الاثنين 24 ذو الحجة 1442

الغلو في الدين...بذوره وثماره

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

الغلو في الدين...بذوره وثماره

الغلو عموما هو الخروج عن الاعتدال والإفراط في الشيء ومجاوزة الحد، أما الغلو في الدين فهو مجاوزة ما حده الله وشرعه، وهو عكس التفريط فيه، سواء في العقائد أو العبادات أو المعاملات.. الخ، وهو سلوك مذموم وخلق مكروه وتصرف مُشين، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ" رواه النسائي وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني.
وما أعنيه في هذه السطور هو غلو بعض المسلمين المتحمسين عند التعامل مع المخالفين للدين، خصوصا من غير المسلمين، ويبرز ذلك بوضوح في إنكار المنكر وردود الأفعال المغالية لأولئك المتحمسين تجاه كل من يعادي دعوتهم أو يعرض عنها، بما فيهم من لم تصله على الوجه الذي تقام به الحجة، ولا يسع المقام لسرد كل ما جاء في شرعنا من شروط التعامل مع المخالفين، التي ترفض وتنهى عن الغلو بأشكاله كافة، وما أريد بيانه وإجلاءه هو النتائج الوخيمة للغلو في هذا الشأن، فباكورة حصاده المر هو تشويه صورة المسلمين ونفور الآخرين منهم ومن دينهم، وقد اشتهرت بين الناس، خصوصا الغربيين المقولة الإنجيلية التي تُنسب للمسيح: "من ثمارهم تعرفونهم".
زُرع هذا النوع من الغلو في الدين في أرض الإسلام، فأينعت ثماره المسمومة في كل زاوية من زواياه، حصاد مُر يَعب منه المسلمون عبا، وغلال علقم تتجرعها الأمة لحد التخمة، ومن حق الواحد منا أن يتساءل عن من كان وراء هذا الزرع الفاسد الكاسد؟ ومن ألقى ببذرته في التربة؟ ومن سقاها ورعاها وتعاهدها حتى أتت أكلها؟ ثم ترك أرضها مشاعا يقطف من ثمارها الخبيثة كل غاد ورائح؟
كثيرون ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة، وأنا واحد منهم، سيتبرعون بالقول: إنهم الماكرون من اليهود الصهاينة والصليبين النصارى والشيوعيين الملاحدة والعلمانيين اللادينيين....، أي بالمختصر المفيد، كل عدو للإسلام والمسلمين، ولا يُنكر هذه المُسَلَمة أو يجحد هذه البديهية إلا جاهل غارق في جهالته أو مـتآمر يريد إبعاد التهمة عن حزبه وعصابته.
لكن أليس هذا نوعا من تعليق الأوزار والموبقات على غيرنا؟ أليس هذا مخرجا بل مهربا للتنصل من مسؤولياتنا، كأن ما يحدث لنا هو مجرد مكيدة خارجية من بدايتها إلى منتهاها لا نتحمل فيها سببا ولا علة البتة؟
إن أكثر المسلمين لا يريدون إطلاقا تحمل أدنى مسؤولية عن مصائبهم، وينبري بعضهم لمعاداة الغربيين كلهم لتبنيهم تجاهنا "الإسلاموفوبيا" نهجا ومنهجا، ويعتقد أن ذلك المنهج الفكري نابع عن حقد دفين وكره قديم للحق والخير، وأن الغرب لن يرضى عنا ما لم نتبع ملته، وهي في الحقيقة كلمة حق أُريد بها باطل، فنحن لا يخفى علينا العداء السرمدي بين الحق والباطل، والصراع الأبدي بين الخير والشر، لكن أخشى أن يكون هذا المنطق الذي تجاوز مداه قد بات آلية من آليات إلقاء إخفاقاتنا على الأخر وعلى الغرب بتنوعاته الإيديولوجية كافة.
