبالغ في ذمه؛ لأنه كان يشترط أخذ الأجرة على التحديث، حتى إنه جاءه يوما غريب فقير لم يكن معه إلا قصعته التي يطعم فيها فأخذها منه. وقد نقل عنه الذهبي أن كان يعتذر بأنه محتاج(52).
-الحارث بن أبي أسامة، كان ممن يأخذ الأجرة على التحديث وقد وثقه غير واحد، واعتذر عنه الذهبي في موضع بأنه كان فقيرا كثير البنات. وقال في موضع آخر:« تُكلِّم فيه بلا حجة » وهذا إلغاء للجرح بالمروءة (54).
ولكن توجد نماذج أخرى لمحدثين أخذوا الأجرة من غير حاجة منهم :
-عفان بن مسلم والفضل بن دكين، وهما إمامان فاضلان ، قال أحمد بن حنبل:« شيخان كان الناس يتكلمون فيهما ويذكرونهما، وكنا نلقى من الناس في أمرهما ما الله به عليم...» قال حنبل: يعني بالكلام فيهما لأنهما كانا يأخذان الأجرة من التحديث(53) وهذا يؤكد أن نهي أحمد بن حنبل كان على سبيل الورع لأنه لم يترك هذين الإمامين بل وجد من يلومه على أخذه عنهما ومع ذلك لم يتركهما.
-وهشام بن عمار، وهو إمام مشهور تكلم فيه صالح بن محمد الحافظ بأنه كان يأخذ على الحديث ولا يحدث ما لم يأخذ، وقال الذهبي : «العجب من هذا الإمام مع جلالته كيف فعل هذا، ولم يكن محتاجا ، وله اجتهاده »(55).
وصح ذلك عن كثير من الأئمة ورواة الحديث غير من ذكرنا(56) ولم يُترك واحد منهم لأجل ذلك، وهذا يدل على أن النهي عن أخذ الأجرة أدب من الآداب؛ الداخلة في محاسن الأخلاق والمروءة التي لا تقدح مخالفتها في العدالة.
سادسا : الأكل في السوق
ومن الأسباب التي عدت قادحة في المروءة الأكل في السوء ، وممن ثبت عنهم ذلك الإمام الحافظ علي بن المديني، قال العجلي:« وبات على بن المديني عند عبد الله بن داود الحفري بالخريبة؛ فدخل حانوت بقَّال يتعشى، فقال له عبد الله:" لو صبرت ليلة واحدة أكنت تموت؟ أين الدين؟ أين المروءة؟ ما لك مروءة ولا نبل"»(57). ولا يضر علي بن المديني هذا ولا غيره بعد ثبوت عدالته، ولم يلفت أحد إلى هذا القدح فالرجل إمام من نظراء أحمد بن حنبل وبه تخرج الإمام البخاري رحمهم الله تعالى أجمعين.
سابعا : الشح والبخل
ومن الأوصاف الشح والبخل وهو لاشك أنه خلق ذميم ، وقد وُصف به بعض المحدثين ممن لم يكن في عصور الرواية، وهو الحسين بن عبد الله بن أبي علانة أبو الفرج المقرئ ، وقد وُثِّق مع ذلك، قال الخطيب :« كتبت عنه وكان صدوقا وسماعه صحيحا؛ إلا أنه كان ساقط المروءة شحيحا بخيلا، يفعل أمورا لا تليق بأهل الدين والله يعفو عنا وعنه »(58)، فتأمل كيف زكاه وعدله مع حكمه عليه بسقوط المروءة.
ثامنا : التطفل
ومن الأوصاف الذميمة المتفق عليها التطفل والطفيلي ومن يذهب إلى الولائم من غير دعوة من أهلها، وَرَد الجرح بخلق التطفُّل في ترجمة زكريا بن منظور، حيث نقل عباس الدوري: عن يحيى بن معين أنه لم يكن جيِّد الرأي فيه، وقال:" ليس بشيء، كان طفيليا"، ثم تراجع عن تجريحه وقال:" لا بأس به"، فلما سأله الدوري عن سبب تراجعه قال:" ليس به بأس وإنما كان فيه شيء زعموا أنه كان طفيلياً"(59).
