حكم المنتحر وواجب الأحياء تجاهه
عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ - قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» رواه مسلم
قد يضع بعض الناس حدا لحياته ويستعجل موته لسبب أو لآخر، وحكمه عند باريه بحسب أعماله وما وقر في قلبه، هو بالنسبة إلينا من أصحاب الكبائر المستحقين للوعيد الشديد، الذين إن عاقبهم الله تعالى فبعدله وإن عفا عنهم فبفضله سبحانه، وله حق على المسلمين أن يصلوا عليه ويستغفروا له، وذلك من فروض الكفايات كما هو معلوم، وينبغي على أهله وأقاربه وأصحابه ومعارفه أن يستكثروا له من الدعاء بالرحمة، ومن شاء منهم أن يهب له من ثواب عمله صدقة أو غيرها فليفعل، وأصحاب الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحوج إلى الرحمة والإحسان من الأحياء من غيرهم.
وما نص عليه بعض الفقهاء من ترك أهل الفضل للصلاة على قاتل نفسه وغيره من المشتهرين بالكبائر-استدلالا بترك النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة على من قتل نفسه-؛ ليس من باب عقوبة الميت ولكن هو من باب الزجر للناس الأحياء حتى ينتهوا عن تلك المعاصي، وتعظم في نفوسهم... ودعاء النبي صلى عليه وسلم في الحديث أعلاه للمنتحر بكمال المغفرة لجميع أعضائه؛ فيه تأكيد لما ذكر من مقصد ترك الصلاة، كما أن فيه تأكيد لعقيدة أهل السنة في أصحاب الكبائر، من أنه مستحق للوعيد يخاف عليه ولا يجزم بالحكم عليه بدخول النار فضلا عن الخلود فيها، وهو في المشيئة المنصوصة في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48] مشيئة مقيدة بحكمة الله تعالى وعدله.