ونحن إذ نتبنى هذا النمط من التأويل الحدي المفرط لفهم أسباب الغلو المقيت وتبعاته المشينة، نقع في غلو أخر دون أن نشعر، فإذا كان التعريف الذي أرتضيه للغلو هو كل ما تجاوز الكتاب والسنة، فإن التفسير الذي يؤمن بالمؤامرة سببا وحيدا فريدا لحالنا المزرية، هو غلو سافر من حيث إنه يخالف نصوص الإسلام، فالقرآن الكريم يجمع في تعليل مصائبنا بين المؤامرة الخارجية والمسؤولية الداخلية، فمثلا من بين النصوص التي تؤكد على تآمر أهل الباطل على الإسلام والمسلمين قول الله تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ الأنفال: 30، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ الطارق: 15، وقوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ نوح: 22، وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ إبراهيم: 46.
وفي المقابل فإن النصوص التي تُحمل المؤمنين مسؤولية رزاياهم كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ آل عمران: 165، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ الشورى: 30 ... الخ.
ولا يفيدنا الإنكار، وقد سقط بعض الصحابة على جلالة قدرهم بسبب اجتهاد خاطئ أو غفلة في بعض الغلو، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم بالمرصاد يعلم ويرشد ويبين، ومن الشواهد على ذلك ما رواه الشيخان عن أبي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الغَدَاةِ، مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ المَرِيضَ وَالكَبِيرَ وَذَا الحَاجَةِ»، فغلو صحابي في الصلاة، وليس في تكفير أو سفك دم حرام، كان سببا في نفور صحابي مثله، فما بالك بالغلو الذي يرتكبه جاهل ضد معاد أو محايد تجاه الإسلام والمسلمين بأنواع الإيذاء الشديدة وأشكال الانتهاك الوبيلة!؟
"إن منكم منفرين" نعم! هذه حقيقة، و"إنا منا غلاة" وهذه حقيقة أخرى، والحقيقة الثانية سبب في الحقيقة الأولى، وسنذكر بعد حين أمثلة واقعية لكليهما، وهي تكشف أن بعض بذور الانحراف زرعناها بأناملنا وسقيناها بسواعدنا بدوافع عديدة وحجج شتى، والغلو في الدين درجات ومستويات، فقد يكون تفجيرا يحصد الآلاف من الأبرياء، أو ذبحا مُصَورا لمخالف في الرأي على قارعة الطريق، كما قد يكون نظرة شزر أو عُبوس وجه أو حتى مجرد إعراض عن مصافحة ورد سلام... ومهما كان مستوى التعبير عن الغلو فإن حصاده المر هو تنفير الآخر عن الدين وتشويه سمعته بالكلية وفي أقل الأحوال الإساءة إلى صاحبه نفسه.
وقد يبدأ الغلو صغيرا محتقرا ثم يعظم ويستفحل حتى يخرج عن سيطرة الدول ذات البأس، وأجد نفسي مجبرا على ذكر بعض الأمثلة الواقعية الكاشفة البعيدة عن التنظير، فمثلا قبل أكثر من ربع قرن كنت أمشي في شارع من شوارع مدينة الزرقاء بالأردن، مع أحد الشباب المتدين على الأقل شكليا فمرت بنا إحدى الفتيات المتبرجات فبصق في وجهها، لقد كان موقفا محرجا جدا لي ولتلك الفتاة التي انسحبت هي فزعا مما لاقت، وانسحبت أنا جزعا من المكان مما شاهدت، وكنت لما التحقت قبلها بالدراسة في قسم الإعلام بجامعة اليرموك الأردنية، صادفت أحد الشباب الجدد المتحمسين والغيورين على عفة المرأة المسلمة، كان هذا الطالب الجديد يتف كلما رأى طالبة غير محتشمة ممن لا ترتدي حجابا شرعيا، فنصحه أحد الطلاب الذين سبقوه إلى تلك الجامعة بسنين أن ينتهي عن فعله بقوله: "توقف عن التف لأنه سينشف لعابك قبل أن ينتهي التبرج في الجامعة"!!.
