الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن الله تعالى قد حرم الربا في القرآن الكريم تحريما صريحا لا مجال للشك فيه فقال : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة/275)، ولم يكن في ربا الديون خلاف بين العلماء إلا مع ظهور الشيخ محمد عبده الذي أراد تخصيص الربا ببعض الأنواع دون بعضها الآخر وقد تأثر بكلامه بعض العلماء كالشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله تعالى.
نص كلام الشيخ عبد الوهاب خلاف
ومما ذكره محمد عبده وأقره عليه عبد الوهاب خلاف أن الفوائد التي تدفعها البنوك للمودعين ليست من الربا المحرم لأن النصوص الشرعية لا تشملها بحكم أن هذه المعاملة لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كيفاها على أنها عقد مضاربة بين المودع والبنك، وما يقدمه البنك للمودع من فوائد هو نصيبه من ربح المضاربة وليس فائدة ربوية، فقال عبد الوهاب خلاف في فتوى نشرت في مجلة لواء الإسلام (رجب 1370-أبريل 1950) حول فائدة صندوق التوفير: «وخلاصة هذا أن الإيداع في صندوق التوفير هو من قبيل المضاربة، فالمودعون هم أصحاب المال، ومصلحة البريد هي القائمة بالعمل، والمضاربة عقد شركة بين طرفين على أن يكون المال من جانب والعمل من جانب والربح بينهما، وهو عقد صحيح شرعا، واشتراط الفقهاء لصحة هذا العقد أن لا يكون لأحدهما من الربح نصيب معين اشتراط لا دليل عليه »([1]).
وقال مقال له في (عدد شوال 1370) من مجلة اللواء :« إذا أعطى إنسان ألف جنيه لتاجر أو مقاول ليعمل بها في تجارته أو أعماله على أن يتجر بها ويعمل فيها ويعطيه كل سنة خمسين جنيها: أرى أن هذه مضاربة وشركة بين اثنين، فأحدهما شريك بماله والآخر شريك بعمله أو بعمله وماله، والربح الذي يربحه التاجر أو المقاول هو ربح المال والعمل معا، والخمسون جنيها التي يأخذها صاحب المال هي من ربح ماله، وليس في أخذها ظلم للتاجر أو المقاول، بل هو شركة له في نماء ربحه بالمال والعمل معا»([2]).
فتوى عبد الوهاب خلاف لا تنطبق على فائدة البنوك
وهذا المتحدث الذي نقل عن عبد الوهاب خلاف إباحة ربا البنوك لم يكن دقيقا في نقله، لأن كلام عبد الوهاب خلاف كما نقلته في الموضعين لا ينطبق على واقع البنوك، بل هي فتوى متعلقة بتعامل أفراد فيما بينهم أو خصوص التعامل مع ما يعرف بصندوق التوفير والاحتياط، حيث كيَّف التعامل على أنه مضاربة الربح فيها محدد مقدما، وهذه معاملة ربوية سيأتي الرد على شبهات من أجازها.
والتعامل مع البنك لا تنطبق عليه صورة المضاربة، لأن البنك لا يقوم بأعمال استثمارية؛ ولكنه وسيط بين أرباب الأموال والمقترضين؛ بحيث يأخذ من هؤلاء المقترضين ربا يفوق الربا الذي يقدمه للمودعين، وهؤلاء المقترضين فيهم المستثمر الذي لا ندري هل سيربح أو سيخسر في استثماره، وفيهم من يقترض قرضا استهلاكيا لبناء مسكن أو شراء سيارة أو غير ذلك من الحاجات.
ولو فرضنا أن البنك سيكون وسيطا بين رب مال معين ومستثمر معين، فإنه لا يكون له حق في ربح المضاربة -ولو كان الربح مشاعا-، لأن الربح هو ربح المال والعمل -كما قال عبد الوهاب خلاف- وهو لا مال له ولا عمل.
وإذا كان ما يأخذه البنك من المقترضين من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، فإن الفائدة التي يأخذها المودع جزء من ذلك الظلم.
تحريم الربا على الأغنياء والفقراء
وقول القائل :«لأن الربا الذي حرمه الله كان يستعمله الأغنياء للتكسب من الفقراء فيظلمونهم بذلك, أما اليوم فالفائدة التي تعطيها البنوك الغنية للفقراء فيها إعانة لهم»، قول لا قيمة له فإن الله تعالى حرم الربا لأنه ظلم وأخذ مال بغير حق، كما قال سبحانه: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة/279) فإذا كان البنك يأخذ الربا بغير حق فهو ظالم سواء كان المأخوذ منه غنيا أو فقيرا، والمال الذي يأخذه حرام؛ ولا ينفعه أن يتصدق ببعضه على المودعين سواء كانوا فقراء أو أغنياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ) (رواه مسلم).
