طباعة
الأربعاء 19 محرم 1433

هكذا تنشأ البدع

كتبه 
قيم الموضوع
(3 أصوات)

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه..

 

من الأسئلة التي كانت تخطر لي باستمرار السؤال التالي: بم يفكر المبتدع قبل أن ينشئ بدعة؟ أو على الأصح: كيف يفكر المبتدع لينشئ بدعة؟ وكان لا بد من نص يقطع الظنون، فظفرت به عند رجل ذهب أبعد من البدعة بكثير، وإن كان كلامه أصدق تصوير لمقدماتها، إنه الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي، في سيرته الذاتية: سيرة حياتي(1-106/107) وذلك في سياق حديثه عن زيارته لإيطاليا والصدمة الحضارية التي هزته عزا عنيفا على حسب تعبيره، فيذكر أنه صادفت زيارته موسم الموسيقى المقدسة الدينية، وأنه دأب على حضور تلك الاحتفالات، ويسرد طويلا أسماء السمفونيات التي استمع إليها ومؤلفيها إلى أن يقول:

 

هكذا تنشأ البدع

 

 

«وعقب سماعي لهذه الموسيقى الدينية كنت أسائل نفسي: ما أروع هذه الموسيقى، ولماذا لم يكن للإسلام موسيقى من هذا الطراز؟ لماذا اقتصرنا في هذا الباب على تجويد القرآن؟ وهو يناظر نوعا من موسيقى الأصوات غير المصحوبة بنغمات الآلات، صحيح أن الصوفية المسلمين وبخاصة الطريقة المولوية قد عنوا بالموسيقى، وجعلوا منها مصاحبا مهما في حلقات الذكر، لكنهم لم يستخدموا في العزف غير الناي، والصنج والطبل، وهي آلات أولية لا تكفي لتأليفٍ موسيقيٍ فنيٍ، وتلك بداية، ولكنها لم تستمر، وهي بداية تشبه بداية موسيقى الكنيسة المسيحية، فقد بدأت بالإنشاد بواسطة الأصوات الإنسانية، لكنها أدخلت منذ القرن الثامن عشر الأورغن في أول الأمر كوسيلة لتسهيل تعلم الأناشيد في الأديرة، ثم صار يستخدم في طقوس العبادات للتناغم مع الأصوات الإنسانية، وابتداء من القرن الرابع عشر صاحبت الموسيقى صلوات القداس، واستمر التطور في اتجاه المزيد من الآلات في موسيقى الكنيسة، حتى كثرت الآلات ذوات الأقواس à archet وآلات النفخ والريح، وبلغ هذا التطور أوجه في القرن الثامن عشر على يد يوهان سبستيان باخ j.s.bach ، وواصله هايدن وليشت وبروكنر bruckner، لكن السبب في عدم ظهور الموسيقى الدينية عند الصوفية المسلمين هو نفس السبب الذي جعل الموسيقى الدنيوية في الدول الإسلامية أولية، أعني عدم ظهور عبقري في الموسيقى في العالم الإسلامي، فالحال في الموسيقى كالحال في الفلسفة الإسلامية: نضوب في الإبداع».

 

     نقف مع هذا النص وقفة تشعرنا بأهم آليات إنتاج البدعة في ذهن المبتدع:

 

1-الإحساس بالنقص: لماذا لا نملك موسيقى إسلامية، ويعتبر هذا السؤال قفزا على سؤال سابق، بل مخاتلة خبيثة له لتجنب الإجابة عنه: لماذا لم يشرع الإسلام الموسيقى، فإذا نظرنا في الجواب الشرعي عن هذه المسألة لم تعد المسألة نقصا يطلب تكميله، بل هي في الإسلام باب مراعى له حكمه وتعليله وبديله. والله تعالى يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)، ويقول صلى الله عليه وسلم: ما بقي شيء يقرب من الجنة  ويباعد من النار إلى بين لكم.

 

2-مضاهاة أهل الشرك: وكأن مسألة التشريع وتأسيس العناصر الدينية والحضارية بشكل عام يخضع لشهوات المشابهة، ولمنطق المرآة العاكسة، فما دام أن النصارى يغنون ويرقصون في كنائسهم، فمشابهتهم ومضاهاتهم حتم لازم، والله تعالى يقول: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل)، وفي الحديث الصحيح: لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.

 

3-تأسيس البدعة بمشابهتها بأصل مشروع، ولو كان التشبيه في غاية السخافة لعظم الفارق، فيزعم صاحب الكلام أن تجويد القرآن لا يعدو أن يكون صورة من صور الموسيقى في شكلها الابتدائي الأولي، ولازمه على فرض صحة ما قال أن الله تعالى قد رضي لكتابه بالدون من درجات الموسيقى، وهذا الأصل هو المدخل على سفهاء الأحلام لتغريرهم وخداعهم وإيهامهم بأن البدعة لا تعدوا أن تكون صورة من صور الأصل المشروع، فلا داعي للتحجير والتحريج. وما أقرب هذا مما قاله أبو إسحاق الشاطبي حين عرف البدعة بأنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية.

 

4-تحول الوسائل إلى مقاصد في أذهان المبتدعة، وتأمل ذلك في تأريخه لدخول الآلات الموسيقية في أعمال القداس من أجل التدريب على الغناء أو الإنشاد ابتداء إلى أن تتحول الآلة بل نوع الآلة أو: ماركتها ! إلى طقس وشعيرة دينية.

 

    وإني لأعلم أن كل ما استنتجناه من هذا النص في مقدمات الابتداع وآلياته لا تعدو أن تكون كلاما مكرورا مما أصل له أهل العلم، وعلى رأسهم صاحب الاعتصام، ولكن النتيجة التي تهمني في هذا السياق، وأحببت أن أشارك فيها إخواني، هي أن البدعة لا تزال هي البدعة، والفكرة لم تراوح هيئتها الأولى، على اختلاف الأشكال والألوان والأجناس والبلدان والأديان، فالله المستعان، وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.

 

 

تم قراءة المقال 3959 مرة