وليس جهل واستعجال ذاك الشابين المذكورين وحدهما ما أثار غلوها، فقد يزيد إلى "الخلطة" نفاذ الصبر وقصر الرؤية والعجز عن تصور المآلات، وفي هذا الصدد أتذكر قصة رواها لي صديق طبيب ـ رحمه الله ـ فقد حدثه أحد الشباب أنه كان يتردد على أحد الدعاة إلى الله فيعلمهم ويوجهم إلى سبل الدعوة بالرفق والحلم والحكمة، وكانوا يخرجون إلى الدعوة والإرشاد في بعض الأماكن والشوارع، وكانوا قد وعظوا أحد المدمنين على الخمر ودعوه إلى التوبة فاستجاب لهم وحسنت سيرته فانضم إلى جماعتهم، وبعد سنوات تغيرت أحوال البلاد بسبب التضييق الأمني وصلف السلطة في مواجهة أولئك الشباب من طلبة العلم والدعاة العاملين، فبدأت بوادر التزمت والتشدد تظهر على بعضهم كردة فعل عن ذلك السلوك العدواني السلطوي الأهوج والماكر، حتى إن ذلك الذي كان مدمنا على الخمر قبل أعوام اقترح على زملائه تفجير حانة للخمور، فنظر إليه الداعية بأسف وزجره قائلا له: "لو كنا سرنا في طريق التفجير بدل الدعوة الحكيمة قبل سنين لكنت أنت أول ضحايا ذلك التفجير، إذ كنت حينها أحد رواد تلك الحانة التي تروم تفجيرها اليوم".
وفي هذا الصدد أسرد واقعة حدثت لي شخصيا بشيء من التفصيل لأنها معبرة عن مفاهيم الغلو الخسيسة، فقد تعرفنا أنا وبعض الخيّرين على أحد الشباب الأشقياء من خريجي السجون، فاتفقنا على إعادة تأهيله فمنحناه مالا وفيرا لإسكانه وتزويجه والنفقة عليه، وفعلنا معه ما لم يفعله أبواه... وكان عند بدايته يجلس عندنا لنعلمه الشهادتين وعدد ركعات الصلوات الخمس وما شابهها من المسائل، وبعد سنتين اختلط بدعاة التكفير والتشدد والغلو، فدخلت قاموس رأسه لفظة الإرجاء يذم بها طلاب العلم الشرعي المعتدلين، وكلمات علماء البلاط والسلطان يشتم بها سادة العلماء ابن باز وابن عثيمين وابن جبرين وجابرا الجزائري ـ رحمهم الله جميعا أحياءا وأمواتاـ
ولما تجاوز كل الحدود نبهناه ليفيق من شر سبيله ويراجع فساد قاموسه وحذرناه من رفقة السوء، فما كان منه إلا أن ارتد إلى طبيعته قبل التزامه، فخرجت من أعماقه خصال "البلطجة" القديمة المعبرة عن معدنه الأصيل، فهدد وتوعد، وأرعد وأزبد... وكاد يفتك بنا لولا لطف الله، وما أصدق مقولة دمتري مندليف الحكيمة: "إن الناس معادن لابد أن تقابل في حياتك أنواعا صدئة".