ومن مقتضى هذا التعليل العليل أننا إذا فرضنا أن فقيرا أقرض مالا لغني بالفائدة؛ فالفائدة ستكون حلالا له لمجرد كونه فقيرا، وكذا لو فرضنا أنَّ غنيا أقرض مالا لغني مثله لأن دافع الربا ليس بفقير، فكأن الله تعالى إنما حرم الظلم على الأغنياء -دون الفقراء- إذا ظلموا الفقراء لا الأغنياء، وهذا كلام لا يقوله عاقل فضلا عن عالم فقيه.
الرد على فتوى عبد الوهاب خلاف
خلاصة ما ذهب إليه عبد الوهاب خلاف إسقاط أحد شروط المضاربة التي ذكر الفقهاء؛ وهو أن يكون الربح بين العامل وصاحب رأس المال معلوما بالنسبة، كالنصف والثلث والربع، وزعم أنه شرط لا دليل عليه؛ فأجاز أن يعطى رب المال ربحا معينا، وزعمه هذا فيه نظر فقد قال ابن المنذر:«أجمع كل من نحفظ عنه على إبطال القراض إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة»، والإجماع حجة شرعية قد تكون أقوى في الدلالة مما يستنبط من الكتاب والسنة.
على أن القرآن والسنة قد دلا على تحريم الظلم والغرر في البيوع والشركات، ومن جوَّز أن يُشترط لرب المال ربح معين غير مشاع فقد أجاز الغرر والظلم، لأنَّ الربح قد لا يكون إلا ذلك القدر المشترط وذلك ظلم للعامل الذي لن ينال شيئا، كما قد يفوق الربح المحصل عليه المقدار المشترط لصاحب المال بأضعاف كثيرة وذلك يضر به.
وإذا كان الربح مشترطا للعامل ففيه المفاسد السابقة إضافة إلى احتمال الخسارة التي لا يستحق فيها العامل شيئا، وإذا حُدِّدت الفائدة مسبقا وأخذها؛ فإنه يكون أخذ من مال صاحبه ما لا يستحقه.
وهذا يُظهر فساد قول عبد الوهاب خلاف في مقاله :"فهو تعامل نافع للجانبين وليس فيه ظلم لأحدهما ولا لأحد من الناس".
ومما استند إليه في إسقاط هذا الشرط من المضاربة قوله :" إن الفقهاء نصوا على أن المضاربة إذا فسدت لفقد شرط من شروطها صار العامل بمنزلة أجير لرب المال، وصار ما يأخذه من الربح بمنزلة أجرة، فليكن هذا، وسيان أن يكون مضاربة أو يكون إجارة ؛ فهذا تعامل صحيح ".
والجواب عن هذا :
-أن جمهور الفقهاء نصوا على انقلابها إجارة في حالة فسادها لاختلال شرط من شروطها، ومن مقتضى الفساد توقف التعامل ورد المال كله إلى صاحبه بربحه وخسارته، والعامل له أجرة مثله على ما مضى من عمله، وليس معناه أن يستمر التعامل بينهما على ذلك.
-أن الإجارة تختلف عن المضاربة في كثير من الأحكام، منها أن المضارب يخسر والأجير لا يخسر، فقول عبد الوهاب خلاف:"إنهما سيان" لا وجه له ولا معنى.
-إن الفقهاء إنما نصوا أن العامل يأخذ أجرة المثل حتى لا يضيع جهده بلا مقابل، وهذه الصورة تختلف عن صورة أخذ صاحب المال للأجر معين التي هي محل البحث في صدر مقال عبد الوهاب، وإن اشتراط المضارب لأجرة مقابل المال هو عين الربا وهو قرض وإن سماه صاحبه قِراضا.
تراجع عبد الوهاب خلاف عن فتواه
ومما ينبغي أن يشار إليه في الختام أن الشيخ عبد الوهاب خلاف قد رجع عن هذا الرأي بعد ما تبين له الحق، وممن نقل عنه ذلك الشيخ محمد صبري عابدين([3]) حيث قال :« وكان له رأي خاص في بعض أبحاث الربا، ولكنه بعد أن استمع إلى ما قاله الإخوان من علماء الندوة رجع إلى رأيهم»([4]). ونقل الشيخ سيد سابق أن تراجع لما تبينت حقيقة تعامل البنوك وأنها لا تنطبق على المضاربة الشرعية التي تحدث عنها الفقهاء.
وأظن أن هذا القدر كاف في الرد على هذا المفتي في خصوص ما أورد في نص السؤال، والله تعالى هو الهادي على سبيل الرشاد والحمد لله رب العالمين.
[1]/ نقلا عن الربا والقضايا المعاصرة دراسات للفيف من كبار العلماء (ص:9) هدية مجلة الأزهر 1410.
[2]/ المصدر السابق (ص:22).
[3]/ عالم فلسطيني ولد في القدس 1903 وتوفي في القاهرة سنة 1961 .
[4]/ كشف شبهات من زعم حل أرباح القروض المصرفية ولهبي سليمان غاوجي (36).