ويمكن أن يقال إن وصفه بالطفيلي كان من أجل التعريف، وليس تفسيرا للجرح عند ابن معين؛ بدليل أنه قرنه بقوله ليس به بأس، وكثيرا ما يطلق ابن معين عبارات من هذا الجنس مما لا يراد به أكثر من التعريف، ففي تاريخ الدوري قال في راو(رقم:697):" ليس بشيء وكان قدريا"، وقال في آخر (رقم:853)"ليس به بأس وكان قدريا"، فقوله "كان قدريا" وصف تعريفي زائد لا يراد به الجرح ولا التعديل. على أن زكريا المذكور قد ضَعَّفه أكثر المحدثين، بل منهم من وهاه، وعللوا ذلك بنكارة روايته لا بكونه طفيليا (60).
تاسعا : ركوب برذون
ومن الجرح المنقول تجريح أحد الرواة بركوبه على برذون وهو حصان تركي ، يقال إن في مشيته اختيالا ، وهذا أمر انفرد به شعبة بن الحجاج، فقد قيل له:« لم تركت حديث فلان قال رأيته يركض على برذون »(61). وهذا المثال يورده دائما العلماء في سياق الجرح المردود وغير المقبول، وعلى فرض القول بأن المروءة معتبرة فهذا دليل على تعنُّت شعبة، لأن الراوي إنما فعل ذلك مرة واحدة .
عاشرا : قلة المروءة
والنموذج الأخير الذي وقفت عليه فيه قدح مجمل بترك المروءة من دون ذكر سببها ، قال الخطيب البغدادي في ترجمة على بن عبد الصمد أبو الحسن الطيالسي :« وكان كثير الحديث قليل المروءة » بعد أن قال:«وكان ثقة»(62)، وهذا يدل على أن الخطيب البغدادي لا يعد القدح في المروءة قدحا في العدالة وإلا لما جمع بين وصفه بقلة المروءة والثقة .
الخاتمة
هذا آخر ما تيسر لي جمعه وتحريره في هذه المسألة، وقد ظهر من خلال هذا البحث النتائج التالية :
أولا: أن المراد بالمروءة -التي محل خلاف ودراسة بين الفقهاء والمحدثين- أخلاق حسنة زائدة على معنى الطاعة الواجبة، وعن المعصية التي تخرج صاحبها عن حد العدالة.
ثانيا : إن مسألة المروءة وإن ذكرت في كتب علوم الحديث؛ فإنها تبقى مجرد بحث نظري تسرب إليها من كتب الفقه؛ بواسطة علماء الأصول المتكلمين وعلى رأسهم الباقلاني.
ثالثا : إن الصواب عدم اعتبار المروءة في رواة الحديث، وأن أول من ذكرها من المحدثين الخطيب البغدادي مع تردد فيها، وبالتالي فليس ثمة إجماع على اعتبارها عندهم كما يوهمه كلام ابن الصلاح.
رابعا : ولا يصح قياس أحكام رواة الحديث على أحكام الشهود في القضاء، والفروق بين البابين كثيرة ، وحتى اعتبار المروءة في الشهود مختلف فيه ، وهو عند الفقهاء أمر نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص.
خامسا : وقد تبين أيضا في الجانب التطبيقي عند المحدثين أنه يَعِزُّ أن يوجد مثال سالم يُمكن أن يعتمد عليه في هذه القضية، ومن قدح بها من المتقدمين فإنه لم يعتمدها قاعدة مطردة، وإنما اعتمدها في مواضع تشدَّد فيها فلم يقبل ذلك منه.
سادسا : ما رجح في هذه الدراسة لا يعني إلغاء خصال المروءة من باب الأخلاق، بل إنها تبقى من الآداب التي يحسن الالتزام بها ، لكن لا يؤاخذ من فرط فيها ولا تسحب منه الكفاءة ولا تسقط عنه العدالة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
1/ لسان العرب لابن منظور (1/154) دار صادر، بيروت بدون .
2 المصباح المنير للفيومي (569) تحقيق عبد العظيم الشناوي ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة الثانية بدون.