وما أجمل قول الشاعر:
فيا عجباً لمن ربيت طفـلاً *** ألقـــــمه بأطراف البنان
أعلمه الرماية كـــــل يومٍ *** فلما اشتد ساعده رماني
أعلمـــــه الفتوة كل حـينٍ*** فلما طر شاربه جـــــفاني
وكم علمته نظم القـــــوافي*** فلما قال قافية هجــــــــاني
وفي قصة مختلفة بطلها أحد العائدين من البوسنة والهرسك،  كنت أمشي معه في شارع من شوارع ركن الدين بدمشق، فمررنا بإحدى العمارات السكنية، فخرجت شابة شقراء ترتدي سروالا ضيقا من نوع "الجنز"،  كانت شديدة التبرج، لم أملك إلا أن حوقلت، فقاطعني ذلك الشاب وقال: "والله لو كان عندي عصا لأشبعتها ضربا" فقلت له: "إنك تعلم أن حق استعمال العصا هو للحاكم، هو من يملك وحده استخدامها، أما نحن فليس لنا إلا الكلمة الطيبة"، فقاطعني مستغربا مستعجبا قائلا: "الحاكم!؟، أي حاكم!؟ إن حاكمهم هو أول من يستحق الـتأديب بالعصا"، وعندها أسرعت الخطى خوفا من أن يسمعنا "الشّبيحة" الخفافيش فتكون نهايتنا في جُب الأسود!!.
وفي موقف مغاير أقرب إلى "التراجيدية الكوميدية" كانت ثمة جماعة من المحسوبين على الملتزمين، على الأقل في أشكالهم، يمتطون أشبه بشاحنة صغيرة، كان عددهم يتجاوز الثلاثين، كانوا راكبين بل مكدسين في الخلف في وضعية خطرة تكاد تودي بحياة بعضهم عند أول منعطف أو توقف مفاجئ، كانوا في طريقهم إلى أحد التجمعات الدينية، فأوقف شرطي السائق وأراد التحقق من رخصته ووثائقه، فتحدث إليه بلطف وشرح له خطورة مخالفة القانون في وضعية الركاب وحملهم بهذا العدد خلف الشاحنة، ولما بدأ يتكلم عن قانون المرور، قفز الراكبون من المركبة، وتالله لقد انتهر أشقاهم الشرطي وقال له: "نحن لا نعترف بقانون مرور الطواغيت، نحن لا نؤمن إلا بحكم الله وقوانينه"!!! ولما رأى الشرطي أعدادهم الغفيرة خشي على نفسه من البطش فانسل من المكان، واستمروا هم في طريقهم مكبرين وفرحين بانتصارهم في غزوتهم ضد قانون المرور الطاغوتي!!!.
وأقبح الغلو في الدين ما تجاوز شرره مكان وقوعه، وانتشار خبره في الآفاق، وتحوله إلى حدث عالمي تتناقله وسائل الإعلام غير المسلمة وتلوكه الألسنة المعادية والمحايدة فتضيف إليه الصور والفيديوهات والتعليقات فيمسي حدثا مهولا لا تخطئه عين ولا أذن، وشيئا فشيئا تُصِيرُه التحليلات الصحفية والسياسية والأكاديمية وصمة عار ولطخة شنار تاريخية واجتماعية وثقافية وحضارية وفكرية على جبين الإسلام والمسلمين لا تمحوها السنون ولا القرون، فأنباء المسلمين التي تنقلها الفضائيات الغربية والصحف والجرائد الورقية والالكترونية وصور الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي غارقة في الدم إلى أذانها، ورائحة الجثث المحترقة تزكم أنوفهم... وفي بعض الأحايين تدق أبوابهم ضربات استعراضية خفيفة تُعد من قبيل اللهو واللعب أمام الإبادات الجماعية التي تحدث عندنا، تهزهم تلك الضربات هزا، وتزيدها وسائل إعلامهم استعراضا وتهويلا فلا ينصرفون عنها للنوم إلا وقد حُشيت قلوبهم وعقولهم غيضا وبغضا وكرها وحقدا على الإسلام والمسلمين، ومرة بعد مرة تُقدم لهم الجرعة اليومية "للإسلاموفوبيا" في مسلسل الحشو الطويل، ولا يملك الإسلام الوسطي والمسلمون المعتدلون أدنى فرصة لعرض بضاعتهم على الوجه الذي يرضي الله ثم يرضيهم.
