الأربعاء 26 ذو الحجة 1442

حروب استباقية وشهوة ميكروفون!

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

حروب استباقية وشهوة ميكروفون!

ابتليت بعض بلادنا العربية والإسلامية، التي تعاني الاحتلال اليوم، بنوع من المناضلين أسرتهم شهوة عشق الميكروفون، وغريزة حب الظهور على شاشات الفضائيات، إلى حد الهوس، ولقد تجردوا من كل سلاح ضد الأعداء، واتخذوا الميكروفون وشاشة التلفاز مضمار المعركة التي تعيد الحقوق المغصوبة إلى أصحابها!!.
وللظاهرة التي نحن بصددها بُعد نفسي وآخر فلسفي، فالتحليل النفسي لشخصياتهم يبين أن ظاهرة شهوة الميكروفون، هي ميكانيزم دفاع نفسي لا شعوري، يثبت لصاحبه نوعا من الشجاعة المفقودة في ساحة الحرب الحقيقية، ومن جهة ثانية فإن شهوة الميكروفون قضية فلسفية، فبدون الميكروفون ودون الشاشة، يصبح الرجل الثوري المزعوم فردا نكرة ضائعا بين الجماهير، مما يعني بالنسبة له أنه فقد وجوده، وطالما أن صوته وصورته لا يصلان إلى الجماهير فسيعد نفسه صفرا.
وإذا كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت يقول: أنا أفكر إذا أنا موجود، فإن السياسي الثوري يقول أنا أملك ميكروفونا إذا أنا موجود.
ولعلها من نعم الله العظيمة والجليلة أن وفق كثيرا من البلاد المستعمرة، ومنها الدول الإسلامية، للتحرر ونيل الاستقلال، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، قبل أن تنتشر الفضائيات والإذاعات المحلية والدولية في كل شارع وكفر وقرية.
لقد حاولتُ أن أتخيل لو كانت ثورة بلدي الجزائر، مثلا، تجري أحداثها اليوم، فهل كانت تلك الثورة ترى طريق النصر؟
لا أعتقد ذلك، لأن حينها ببساطة بدل أن ينتقل الثوار والمقاتلون وهم يحملون بنادقهم على أكتافهم، بين الوديان السحيقة والغابات الموحشة والجبال الوعرة، بدل ذلك، سينتقلون بين الفضائيات من الواحدة إلى الأخرى على مدار الساعة، يسابقون الزمن ليظهروا على الشاشات وقد ارتدوا ربطات العنق الأنيقة، يُحللون ويُحللون ويُعيدون التحليل، ويردون على القصف الفرنسي للقرى الجزائرية بردود بطولية على أسئلة الصحفيين واستفسارات الإعلاميين.
لو كانت الثورة الفيتنامية في زمن الفضائيات لأصبح "هو شي مين" الزعيم الفيتنامي، محللا سياسيا على تلك الفضائيات، وسيُشبع إلى حد التخمة الشعب الفيتنامي بعبارات الموقف الفيتنامي الموحد، والمصلحة الوطنية العليا، ووحدة الصف، وتحريم الدم الفيتنامي، وتعزيز التماسك الوطني، ودعم المؤسسات الفيتنامية...
لو كُتب للثورة الكوبية أن تقع في يوم الناس هذا لصار "فيدل كاسترو' شاعرا ثوريا ينظم قصائد تحررية عن الكفاح الوطني والنضال المقدس، على بعض الفضائيات، ولشنف آذاننا بالأناشيد الثورية بصوته الجهوري.
لو كان ل" شي غيفارا" ميكروفونا وشاشة لبات معلقا سياسيا ومتابعا جيدا للقضايا التحررية في أمريكا اللاتينية، سيشرح لنا إلى حد الملل والغثيان على القنوات، كلمات عافتها الآذان من كثرة سماعها، كالأبعاد والتحديات والتبعات والخيارات والإستراتيجيات والتكتيكات والاستحقاقات والمبادرات والمفاوضات والرهانات...