3/ المنهاج للنووي مع مغني المحتاج (4/569) دار المعرفة بيروت، ط1-1418، وتفسير القرطبي (13/269) مطبعة دار الكتب المصرية، ط2-1353، فتح المغيث للسخاوي (2/160) مكتبة دار المنهاج ، الرياض، ط1-1426.
4/ الأم للشافعي (7/94-95) دار الكتب العلمية ، بيروت، ط1-1413.
5/ الهداية شرح البداية للمرغناني (5/441) إدارة القرآن والعلوم الإسلامية باكستان، ط1-1417، والقوانين الفقهية لابن حزي (203) بدون، الكافي لابن قدامة (4/527) المكتب الإسلامي بيروت، ط4-1405.
6/ انظر المحلى لابن حزم (9/395) إدارة الطباعة المنيرية القاهرة، ط1-1351 .
7/ المروءة وخوارمها لمشهور حسن آل سلمان (334) دار ابن عفان القاهرة، ط1-1420.
8/ رواه البخاري (رقم:6120) المطبعة السلفية القاهرة ، ط1-1400.
9/ انظر الحاوي للماوردي (17/152) دار الكتب العلمية ، ط1-1414، والمهذب للشيرازي (3/438) دار الكتب العلمية، ط1-1416، والمغني لابن قدامة (12/33) دار الكتاب العربي بيروت بدون.
10/ أحكام القرآن للجصاص (2/237) دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط-1412.
11/ الحاوي للماوردي (17/150-151).
12/ انظر حاشية الدسوقي (4/166) دار إحياء الكتب العربية القاهرة ، بدون.
13/ المستصفى للغزالي (1/294) مؤسسة الرسالة بيروت، ط1-1417.
14/ التلخيص للجويني (2/354) دار البشائر بيروت، ط1-1417.
15/ الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع للخطيب (1/156) مكتبة المعارف الرياض، ط-1403.
16/ الرسالة للشافعي (369-371) دار الفكر بدون.
17/ انظر : المعتمد لأبي الحسين (2/134) دار الكتب العلمية، ط1-1403، اللمع للشيرازي (75) دار الكلم الطيب دمشق، ط1-1416، إحكام الفصول للباجي (1/368) قواطع الأدلة لابن السمعاني (1/345) دار الكتب العلمية بيروت، ط1-1418.
18/ معرفة علوم الحديث للحاكم (53) دار الكتب العلمية بيروت، ط2-1397.
19/ انظر: الكفاية للخطيب (1/272-273) و(1/344-345) دار الهدى مصر، ط1-1423، التلخيص للجويني (2/354).
20/ علوم الحديث لابن الصلاح (104) دار الفكر دمشق، ط-1406.
21/ انظر المنهل الروي لابن جماعة (63) والخلاصة للطيبي (86) والباعث الحثيث لابن كثير (1/280) .
22/ توضيح الأفكار (2/119) دار إحياء التراث العربي، ط1-1366، إرشاد الفحول للشوكاني (52) دار الفكر، حصول المأمول (139-140) دار الفضيلة، توجيه النظر للطاهر الجزائري (1/97) مكتبة المطبوعات الإسلامية حلب، ط1-1416.
23/ الاستبصار في نقد الأخبار للمعلمي (37-38) دار أطلس ، الرياض، ط1-1417.
24/ علوم الحديث لابن الصلاح (105، 106-107، 109-110).
25/ علوم الحديث لابن الصلاح (104) المعتمد لأبي الحسين البصري (2/134) الإحكام للآمدي (1/77).
26/ التلخيص للجويني (2/354) الكفاية للخطيب (1/344-345).
27/ النكت للزركشي (3/325) التقييد والإيضاح للعراقي (136) فتح المغيث للسخاوي (2/159).
28/ محاسن الاصطلاح للبلقيني (288) دار المعارف ، القاهرة 1409.
29/ التقييد والإيضاح للعراقي (137) دار الفكر للطباعة بيروت، ط1401.
30/ المحدث الفاصل للرامهرمزي (403) الضعفاء للعقيلي (1/13) الكفاية للخطيب (116و160).