في بحر هذا الأسبوع كنت أشاهد على قناة ناشيونال جيوكرافيك National Geographic برنامجا عن السجون الأمريكية، انتقلت حلقة هذا الأسبوع إلى ولاية ألاسكا النائية بالقطب الشمالي، هناك بعيدا جدا عن المدنية وسط البرد القارص والجليد، أمسك رجال الأمن بمراهق متهم بالاعتداء على جار له، فقال له الشرطي المكلف بتفتيشه بخفة ظل وسخرية مداعبا: "دعني أرى إن كنت تُخفي مخدرات أو مسدسا أو حتى "ابن لادن صغير" في جيبك"!!!
نعم، هذا ما قاله ذلك الشرطي بالصوت والصورة، فيبدو أن أخبار ابن لادن وصلت إلى ألاسكا والى القطب الشمالي، وأصبحت سمعته مقرونة بالسلاح والتهديد والخطر...، كأن هذا العالم الغربي لا يعرف من الإسلام والمسلمين إلا هذا النموذج، وإذا كان لا يصل إلى الغرب إلا أخبار القتل والدمار والتخريب والتكفير والتفجير والقتل والدم والأشلاء والتخلف فليت شعري كيف نريد من هذا الغرب، على الأقل رجل الشارع البسيط، أن ينصفنا ويعدل في الحكم على ديننا وعلينا، فضلا على أن يصادقنا أو يحبنا !؟
وقبل أكثر من عقدين اشتطت مجموعات من الشباب الإسلامي المتهور التي سارت على ذات المنوال في بلد مسلم، فرفعت السلاح في وجه الناس زاعمة الجهاد في سبيل الله، فقُتل الآلاف وخُربت البلاد وأُعيدت الصحوة المباركة إلى زمن القرون الوسطى، فحوصرت الدعوة الوسطية وحوربت السنة فذهب الحابل بالنابل... وانتهت تلك المغامرة بأن أعلن أولئك الشباب المتهور توبته عن "جهاده" فسموا أنفسهم بـ "التائبين" العائدين، لكن، كما يقال: "بعد خراب مالطة"، وعلى كل حال أن تصل متأخرا خير من ألَّا تصل أبدا.
وفي دولة أخرى كبيرة تبنت جماعات تُنسب إلى الإسلاميين سبيل الغلو من تكفير وتفجير، فاهتبلت الدولة العلمانية هناك الفرصة السانحة لتضرب بقوس واحدة المتطرف والمعتدل وحتى العميل... فأخرت تلك المغامرة الصحوة المباركة إلى زمن ما قبل الفتح الإسلامي، وبعد سنين عجاف خرج قادة تلك الجماعات من غياهب السجون بمراجعات فكرية...، والمراجعة المتأخرة خير من التمادي في مغامرة عمياء صماء بكماء.
وفي إحدى المناسبات التقيت شابا متحمسا، يظهر من ملبسه ولحيته وعمامته شدة التزامه الظاهري، سمعته يقص على بعض أشياعه رواية عن إحدى مغامراته الدعوية وفتوحاته ومغازيه، كان أخرها عودته الحين من بعض شوارع دمشق، وكان مَرَّ فوق جسر شهير على نهر برَدى، وصادف على ذلك الجسر الضيق فوجا من السُياح الأوروبيين، فقال: "لقد اضطررت أحد أولئك السياح إلى أضيق الطريق فلم أتركه يمر، فحشرته مع حافة الجسر حتى كاد يسقط في النهر...هه...هههه... هههههه.." وبعد أن شبعوا ضحكا هو وتلاميذه، استهجنت عمله وانتقدت فعله، فأخبرني غاضبا بأنه اقتفى أثر السنة النبوية التي تنهى عن إفساح الطريق للكافر!.