سينقل الميكروفون الثوار والمجاهدين من ساحات الوغى إلى النضال الفندقي، وفي الفنادق لا مكان للبنادق، ستضع الحرب، التي لم تنطلق شرارتها بعد، أوزارها... ولن نعد نسمع بجبال تورة بورة الأفغانية أو الأوراس الجزائرية أو ديان بيان فو الهند الصينية...ستتوارى هذه الجبال الشاهقة وراء منصات صغيرة في الهلتون والشيراتون والريجنسي بالاس..
وتبدأ المفاوضات وتكشف التسريباتُ أسرارها.. وتنطلق رحلة الألف ميل من المؤتمرات والبيانات الصحفية والحوارات الإذاعية والمداخلات التلفزيونية والخطابات...ستنتفخ أوداج الزعيم المزعوم في المهرجانات وهو يصيح في الجموع "يحيا الوطن"، ولو قال "ليحيا ما تبقى من فتات الوطن" لما جافى الصواب.
هذه هي ثورة التحرر، وهؤلاء هم رجالها المتنافسون على الميكروفونات والشاشات، سيكون شعار الثورة "ميكروفون لكل مناضل"، وسيصطف المحررون الجدد عندنا لمواجهة اليمينيين الجدد عندهم، وتبدأ معركة الميكروفون ضد البنتاجون، سنملك من أنواع الميكروفونات ما يتيح لنا رد أي هجوم تقليدي، طائرة ال ف 16 ستواجه بميكروفون من العيار الثقيل من نوع سوني، أما ال ب 52 فميكروفون بناسونيك له بالمرصاد، صواريخ كروز ستسقطها ميكروفونات فيلبس...
سيشن علينا شركاؤنا في السلام حروبا استباقية، ونحن بفضل خيارنا الاستراتيجي سنتصدى لهم بحروب إلحاقية، سنمطرهم بعد كل هجوم بالتعليقات، ونزلزل الأرض تحت أقدامهم بالتحليلات، سنهز أركانهم بالخطابات...المعركة محسومة لصالحنا سلفا، لن نهزم من قلة مهما بلغت قوات شركائنا في السلام، فإن أعداد ألويتنا من المعلقين وكتائبنا من المحللين يفوق كل تصور.
سيكون في مقدمة الصفوف الرئيس ونائبه الأول ونائبه الثاني ومستشاره السياسي ومستشاره الاقتصادي والمتحدث الرسمي باسمه، والمتحدث غير الرسمي..والناطق الرسمي والأمين العام للثورة، ولأن للثورة الميكروفونية أسرار وأسرار ابتكر لها أمين سر، وللثوار مجلس ثوري، وللمجلس ناطق باسمه ورئيس ونائب...ورئيس مكتبها السياسي ومسؤولها للتعبئة...
ولأن كثيرا من  الميكروفونات لا تزال شاغرة، فلا بأس بتعبئتها بمناضلي الثورة عن بعد، من مندوبي الثورة والقائمين بأعمالها وممثليها ورؤساء مكاتبها، عبر جغرافية الكرة الأرضية والعواصم العالمية، ثم لا ننسى كوادر الثورة ووزراءها ومشرعيها وما أكثرهم..
ستتجلى كل معاني الوحدة الوطنية في الوقوف جميعا صفا واحدا خلف الميكروفون، الجميع على قلب رجل واحد مستعدين للتنظير في أحلك الظروف، ولن يتخلف إلا أعداء المصلحة الوطنية، وحقوق الشعب المشروعة.
وبعد عقود وعقود من النضال الميكروفوني، سيقف الزعيم الأوحد والوحيد خلف الميكروفون، في العيد المئوي لاندلاع الثورة وسيصيح بأعلى صوته: "ثورة، ثورة حتى النصر!!"، ولن يسمع كما تعود أي تصفيق أو ترديد لشعاره، فيدير الزعيم رأسه يمينا وشمالا فلا يرى أحدا في القاعة، لأنه لم يُدرك بعد أن الجماهير التي جلست سنين مديدة، مصفقة ومستمعة أمام الميكروفون وهو خلفه، قد أبادتها الحروب الاستباقية.

تم قراءة المقال 378 مرة