31/ وقد أفرد الخطيب السفه في الكفاية بباب خاص غير المروءة (1/354).
32/ انظر: العدة لأبي يعلى (3/925-929) ط3-1417 بدون.
33/ العدة لأبي يعلى (3/953-954) وانظر تعقب أبي الخطاب له في التمهيد (3/109) دار المدني جدة،ط1-1406.
34/ انظر: قواطع الأدلة لابن السمعاني (1/345) والتقييد والإيضاح للعراقي (137) والإبهاج لابن السبكي (2/317) دار الكتب العلمية، والبحر المحيط للزركشي (4/274) دار الصفوة الكويت، ط1-1401.
35/ تدريب الراوي للسيوطي (1/300) دار الكتب العلمية .
36/ الفروق للقرافي (1/76) دار الكتب العلمية، ط1-1408.
37/ تنظر في: الرسالة للشافعي (373-391) والأم للشافعي (7/86) (7/145) والبحر المحيط للزركشي (4/429).
38/ انظر جميع هذه الآثار في: السنن الكبرى للبيهقي (10/195) والزهد الكبير للبيهقي (2/100) وحلية الأولياء لأبي نعيم (9/394) والتمهيد لابن عبد البر (23/178) والبداية والنهاية لابن كثير (9/111) وكشف الخفا للعجلوني (2/223) والمروءة وخوارمها لمشهور حسن (35).
39/ فتح المغيث للسخاوي (2/160).
40/ الضعفاء للعقيلي (2/94) دار الكتب العلمية، ط1-1404، وهو في الكفاية (1/346).
41/ تهذيب التهذيب لابن حجر (3/161) دار الفكر بيروت، ط1-1404، والكامل لابن عدي (3/236) ومعرفة الثقات للعجلي (1/366) الميزان للذهبي (2/63) دار الفكر بيروت.
42/ رواه الترمذي (1990) عن أبي هريرة وصححه.
43/ الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع (2/77) حلية الأولياء لأبي نعيم (2/275-276) السير (4/608) و(17/288).
44/ الكفاية للخطيب (1/465) ميزان الاعتدال للذهبي (1/158) الكامل لابن عدي (1/179).
45/ الضعفاء للعقيلي (2/178) الكامل لابن عدي (3/460-460) الكفاية للخطيب (1/344) السير للذهبي (5/248) تهذيب التهذيب لابن حجر (4/204) الميزان للذهبي (2/232).
46/ الكفاية للخطيب (1/345).
47/ انظر المغني لابن قدامة (6/140).
48/ البخاري (5405) عن ابن عباس.
49/ الكفاية للخطيب (1/457) علوم الحديث لابن الصلاح (118).
50/ العدة لأبي يعلى (3/953-954).
51/ علوم الحديث لابن الصلاح (119).
52/ الكفاية للخطيب (1/462) ميزان الاعتدال للذهبي (3/143).
53/تهذيب التهذيب لابن حجر (8/247).
54/ تذكرة الحفاظ للذهبي (2/619-620) ميزان الاعتدال للذهبي (1/442).
55/ تهذيب التهذيب لابن حجر (11/46) سير أعلام النبلاء للذهبي (11/426).
56/ سنن النسائي (رقم 58) الكفاية للخطيب (1/462) تاريخ بغداد للخطيب (12/39) سير أعلام النبلاء للذهبي (16/456).
57/ معرفة الثقات للعجلي (2/157).
58/ تاريخ بغداد للخطيب (8/60).
59/ تاريخ ابن معين رواية الدوري (3/219) و(3/160) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/597).
60/ الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/597) تهذيب التهذيب لابن حجر (3/287) الكامل لابن عدي (3/212) ذكر من اختلف العلماء ونقاد الحديث فيه لابن شاهين (1/55-56).
61/ الكفاية في علم الرواية للخطيب (1/343-344).
62/ تاريخ بغداد للخطيب (12/28).
بحث محكم منشور في مجلة الإنسان والمجتمع (كلية العلوم الإنسانية والمجتمع – جامعة تلمسان) العدد 11 ، ديسمبر 2015.