وحدثني أحد معارفي من المقيمين في شارع من الضواحي الباريسية بفرنسا، أن الجالية المسلمة في ذلك الشارع اتفقت على بناء مسجد صغير ليعبدوا الله فيه، ووافق السكان الفرنسيون على خطوتهم بلا تردد، ولم تكد تمر أسابيع على افتتاح المسجد حتى اشتكى جميع السكان الفرنسيون من المسجد ورواده، وهم من الذين تحيط مساكنهم وعقاراتهم ومتاجرهم بالمسجد، لقد أصبح الأمر لا يطاق، تحول الشارع الهادئ إلى فوضى عارمة، وأضحت المنطقة التي تمتعت بالسكون والراحة منذ قرون إلى بركان من الضجيج من الفجر إلى ما بعد العشاء، كان المصلون يركنون سياراتهم في كل مكان حتى لا تفوتهم ركعة أو خطبة أو درس، كان لا يتمكن الفرنسي من إدخال أو إخراج سيارته من المرآب أو "الكراج" الخاص به، لأن المصلين المسلمين قد سدوا بابه، وكان بعض التجار الفرنسيين لا يتمكنون من فتح متاجرهم للاسترزاق، لأن أحد المسلمين المستعجلين أوقف سيارته فوق الرصيف قبالة الدكان وأسرع إلى المسجد، بل وصل ببعضهم في صلاة الجمعة والعيدين والتراويح إلى إيقاف سياراتهم وسط الطريق العام، ومع أن إمام المسجد الذي أحرجته الشكاوى المتوالية من السكان والبلدية نبه المصلين مرارا وتكرارا، إلا أن إنكاره عليهم بل توسله إليهم ذهب أدراج الرياح.
وَلَو نَارًا نَفَختَ بها أَضَاءَت *** وَلَكِنْ أَنتَ تَنفُخُ في رَمَادِ
لَقَدْ أسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيّاً *** ولكنْ لا حـياةَ لمنْ تُنادي
هذا ما يحدث في كثير من البلاد الغربية عند بعض المساجد، ولما تُقرر البلدية أو الشرطة إعادة النظام إلى ذلك المكان الذي دبت فيه الفوضى، وإرجاع الاستقرار إلى تلك المنطقة التي فقدت توازنها... ينظر أولئك المسلمون، الذين لم يراعوا حق الجوار ولا قوانين المرور، إلى تلك المحاولات الحكومية على أنها حرب صليبية جديدة، تشنها عليهم وعلى دينهم قوى اليمين المتطرف واليسار المنحرف وبقية الاتجاهات الشريرة في البلاد.
ألم يكن الأجدى بأولئك المصلين المغالين في عدم تفويت ركعة أو سجدة على حساب الآخرين، أن يحترموا قانون المرور وحق الجوار، ويكونوا قدوات تحتدا من أولئك الفرنسيين بدل أن يصيروا فتنة مشتعلة، تشوه الدين والمتدين، وتنفر المتعاطف فضلا عن المحايد والمعادي، وهم يشاهدون رواد الكنائس النصرانية والكنس اليهودية والمعابد البوذية والهندوسية، لا تضر أحدا ولا يشتكي منها أحد، وإذا عجز المسلمون عن تطبيق صحيح دينهم، فليفعلوا على الأقل ما يفعله أصحاب الأديان الأخرى فيريحوا ويستريحوا، وما أصدق المثل الشعبي الجزائري: "دير مثلما دار جارك وإلا حول باب دارك".
قال العلامة محمد رشيد رضا في تفسير قول الله تعالى: ﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ يونس: 85، "وَلَا تَفْتِنْهُمْ بِنَا فَيَزْدَادُوا كُفْرًا وَعِنَادًا وَظُلْمًا بِظُهُورِهِمْ عَلَيْنَا، وَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّنَا عَلَى الْبَاطِلِ وَمِنَ الْمَعْقُولِ وَالثَّابِتِ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ سُوءَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْحَقِّ فِي أَيِّ حَالٍ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ عَمَلٍ مَذْمُومٍ، يَجْعَلُهُمْ مَوْضِعًا أَوْ مَوْضُوعًا لَافِتَتَانِ الْكَفَّارِ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ بِهِمْ بِاعْتِقَادِ أَنَّهُمْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ"، انتهى كلامه.
وجاء هذا الدعاء المذكور في الآية في مناسبة أخرى في القرآن الكريم، وقد تقدمه في الآية السابقة له مباشرة ذكر موضوع الأسوة الحسنة، وفي الآية للاحقة له جاء التأكيد مرة ثانية على موضوع الأسوة الحسنة، وذلك في قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...(4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)﴾ الممتحنة: 4 - 5
وعند ربط هذا النص القرآني بما قاله محمد رشيد رضا، نعلم يقينا أن المسلمين المؤمنين، إذا ما أرادوا ألا يكونوا موضع فتنة للكفار والفجار، فيلزمهم أن يكونوا قدوة جميلة وأسوة حسنة ونماذج ايجابية تبهر العقول وتأسر القلوب، وتجلب كل من يتعامل مع المسلمين إلى الإسلام، كما يفعل المغناطيس بالحديد الذي يقترب منه، وكلما كان المغناطيس أكبر حجما كان أعظم أثرا، وكلما كان من النوع الصافي الجيد زادت فعاليته في الشد والالتصاق، ولا حيلة حينها للحديد من حوله إلا الإذعان والاستسلام لقانون الجاذبية.
ولا يمكن أن نرتقي إلى تلك المكانة السامقة إلا بالانقلاع عما نحن فيه، والسمو إلى علو الإسلام الحق، ولا ترتقي أمة من الأمم دفعة واحدة، ولا تُصلح فساد القرون في شهور قليلة، وتجارب الأمم المتقدمة أحسن شاهد على ذلك، ولو تدبر المرء تاريخ الدول الاسكندينافية لعلم أنها رزحت تحت أصناف التخلف والتقهقر والبربرية أحقابا، حتى انتفضت على نفسها فرفعت عن كاهلها ما يثقلها من أسباب التخلف، فانتقلت في غضون عقود قليلة من ذيل قائمة الحضارة إلى رأسها، ولم تبلغ ما بلغت إلا بأن أصلحت كل شيء يشدها إلى ماضيها المقيت.
ولا مندوحة لنا عن الإصلاح، ولا يظنن موسوس أن الإصلاح بدعة اسكندنافية أو تقليد أوروبي لا يحق لنا النسج على منواله، أو تشبه بقوم كافرين لا يجوز تبنيه، فوجوب الإصلاح ومقاومة ضده خطة الله في الأرض، ومما يوافق الفطرة السليمة ومنطق العقل، لذا كان الإصلاح وظيفة الرسل والأنبياء بين أقوامهم، وقد مدح الله الصلاح والإصلاح والمصلحين والصالحين، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ هود: 117، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ الأنبياء: 105
 فلا حل أو مخرج، إذا، مما نحن فيه إلا الإصلاح الجذري الشامل، قال المولى تعالى: ﴿...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...﴾ الرعد: 11، وخير ما نبدأ به هو إصلاح التعليم، لأن جل قطاعات الدولة تستند عليه، وكل مجالات الحياة في البلاد تفتقر إليه... وفي هذا المقام لن نفي حق العلم والتعليم من فضل مهما أطلنا وفصلنا فيه الكلام، ولا ينكر ذلك إلا جهول، وإذا أراد الله بقوم سوءًا يُبغِّض إليهم العلم والعلماء... وللأسف أن حتى هذا المخرج التربوي من فتنة الغلو، يريد المستبدون بالحكم والسلطة سده، إذ لم تقتصر فقط جنايتهم في بعض بلاد المسلمين المنكوبة على الشعوب المسلوبة والأموال المنهوبة والحقوق المغصوبة التي جلبت علينا أكثر أنواع الغلو والتطرف، لكن الجناية الكبرى هي في تخريب التعليم الديني والمدني على حد سواء، وما ذئبان جائعان بأفسد على عقل الإنسان ووجدانه وقيمه ووعيه من الثنائي الوخيم: الاستبداد وسوء التعليم، فكيف نصلح التعليم الأكاديمي والديني وقد حشر المستبد أنفه في فلسفة التربية والتعليم وغاياته ومراميه وبرامجه ومناهجه وأساليبه وفي رأس ماله المادي والبشري، ولسان حاله يقول: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر: 29
فعلى مستوى التعليم الديني نجد المستبد يتحكم في تعيين المسئولين والمفتين والمفتشين الدينيين والأئمة والخطباء والوعاظ ومعلمي القرآن، يختارهم على عينه، وأغلبهم من زمرة العاجزين عن التأثير والرافضين للتغيير، ممن تُوكل إليهم مهمة إعادة إنتاج الوضع القائم إلى ما لا نهاية، كأننا في حلقة مفرغة ودائرة مقفلة، وفي المقابل نراه يقصي المصلحين الحقيقيين والعلماء العاملين والدعاة المربين، ويشوش عليهم باللمز والغمز والمنع والحظر والإيذاء، ويؤلب عليهم الكفار والدهماء ولسان حاله يقول: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ غافر: 26، والتاريخ يعيد نفسه فأئمة الدنيا من عهد الصحابة إلى يوم الناس هذا قد أهينوا وأوذوا وسُجنوا، على عهد الحجاج وقبله وبعده، وسَجن المستبدون من الأمويين والعباسيين ومن بعدهم من الحكومات التي توارثت الظلم، الأئمة الربانيين والعلماء العاملين والدعاة النافعين المعتدلين:
فأبو حنيفة إمام الدنيا طُلب للقضاء فرفض فجلدوه ثمانين جلدة، وبقي في إقامة جبرية حتى توفي.
ومالك بن أنس إمام الدنيا ابتلي في مسألة أفتى فيها، فضرب ثمانين ضربة حتى خلعت يده اليمنى.
والشافعي إمام الدنيا حُمل مقيداً بالحديد من اليمن إلى بغداد في تهمة باطلة.
وأحمد بن حنبل إمام الدنيا سُجن شهورا طويلة وجُلد بالخيزران لو جُلِدهُ بعير لمات.
وابن تيمية إمام الدنيا سُجن خمس مرات وجُلد كثيرا ومات في السجن.
وابن القيم إمام الدنيا سُحن مرة وأهين تارة ولم يزل في حصار حتى لقي ربه.
وجمال الدين القاسمي إمام الدنيا سُجن ظلما في مخفر للشرطة مع اللصوص.
فماذا حدث ومازال يحدث حين غُيب أولئك الأئمة في المعتقلات والسجون والأقبية؟ خلا الجو خارجها للغلاة والبغاة والخوارج وغيرهم من المبتدعة والمارقين... حتى أنشئوا لهم دولا وصارت لهم شوكة وأضلوا كثيرا من الخلق ولا تزال دار لقمان على حالها.
خلا لك الجو فبيضي واصفري *** ونقّري ما شئت أن تنقري
ولا يُحبس اليوم مسلم معتدل ظلما إلا وخرج من محبسه فاقدا بالرغم عنه الاعتدال، ولا يُسجن مُغال في الدين إلا خرج من محبسه فاقدا للأمل في الاعتدال، جراء الظلم في المعاملة والجهل في التدبير، فما أقبح الظلم والجهل!
ومن تأمل في أصول فساد البشر لوجده في هذين الأصلين وعنهما يتفرغ غيرها، فعدم العلم والاستبداد سبب كل شر وبلاء، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ الأحزاب: 72
ما سبق كان تشخيصا متواضعا للداء من البذرة إلى الثمرة، أما دواؤه الأوحد فهو في نشر العلم الصحيح ومقاومة الجهل القبيح، وفي الحكم بالعدل ووقف الاستبداد، عندها تعود العافية للأبدان والأوطان والأديان فيُجتث الغلو في الدين من جذوره.

تم قراءة المقال 380 مرة